الدرس الثامن
فضيلة الشيخ أ.د. علي بن عبدالعزيز الشبل
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله وصلى الله على نبيه ومصطفاه، وآله وصحبه الأطهار، تقلُّب الليل على النهار، أهلا وسهلا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) يشرح فيه فضيلة الشيخ/ الدكتور علي بن عبد العزيز الشبل، متن منظومة (الأرجوزة الميئية) في حال أشرف البريّة، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أهلا وسهلا بكم فضيلة الشيخ}.
وأنا كذلك أجدد الترحيب بكم، وبإخواني وأخواتي من طلاب العلم ومن عموم المشاهدين من المسلمين أينما بلغ إليها هذا الأثير، سائلا الله -جل وعلا- أن يجعله لقاء طيبًا مباركًا موفقًا، ينفعنا ويرفعنا الله -عز وجل- به في الدنيا والآخرة، إنه سبحانه جواد كريم.
{أحسن الله إليكم.
قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (
ثُمَّ بَنِي قُرَيْظَةٍ وَفِيهِمَا ... خُلْفٌ وَفِي ذَاتِ الرِّقَاعِ عُلِمَا
كَيْفَ صَلاَةُ الْخَوْفِ وَالْقَصْرُ نُمِي ... وَآيَةُ الْحِجَابِ وَالتَّيَمُّمِ
)}.
ثم بعد الأحزاب (بَنِي قُرَيْظَةٍ) كما مر التنويه به، فإنهم مجمعون على أن غزو بَنِي قُرَيْظَةٍ الذي ذكر الله -جل وعلا- أصوله ومجمله في آيات سورة الحشر، كان بعد الأحزاب، وفيها (خُلْفٌ)، أي: اختلاف، متى كانت بالتحديد.
(وَفِي ذَاتِ الرِّقَاعِ عُلِمَا) غزوة ذات الرقاع كانت تُسمَّى بغزوة ذات الرقاع، وهي غزوة "بني المُصطلق"، وفيها حصل من الآيات الشرعية العظيمة، فنزل تشريع صلاة الخوف، فوجاءٌ من المسلمين ووجاء من العدو، ووجاءٌ مع النبي، وقسمٌ مع النبي ﷺ، يقوم هؤلاء فينهون صلاتهم ويأتون هؤلاء.
وصلَّى بهم صلاة الخوف لَمَّا صافوا بني المُصطلق، وكانوا كثيرين، ورئيسهم "الحارث" مَلِكُ بني المُصطلق، الذي نكح النبي ﷺ بنته ميمونة بعد ذلك.
النبي ﷺ في هذه الغزوة، وسميت بذات الرِّقاع؛ لأن نعالهم تقطعت ولفوا الخِرق والرِّقاع على أقدامهم، يمشون في أراضٍ صخرية وأراضي حرار.
وقع في هذه الغزوة، نزلت فيها آية التيمم، ونزلت فيها آية الحجاب على الصحيح، وقيل نزل قبلها وهو الأصح، ونزل فيها صلاة الخوف، وصلاة الخوف لها ست صور، كلها ثبتت بذلك أحاديث النبي ﷺ؛ لأنها متنوعة في الخوف من العدو، وأحيانا في وجاء القبل وأحيانا في خلفها، وأحيانا يحاصرون، وأحيانا يركضون، يمشون، فيصلون الصلاة على حالهم.
وهذا يدل على شأن الصلاة وعظيم أمرها وتأكد فرضها، أنها لم تسقط على المسلمين في حال الخوف، ولهذا فالصلاة لا تسقط عن المسلم مادام فيه عقل يَشعر به، مادام عقله معه فلا تسقط الصلاة عنه، بل يُصلي على حاله ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا﴾ [البقرة:238-239] أي: صلِّ وأنت راجل تركض أو وأنت شاد على مطيتك أو على سيارتك وطائرتك، تُصلِّي على حالك، فصلاةٌ لا تسقط في حالة الخوف العظيمة؛ دلَّ على فرضها وعظيم شأنها. وللأسف هذا التهويل والتفريط في حقها.
وآية الحجاب نزلت قبل ذلك، فإن الحجاب في قصة نزوله أنَّ عمر -رضي الله عنه- قال: «يا رسولَ اللهِ يدخلُ عليكَ البرُّ والفاجرُ فلو أمرتَ أمهاتِ المؤمنينَ بالحجابِ فأنزل اللهُ آيةَ الحجابِ» فأنزل الله ذلك أولا في شأن أمهات المؤمنين، في الآية من أواخر الأحزاب، ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ﴾.
ثم نزل بتُّ هذا الحجاب للمؤمنات جميعًا، لقول الله -جل وعلا- في آخر السورة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، وإنما تعرف المرأة بجمالها أو بمن هي؟ وهذا بوجهها أنها فلانة بنت فلان، فلهذا أمر الله هؤلاء الأصناف الثلاثة -أمهات المؤمنين، نساء النبي، وبناته، وعموم نساء المؤمنين- أن يدنين عليهم من جلابيبهن، لماذا؟ ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ﴾.
ولهذا لو قال قائل أو قالت قائلة: أنا غير مقتنعة بالحجاب ولا أريده، نقول: خاطب الله بالحجاب ثلاثة، فإن كنت من أحد هؤلاء الثلاثة فأنت مأمورة به، وإلا فأنت خارجة عن هؤلاء الثلاثة، وتكون خارجة عن الإسلام، أمر به نساء النبي، وأمر به بنات النبي، اللهم صلِّ وسلِّم ين وأمر به أمرًا عامًا لنساء المؤمنين ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ﴾ أنزل الله في مرجع النبي ﷺ من هذه الغزوة "غزوة ذات الرِّقاع" آية التَّيَمُّم فإن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- كانت مع النبي في هذه الغزوة وكانت قد احتجبت، وافتقدت عقدا لها، فذهبت تطلبه، وأقام النبي ﷺ في المكان حتى تأتي وتبحث عنه، ولم يجدوه إلا تحت بعيرها لَمَّا أقاموه.
وأقام النبي ﷺ على مكانٍ ليس فيه ماء، فدخل عليها أبوها أبو بكر -رضي الله عنه- وعنها يؤنّبها أحبست المسلمين بحبس رسول الله؟! فأنزل الله عليهم آية التيمم ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾، قال أسيد بن حضير وغيره -رضي الله عنهم-: «ما هي بأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يا آلَ أبِي بَكْرٍ»[1]، فمن بركات هذا العقد التي أضاعته عائشة، وهو عقد استعارته من أختها أسماء -رضي الله عن الجميع- أن أنزل الله على هذه الأمة مشروعية التيمم عند فقد الماء، أو عند العجز عن استعماله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
قِيلَ: وَرَجْمُهُ الْيَهُودِيَّيْنِ ... وَمَوْلِدُ السِّبْطِ الرِّضَا الْحُسَيْنِ
)}.
قبل هذه الغزوة رجم اليهوديين، وقد أقام النبي ﷺ حدَّ الرجم على خمسة في المدينة كلهم بعد الأحزاب، رجم اليهوديين، ورجمَ ماعزَ بنَ مالكَ الأسلمِي، ورجمَ الغامديَّة، والجهنيَّة، فصار المجموع خمسة، أقام عليهم حد الرجم، الذي هو من حدود الشريعة الغراء السبعة، فإن الحدود في الشريعة سبعة، وهي:
حدُّ السَّرِقة، وحدُّ شُرب الخمر، وحدُّ القذف، وحدُّ الزاني غير المحصن -الجلد مئة وتغريبه سنة، وحد الزاني المحصن برجمه بالحجارة حتى الموت-، والحد السادس هو حد الحرابة، لمن حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فساداً، وهم قطاع الطريق والخوارج. والحد السابع: حد الردة، فحدود الشريعة المجمع عليها سبعة حدود.
واليهوديان رجل وامرأة تعاشقا وتزانيا، نسأل الله عفوه وعافيته وستره، وكانا من أشراف القوم، فنما الأمر إلى النبي ﷺ -طبعا قبل إجلاء اليهود وإخراجهم من المدينة- فأتى إليهم ومعه زيد بن حارثة، وعبد الله بن سلام، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، في كوكبة من الصحابة، فقال ﷺ: «ما شأنه؟ هذا الزنا عندكم؟» قالوا: يُغرب ويُحمَّم وجهه، فقَالَ: «ائتوا بِالتَّورَاة».
فجاءوا بالتوراة فقرأها القارئ حتى أقبل على موضع هذا الحكم فوضع يده! فقال له عبد الله بن سلام: يا رسول الله وضع يده وأخفاها، مره فليقرأها وإذا فيها الرجم؛ فأمر النبي برجمهما.
يقول الصحابة الذين حضروا الرجم: فرأيته يحنوا بظهره عليها، يعني: يقيها الحجارة فلم يزل يرجمهما حتى قتلا، هذا من رجم اليهوديين في المدينة، وكان بعد ذلك رجم الغامدية والجهنية وماعزاً.
وفيه ثناؤه ﷺ على المرأة التي جادت بنفسها، جاءت ببليها، جاءت وهي حبلى من الزنا، معترفة مقرة، فقال لها النبي ﷺ: «ارجعي حتى تلدي» لعلها أن ترجع فتتوب ويستر الله عليها، فرجعت به تحمله بعدما نفست.
قال: ارجعي مرة ثانية حتى تفطميه، يعني: سنتين، فرجعت والتوبة تجلجل في صدرها لم تهنئها بحياتها، أي في معصيتها، فرجعت وبيده كسرة خبز، قَالت: يا رسول الله إِنِّي زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي وَلَا تَرُدَّنِي! فأمر ﷺ بطفلها إلى أحد المسلمين يرعاه، وأمر فشدَّت عليها ثيابها ورجمت حتى ماتت، رجمها خالد بحجر فندر من دمها على ثوبه فسبَّها. قال ﷺ: «لا تسبها يا خالد والله لقد تابت توبة لو قُسمت على أهل سبعين بيت منكم لوسعتهم»، وفي رواية: «لو قُسمت على أهل المدينة لوسعتهم، وما ذلك إلا أن جادت بنفسها لله عز وجل».
هذا ما كان في هذه الغزوة في أثنائها وبعدها من الآيات الشرعية، الحِجاب قبلها، ونزول آية التيمم فيها، وما كان من صلاة الخوف مشروعيته فيها، وقبل ذلك في رجمه لليهوديين، وولد السبط الحسين في هذه السنة، في أواخر الخامسة وأول السادسة مولد الحسين، الذي هو أصغر من الحسن بسنة، وأصفر قيل: بسنة ونصف، وقيل: بنحو سنتين -رضي الله عنهما-
أكرم بفاطمة البتول وبعلها ... وبمن هما لمحمد سبطان
غصنان أصلهما بروضة أحمد ... لله در الأصل والغصنان
أكرم بعائشة الرضا من حرة ... بكر مطهرة الإزار حصان
اللهم ارض عنهم من زوجاته وأبنائه وآل بيته الأشراف الأطهار.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمنا الله وإياه-: (
وَكَانَ فِي الْخَامِسَةِ اسْمَعْ وَثِقِ ... اَلْإِفْكُ فِي غَزْوِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ
)}.
قصة الإفك التي ذكرها الله -جل وعلا- في نحو ثمانية عشر آية في سورة النور، كانت بعد غزوة بني المُصطلق، في مرجع النبي ﷺ من تلك الغزوة، اتهمت أم المؤمنين عائشة، عرض رسول الله ووجهه، وابنة الصديق، هذه العفيفة الطاهرة.
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
كما قال حسان بن ثابتٍ يمدحُها -رضي الله عنهم-، فإنها تخلفت تبحث عن عقدها، فلما جاءت وإذا بالجيش قد مضى، فلبثت في مكانها حتى جاء صفوان بن المعطل، وكان يمشي في آخر الجيش بإمرة النبي ﷺ له، يلتقط ما سقط منهم، ويحمل ما ضاع منهم، وإذا عائشة باقية في مكانها عليها حجابها تبكي، وكان يعرفها قبل الحجاب، فقالت: غفت عيناي وما فقت إلا باسترجاع صفوان بن المعطل، أي قوله: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وهكذا يقول المؤمن عند المصيبة.
فما كان من صفوان إلا أن أناخ بعيره، ووضع رجله على يده، فركبت عائشة، وأقبل بها إلى، الجيش مضى ثم عشَّ أي استراح بعد الظهر، ما فاجئوا إلا بصفوان بن المعطل يأتي يمشي على رجليه، وعائشة على البعير أمام الجيش، فتكلم المنافقون بما تكلموا به، وتولى كبر هذا الأمر رأس المنافقين، ولهذا الإفك باتهام عائشة بالفعل القبيح، لا يقوله إلا المنافقون قديماً وحديثاً، فقالوا فيها مقالة الإفك، وهي غافلة لا تدري إلا بعد شهرٍ من حصول هذه الحالة، التي برَّأها الله به من فوق سبع سماوات.
وقصة الإفك قصةٌ عجيبة، وفيها من العبر، وفيها من الإيمان، وفيها من كشف النفاق وأهله ما فيه، مما يتأكد عليكم أهل الإسلام ولا سيما أنتم طلبة العلم بمدارستها ومراجعتها، وقراءتها على الناس، لِمَا فيها من إظهار الله منَّته، وما فيها من أنَّ البلاء يُصيب أهل الإيمان، وفي ضمن هذا البلاء أنواعٌ من منَّته ومنَه سبحانه وتعالى.
كان فيها ما كان، وعائشة لم تعلم بهذا الأمر، وضاق النبي ﷺ، وصار ليله كنهاره، لا تكتحل عيناه بنوم من هذا الهم والغم، أن يُنال من عرضه بما تكلم به المنافقون، وأشاعه وأذاعه ونقله بعض المؤمنين، ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾. فيها من الامتحان صدق أهد الإيمان في أبي الدرداء وأم الدرداء، لَمَّا تحدثا في هذا الأمر الذي أقلق المسلمين هذه المدة، ليال طويلة أزيد من شهر، تحدث مع زوجه أتفعلينه أنت يا أم الدرداء؟ أي: أتزنين من ورائي؟ قالت: لا والله لا أفعله. قال: والله لعائشة خير منك وهي لا تصنعه، ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾ امتحان فيمن ينقل هذه الشائعات ويستهين بأعراض المؤمنين، وأعظم عرضهم دينهم.
وانتبه يا طالب العلم أن تجعل لسانك مشدارًا مهذارًا، الكلام في أعراض النّاس وأعراض العلماء وفي دينهم وفي تصنيفهم، ظنًّا بلا يقين وكرهًا وبغضًا بلا أصل صحيح مستقيم.
عائشة -رضي الله عنها- لم تدر فيما يخاض فيها، رأت التغيُّر في النبي ﷺ؛ لأنه بشر يعتريه ما يعتري البشر من الهمِّ والغمِّ والأذى، خرجت وكانوا لا يخرجون لقضاء الغائط إلا ليلاً، وهذا من الستر، خرجت هي وأم مسطح بن أثاثة، وهي ابنة خالة أبيها أبي بكر، فَعَثرت أمه مسطح بحجابها، فقالت وهي كذلك مثل نوع الاعتزاء: تعس مسطح. فقالت لها عائشة: بئس ما قلت، أتقولين هذا في رجل من أهل بدر؟ فقالت: أو ما سمعت ما قال؟ قالت: وما قال؟ فذكرت لها ما خاض الناس فيه من الإفك، وأن مسطحا ممن يقول ذلك.
فرجعت -رضي الله عنها- مغمومةً متكدرةً أعظم الكدر إلى رسول الله ﷺ؛ لأنها وجدت أثر التغيّر، كيف كانت تلك الليلة؟ ليلةٌ عظيمة شديدة مرت عليها وهي صابرة، فلما أصبحت وقد رأت من النبي التغير، وكان من هذا الأمر ما كان، قالت: أتأذن لي أن أذهب إلى أهلي، فأذن لها النبي ﷺ، فدخلت على أمها مغمومةً لم تكتحل عينها بنوم من هذا الهمِّ والغمِّ، فيما نيل فيه من عرضها، وتُكلم في شرفها، وهي الشريفة العفيفة الصديقة بنت الصديق -رضي الله عنها وعن أبيها وعن أمها وعن المسلمين- شكت البنت الصغيرة كم عمرها وقت إذن؟ أربعة عشر سنة توّها صغيره، شكت إلى أمها فهونت أمها عليها وقد سمعت بالخبر، فكيف حال أبي بكر وحال أمها من هذا الهم والكدر وهذا الغثاء الذي بلغهم في بنتهم وفي عرضهم؟!
ولكن ليعظم الإيمان، ويعظم الصبر عند البلاء، وتعظم فيه مِنَن الرَّحْمَنُ. كم من بلية فيها من مِنَنِ الله ما فيها إن صبرت ورضيت بها! وعالجتها لِمَا حثَّتك عليه وعلمتك به الشريعة.
قالت: يا أماه أسمعت ما قال الناس؟ قالت أمها: يا بنيّة إنه لم تكن امرأة حظية عند زوجها إلا ونيل منها من ذلك، فاهدأي، قالت -رضي الله عنها-: فما زلت أبكي، لم ترفع عيني من دمعها، وكنت أرجو من ربي أن يُنزل على نبيه وحياً يطهرني الله به، خبر من السماء، ببراءتها من هذا الذي اتهمت به.
استشار النبي ﷺ صحابته، استشار أسامة بن زيد حِبه وابن حبه، فقال: أهلك وما علمنا على أهلك إلا خيرا يا رسول الله.
استشار عليا فأشار عليه بأنه ما علم على عائشة إلا خيرا، وهي امرأة لها كغيرها يعني لا يهمك الأمر حتى يصيب منك هذا الذي أصاب، تكلّم فيها المنافقون وتولّى كبر هذا الأمر عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس النفاق، ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
خطب النبي ﷺ خطبة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال في خطبته: لقد نالوا من أهلي وما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا لي رجلاً هو صفوان بن المعطل -رضي الله عنه- وما علمت عليه إلا خيرا، وكان لا يدخل على أهلي إلا وهو معي، فقام سعد بن معاذ -رضي الله عنه- وقال: يا رسول الله -قد جثى على ركبتيه- مرنا فيه بما شئت، فإن كان منا أخرجناه وقتلناه، فثارت حمية سعد بن عبادة؛ لأن أمد الله بن أبي من الخزرج. قال: كذبت، والله لا تفعل فكاد الحيان أن يتواثبا، والنبي ﷺ على المنبر، فما زال يُسكنهما -يهدئهما- ودفع المفسدة العظمى في اقتتال الصحابة بالصبر على مفسدة الدنيا، وهو ما نال عرضه وشرفه وماء وجهه من هذا النيل.
ذهب ﷺ فدخل على أبي بكر وعنده عائشة وعنده أمها، فقال ﷺ: «يا عائشة إن كنت قد أصبت أمراً فتوبي واستغفري ربك؛ لأن التوبة تجبُّ ما قبلها»، تقول -رضي الله عنها- وكان الدمع ليبعد عن عيني: فَرَّ الدمع عن عيني لما قال النبي ذلك، فقلت: أما والله لو تكلمت وقلت لم تصدّق، ولكن ما أنا وإيّاكم إلا كما قال الرجل الصّالح يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام: فصبرٌ جميل ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾، لا إله إلا الله كيف وفقت إلى حسن الاقتباس وهي صغيرة، ولكن هذه حفاوة الله وعنايته.
في هذه الأثناء نزل على النبي ﷺ الوحي، وكانت تأخذه رِعدة من هول ما يلقى عليه، ويتصبب عرقا في اليوم شديد البرودة -الشاتي- من شدة ما يُلقى عليه، قلب أبي بكر وقلب عائشة وقلب أمها بهذا الأمر، أبو بكر يخشى أن يكون هذا فيه فضيحة لعائشة، وعائشة مطمئنة؛ لأنها صديقة غافلة، نيل منها وهي لا تدري، حتى سُرّي عن النبي ﷺ فقال: أبشري يا عائشة، قد أنزل الله براءتك، فقرأ الآيات من سورة النور: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ﴾ أي: مجموعة أو عصابة شر ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، وأنيت -رضي الله عنها- وفرحت بهذه الشهادة، والبراءة من الله لا من غيره، فقالت أمها لها: قُومي يا بُنية إلى رسول الله، فقالت: والله لا أحمده ولا أحمدكم، فقد قالوا وصدقتموهم، ولكني أحمد ربي الذي أنزل براءتي. هذا هو التوحيد وهذا هو الإيمان.
ولقد أقام النبي الحد على ثلاثة ممن تولَّوا نقل هذا الكلام وإشاعته، فطَهرهم الله به ولم يُقِم الحد على عبد الله بن أبي، ليبقى له عذابًا ونكالًا يوم القيامة، وفيها القرآن الذي لا يزال يُقرأ ويتلَى في براءتها من هذه السورة -سورة النور- في عشر آيات خاصة في عائشة وشأنها، وثمان آيات بعدها في هذه القضية المتعلقة بالإفك والاتهام بالعرض.
هذه قصة الإفك العظيمة التي لا بد من إعادتها وتكرارها إحياءً لجذوة الإيمان في النفوس، وربطا لها وللقلوب بالله -جل وعلا-، وصبرا على البلاء تلمسا في ثنايا هذه المحن والبلايا ما فيها من عظيم المنن والعطايا من ربنا سبحانه وتعالى سبحانه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمنا الله وإياه-: (
وَدُومَةُ الْجَنْدَلِ قِيلَ وَحَصَلْ ... عَقْدُ ابْنَةِ الْحَارِثِ بَعْدُ وَاتَّصَلْ
)}.
(وَدُومَةُ الْجَنْدَلِ) هي بعدها في السنة السادسة، بعثهم النبي ﷺ إلى دومة الجندل، إلى أكيدر دومة، (دُومَةُ الْجَنْدَلِ) المعروفة الآن في منطقة الجوف، وصَالَح فيها النبي أكيدر دومة على الجزية.
(قِيلَ وَحَصَلْ ... عَقْدُ ابْنَةِ الْحَارِثِ بَعْدُ وَاتَّصَلْ) أي قبل هذا عقد النبي على ابنة الحارث.
تزوج النبي ﷺ بنتين، وهي: "زينب بنت خزيمة بن الحارث، وماتت في رمضان، ومكثت عنده ثمانية أشهر ثم ماتت، وتزوج أختها "ميمونة بنت الحارث" ملك بني المصطلق، تزوجهما من النبي ﷺ، ومكثتا عنده، فماتت زينب قبل نكاح النبي من أختها، وأختها عاشت حتى بعد موت النبي ﷺ.
{أحسن الله إليكم.
قالا -رحمه الله-: (وَعَقْدُ رَيْحَانَةَ فِي ذِي الْخَامِسَةْ ... ثُمَّ بَنُو لِحْيَانَ بَدْءُ السَّادِسَةْ)
(وَعَقْدُ رَيْحَانَةَ) ما الريحانة يا ترى؟ من هي ريحانة؟ ريحانة هي بنت زيد، قيل من "بني النضير"، وقيل من "بَنِي قُرَيْظَةٍ"، ورجَّحَ ابن القيم أنها زوجة من زوجاته، أنها من صفية، ورجح آخرون أنها سبية من السبايا، وعلى كله، كان عقده عليها، وفيه أنه ﷺ أخذ "ريحانة بنت زيد النضرية" أو أن من بني النضير، أو من بَنِي قُرَيْظَةٍ، هو تزوج صفية بنت حيي بن أخطب ﷺ، لم يكن يميز بين الناس لطبقاته، وإنما المعيار عنده هو معيار الإيمان، ومعيار الدين والتوحيد.
(ثُمَّ بَنُو لِحْيَانَ بَدْءُ السَّادِسَةْ) غزوة بني لحيان، وبني لحيان أو اللحيانيون صار ولاؤهم في هذيل حت صاروا من هذيل، وإلا فبنو لحيان أمة قديمة، وذلك لما بعث إليهم من بعث من أصحابه، حيث منهم شرا وسوءًا على المسلمين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
وَبَعْدَه اسْتِسْقَاؤُهُ وَذُو قَرَدْ ... وَصُدَّ عَنْ عُمْرتِهِ لَمَّا قَصَدْ
)}.
(وَبَعْدَه اسْتِسْقَاؤُهُ) أصاب المسلمون جدب عظيم، (وَصُدَّ عَنْ عُمْرتِهِ لَمَّا قَصَدْ) ونقص في المطر، فواعدهم يومًا يخرجون فيه، فشرع الله بذلك صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، واستسقى ربه ﷺ، أي: استنزل من ربه للمطر والغيث، وقال في دعائه: « اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم مغيثا هنيئا مريئا سحًا طبقًا» فما غادروا مصلاهم إلا والمطر ينهمر، ومصلاهم موضع مسجد الغمام الآن، في الجنوب الغربي من مسجده الشريف ﷺ، وهو الموضع الذي يُصلى فيه على الجنائز، وهو الموضع الذي صَلَّى فيه صلاة الاستسقاء، موضع الجنائز في شرقي المسجد في الجهة الأخرى بينه وبين البقيع.
وكان في تلك السنة أيضًا مع الاستسقاء غزوة (ذي قَرَدَ)، وقرد جبل، وقيل: موضع ماء لبني سليم ومن معهم من العرب، عَلِمَ منهم النبي شرًا فبيَّتهم وغنِم منهم غنائم عظيمة.
وفي ذي القعدة من تلك السنة السادسة وجه إلى مكة معتمراً حتى بلغ الحديبية، تسمى الآن: الشميسي، وهي حد الحرم من الجهة الغربية، أرسل إلى أهل مكة ليعلمهم أنه ما جاء مُقاتلاً، وإنما جاء مُعتمراً، فأطالت المفاوضات بينه وبين المشركين، حتى إنه أرسل عثمان، وأبطأ عثمان عندهم، أي: حبسوه.
وقالوا له: اقض عمرتك يا عثمان، قال: ما كنت لأعتمر قبل رسول الله ﷺ. فلما حبسوه أشِيعَ بين الناس أن قريشاً قتلت عثمان، فانعقدت لعثمان البيعة، بيعة ماذا؟ بيعة الرضوان أو بيعة الحديبية، ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ ترى هذه البيعة بسبب عثمان بن عفان، فعُقدت له هذه البيعة -بيعة الموت- التي أثنى الله فيها على أهلها، وكان من جرائها صلح الحديبية، وذلك أنه جاءه سهيل بن عمر مندوبا عن أهل مكة، فتفاءل النبي باسمه وبمقدمه، فقال: «سهل أمركم».
وفي تلك السنة صدّه المشركون عن تلك العمرة، قالوا: لا تعتمر حتى لا يتحدث العرب أنك غصبتنا وقهرتنا على العمرة، فرضي النبي وعقدهم الصلح الذي ظنّه من ظنّه من الصحابة أن فيه الدنيّة، وفيه النقص على المسلمين، وفي ثناياه النصر والعزة، في طاعة الله وطاعة رسوله، وهذا أصل شريف لكم -يا طلاب العلم، ويا عموم المسلمين- إذا رأى ولي الأمر أمراً اختار فيه المصلحة، لا يجوز أن يُثَلَّبَ عليه، ولا يجوز أن يُعترض عليه، في مقام النصيحة يُناصح، والقرار النهائي والمعتمد على ما يَراه.
حتى قال عمر -رضي الله عنه- ومن عمر؟! "أنعطي الدنية في ديننا؟" قالها لأبي بكر ولعثمان، فقال له أبو بكر: أليس رسول الله؟ قال بلى. قال: "فالزم غرزه ولا تخالفه"، لا تثلب عليه، الزم غرزه ففيه الخير، وقد أظهر الله ذلك حتى سمَّى هذا الصلح فتحًا.
من جرائه وبنوده أنه يرجع من عامه ذلك ولا يعتمر، وهذا هو صد المشركين عن النبي وعن المؤمنين أن يعتمروا.
وفيها قول الله -جل وعلا- فيما أنزله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾، أي: كما حصل لكم في الحديبية، ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، فمن لم يجد فالحمد لله، ينتقل إلى بدله، وهذا صار حكماً في كل هدي عجز عنه المسلم، ينتقل إلى بدله، ما بدله؟ ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾
قال تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾.
صَدَّه المشركون عن عمرته، فصار بعدها هذا الصلح ومدَّته عشر سنين، فتفرَّغ فيه النبي ﷺ لدعوة الناس في الآفاق، ودعوة زعماء الناس، فأرسل إلى النجاشي، وأرسل كتابا إلى المقوقس صاحب مصر في الإسكندرية، وإلى قيصر ملك الروم، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى "المنذر بن ساوى بن الأخنس".
فتح الله عليه خيبر، وأتى في ذي القعدة من السنة السابعة في عمرة مُقابل العمرة التي صُدَّ عنها، وهي عمرة: "القضاة"، وتسمى عمرة "المقاضاة"، وتسمى عمرة "القضية".
وهذا الصد من المشركين الذين صدوا النبي ﷺ والمؤمنين معه، وكانوا نحوا من خمسة عشر مئة، تزيد إلى سبعة عشر مئة أو تنقص قليلاً. ما حكمه؟
حكمه كما بينه ربي، يحلق رأسه، فإن تيسر ذبح هدياً.
أمر النبي أصحابه أن يحلقوا رؤوسهم، فلم يبادروا، فنال من ذلك منه وأصابه، ودخل مغموماً على السيدة العاقلة: أم سلمة -رضي الله عنها-، قال: إن أصحابي أمرتهم فلم يأتمروا، قالت: يا رسول الله -وهذا من عقلها وكمال نصحها، وهذا اللائق بالمرأة المسلمة، أن تكون ذات عقلٍ وذات رزانةٍ وحصافة.
فقالت: يا رسول الله إنه أمرٌ لا يعرفونه، فاخرج ولا تلوي على أحد، لا تلتفت على أحد، واحلق رأسك، وانظر ما يصنع القوم. فأخذ النبي برأيها ومشورتها، فخرج لم يلو على أحد، يلومهم أو يعاتبهم لم يسمعوا لأمره، بل أدّبهم وعلمهم بالتطبيق العملي، فحلق رأسه، فتدافع الناس إلى حلق رؤوسه.
هذا الرأي المصيب، وهذه الإشارة الموفقة، وفيه أن من حصر عن هذا البيت بعدوٍ أو بخوفٍ أو بضياع أو بمانعٍ منعه من أن يؤدي نسكه فيه، فإنه يحلق رأسه بحق الرجال، وتقصر النساء، فإن تيسر ذبح هدياً؛ لأن ليس كل الصحابة معهم في ذلك الوقت هذه، ما زالوا في حالة الضعف وحالة العوز والفاقة -رضي الله عنهم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمنا الله وإياه-: (
وَبَيْعَةُ الرِّضْوَانِ أُولَى وَبَنَى ... فِيهَا بِرَيْحَانَةَ هَذَا بَيِّنَا
)}.
(وَبَيْعَةُ الرِّضْوَانِ) يعني: بعد الحديبية بعدما صدّه المشركون كانت (بيعة الرضوان في الحديبية) تحت الشجرة، شجرة سمرة، بايع فيها النبي الصحابة على القتال وعلى الموت؛ لأنه نما إلى علمهم أن قريشا قتلت عثمان رسولُ رسولِ الله ﷺ إليهم، وهي البيعة المشهورة المسطورة في القرآن في آية براءة ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾ فأهل بيعة الرضوان فارقون عن غيرهم ممن آمن بعدهم، ولهم هذه الوعود الكريمة من الله، بأن لهم الجنة، وهي بيعة لهم للنبي على الموت، يُصافحونه ويبايعونه على الموت، ومنهم من بايعه ثلاث مرات -رضي الله عنهم- كسلمة بن الأكوع، حتى أبان الله الأمر وأجلاه بمجيء عثمان، فحصل لهم الأجر والمثوبة، ولم يحصل لهم الأذى والقتل.
وهذه البيعة التي كان فيها ما كان، نما إلى عمر في خلافته أنَّ أناساً يذهبون وينظرون إلى موضع الشجرة، التي بايع فيها النبي ﷺ بايع تحتها الصحابة، فأمر بقطعها لئلا تكون آثارًا يُعظَّم بها غير الله، وذريعةً إلى الشرك بالله سبحانه وتعالى، وهذا فقه راشد من خليفة راشد دلَّنا النبي عليه بقوله: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدِي».
وبقوله تخصيصًا لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-: «اقتدوا باللذين من بعدِي، أبي بكر وعمر».
(وَبَنَى ... فِيهَا بِرَيْحَانَةَ هَذَا بَيِّنَا) بنى بريحانة وهي بنت زيد النضري -من بني النضير-، وقيل: القرظية، بنى بها ﷺ زوجة على قول طائفة، وممن رجح ذلك ابن القيم، أو سُرِّيةً على قول الباقيين. اللهم صلِّ وسلِّم على رسول الله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمنا الله وإياه-: (
وَفُرِضَ الْحَجُّ بِخُلْفٍ فَاسْمَعَهْ ... وَكَانَ فَتْحُ خَيْبَرٍ فِي السَّابِعَةْ
)}.
رجح الناظم أن فرض الحج كان في السنة السابعة، وهو أحد الأقوال، قيل: فرض الحج في السنة الخامسة وهذا ضعيف، وقيل: في السنة السادسة لَمَّا صد المشركون؛ لأن الله قال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ وهذا ما مضى عليه المصنف، وهذا أيضا ضعيف.
وقيل: فرضه في السابعة، وقيل: في التاسعة، وقيل: في العاشرة، والصحيح أنَّ الحج فرض في السنة التاسعة، وقيل: في أول العاشرة.
أما دليل أنه في التاسعة، فلأن النبي ﷺ أمر أبا بكر أن يحج بالناس، والحج عبادة دقيقة تحتاج إلى علم وفقه، لم ير كفئا لها أن يقوم بالناس إلا أبا بكر، وقد أقامه النبي في شعيرتين، في الصلاة وفي الحج بالناس، لم يُقِم أحدًا غيره في هاتين الشعيرتين، وتقديمه فيهما دلالة على استحقاقه الخلافة والإمامة بعده ﷺ.
وكان فتح خيبر في السابعة خيبر في السنة السابعة في أثنائها مضى ﷺ إلى خيبر لما تجمع فيها اليهود وعلم منهم الشر والمكيدة والإغاظة للمسلمين، وهي تبعد عن المدينة مائة وسبعين كيلا، كم مرحلة تقريبًا؟ أربع مراحل، وفيها الحديث المشهور، أنَّ النبي ﷺ لَمَّا مضى إلى خيبر وهذا في الصحيحين قال: «لَأُعْطِيَنَّ هذِه الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ علَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَه، ويُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسولُهُ، قالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ: أيُّهُمْ يُعْطَاهَا؟ فَلَمَّا أصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا علَى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أنْ يُعْطَاهَا، فَقالَ: أيْنَ عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ؟» ولم يكن صلى معهم الفجر. فقِيلَ: هو -يا رَسولَ اللَّهِ- يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، قالَ: «فأرْسَلُوا إلَيْهِ. فَأُتِيَ به فَبَصَقَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ في عَيْنَيْهِ ودَعَا له، فَبَرَأَ حتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ به وجَعٌ، فأعْطَاهُ الرَّايَةَ»، فَقالَ عَلِيٌّ: يا رَسولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُهُمْ حتَّى يَكونُوا مِثْلَنَا؟ فَقالَ: «انْفُذْ علَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ» مشي المتئد، مشي الواثق بالله، لا عجلا ولا طفق «ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ؛ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ»
ففتح الله على يد علي هذا الفارس الهمام الضرغام، الذي وقف وناطح مرحبا، أفرس فرسان وفراس اليهود، الذي كان يتبختر..
أنا الذي سمتني أمي مرحبا ... شاك السلاح بطل مجردا
فرد عليه علي فقال:
أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره
واجهه علي -رضي الله عنه- فتخالف معه ضربةً فضربه علي ضربةً فصل فيها رأسه عن جسده، فكبر المسلمون وانهارت خيبر، وسلمت للمسلمين، تسلمها النبي ﷺ.
وكان لَمَّا قدم عليها خرجوا من حصونهم، وكانت حصونهم كثيرة؛ لأن خيبر ذات عيون، ذكروا منها حوالي 300 عين، أدركت فيها إلى عهد ليس بالبعيد ثلاثة عيون جارية تمشي في الصيف، يستقي منها الناس في زروعهم، خرجوا معهم مكاتلهم ومساحيهم، فلما رأوا نبينا والمسلمين قالوا محمد والخميس أي محمد والقتل.
قامت المعركة فقتل منهم من قتل، وكسرت شوكتهم، واستؤصلت زعاماتهم، فجاء عقلاؤهم فصالحوا النبي ﷺ، قالوا: نحن أهل الأرض، نعرفها ولا تعرفونها، نصلح من شأنها، فصالحهم النبي ﷺ على الشطر -على النصف- نصف لهم مزارعة ومساقات بثمرتها، والنصف الثاني للمؤمنين، وقَسَّم أرض خيبر بينهم، وقال: على أن نبقيكم فيها ما نشاء، هذا أصل العقد غير المحدد بمدة.
في الحديبية عشر سنين، المصالحة بينه وبين المشركين.
في خيبر نبقيكم فيها ما شاء، وهذا دليل لِمَا ذهب إليه المحققون من العلم من جواز الصلح من ولي الأمر مع الكفار مدة محددة كما حصل في الحديبية، أو مدة مطلقة كما حصل في خيبر، والأمر يُناط بولي الأمر الذي تُقام به مصالح المسلمين، ويُقام به حدود الله -جل وعلا-.
فكان فتح خيبر هو الفتح العظيم المنوه عنه في سورة الفتح في قول الله -جل وعلا-: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ أي بيناً واضحة.
{أحسن الله إليكم.
قَالَ -رحمنا الله وإياه- (وَحَظْرُ لَحْمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةْ ... فِيهَا وَمُتْعَةِ النِّسَا الرَّوِيَّةْ)}.
في غزوة خيبر مُنِعَ وحرّمت لحوم الحمر الأهلية، والحمر جمع حمار، وتسمى الحمار الأهلية والإنسية، التي يستخدمها الناس في زروعهم وركوبهم، فإنَّ النبي ﷺ وجد القدور تفوح بالغليان، قال: ما فيها؟ قالوا: فيها لحوم الحمر يا رسول الله، فأمر بالقدور أن تُكسَر، قالوا: أو تُغسَل، قال: أو تُغسَل، وأمر بما فيها أن تُكفَأ، أي: تُنثر، وحرَّم عليهم الحوم الحمر الأهلية، «فإنها رِجس»، نزل تحريمها في عام خيبر، ولم تُحرَّم لأنها ركاب النَّاس، كما ذهب إلى ذلك بعض أهل العلم، بل لأنها رِجسٌ.
وحرِّم في تلك الغزوة المتعة الأذية والرَّدية، وهو الاستمتاع بالمرأة مدة محددة، تُمَتِّعُ نفسها من الرَّجل مدة محددة بعقد المتعة، نزل تحريمه في عام خيبر، وشُدِّدَ تحريمه بعدها في عام الفتح؛ لأن مبناه على الزنا المنظم، والذي ما زال أهل البدع للأسف يدينون به لرخامتهم من جهة، ولشبهة عندهم من جهة ثانية، ولأن العرض أمره هين عليهم من جهة ثالثة حتى يعدّون التمتع من أعظم القُرَب، جرأةً وكذبًا على الله وعلى دينه وعلى رسوله وعلى آل بيته صلى الله عليهم جميعًا وآله وسلّم.
فنكاح المُتعة من نكاح الجاهلية المُحرَّم، كنكاح الشِغار، بل هو أشدُّ منه، بل هو أقربُ ما يُصوَّرُ إليه أنه زِنا مُنظَّم مُرَتَّب؛ لأن الشريعة عظَّمَت النكاح، فجعلت له أركاناً ثلاثة، وشروطاً أربعة، تعظيماً لهذا العقد الذي فيه استباحة الفروج، وإثبات الأنساب، وقضاء الوطر، وإدامة العشرة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمنا الله وإياه-: (
ثُمَّ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ عَقَدْ ... وَمَهْرَهَا عَنْهُ النَّجَاشِيُّ نَقَدْ
)}.
بعد خيبر عقد النبي ﷺ على أم حبيبة، من هي أم حبيبة؟! إنها رملة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وكانت تحت رجل من المهاجرين الأوائل، وهاجر بها إلى أرض الحبشة، وهو عبد الله بن جحش، وتنصر بعدها ومات، فكتب النبي ﷺ إلى النجاشي أن يزوجه إياها، فأمهرها النجاشي مهرها من عنده، أمهر أم حبيبة مهرها من عنده، فكانت زوجة رسول الله ﷺ.
(ثُمَّ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ عَقَدْ ... وَمَهْرَهَا عَنْهُ النَّجَاشِيُّ نَقَدْ)، أي: دفعه عن النبي ﷺ، وفي هذا فضل أم حبيبة، وأن النبي ﷺ تزوجها بعد مرجعه من خيبر، والصحيح أنها قبل خيبر؛ لأن في مرجعه من خيبر، رجع جعفر بن أبي طالب بمن بقي من المهاجرين الأوائل في الهجرتين الأوليين التي مر التنويه تميه عنهما إلى خيبر. فقال ﷺ: «والله ما أدري بأيهما أفرح، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟».
وقدم مع جعفر الأشعريون، عبد الله بن القيس -أبو موسى الأشعري- ومن معه، وكانوا بضعًا وسبعين، وبعد خيبر أسلم أبو هريرة، وهذه خيرات تتابعت على المؤمنين.
نقف على هذا الموضع، في قدوم المهاجرين، وقدوم أم حبيبة مع المهاجرين إلى النبي ﷺ، ونكمل ذلك إن شاء الله في الدرس القادم، والله أعلم.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، وجزاكم الله عنا خير الجزاء، والشكر موصول لكم أعزاءنا المشاهدين، على أمل اللقاء بكم في حلقات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-----------------------------------
[1] أخرجه البخاري (334)، ومسلم (367).
سلاسل أخرى للشيخ
-
9163 9
-
20931 9