الدرس التاسع
فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله المعيوف
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان، مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نُرحب بكم في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادّة المتعلم) ، والذي نتناول فيه كتاب (آداب العالم والمتعلم) ، للإمام النووي -رحمه الله تبارك وتعالى- يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ محمد بن عبد الله المعيوف، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك.
حياكم الله يا شيخ محمد}.
حياك الله يا شيخ معاذ، وحيا الله الإخوة المتابعين، وأهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم جميعًا.
{أسأل الله أن يبارك فيكم ويحسن إليكم.
شيخنا المبارك قبل أن نبدأ في موضوع الحلقة، ودنا لو تتفضل علينا بمراجعة يسيرة لموضوعات المفتي والمستفتي التي قد تناولناها الحلقات الماضية}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تحدث الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في كتابه هذا عن (المفتي والمستفتي) وبيّن من هو المستفتي، وجملةً من آدابه، وبيّن -رحمه الله- خطر هذا المنصب، وأنه لا يتصدى له إلا من اكتملت فيه آلته، ووجدت فيه شروطه.
وذكر أيضًا جملةً من الصفات التي يتأكد على المستفتي أن يتحلى بها، ومن أهمها حقيقةً أن يكون قصده الحق والعمل به، لا الترخص أو إفعام المفتي، أو ضرب أقوال أهل العلم بعضها ببعض.
وذكر جملة في الحقيقة من الآداب التي ينبغي مراعاتها لكل من المفتي ومن المستفتي، ثم تحدث بعد ذلك عن جملة من المسائل مما يحتاج إليها، وتتأكد الحاجة إليها، مما يتعلق بأقوال الصحابة، ومباحث هي من قبيل مباحث علم مصطلح الحديث، ولكن يحتاج إليها كثيرًا، ولابد لطالب العلم أن يكون عنده مدخلٌ فيها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (بَابٌ. فُصُولٍ مُهِمَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْمُهَذَّبِ وَيَدْخُلُ كَثِيرٌ مِنْهَا وَأَكْثَرُهَا فِي غَيْرِهِ أَيْضًا، إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ قَوْلًا وَلَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ وَلَمْ يَنْتَشِرْ فَلَيْسَ هُوَ إجْمَاعًا وَهَلْ هُوَ حُجَّةٌ، فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ الصَّحِيحُ الْجَدِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَالْقَدِيمُ أَنَّهُ حُجَّةٌ، فإن قُلْنَا هُوَ حُجَّةٌ قُدِّمَ عَلَى الْقِيَاسِ، وَلَزِمَ التَّابِعِيَّ الْعَمَلُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ، وَهَلْ يَخُصُّ بِهِ الْعُمُومَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَإِذَا قُلْنَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَالْقِيَاسُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، وَيَسُوغُ لِلتَّابِعِيِّ مُخَالَفَتُهُ) }.
تحدث المؤلف عن مسألة مهمة وهي: هل قول الصحابي حجة أو ليس بحجة؟
الصحابي هو من اجتمع بالنبي ﷺ مؤمنًا به ومات على ذلك، والصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- طبقات:
• فمنهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وهم الذين شهدوا بدرًا، وقيل بل الذين صلوا إلى القبلتين، وقيل بل الذين بايعوا النبي ﷺ بيعة الرضوان.
• ومنهم الذين جاءوا من بعدهم ممن هاجروا بعد صُلح الحديبية.
وعلى كل حال: فقول الصحابي هذا وحتى يتحدد الموضوع أو النقطة التي يتحدث عنها النووي -رحمه الله- والتي حصل فيه الخلاف بين العلماء -رحمهم الله تعالى- يقال: إذا قال الصحابي قولًا لا مجال للرأي فيه، ولم يكن هذا الصحابي معروفٌ بالأخذ عن الإسرائيليات، فإن هذا القول له حكم الرفع، إذْ لا يمكن للصحابي أن يأتي به من عند نفسه، فلابد وأن يكون أخذه عن النبي ﷺ.
المسألة الثانية: إذا كان هذا القول واردًا عن الخلفاء الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم وأرضاهم- ولهم فيه سنةٌ متبعة، وطريقةٌ مسلوكة، فإنَّ هذه السُّنة حجة لقول النبي ﷺ: «عليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ المَهْدِيِّينَ من بعدي، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجِذِ»، ولاسيما قول الشيخين أبي بكرٍ وعمر، قال ﷺ: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي من أصحابي: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ».
لكن إذا قال الصحابي قولًا وانتشر ذلك القول، ولم يُعرف له مخالف، انتشر ذلك القول يعني شاع بين الناس، ولم يُعرف أن أحدًا من الصحابة خالف ذلك الصحابي في قوله، فقيل يكون إجماعًا، وإذا كان إجماعًا فلابد وأن يكون حُجة، ويمكن أن يعتبر هذا من قبيل الإجماع السكوتي المعروف عند الأصوليين، وهو إذا قال أحد المجتهدين قولًا وفعل فعلًا انتشر ولم يُعرف له مخالف، فالخلاف فيه كالخلاف في قول الصحابي هنا، قيل: يكون إجماعًا، وقيل: حجةً، ولا يكون إجماعًا، وقيل: ليس بإجماعٍ ولا حجة.
مسألةٌ أخرى ذكرها -رحمه الله تعالى- وهي: ما إذا قال الصحابي قولًا ولم ينتشر ذلك القول ولم يُعرف له مخالف، هنا يتضح الفرق بين هذه المسألة والتي قبلها، فالتي قبلها انتشر القول وشاع وعُرف بين الناس، وأما هذا القول فلم ينتشر، ولم يُعرف له مخالف، فهل هو حجة أو ليس بحجة؟
ذكر النووي قولين للشافعي -رحمه الله تعالى-:
القول الأول: وهو القديم للشافعي، يعتبر حجة، وإذا كان حجةً فإنه يُقدم على القياس كما قال، ولكن هل يُخص به العموم ويُقيد به المطلق؟
خلافٌ بين أهل العلماء -رحمهم الله تعالى-.
القول الثاني: ليس بحجة، وهذا جديد قول الشافعي -رحمه الله تعالى-، وبالتالي لا يُقدم على القياس، ولا يُخص به العموم، ويسوغ للتابعي أن يخالفه.
وذهب الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- إلى أن قول الصحابي حُجة مطلقًة، ولكن العلماء يُقيدون هذا بقيدٍ مهم، وهو: ألا يخالف قول الصحابي هذا نصًا أو قول صحابي آخر، فإن خالف نصًا أُخذ بالنص، وإن خالف قول صحابي أُخذ بالراجح منهما.
{(فَصْلٌ في أقسام الحديث: قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحَدِيثُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ صَحِيحٌ وَحَسَنٌ وَضَعِيفٌ: قَالُوا وَإِنَّمَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ مِنْ الْحَدِيثِ فِي الْأَحْكَامِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَوْ الْحَسَنِ: فَأَمَّا الضَّعِيفُ فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْعَقَائِدِ وَتَجُوزُ رِوَايَتُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ فِي غَيْرِ الْأَحْكَامِ كَالْقَصَصِ وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ) }.
هنا مسألة: وهي إذا قال صحابي أُمرنا أو نُهينا، فإذا قال: صحابي أُمرنا أو نُهينا فالآمر والناهي هو من له الأمر في عهدهم، وهو رسول الله ﷺ، فيكون هذا من قبيل المرفوع.
كذلك إذا قال الصحابي: من السنة كذا وكذا، فالمقصود سنة محمدٍ ﷺ فهو أيضًا من قبيل المرفوع.
وإذا قال التابعيُ، والتابعيُ هو من أدرك صحابيًا مؤمنًا بالنبي ﷺ ومات على ذلك، والتابعي قوله ليس بحجة، ولكن إذا قال: من السنة كذا، فهل هو مرفوع مرسل؟ وسيأتي تعريف المرسل، أو هو موقوفٌ على الصحابة؟
قولانِ لأهل العلم -رحمهم الله تعالى-.
يتحدث المؤلف بعد ذلك عن أقسام الحديث، وقسمها إلى ثلاثة: الصحيح، والحسن، والضعيف، فما هو الصحيح؟
{(فَالصَّحِيحُ مَا اتَّصَلَ سَنَدُهُ بِنَقْلِ الْعَدْلِ الضَّابِطِ عَنْ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ شُذُوذٍ وَلَا عِلَّةٍ وَفِي الشَّاذِّ خِلَافٌ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ رِوَايَةُ الثِّقَةِ مَا يُخَالِفُ الثِّقَاتِ: وَمَذْهَبُ جَمَاعَاتٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَقِيلَ إنَّهُ مَذْهَبُ أَكْثَرِهِمْ إنَّهُ رِوَايَةُ الثِّقَةِ مَا لَمْ يَرْوِهِ الثِّقَاتُ وَهَذَا ضَعِيفٌ) }.
قسَّم الحديث هنا إلى ثلاثة أقسام: الصحيح أولًا، وتعريفه: ما رواه عدلٌ تام الضبط عن مثله إلى منتهاه بسندٍ متصل، وخلا من الشذوذ والعلة القادحة، لا بد من كل هذه القيود.
القيد الأول: أن يرويه عدلٌ، وضد العدلِ الفاسق، فالفاسق لا تصح روايته.
القيد الثاني: أن يكون تام الضبط، احترازًا من خفيف الضبط، فحديثه من قبيل الحسن، كما سيأتي.
أو من سيء الحفظ، لأن سيء الحفظ حديثه من قبيل الضعيف، إلا إذا تعددت طرقه على وجهٍ يجبر بعضها بعضًا، فإنه يكون من قبيل الحسن لغيره.
ومنه أيضًا الاختلاط، فإذا اختلط الراوي، وهذا أمرٌ يعرض للرواة، لا سيما إذا تتقدم السن بالإنسان فقد يصاب بشيءٍ من الاختلاط، فحينها يكون حديثه ضعيفًا بعد اختلاطه، كحديث عبد الله من لهيعة الحضرمي قاضي مصر -رحمه الله تعالى-، فالعلماء يقبلون حديثه عن العبادلة إلى ابن وهب إلى ابن مبارك؛ لأنهم رووا عنه قبل الاختلاط واحتراق مكتبته، ولكن بعد احتراق مكتبتهِ اختلط، ولهذا يضعفون روايته بعد احتراق مكتبته.
لابد أن يوجد هذان القيدان في السند كله، وهم: العدالة وتمام الضبط، ولهذا يقولون عن مثله إلى منتهاه، يعني جميع الرواة إلى منتهى السند متصفون بهذا الوصف.
شيخنا ما هو ضابط تام الضبط، هل له ضابطٌ؟
تام الضبط هو ما ذُكر احترازه من خفيف الضبط، يعني يكون ضبطه جيدًا، لا يكثر نسيانه، لا يكثر ذهوله، لا تكثر غفلاته، بحيث يؤدي الحديث، ويُعرف عنه أداء للحديث على وجهٍ يكون فيه متقنًا، ولا يكون فيه اختلال أو اختلاف، فإذا وجد في هذه الأمور يكون تام الضبط.
بسندٍ متصل: لابد أن يكون السند متصلاً، لا يتخلله انقطاعٌ سواء في أوله أو في وسطه أو في آخره، بحيث لا يكون منقطعًا أو معلقًا أو مرسلًا أو غير ذلك مما يعرض للسند في أوله أو في وسطه أو في آخره.
القيد الرابع: خلوه من الشذوذ والعلة القادحة، فما هو الشذوذ عند علماء الحديث؟ الشذوذ هو ما رواه الثقة مخالفًا به الثقات، يرويه ثقة لا إشكال في ضبطه، لكنه يخالف من هو أوثق منه حفظًا أو عددًا أو ما أشبه ذلك، فيكون حديثه من قبيل الشاذ وبالتالي يكون ضعيفًا، مع أن الروية هنا ثقة، لكن مخالفته للثقات جعلت حديثه ضعيفًا، أما إذا كان المخالف للثقات ضعيفًا فإن حديثه من قبيل المنكر، وهو من الضعف بمكان، فالشذوذ مخالفة الثقة.
ذكروا هنا قولًا آخر، القول الأول قول الشافعي -رحمه الله- والمشهور عند علماء الحديث، يقول الناظم:
وَذُو الشُّذُوذِ: مَا يُخَالِفُ الثِّقَة به المَلاَ فَالشَّافِعيُّ حقَّقَهْ
ذكر قولاً آخر وهو من فرد به الثقة، لم تحصل مخالفة، لكنه انفرد به، لكنه ضعف هذا القول -رحمه الله تعالى- أيضًا لابد أن يخلو الحديث من العلة القادحة، والعلة أمرٌ خفيٌ قادحٌ في الحديث ظاهرهُ السلامة منه، ومثل هذه العلة لا يعرفها إلا الحذاق من علماء الحديث -رحمهم الله تعالى-، قد تكون هذه العلة في السند، وقد تكون في السند والمتن، وقد تكون في المتن بخاصة، فإذا اجتمعت هذه الشروط في الحديث، فإنه يكون من قبيل الحسن.
هنا مسألة أيضًا ذكر النووي -رحمه الله- مسألةً، وهي: ما إذا صرح الراوي بالسماع فلا ريب باتصال حديثٍ.
الأمر الثاني: إذا كان الراوي قد أدرك زمن الراوي الآخر، لكن لم يثبت أنه لقيه، يعني حصلت المعاصرة لكن لم تثبت اللقيا، فهل حديثه متصل؟ مسلم -رحمه الله تعالى- اعتمد هذا في صحيحه واعتبره من قبيل المتصل، وأما البخاري -رحمه الله تعالى- فإنه لم يعتبره من هذا القبيل، ولم يُخرج في صحيحه ما كان من هذا النوع.
المسألة الثالثة: ما ثبتت فيه اللقيا، ثبت أنه لقيه، لكن قالوا لم يثبت أنه سمعه، فالصحيح أن حديثه متصلٌ بشرط أن لا يكون مدلسًا، يعني معروفًا بالتدليس.
{ثم قال -رحمه الله-: (والقسم الثاني: الْحَدِيثُ الْحَسَنُ فَقِسْمَانِ أَحَدُهُمَا مَا لَا يَخْلُو إسْنَادُهُ مِنْ مَسْتُورٍ لَمْ يَتَحَقَّقْ أَهْلِيَّتُهُ وَلَيْسَ مقفلا كَثِيرَ الْخَطَأِ وَلَا ظَهَرَ مِنْهُ سَبَبٌ مُفَسِّقٌ وَيَكُون مَتْنُ الْحَدِيثِ مَعْرُوفًا بِرِوَايَةِ مِثْلِهِ أَوْ نحو مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ رواية مَشْهُورًا بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ إلَّا أَنَّهُ يُقَصِّرُ فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ عَنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ بَعْضَ الْقُصُورِ) }.
ذكر -رحمه الله- أن الحسن نوعان:
الأول: لا يخلو من راوٍ مستور الحال، لكنه لم يُعرف عنه كثرة الذهول والغفلة، ولا الفسق، وأيضًا عارض هذه الرواية روايةً أخرى مثلها، وهذا قريبٌ من الحسن لغيرهِ، ولهذا يقسمون -رحمهم الله تعالى- الأحاديث إلى خمسة -إذا أردنا التفصيل:
الأول: صحيح لذاته.
الثاني: صحيح لغيره.
الثالث: حسنٌ لذاته.
الرابع: حسنٌ لغيره.
الخامس: ضعيف.
الحسن لغيره، يكون الراوي فيه شيءٌ من ضعف، ولكنه يجبر بروايةٍ أخرى شبيهةٍ لها، وهذا الضعف ليس شديدًا، ليس معروفًا بالكذب أو بالفسق أو ما أشبه ذلك، فمثل هذا لا يستفاد منه ولا يعضد الحديث، ولكن إذا كان الضعف كونه مستور الحال، كونه سيء الحفظ، لكنه ورد من عدة طرقٍ فإن بعضها لا شك يجبر بعضًا.
الثاني من الحسن: وهو الذي نقص عن درجة الصحيح، نقص راويه من حيث الضبط، يعني: ضبطه أقل مما يعتبر حديثه صحيحًا، مع أنه ليس تام الضبط، ولكنه أيضًا ليس ضعيف الضبط أو سيء الحفظ، يعني: خفيف الضبط، فاعتبروا حديثه من قبيل الحسن.
وكل هذه الأقسام يحتج بها لا شك في الأحكام، خلاف ما سيذكر من الضعيف -رحمه الله-.
{ثم قال -رحمه الله-: (القسم الثالث: وأما الضعيف فما ليس صِفَةُ الصَّحِيحِ وَلَا صِفَةُ الْحَسَنِ) }.
نعم، الضعيف ما خلا من شرط الصحيح، إما أن يكون نقص أتاه من جهة الحفظ، أو من جهة العدالة، أو من حيث السند، أو كان فيه شذوذ، أو علة قادحة، أو ما أشبه ذلك؛ فإنه يكون من قبيل الضعيف، وهذا الضعيف لا يُحتج به في الأحكام.
لكن العلماء -رحمهم الله تعالى- أجازوا ذكره في القصص، في المواعظ، والترغيب والترهيب، وما أشبه ذلك بشروط، يضعون شروطًا لإرادة الحديث الضعيف، منها: ألا يعتقد أن النبي ﷺ قاله، مع أنه لا يجزم، لكن لديه ظن.
الثاني: ألا يكون الضعف شديدُا، فإذا كان الضعف شديداً فإنه لا يذكر بحال، ولا يُورد لا في وعظٍ ولا في غيره.
الثالث: أن يكون للمسألة التي ورد فيها هذا الحديث الضعيف أصلٌ معتبر، أصل ثابت في الكتاب أو في صحيح السنة، ولكن هذا الحديث الذي ورد متضمنًا لمعنى ذلك الأصل حديثُ ضعيف، فلا بأس بإيراده، كأن يرد حديثٌ في فضل صلاة الجماعة على سبيل المثال، أو في فضل الصيام، أو ما أشبه ذلك، فلا بأس في إيراد القيود التي ذُكرت سابقًا.
{أحسن الله إليكم.
شيخنا لدينا مسألة قد تتعلق بواقع الناس، وهي إذا أرادوا أن يذكروا حديثا للنبي ﷺ بمعناه أو بلفظه يعني، قالوا فيما معناه حديث النبي، وهذه الرواية التي يروونها قد يكون فيها يعني بعض الزيادة أو النقصان، فهل تجوز رواية حديث النبي ﷺ بالمعنى؟}.
لا بأس من روايته بالمعنى، لكن لا يرويه بالمعنى إلا من كانت لديه خبرةٌ ودراية بالحديث، ولديه قدرةٌ أيضًا على ذِكر هذا الحديث بالمعنى الصحيح، يفتح هذا المجال لكل أحد، فمن ليست له درايةٌ بهذه الصنعة قد يزيد كما تفضلت أو قد ينقص، لكن العلماء -رحمهم الله- يجوزون روايته بالمعنى، وإذا أوردوه بمعنى قالوا أو كما قال ﷺ.
إشارة إلى أن بهذه الرواية بالمعنى، لكن لابد أن يكون الرواية درايةٌ بالألفاظ التي تؤدي معنى ذلك الحديث، بحيث لا يزيد فيه ولا ينقص.
ثم هنا مسألة: وهي الحديث الضعيف إذا ذُكر وقد نبه عليها النووي، وكأنه يعني لام بعض العلماء الذين لا يتقيدون بها، بل الذين يعكسونها في بعض الأحيان، وهي أنه إذا أورد الحديث الضعيف فإنه يورده بصيغة التمريض لا بصيغة الجزم، فيقول: ذُكر عن النبي ﷺ أنه قال، وروي عن النبي ﷺ أنه قال، وما أشبه ذلك من الصيغ التي لا تدل على جزم القائل بصحة ذلك الحديث.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (أفعال الصحابة –رضي الله عنهم- في حياته ﷺ: أما إذا قال الصحابي كنا نَفْعَلُ كَذَا أَوْ نَقُولُ كَذَا أَوْ كَانُوا يَقُولُونَ كَذَا وَيَفْعَلُونَ كَذَا أَوْ لَا يَرَوْنَ بَأْسًا بِكَذَا أَوْ كَانَ يُقَالُ أَوْ يُفْعَلُ كَذَا فَاخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ يَكُونُ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَمْ لَا: فَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي اللُّمَعِ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى فِي الْعَادَةِ كَانَ كَمَا لَوْ رَآهُ النَّبِيُّ ﷺ وَلَمْ يُنْكِرْهُ فَيَكُونُ مَرْفُوعًا) }.
هذه مسألة: وإما إذا قال الصحابي كنا نفعل وكانوا يفعلون، كقول أسماء بنت أبي بكر: «ذبحنا فرسًا على عهد النبي ﷺ فأكلناه»، قال جابر -رضي الله عنه-: «كنا نعزل والقرآن ينزل»، لو كان شيء ينهى عنه لنهانا عنه القرآن وما أشبه ذلك، مع أن هذه الرواية إذا نثبت أن النبي ﷺ علم بها، إذْ ورد فبلغ ذلك النبي ﷺ فلم ينهنا عنه.
المقصود: أنهم إذا فعلوا فعلاً أو قالوا قولاً، وعزوه إلى عهد النبي ﷺ، فإنه يكون من قبيل التقرير، فإن كان علم به فهو من التقرير الصريح، كقصة الرجل الذي كان يصلي بأصحابه -صاحب السرية- ويختم بـ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:1]، فأخبر النبي ﷺ بذلك، فقال: «سَلُوهُ لأيِّ شَيءٍ كان يَصْنعُ ذلك؟ فقال: لأنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وأَنَا أُحِبُّ أنْ أقْرَأَ بهَا، فَقالَ: أخْبِرُوهُ أنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ».
فقد علم ﷺ بصنيع ذلك الرجل وأقره، فدل على جواز ذلك الفعل، لكن لا يقال بالمشروعية، لا يقال بأن هذا الفعل سنة، لا، التقرير يدل على جواز هذا الأمر على الوجه الذي أقره ﷺ، أما إذا أضيف إلى عهده ولم يعلم به ﷺ فإنه يكون من قبيل التقرير الحكمي، يعني له حكم التقرير؛ لأنه حصل في زمن التشريع، وفي زمن نزول الوحي، ولم يحدث نهي عنه، لو كان منهيًا عنه لجاء الوحي بالتنبيه عليه؛ ولأن أفعاله منكرة التي كان يفعلها المنافقون يبينها ربنا -عز وجل-، ويفضحهم، ويكشف أسرارهم، فدل على أن ما سكت الوحي عنه ولم ينزل به شيء، وقد حصل في عهد ﷺ أن ذلك يعتبر حجة، والله أعلم.
{ثم قال -رحمه الله-: (هل يثبت الإجماع بِخَبَرِ الْوَاحِدِ (قُلْتُ) اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ) }.
هنا يتكلم عن نقل الإجماع، لا بثبوت الإجماع بقول واحد، لأن الإجماع لابد أن يُجمع عليه أهل الاجتهاد، الإجماع اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد النبي ﷺ على حكم شرعي، ولكن لو نقله واحدٌ، يعني: نقل الإجماع وقال: أجمعت الأمة على كذا وكذا.
{يعني: يحكي الإجماع}
أينعم يحكي الإجماع، فهل تصح حكاية الإجماع، وبالتالي يكون ما ذكره إجماع أو لا؟ ذكر هنا قولين لأهل العلم، ومالا بعض أهل العلم إلى أنه يعتبر إجماعًا، يعني نقل الإجماع يدل على صحة ذلك الإجماع؛ لأنه ينبغي لطالب العلم إذا حكى إجماعًا أن يقول لا أعلم فيه خلافًا، أو لم يبلغني فيه خلافًا، ولا يقول أجمعت الأمة إلا إذا كان واسع الاطلاع، وله درايةٌ بمدارك العلماء وبأقوالهم، واطلع على أقوال عامة العلماء، مع أن الإجماع الذي ينضبط كما قال شيخ الإسلام: هو ما كان في عصر السلف، إذْ بعدهم كثر الخلاف وانتشرت الأمة.
{أحسن الله إليكم، طيب شيخنا الآن في المسائل المعاصرة لو أن قطرًا من أقطار المسلمين فيه مجموعة من علماء اتفقوا على مسألةٍ وأجمعوا عليها، هل يأخذ حكم الإجماع؟}
لا، الإجماع لا يكون إلا بإجماع الأمة.
{الأولين والآخرين؟}
إجماع أهل العصر، يعني: لو أجمع العلماء في هذا العصر -علماء المسلمين قاطبةً- على أمرٍ من الأمور يكون إجماعًا، لكن أين الطريق يا شيخ معاذ إلى نقله وإلى ضبطه، ولذلك يرى شيخ الإسلام أن هذا من الصعب بعد عصر السلف، في عصر السلف -رحمهم الله- والسلف إذا أطلق هذا الوصف يُراد به الصحابة والتابعون وتابعوا التابعين.
لم ينتشر الناس إذْ ذاك، والعلماء معروفون، ولكن بعدهم وبعد انتشار المسلمين في الأمصار وفي الأقطار صار من الصعب على طالب العلم أن يجمع أقوالهم، ولهذا شدَّد العلماء في هذه المسألة، حتى قال الإمام أحمد: "من يدعي الإجماع فهو كاذب"، هذه دعوة بِشر والأصم من المعتزلة، ولكن يقول: لا أعلم فيه خلافًا أو لم يبلغني.
ولهذا كثير من العلماء يستعملون هذه العبارة إبراءً للذمة، أنا لا أعلم فيه خلافًا، لكن قد يكون فيه خلاف، لم يبلغني خلاف ولكن قد يكون فيه خلاف، لكن إذا قال: أجمع، كأنه حكم على هذه المسألة أن الأمة أجمعت عليها ولم يوجد فيها مخالف.
{طيب يا شيخ أيضًا المجامع الفقهية تأخذ أيضًا حكمها؟}.
المجامع الفقهية يشترك فيها فئات من أهل العلم، لكن يبقى في الأمة علماء لا يشاركون في هذه المجامع، ولهذا ضبط الإجماع لا شك أن قول الأكثر يستأنس به، ولكن لا يكون إجماعًا؛ لأنه إذا كان إجماعا كان حجة، أي: لا يجوز أحد أن يخالفه، لكن بعض أهل العلم يستأنس برأي الجمهور برأي الأكثرية من أهل العلم.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (فصلٌ حكم الاحتجاج بالحديث المرسل) }.
تحدث عن الحديث المرسل -رحمه الله- في هذا الفصل، والحديث المرسل هو ما رفعه التابعي إلى النبي ﷺ هذا الإرسال الخاص، أما الإرسال العام الذي ذكره النووي -رحمه الله تعالى- هو ما كان فيه انقطاع في الحديث سواءً في السند في أوله أو وسطه أو آخره، لكن المشهور الكلام عن المرسل الخاص والذي يرفعه التابعي، كأن يقول سعد بن المسيب قال رسول الله ﷺ أو الحسن البصري، أو غيرهم من التابعين -رحمهم الله تعالى- رحمةً واسعةً.
فما حكم هذا المرسل هل هو حجة أو ليس بحجة؟
هذه مسألة الخلاف فيها مشهور بين أهل العلم، فكثير من أهل العلم ومن الفقهاء يَرون حجية المرسل؛ لاحتمال أن يكون التابعي رواه عن صحابي، لكنه لم يذكر الصحابي ورفع الحديث إلى النبي ﷺ مع الاحتمال أن التابعي أخذه عن تابعي آخر، هذا احتمالٌ وارد، ولهذا شدد بعضهم في الأخذ بالمرسل كالشافعي -رحمه الله تعالى-.
الشافعي –رحمه الله- كما ذكر النووي هنا وهو مشهورٌ عنه: لا يأخذ بكل مرسل بل يقيده بقيود، وشرطه أن يكون المرسل له من كبار التابعين أولًا، وثانيًا أن يعضده حديثٌ مسند إلى النبي ﷺ.
قد يقول قائل: إذًا ما الحاجة إلى المرسل مادام أنه ورد حديث مسند؟
فيقال: بل له حاجة؛ لأنه مرسل في هذه الحال يعضد ذلك المسند، بحيث لو حصل اختلافٌ بين هذا الحديث المسند وبين غيره فإنه يقوه.
أيضًا أن يرسل الحديث راوٍ آخر معروف بالعلم بغير طريق المرسل الأول فيزيده قوةً، أو يقوى بقول الصحابي، أو تتلقاه الأمة بالقبول، أو يكون عليه فتوى أكثر العلماء، وما أشبه ذلك من الأمور، والشرط التي ذكرها الشافعي -رحمه الله تعالى- للاحتجاج بالحديث المرسل.
{ثم قال -رحمه الله-: (فصلُ: لا يجوز الجزم بنسبة الحديث الضعيف للنبي ﷺ) }.
هذه سبق أن أشير إليها، وهي أن الحديث الضعيف يُروى بصيغة التمريض، سموها صيغة التمريض، ذُكر وروي ببناء الفعل لما لم يسم فاعله، أو المجهول كما يقولون، ذُكر عن النبي ﷺ، وما أشبه ذلك.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (فَصْلٌ: وصية الإمام الشافعي رحمه الله بالعمل بالحديث الصحيح إذا كان أفتى بخلافه، صَحَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ إذَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي خِلَافَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقُولُوا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَدَعُوا قَوْلِي: وَرُوِيَ عَنْهُ إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ خِلَافَ قَوْلِي فَاعْمَلُوا بِالْحَدِيثِ وَاتْرُكُوا قَوْلِي أَوْ قَالَ فَهُوَ مَذْهَبِي) }.
هذه عبارة مشهورة عن الشافعي -رحمه الله- إذا صح الحديث عن رسول الله ﷺ فهو مذهبي، فهذا نهجهم لا شك، نهج الأئمة وكان، العلماء كما ذكر النووي -رحمه الله- في أقسام المفتين: إذْ كانوا مستقلين، لم يكونوا ينتسبون إلى مذاهب فقهية، ولم تنشأ المذاهب إذْ ذاك، وكانوا يفتون بمقتضى الدليل من الكتاب والسنة، ولهم قوةٌ في هذا الأمر، وأنه لا يجوز لأحدٍ أن يأخذ بقولهم؛ حتى يعرف مأخذهم، والدليل الذي صدروا عنه، ولهذا أوثر عن الشافعي -رحمه الله- هذه المقولة المشهورة: "إذا صح حديثُ عن النبي ﷺ فهو مذهبي".
لكن النووي نبه إلى نقطة مهمة: وهي أن هذا الكلام لا يكون لأي شخص اطلّع على قول الشافعي، واطلّع على الحديث، ثم يأخذ بلفظ الحديث ويقول هذا مذهب الشافعي؛ لأن الشافعي قال كذا وكذا.
ولا يكون إلا لديه باع واسعةٌ في الاطلاع على الأحاديث، وأيضًا طرق الاستنباط؛ لأنه قد يكون الحديث الصحيح اطلع عليه الشافعي -رحمه الله- ولكنه لم يأخذ به لسبب من الأسباب: إما لأن الحديث لم يصح عنده، أو أيضًا من حيث الاستدلال من لم يأخذ به، فلا يصح أن يُحمل الشافعي هذا القول، ويقال إن الشافعي قال كذا وكذا، وقد صح الحديث، فينسب إليه -رحمه الله تعالى-.
لكن بكل حال: هذه الكلمة تدل على تجردهم للحق -رحمهم الله تعالى- رحمةً واسعةً، وكان الشافعي ينكر كثيرًا على من يُقدم قوله، وقد سأله على قول النبي ﷺ، قد سأله رجل فأورد له حديثًا، قال: بهذا تقول يا أبا عبد الله؟ فاصفر وجهه وحال لونه، وقال: تراني خرجت من الكنيسة، ترى في وسط زنارًا، أقول قال رسول الله ﷺ، وتقول ما تقول أنت؟! نعم على العين والرأس، نعم على العين والرأس، وهذا الذي نهجه الشافعي ونهج الأئمة كلهم -رحمهم الله-.
قد ورد عن الإمام أحمد قوله: "عجبتن لأناسٍ عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى قول سفيان، والله يقول: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور:63].
أتدري ما الفتنة؟ الفتنة شرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله يحصل في قلبه شيءٌ من الزيغ فيهلك، وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: "لا يحل لأحدٍ أن يأخذ قولنا حتى يعرف من أين أخذناه"، وقال مالك –رحمه الله-: "كلٌ يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر"، وأشار إلى قبر النبي ﷺ.
المقصود: أن طالب العلم إذا كان لديه إطلاعٌ على النصوص، ولديه معرفةٌ بطرق الاستنباط يتعيّن عليه الأخذُ بالدليل، أما أن يُقلّد ويأخذ بقول أحد أهل العلم، وهو يعرف أن دليل مخالف له، فإن هذا لا يجوز بحالٍ من أحوال، كيف يردّ كلام رسول الله ﷺ ويقدّم عليه قول غيره؟
قد يقول قائل: هؤلاء الأئمة أعلم منا، واطلعوا على شيءٍ من العلم ما اطلعنا عليه، نقول: لا شك في هذا الأمر، لكن أيضًا سنة رسول الله ﷺ لا يقدّم عليها شيء، لا سيما كما ذُكر إذا كان الرجل، يعني المسألة ليست دعوى والناس فيها، ولعلي أشرت لهذا فيما سبق، فمنهم ما لا يأخذ بالأحاديث بحجة أن العلماء أعلم منا، ولديهم اطلاع على النصوص لم نطلع عليه نحن، وإلى آخر بما يبررون به تقليدهم واتباعهم للأقوال، وترك سنة رسول الله ﷺ.
ومنهم من يتساهل في هذا الأمر، ويتهاون، ويأخذوا بالدليل، ولا يأبى بأقوال أهل العلم، فالواجب الاعتدال في هذا الأمر، وأن هذا الأمر لا يتصدى له إلا أهله وهو من كان لهم درايةٌ ونظرٌ في الأدلة وفي طرق تفسيرها.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (فصلٌ حُكم اختصار الأحاديث النبوية: اخْتَلَفَ الْمُحَدِّثُونَ وَأَصْحَابُ الْأُصُولِ فِي جَوَازِ اختصار الحديث في الرِّوَايَةِ عَلَى مَذَاهِبَ أَصَحُّهَا يَجُوزُ رِوَايَةُ بَعْضِهِ إذَا كَانَ غَيْرَ مُرْتَبِطٍ بِمَا حَذَفَهُ بِحَيْثُ لَا تَخْتَلِفُ الدَّلَالَةُ وَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِذَلِكَ وَلَمْ نَرَ أَحَدًا مِنْهُمْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي الِاحْتِجَاجِ فِي التَّصَانِيفِ: وَقَدْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُهَذَّبِ وَهَكَذَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ كُلِّ الطَّوَائِفِ وَأَكْثَرَ مِنْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَهُوَ الْقُدْوَةُ) }.
قد يكون الحديث طويلُا، ويأخذ طالب العلم منه ما يريد الاستدلال به عليه، فهل له أن يختصر الحديث؟
هذه مسألةٌ حُسبت منذ القدم، وسار العلماء عليها -رحمه الله- وألفوا التصانيف والمؤلفات في الحديث وفي غيره، لا يذكرون موضع الشاهد من الحديث، ولا يذكرون الحديث بطوله، ولو ذكروه لطالت المتون، خاصة متون الحديث كالعمدة والبلوغ والمحرر والإمام لابن دقيق، ومنقى الأخبار لماجد، وأشبه ذلك.
يعني لو ذكروا الحديثة بطولها يعني طالت الكتب، ثم قد يقرأ الإنسان الحديث الطويلة ويغفل عن الشاهد الذي سِيق الحديث من أجله، لهذا يختصرون الحديث، ويذكرون ما يحتاجون إليه.
لكن لابد للمختصرِ أن يكون له دراية في هذا الأمر أيضًا، بحيث لا يحذف مسألةً لها صلةٌ بما ذكر هو مما اختصره، فيحدث في ذلك لا شك خللٌ في الاستدلال، يعني يذكر طرفًا من الحديث، ولا يذكر ما يحتاج إليه، فيختصر الحديث بحيث لا يكون فيه تغيير للحكم، لا يكون فيه اختلافٌ في الدلالة، كما ذكر هنا -رحمه الله تعالى-.
ولكن لو ذكر طرفًا من الحديث، وقال الحديثَ، هل درس بذلك؟ ومعنى الحديث يعني أكمل الحديث، كالآية يذكر الإنسان طرفًا منها يعني ما يحتاج إلى الاستدلال به ثم يقول الآية، يعني أكمل الآية.
{ثم قال -رحمه الله-: (فصلٌ في بيان القولين والوجود) }.
هذه تتعلق بالكتاب بالمهذب، تتعلق بالمهذب، لكن أورد هنا مسألة وهي نختم بها، وهي الكلام عن عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، هذا الروي يكثر ذكره في كتب السنة، وهو عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص -رحمهم الله تعالى ورضي عنهم ورضي عن عبد الله بن عمرو-.
أمَّا عبد الله بن عمرو فهو غنيٌ عن التعريف، أحد الصحابة الأعلام، وأحد العباد والزهاد والعلماء -رضي الله عنهم وأرضاه- توفي النبي ﷺ وهو شاب لعله لم يجاوز العشرين -رضي الله عنه- مثله مثل عبد الله بن عمر، زيد بن ثابت، أُبي، كلهم في العشرين أو يزيدون عليها قليلًا، ومع ذلك كانوا أئمةً وعلماءً -رضي الله عنهم وأرضاهم-.
أمَّا بقية السند فهم ثقات، "عمرو، أبو شعيب، وجده محمد"، لكن العلماء اختلفوا في رواياته، فهذا بالنسبة لهم فهم ثقات كما ذكر، ولكن بالنسبة لاتصال السند، والعلماء يجزمون بأن شعيبًا وهو والد عمرو قد لقي جده عبد الله بن عمرو، فعندما يقول: عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أي: جد شعيب.
ولكن أوردوا احتمالًا آخر، وهو أن يكون رواه عن أبيه شعيب، عن جده محمد، فإذا رواه عن محمد عن النبي ﷺ فيكون من قبيل المرسل؛ لأنَّ محمد ليس صحابيًا، والمرسل هو ما رفعه التابعي، كما مر بنا.
والاحتمال الثاني كما ذُكر أن يكون شعيب رواه عن جده عبد الله، وقد ثبت أن شعيباً لقي جده عبد الله بن عمرو.
فبعض الأهل العلم يقدح فيه من هذه الناحية، لاحتمال أن يكون مرسلاً، لكن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- وهو الإمام الهمام الذي لا يشق له غبار في هذا الميدان، يقول: أدركت أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، والحميدي، وإسحاق بن راهويه، أدركتهم يحتجون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، لا يتركه المسلمون.
ثم قال: "ومن القوم بعدهم" يعني: هؤلاء الأئمة الأعلام يحتجون برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقد روى عن عمرو بن شعيب جملة من التابعين مع أنه من تابع التابعين هو، لجلالته في هذا الأمر.
فإذا كان أئمة كبار وهم أئمة السنة، مثل: الإمام أحمد، وابن المديني، والحميدي، وكذا إسحاق ابن راهويه، إذا كانوا يقولون بروايته. يقول البخاري: فمن الناس بعدهم أو من يقوم بعدهم؟! مما يدل على أن البخاري يقبل رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وبهذا ننتهي يا شيخ معاذ، فالحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه على التمام، والصلاة والسلام على سيد الأنام، محمد بن عبد الله، عليه من الله أتم الصلاة والسلام، وعلى آله وأصحابه الكرام، ونسأل الله -عز وجل- ألا يجعل ما علمنا حُجةً علينا، وأن يرزقنا وإياكم جميعًا العلم النافع والعمل الصالح والدعوة إليه، وأن يرزقنا جميعًا البصيرة في الدين، والإخلاص في القول والعمل، وجزى الله النووي خير الجزاء، وجعل ذلك في ميزان حسناته، ورفع قدره وأعلى ذكره، وجزى الله تعالى علماء الإسلام الأعلام وأئمتهم وأئمته خير الجزاء، ورزقنا قفر أثارهم، والسير على طرائقهم علمًا وعملًا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
{الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه، جزآكم الله خير شيخنا خير الجزاء، ونحمد الله تبارك وتعالى على أن يسر وتمم لنا ختام هذا الكتاب المبارك بصحبتكم، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذه الدقائق كلها في موازين حسناتكم، وأن يجزيكم عنا وعن معاشر طلبة العلم خير الجزاء.
والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نكون في ختام هذه الحلقة قد انتهينا من هذا المتن المبارك، كتاب (آداب العالم والمتعلم) للإمام النووي -رحمه الله تبارك وتعالى- على أمل اللقاء بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في متون أخرى، سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
5297 7
-
21952 9