الدرس الثالث

فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله المعيوف

إحصائية السلسلة

22033 9
الدرس الثالث

آداب العالم والمتعلم

{بسم الله، الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان، مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) والذي نشرح فيه كتاب (آداب العالم والمتعلم) للإمام النووي -رحمه الله تعالى- يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ/ محمد بن عبد الله المعيوف، باسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك، حياكم الله يا شيخ محمد}.
حياك الله يا شيخ معاذ وحيا الله الإخوة جميعًا.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأصلي وسلم على عبده ورسوله محمد تسليمًا كثيرًا، ما زال الحديث موصولا عن طلب العلم وحاجتنا إليه، بل حاجة الأمة بأكملها إليه، والكتاب المختار هنا هو كتابه النووي -رحمه الله تعالى- بل مقدمة النووي في كتابه "المجموع" حيث قدم لهذا الكتاب الجليل الكبير بمقدمة عن العلم، وتحدث فيه عن مسائل عديدة يحتاج إليها طالب العلم، فجزاه الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، فهُم بهذه الفوائد الجليلة يلخصون لنا خبرتهم بالطريق الذي سلكوه ووصلوا إلى ما وصلوا إليه من العلم والعمل.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَصْلٌ وَفِي الْإِخْلَاصِ، وَالصِّدْقِ، وَإِحْضَارِ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الْبَارِزَةِ، وَالْخَفِيَّةِ.
 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ﴾ [البينة:5]، وقال تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ [الزمر:2]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [النساء:100]، وَرَوَيْنَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ:
«إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ، وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ، وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ، مُجْمَعٌ عَلَى عِظَمِ مَوْقِعِهِ وَجَلَالَتِهِ، وَهُوَ إحْدَى قَوَاعِدِ الْإِيمَانِ، وَأَوَّلُ دَعَائِمِهِ، وَآكَدُ الْأَرْكَانِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "يَدْخُلُ هَذَا الْحَدِيثُ فِي سَبْعِينَ بَابًا مِنْ الْفِقْهِ"، وَقَالَ أَيْضًا: "هُوَ ثُلُثُ الْعِلْمِ"، وَكَذَا قَالَهُ أَيْضًا غَيْرُهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي عَدِّهَا فَقِيلَ: ثَلَاثَةٌ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةٌ، وَقِيلَ: اثْنَانِ، وَقِيلَ: حَدِيثٌ، وَقَدْ جَمَعْتُهَا كُلَّهَا فِي جُزْءِ الْأَرْبَعِينَ، فَبَلَغَتْ أَرْبَعِينَ حَدِيثًا، لَا يَسْتَغْنِي مُتَدَيِّنٌ عَنْ مَعْرِفَتِهَا)}.
يتحدث النووي -رحمه الله- أول ما يتحدث عنه، عن ركن ركين، وشرط عظيم من شروط العلم، ألا وهو: الإخلاص، فإذا لم يكن العمل خالصًا وصوابًا، لا يعود على صاحبه بفائدة، ولا يُبارك له فيه، والعلم من أَجَلِّ العبادات وأعظمها، لذا فهو يحتاج إلى ما تحتاج إليه الأعمال الصالحة كلها، فإنَّ الأعمال الصالحة لها ركنان لا تصح بدونهما:
الركن الأول: الإخلاص.
والركن الثاني: المتابعة لرسول الله .
فإذا اجتمع الأمران؛ صار العمل صالحًا، وبالتالي صار مُثمرًا، وصار العلم الذي يسعى الإنسان إليه عِلمًا نافعًا، ينتفع به وينفع به، وهذا العلم كما قال الإمام أحمد: "لا يعدله شيء لمن صحت نيته".
تأملوا: نيته، يعني: إخلاصه، قالوا: كيف ذلك؟ قال: ينوي رفع الجهل عن نفسه، وعن غيره.
الإخلاص بمعناه الواضح الجلي البين، والذي يُؤخذ من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ، هو أن تعمل العمل تبتغي به وجه الله -عز وجل- والدار الآخرة، لا يشوب العمل أي مكدر من مكدرات الإخلاص، وإنما يكون غاية العامل إخلاص العمل لله -عز وجل.
ولهذا ذَكَرَ ربنا الإخلاص في مواطن كثيرة من كتابه، كقوله تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر:2-3]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة:5]، فما أمروا إلا بعبادة الله -عز وجل-، ولا تكون هذه العبادة صحيحة إلا بشرطيها، الإخلاص كما في الآية، والمتابعة كما في النصوص الأخر.
وقال: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ﴾ [النساء:100]، مهاجرًا إلى الله -عز وجل-، أي: إلى طلب ثوابه وأجره، وإلى النبي اقتفاءً لأثره وإتباعًا لهديه، وهذه الآية بشارة عظيمة لطلاب العلم، أن من سلك هذا الطريق، فإن بلَّغه الله تعالى غايته في هذه الدنيا وهي التعلم والتعليم، كما مر في المقدمات، فذاك فضل من الله -عز وجل-
وإن قُطع الطريق عليه ومات وهو لَمَّا يزال في أوله أو في أثنائه، فقد وقع أجره على الله، ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، والآية نزلت في المهاجرين، أناس من الصحابة، هاجر بعضهم إلى الحبشة، وهاجر بعضهم إلى مكة، فمات بعضهم قبل أن يصلوا، فنزلت الآيات في شأنهم، لتبين أن أجرهم قد وقع على الله -عز وجل-، ولذا فالآية تشمل كل من هاجر وسافر وسلك طريقًا حِسًا بالأسفار، ومعنى بالجد والمثابرة الاجتهاد.
فالإخلاص في العلم عظيم، ولذا فقد أورد المؤلف له أيضًا أحاديث عن النبي ، مثل الحديث الجليل العظيم، والذي يعتبر قاعدة من قواعد الإسلام، وهو حديث عمر: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوى»[1]، أي: لا صحة للعمل إلا بالنية، فإن كانت النية صحيحة فالعمل صحيح، وإن كانت النية فاسدة فالعمل فاسدًا، «وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوى»، أي له من الأجر والثواب، بقدر نيته.
فالعبارة الثانية ليست كالعبارات الأولى، بعض أهل العلم يقول: هي مثلها وهي توكيد لها، وبعضهم يقول: لا، بل لها معنى آخر، والقاعدة عند العلماء هي أن التأسيس أولى من التوكيد، تكرار للكلام وإن أفاد المعنى توكيده والحث عليه، إلا أن تأسيس كلام جديد، ومعنى جديد، لا شك أنه أولى وأهم.
ثم قال: «فمن كانت هجرتُهُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ»، أي: كانت هجرته إلى الله نية وقصدًا، وإلى رسوله اقتفاء واتباعًا له. وقد شملت هذه الجملة ركني العمل الصالح، الإخلاص والمتابعة، فمن كانت هجرته إلى الله إخلاصًا وقصدًا، ورسوله اتباعًا، فهجرته إلى الله ورسوله ثوابًا وأجرًا، «ومن كانت هجرتُهُ إلى دنيا يصيبُها أو امرأةٍ ينْكحُها فَهجرتُهُ إلى ما هاجرَ إليْهِ»، فيعطى على قدر نيته.
والنية مهمة جدًا يا إخواني في طلب العلم، فالله الله لتكن معكم دائمًا وأبدًا، وكلما كان العمل أكثر إخلاصًا، كلما كان أكثر أثرًا، وأكثر ثمرة، فإنه كما قال ابن عباس في بعض النقول التي أوردها النووي -رحمه الله-: (يعطى الإنسان على قدر نيته) بمعنى أن الإنسان يسهل له هذا الطريق بقدر نيته، فإن كانت النية حاضرة؛ يُسر له من الطريق أكثر، وَحَصَّلَ من العلم أوفر.
وإن كانت النية أقل؛ حَصل له من العلم بقدر النية، ولا يعني هذا أن الإنسان يركن إلى نيته ويعتمد عليها، لا، ولكن مؤكد عليه أن يستحضر توفيق الله، ولهذا قال شعيب -عليه السلام: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾ [هود:88] وهذه نيته ليس فوقها نية، ثم التفت ثانية إلى ما هو أعظم من نيته وهو: توفيق ربه، فقال: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود:88]، وهذه مسألة دائمًا أحض الإخوان والشباب عليها، وهي مسألة طلب التوفيق من الله -عز وجل-
فإن الموفق من وفقه الله -عز وجل-، لا يُغني عن الإنسان يا إخواني سمع ولا بصر ولا فؤاد، وإنما توفيق ربه فوق كل شيء، قال تعالى: ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾ [الأحقاف:26]، وقال بعدها: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الأحقاف:27-28].
الأسباب المعينة على الإخلاص يا إخواني من أعظمها وأهمها:
جهاد النفس، أن يجاهد الإنسان نفسه على الإخلاص، وسيأتينا كلام لسفيان -رحمه الله- أنه قال: "ما جاهدت نفسي على شيء أشد من نيتي فإنها تتقلب علي"، أو كلاما نحو هذا، فالنية تتقلب وتتغير، وتؤثر فيها مؤثرات، فهي بحاجة إلى صون وإلى حفظ، وإلى مجاهدة لهذه النفس، حتى تستقيم النية وتصح.
من الأمور المعينة عليها: إخفاء العمل، أي الأعمال التي ليس بحاجة أن يظهرها للناس، ولهذا قال ، قد تجمع الصحابة حوله وصلوا بصلاته وهو يصلي في الليل، قال: «قدْ عَرَفْتُ الذي رَأَيْتُ مِن صَنِيعِكُمْ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ في بُيُوتِكُمْ، فإنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ المَرْءِ في بَيْتِهِ إلَّا المَكْتُوبَةَ»[2]، فالأفضل أن تكون النوافل في البيت.
وقال -عز وجل- في الصدقة: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة:271]، وقال في السبعة الذين يظلهم الله في ظله -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم جميعًا منهم-: «ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ»[3]، وكل هذه الأمور مُعينة على إخلاص العمل لله -عز وجل-.
هناك أمور تزاحم وتشوش على المرء في إخلاصه، مثل: حب الظهور، وحب الشهرة، ونحن في هذا الزمان، زمان الشهرة ولا قوة إلا بالله، والسعي إليها بكل طريقة.
والواجب على طالب العلم ألا يحرص على هذا الأمر وألا يسعى إلى الشهرة، وألا يسعى إلى البروز، بل يحاول قدر الإمكان أن يبتعد عن أنظار الناس وعن الشهرة، حتى إذا تعلم وعلم واشتهر دون أن يسعى إلى هذا الأمر ينفعه الله به بعد ذلك، أمَّا أن يحرص على الظهور في بداياته، فهذه البدايات قد تكون نهاية ولا قوة إلا بالله، قد قال النبي لعبد الله بن عمرو في حديث كنت أشرت إليه في المقدمات، وهو حديث يحتاج إليه طلاب العلم عمومًا والشباب بصفة خاصة، قال في بعض الروايات -والحديث مخرج في الصحيح، ولكن هذه الرواية في غير الصحيح وهي رواية صحيحة- قال: «لكلِّ عملٍ شِرَّةٌ» شرة يعني: نشاطًا، فكل عمل في بدايته له نشاط، طبيعة النفس البشرية.
«ولكلَّ شِرَّةٍ فترةٌ، فإنْ كان صاحبِها سَدَّدَ أو قارَبَ فارْجُوه، وإن أُشيِرَ إليه بالأصابعِ فلا تَعُدُّوهُ»، أن يشير إليه بالأصابع، برز وظهر في البداية وأخذ الناس يشيرون إليه، قال: والطريق طويل، والمؤثرات كثيرة، ومن أضرها وأشدها ضررًا وخطرًا: الشهرة في بدايات الأمر، والله المستعان.
من الأمور المؤثرة أيضًا: منافسة الأقران، كأن ينافس الإنسان أقرانه، ويسعى إلى أن يتفوق عليهم، هو يخلص في عمله، ألا عليه أن يتفوق أو أن يتفوق عليه غيره، هو يطلب طريقًا، إذا رأى إخوانه يسيرون فيه ويبرزون فيه حتى لو برزوا عليه، فإنه يفرح بذلك؛ لأن نيته خالصة لله -عز وجل- في طلب العلم -تعلمه وتعليمه- فإن تعلم هو وعلم فذاك، وإن حصل غيره من العلم أكثر لا ينافسهم ولا يحسدهم، فهو لا يحسد من فوقه -كما قال الحسن- ولا يزدري ولا يحتقر من هو دونه.
أيضًا من الأمور المنافية للإخلاص: أن يجعل هذا العلم سُلمًا لأغراضٍ وأعرافٍ وأمورٍ يصل الإنسان إليها، بمثل مال أو رئاسة أو شهادة أو ما أشبه ذلك، ولا يعني أننا نُلغي حاجات الناس، وهذه مسألة يُنبه عليها النووي، ونقل بعض العبارات التي تنسب إلى بعض الزهاد، الذين عندهم ربما تشدد في هذا الباب، من بعض المتصوفة وغيرهم، والتي تلغي حاجات الناس وأمور الناس لها، والإسلام نظر إلى هذه الأمور، وأعطى النفوس حظها وحقها بما يحتاجه الناس في أمور دنياهم، لكنها تكون دائما تبع، أي: لا تكون هي الغاية في حال الأحوال، ولكنها تكون تابعة للهدف الأكبر، وهو التعلم والتعليم، وأن يرفع الجهل عن نفسه، وأن يرفعه عن إخوانه المسلمين.
من الأمور الخطيرة حقيقة على طالب العلم، انشغاله في الدنيا وسعيه إليها، وتعلقه بها، هذه الأمور لا شك تزاحم العلم، ولا يعني هذا كما ذكرت أن الإنسان لا يكون له نصيب من العلم، بل إنَّ الله تعالى لَمَّا أثنى على من أثنى من عباده، قال: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة:201]، لكن لا تكون هذه الدنيا غاية -ولعل هذا قد ذكر في المقدمات أيضًا- ولا تكون وسيلة إلى حاجته فقط.
وقد قال الله -عز وجل- لذلك الرجل الذي أعطاه آياته ولكنه انسلخ منها فأتبعه الشيطان، قال: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ [الأعراف:176]، فالإخلاد إلى الأرض، وإلى شهواتها وزينتها وملذاتها، لا شك أنه من الأمور المؤثرة على طالب العلم، والتي قد تخرجه من هذا الطريق، إن جعل له الحظ الأوفر من عقله وفكره وعمله ووقته.
كذلك من الأمور المؤثرة على طالب العلم: المزاحمة على اتباع الهوى -عياذا بالله- وهذا أمر خطير، ومُعرض له كل إنسان، والإنسان معني بأن يجاهد نفسه، وأن يكون سعيه وعمله تبعًا لكتاب ربه وسنة رسوله ، وفي الحديث «لا يُؤمِنُ أحدُكُم حتَّى يكونَ هواهُ تَبَعًا لما جئتُ بهِ»[4]، فطالب العلم يجب أن يكون هواه تبعًا لِما جاء به ، ولا يميل تبعًا لهواه يمينا وشمالًا.
يختلف الناس -يا إخواني- في الإخلاص، والإخلاص موضوع كبير وطويل، ولكنه عظيم وعظيم جدًا، فمن الناس من يكون ظاهره وباطنه سواء، هذا هو الإخلاص، يكون الظاهر والباطن سواء، ومن الناس من يكون ظاهره خيرًا من باطنه -عياذا بالله-، وهذه صفات المنافقين وأشباه المنافقين.
ومن الناس من يكون باطنه أحسن من ظاهره، له ظاهر حسن، ولكن الباطن أحسن، قال العلماء: وهذا هو الصدق في الإخلاص، يكون في الباطن له أعمال وله قربات يتقرب بها إلى ربه، ما يعلم عنها إلا ربه سبحانه وبحمده، وهذا ولله الحمد موجود عند كثير من المسلمين، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل.
ذكر المؤلف هنا يا شيخ معاذ حديثين، الحديث الأول: حديث عمر، «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ»، والحديث الثاني، أشار إلى حديث عائشة، «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هذا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُو رَدٌّ»[5]، وذكر أنَّ حديث عمر ميزان الأعمال الباطنة، بينما حديث عائشة ميزان الأعمال الظاهرة، فهذان ميزانان، يزن طالب العلم وكل مسلم نفسه بهما.
الميزان الأول للأعمال الباطنة، وهو ميزان النية، وهي عظيمة وعظيمة جدا لا شك، فلا يصح عمله الظاهر إلا بصحة نيته في الباطن.
الميزان الثاني، ميزان الأعمال الظاهرة، وهو أن أعماله دائمًا تكون على وفق كتاب الله تعالى، وسنة رسوله ، يعود دائمًا إلى الأصلين، ولهذا قال : «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هذا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُو رَدٌ» وكان في خطبته يوم الجمعة في حديث جابر المخرج عند مسلم وغيره، يقول: «أَمَّا بَعْدُ؛ فإنَّ خَيْرَ الحَديثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وكلُّ محدثةٍ بِدعةٌ، وكُلُّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلُّ ضلالةٍ في النَّارِ»[6]، فهذا ميزان الأعمال الظاهرة، وحديث عمر ميزان الأعمال الباطلة.
{قال -رحمه الله-: (بَابٌ فِي فَضِيلَةِ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ، وَتَصْنِيفِهِ، وَتَعَلُّمِهِ، وَتَعْلِيمِهِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، وَالْإِرْشَادِ إلَى طُرُقِهِ)}.
في الباب السابق أورد النووي بعض العبارات التي تُنسب إلى بعض الزهاد -كما قلت لكم وبعض المتصوفة-، والتي يُفهم منها أن الإنسان ما يقصد بعمله حاجة في الدنيا ولا حتى في الآخرة، وإنما يقصد بعمله وجه الله –عز وجل-، وهذا كما قلت لكم: أمر تأتي به الشريعة، وإنما ما يحصل من الزهاد هو إفراط منهم في هذا.
فربنا –عز وجل- لَمَّا ذَكَرَ العمل الصالح وذكر جزاءه قال: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل:97] فذكر ثمرة العمل الصالح في الدنيا، وهي: الحياة الطيبة، وهي مطلب يطلبه الإنسان، وثمرته في الآخرة: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل:97]
فإن الله -عز وجل- لَمَّا ذكر الأبرار الأخيار، وما كانوا عليه في الدنيا، والأسباب التي بها نالوا المنزلة عند الله -عز وجل- قال: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ [الإنسان:8-9]، وهذا هو الإخلاص، ﴿لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾ [الإنسان:9]، فالإنسان يعمل العمل وما يريد من الناس جزاء ولا مكافئة عليه، ولا يريد منهم حتى الشكر.
فبعض الناس يقول: أنا فعلت لفلان كذا، ولم يقل لي: حتى جزاك الله خيرًا، ولم يقل لي: شكرًا.
نقول: ما دام عملك لله، فأكتفي وأقنع بثواب الله -عز وجل-، ولا تتوقع ولا تترقب من الناس جزاء ولا شكورًا، ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾ [الإنسان:9]، ثم قال: ﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ [الإنسان:10]، أي: عملنا هذه الأعمال راجين خائفين، راجين ثواب الله -عز وجل- خائفين من هذا اليوم العظيم الشديد، الذين نقدم به على ربنا، وأمَّا أن نقول: إننا نعمل العمل لا نريد فيه حظ الدارين، كما ذكر عن رويم -رحمه الله- ولا نريد شيئًا، إنما نبتغي به وجه الله -عز وجل-، نعم نبتغي به وجه الله -عز وجل-، ولكن الإنسان يرغب في حظ الدنيا وحظ الآخرة، ولا ضير في هذا.
أمَّا أن نقول للناس: اعملوا، ولكن لا تريدون بعملكم هذا لا الجنة ولا شيئًا أيضًا من الدنيا، فهذا أمر لو أردناه من الناس لا يمكن أن يحصل منهم، ولهذا لَمَّا سُلك هذا الطريق؛ أفرطوا فيه، ووصلوا إلى أمور شديدة وبعيدة غاية البعد عن هذا الدين، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
النبي يقول: «مَن أَحَبَّ أن يُبْسَطَ له في رزقِه، وأن يُنْسَأَ له في أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَه»[7]، فالإنسان يصل رحمه؛ لأنه يحب ثمرات ذلك ونتائجه، نعم هو مخلص لله -عز وجل- ولكنه أيضًا له مطالب في الدنيا قد أشار النبي إليها وما أنكرها عليه، فهو بَيَّن أنه إن فعل هذه العبادة العظيمة -صلة الرحم- يحصل له ما يحصل من أن يبسط الله في رزقه، وينسأ في أثره.
{أحسن الله إليكم.
نريد أن ننوه شيخنا لطلاب العلم أن طريقتنا -بإذن الله- ستكون التعليق على رؤوس الأبواب، ثم قراءة ما تيسر من الباب، وهكذا}.
الشيخ: أي نعم، هذه الطريقة التي نسير فيها، وهي الإشارة إلى الباب، وقراءة ما تيسر منه، والإخوان ينظرون في بقية وتتمة الباب، والكتاب فيه كنوز لا شك، ولكن الوقت لا يسعفنا حقيقة، وإلا كان بودنا أن نمر على كل شيء فيه، ولا نترك شيئًا منه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (بَابٌ فِي فَضِيلَةِ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ، وَتَصْنِيفِهِ، وَتَعَلُّمِهِ، وَتَعْلِيمِهِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، وَالْإِرْشَادِ إلَى طُرُقِهِ قَدْ تَكَاثَرَتْ الْآيَاتُ، وَالْأَخْبَارُ، وَالْآثَارُ، وَتَوَاتَرَتْ، وَتَطَابَقَتْ الدَّلَائِلُ الصَّرِيحَةُ، وَتَوَافَقَتْ، عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ، وَالْحَثِّ عَلَى تَحْصِيلِهِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي اقْتِبَاسِهِ، وَتَعْلِيمِهِ. وَأَنَا أَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ، تَنْبِيهًا عَلَى مَا هُنَالِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾[الزمر:9]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾[طه:114]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾[فاطر:28]، وَقَالَ تَعَالَ: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾[المجادلة:11]، وَالْآيَاتُ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَرَوَيْنَا عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه : «مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ)}
جزاك الله خير، شيخ معاذ تقول: روينا، بعض العلم يقول رَوَينا، وبعضهم يقول روينا، لها وجهان، روينا يعني: نحن الذين رَويناه عن مشايخنا، وأما رُوينا فمشايخنا هم الذين رووه لنا ونقلوه لنا، وهذه كما يقول بعض العلم: أجود، أي: ضبطها برُوينا أجود، وعلى كل حال فهي مصطلح ولا مشاحة في المصطلحات إن قال: رَويِنَا أو قال: رُوينَا، وبعض أهل العلم يقول: روينا الأكثر على هذا، ولكن استحسن وجود ضبطها هكذا ورينا.
الحقيقة فضل العلم ربما ذكرناه في المقدمات كثيرًا، ولا يخفى علينا -يا إخوان- أنَّ العلم من أجل الأعمال؛ لأننا عندما نتكلم عن العلم، بل إنَّ ربنا -عز وجل- عندما يذكر العلم، إنما يقصد العلم النافع الذي ينتفع به صاحبه، وقد ذكر في المقدمات أنَّ العلم في كتاب الله ثلاثة أقسام:
علم انتفع به صاحبه، وهذا حينما يشيد الله تعالى بالعلم، ويُثني عليه وعلى أهله.
والثاني: علم لم ينتفع به صاحبه، وهذا كقصة الرجل الذي أتاه الله آياته كما ذكرنا ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ﴾ [الأعراف:176]، وكقوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ [الجمعة:5].
والثالث علم الله كقوله: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا﴾ [البقرة:102]، وقد أشير إلى هذا في المقدمات.
عندما يذكر العلم في كتاب الله -عز وجل- فالمراد به العلم الذي ينتفع به صاحبه، إذًا المقصود به الدين كله، ولهذا قال -عز وجل-: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه:114]، قال العلماء: لم يُؤمر النبي بالتزود من شيء إلا من العلم، لماذا؟ لأن العلم ينتظم الدين كله، فكل شرع مبني على العلم، وذكر المؤلف هنا جملة من الآيات الدالة على فضل العلم.
بل من الآيات الدالة على فضله قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ﴾ [آل عمران:18]، فأشهدهم الله -عز وجل- على أعظم شهادة، وهي شهادة بتوحيده وإفراده بالعبادة، ثم عطفهم على الملائكة بعد أن أشهد نفسه -عز وجل- أولا وقبل كل شيء، ثم ثَنَّى بالملائكة، وثَلَّثَ بأولي العلم.
طيب أين الأنبياء؟ لا ريب داخلون في هذا دخولًا أوليًا، وهم المتبوعون والعلماء تابعون، والعلماء ورثتهم.
إذًا كان شرفًا لأهل العلم أن يدخلوا في وصفٍ دخل فيه الأنبياء، فدخلوا معهم؛ لأنهم ورثتهم، وهذا يدل على أنَّ الأمر جليل وكبير.
لكن يا إخواني بشرطه الثقيل -كما مر- وهو الإخلاص والصدق والمتابعة، لِمَا كان عليه الصدر الأول، وهذه أمور كبار، إن وفق الإنسان إليها فذلك فضل الله، والعلم توفيق من الله -عز وجل-، ولهذا قال : «مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ»[8]، وهذا من الله -عز وجل- وتيسير.
الشافعي -رحمه الله- أرسلته أمه، وكان وُلِدَ في غزة في فلسطين، وأرسلته أمه إلى بلاد الحجاز ليتربى عند قبائل العرب، ويأخذ من عاداتهم، ونشأ في قبيلة هذيل وأخذ كثيرًا من آداب العرب وأشعارهم، الشافعي إمام كالشمس في نبله وفطنته وذكائه وحفظه، رأه بعض الناس، ورأى ما عليه من فهم ووعي ونباهة وإدراك، فقال له: اطلب العلم، فقال: من يُقصد في هذا الأمر؟ قال: مالك في المدينة، إمام دار الهجرة، ذهب إلى المدينة، وقرأ على مالك الموطأ عنده! فكلمة قيلت لهذا الرجل؛ غدا بها إمامًا من الأئمة -رحمه الله تعالى-.
مثلًا يا إخوان، أي توفيق وإعانة، وعندما تقرأ التراجم فكم من الكلمات قيلت لإنسان فغيرت مجرى حياته، كان جاهلًا فتعلم وصار عالمًا، قد تكون هذه كلمة قاسية، قد تكون قاسية شديدة، فتغير حياة هذا الإنسان، أحد العلماء العربية -الأزهري المتأخر- ليس الأزهري صاحب التهذيب الكبير، كان شابًا يعمل -كما ذكر لنا بعض أساتذتنا رحمهم الله- كان شابًا يعمل في الأزهر فراشًا، وكان يومًا يعمل في التنظيف فداس كتب أحد الطلاب، فقال له الطالب: أَبْعِدْ يا جاهل، أَبْعِدْ يا جاهل، حزت في نفسه هذه الكلمة، لم يثر مُنتقمًا منه لأجل هذه الكلمة، ولكنه أراد أن يعبر عن عدم رضاه بهذه الكلمة بشيء ينفعه وينتفع به، فاقبل على العلم وتعلم، وصار من المحسوبين في العربية، وله تصانيف وكتب مثل: "شرح التصريح على التوضيح"، وغيره من الكتب.
{بسبب كلمة!}
نعم بسبب كلمة، ولهذا أنا أقول للإخوان دائمًا: أهدوا هذه الكلمات الجميلة للناس، دعوة إلى الله تقولها لشخص تائه ضائع جاهل، بعض الناس قد يكون مفرطًا مهملاً، لكن في قلبه رغبة في الخير، لديه تربة يحتاج إلى من يضع فيها بذرة، فإذا كلمه الإنسان بكلمة طيبة، بكلمة صادقة، فلربما تنمو هذه البذرة حتى تؤثر في حياة الإنسان، فيسلم ولو كان كافرًا، ويستقيم ولو كان مُسلمًا عاصيًا، ويطلب العلم ويصبح عالِمًا بعد أن كان جاهلًا. لماذا؟
لأن دورك في إلقاء الكلمة، وأمَّا التوفيق، فمن يرد الله به خيرًا فتكون أنت سببًا لهذا الأمر، ويحصل لهذا الإنسان ما يحصل له من الخير والاستقامة بهذه الكلمة التي قلتها فيتعلم.
عندما ترى شابًا نبيهًا نجيبًا تنصحه بأن يطلب العلم، ربما ينتصر يأخذ بنصيحتك ويطلب العلم ويتعلم وينتفع وينفع وتكون مأجورًا لكل عمل عمله إن كنت السبب في هذا الأمر، ولكن الإنسان دائمًا يسأل ربه التوفيق.
وأكثروا من "ربي زدني علما"، كما أُمر سيد الأولين والآخرين، ومن قول: "اللهم فقهني في الدين وعلمني الكتاب والحكمة"، وهذه هي رواية الصحيح، وفي رواية غير الصحيح: والتأويل، كما دعا بها المصطفى لابن عباس؛ فصار بها ما صار، -رضي الله عنه وأرضا- حبر الأمة، وترجمان القرآن.
طالب العلم يكون له دعوات يدعو بها ربه، يسأله التيسير والإعانة، والتوفيق والثبات فالطريق طويل، يبدأ كما قلنا من: «مَنْ سَلَكَ»، وينتهي: «إلى الجنة»، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
{نعم، أمين، أحسن الله إليكم}.
في إشارة إلى حديث أبي موسى يا شيخ معاذ، وهو حديث جليل، وأنا كنت أقول للإخوان احفظوه، ولابد أن يكون عندكم ذخيرة محفوظات تحفظونها، هاكم طالب العلم يتكلم كلام أي كلام، كلامنا الطويل هذا يا إخوان هو من عجزنا حقيقة، حفظ النصوص عظيم، يعني: حفظ بعض هذه الآيات في فضل العلم، حفظ الأحاديث التي فيها المنهج في طلب العلم، كحديث أبي موسى هذا، وهو حديث جليل في الصحيحين.
{هل أقرأه يا شيخ؟}
اقرأه يا شيخ معاذ جزاك الله خير.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى، وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ، وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا، وَسَقَوْا، وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ الْمَاءَ، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ، وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ)}.
هذا الحديث كشمس يا إخوان في صحته، ومعناه واضح، فالأول في فقهاء المحدثين: مَنْ جَمَعَ الحفظ، جَمَعَ حفظ النصوص من الكتاب والسنة، وَجَمَعَ الفقه والفهم، يقرأ ويتأمل ويتدبر ويستنبط.
والثاني: في الحفاظ الذين مَنَّ الله عليهم بالحفظ، فحفظ الله تعالى بهم الشريعة.
والثالث -والعياذ بالله-: فيمن لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله -عز وجل-، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [محمد:16]، هؤلاء الذين لم يرفعوا بذلك رأسًا، ولم يقبلوا هدى الله، المنافقون يحضرون في مجلس أكرم الخلق، صلوات ربي وسلامه عليه، يسمعون كلامه، ثم يخرجون يتساءلون ويسألون ماذا قال آنفًا؟ طبع الله على قلوبهم، وإذا فَسَدَ القلب ما عاد يصلح للعلم، ولا عاد وعاء طيبا للعلم!
العلم طيب يا إخوان، ولا يقبل إلا مكانًا طيبًا، ولا يقبل إلا قلبًا نقيًا نزيهًا نظيفًا من المخالفات والمعاصي والآثام، ولهذا يُنصح طالب العلم بالابتعاد عن المعاصي والذنوب والآثام ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
فإنها تؤثر عليه وعلى علمه وعلى تصوره، ولهذا يقول الله -عز وجل- عن بعض مشركي قريش، وأظنه الناظر بن الحارث، يقول: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾ [المطففين:13]، كان يجلس في الحرم، ويأتي بحكايات كسرى، وكان يذهب إلى بلاد الفرس، ويأتي بحكايات وقصص، ويتحدث بها في المسجد الحرام، ويقول: أي كلامي هذا أحسن؟ كلامي هذا أحسن أم كلام محمد
قال الله -عز وجل-: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين:13-14]، فلما ران على القلوب كسبها، وغلبت عليها ذنوبها، وطُبع عليها؛ صار ينظر إلى هذا القرآن وكأنه أساطير الأولين. وهذا ما يحصل من الزائغين المنحرفين، كما يتكلمون عن الكتاب والسنة، ويقولون عنها ما يقولون، هو بسبب ما علا قلوبهم من الذنوب والآثام.
يقول الشافعي -رحمه الله-:

شَكَوتُ إِلى وَكيعٍ سوءَ حِفظي ... فَأَرشَدَني إِلى تَركِ المَعاصي
وَأَخبَرَني بِأَنَّ العِلـمَ نـــــــــورٌ ... وَنورُ اللَهِ لا يُهدى لِعاصــــي

المقصود أن نحفظ هذا الحديث يا إخوان؛ لأنه المنهج، «فذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ، وَعَلَّمَ» هذا المنهج، تحتاجه الأمة يا إخوان والعلم يرفع في أخر الزمان نعوذ بالله من ذاك الزمان، فالأمة أحوج ما تكون إلى من يتعلم ونيته أن يعلم وبذلك بقي العلم طيلة هذه القرون، يتوارثه اللاحق يعني السابق.
{قال -رحمه الله-: فَصْلٌ فِي تَرْجِيحِ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ عَلَى الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعِبَادَاتِ الْقَاصِرَةِ عَلَى فَاعِلِهَا
قَدْ تَقَدَّمَتْ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَاَلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وقَوْله تَعَالَى: ﴿إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْ الْأَحَادِيثِ مَا سَبَقَ كَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ»، وَحَدِيثِ: «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»، وَحَدِيثِ: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ»، وَحَدِيثِ: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ»، وَحَدِيثِ: «فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ»، وَحَدِيثِ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا»، وَحَدِيثِ: «مَنْ دَعَا إلَى هُدًى»)}.
هذه الأحاديث يحسن حفظها يا إخوان، وعامتها أحاديث صحيحة، حديث «فَقِيهٌ وَاحِدٌ»، هو الذي تُكُلِّمَ فيه، فيه راو فيه كلام، وأمَّا الأحاديث الأخر فهي أحاديث صحيحة، بعضها في الصحيح، وبعضها في السنن، وهي أحاديث صحيحة ينبغي أن نحفظها.
ولكن لنا وقفة -يا إخوان- على قوله تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر:9]، أين الجواب؟
لم يأت الجواب، ولكن جاء في آخر الآية ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [الزمر:9]، وهذا منهج في القرآن كثير يا إخوان، تأتي أسئلة دون أن يذكر لها جواب. لماذا؟
لأن الجواب متفق عليه، فلا يظن أنَّ أحدًا في الدنيا يقول: الذين لا يعلمون خير من الذين يعلمون، لا يمكن، لكن مَنْ الذين يعلمون هنا؟
نقرأ الآية من أولها: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر:9] المذكور في أول الآية عمل وليس علمًا، ﴿قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا﴾، فليله بين سجود وقيام، وهو في عمله هذا خائف يرجو رحمة الله، ويحذر ويخاف مما يكون يوم القيامة، وهذا تفسير للعلم بالعمل يا إخوان، فإن العلم وسيلة والعمل هو الثمرة.
والعلماء يقولون: "العلم بلا عمل -كلمة يحفظها كل الناس- كالشجرة بلا ثمر"، فلا تظنوا أنَّ العلم -يا إخوان- بحفظ المتون، أو حفظ الكتب فقط، لا، بل العلم حفظ وفهم وعمل وتطبيق.
ولهذا نقول: أنزل الله هذا القرآن ليتلى.
ثانيا: لنتعلم علوم جليلة عظيمة.
 ثالثا: لنعمل به.
هذه غايات الإنسان من كتاب الله -عز وجل-، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا، الثلاثة تعلمناها، القرآن حفظًا، والعِلم فهمًا، والعمل، أي أن يعمل الإنسان بعلمه، وإذا عمل الإنسان بعلمه:
أولًا: يعطيه الله تعالى كما قال ابن عباس: "على قدر نيته"، من عَمِلَ بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم، فيزداد علمًا.
اثنين يكون لعلمه أثر، ويكون له تأثير على من يسمعه من الناس، يكون في العلم بركة، فكن مباركًا، لينتفع الناس بما يسمعون من كلام.
الأمر الثالث: مضاعفة الأجر والثواب عند الله -عز وجل-.
هذه شروط العلم الكبيرة -يا إخوان-، والعمل بالعلم ليس بالأمر السهل، وهذا كله يتفرع عن الإخلاص والمتابعة، إخلاص النية والمتابعة، والمتابعة تقوم على المحبة، ولهذا جعل الله المتابعة شرطًا شديدًا عظيمًا للمحبة، فتنة ومحنة، ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾ [آل عمران:31]، بعدها ماذا؟ ﴿فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران:31]، هاتوا البرهان والدليل على محبتكم لله -عز وجل-، اتبعوني، وإذا حصل الإتباع حصل الفضل من الله -عز وجل-، وجاءت محبة الله ﴿فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾، فكان الإتباع علامة لِمَا قبله وشرطًا لِمَا بعده، أي: علامة على محبة العبد لربه، وشرطًا لمحبة الله -سبحانه وتعالى- للعبد.
ذكر المؤلف جملة من الأحاديث التي سبق أن أُشير إليها، لكني أؤكد لكم -يا إخواني- الشباب لابد أن يحفظ في سن شبابه؛ لأنهم مُستقبلًا سوف يندمون، يندمون على السنوات الغالية التي تضيع من العمر هكذا، العمر غالٍ يا إخوان ونفيس، وهل رأيت إنسانًا يُفرط بالنفيس بالسعر الرخيص؟
ما يفعل هذا عاقل يا إخوان! فاغتنموا أيها الشباب أوقاتكم بالتحصيل والقراءة والتعلم والعمل.
اجتمعت هذه الأمور، فلعل الله أن ينفعكم، وأن ينفع بكم، فالأمة بحاجة إليكم، وبلادكم بحاجة إليكم، وأهلكم بحاجة إليكم، وأنتم بحاجة إلى أنفسكم.
{قال -رحمه الله-: (فَصْلٌ فِيمَا أَنْشَدُوهُ فِي فَضْلِ طلب العلم
هذا وَاسِعٌ جِدًّا، وَلَكِنْ مِنْ عُيُونِهِ مَا جَاءَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ -ظَالِمِ بْنِ عَمْرٍو التَّابِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ- قال:

العِلمُ زَينٌ وَتَشريفٌ لِصاحِبِهِ ... فاِطلُب هُديتَ فنونَ العِلمِ وَالأَدَبا
لا خَيرَ فيمَن لَهُ أَصلٌ بِلا أَدَبٍ ... حَتّى يَكونَ عَلى ما زانَهُ حَدِبا
كَم مِن كريم أَخي عَيٍّ وَطَمطَمَةٍ ... فَدمٍ لَدى القَومِ مَعروقٍ إِذا اِنتَسَبا
في بَيتِ مَكرُمَــــةٍ آباؤهُ نُجُــبٌ ... كانوا رؤوسًا فَأَمسى بَعدهُم ذَنَبا
وَخامِلٍ مُقرِفِ الآباءِ ذي أَدَبٍ ... نالَ المَعاليَ بِالآدابِ وَالرُتَبا
أَضحى عَزيزًا عَظيمَ الشأَنِ مُشتَهِرًا ... في خَدِّهِ صَعَرٌ قَد ظَلَّ مُحتَجِبا
العِلمُ كَنزٌ وَذُخرٌ لا نَفادَ لَهُ ... نِعْمَ الْقَرِينُ إذَا مَا صَاحِبٌ صَحِبَا
قَد يَجمَعُ المَرءُ مالًا ثُمَّ يُسلَبُهُ ... عَمّا قَليلٍ فَيَلقى الذُلَّ وَالحَرَبا
وَجامِعُ العِلمِ مَغبوطٌ بِهِ أَبَدًا ... وَلا يُحاذِر مِنهُ الفَوتَ وَالسَلبا
يا جامِعَ العِلمِ نِعمَ الذخرُ تَجمَعُهُ ... لا تَعدِلَنَّ بِهِ دُرًّا وَلا ذَهَبا

ولغيره تَعَلَّمْ فَلَيْسَ الْمَرْءُ يُولَدُ عَالِمًا)}.
هذه الأبيات لها قصة، وتنسب للشافعي وتنسب إلى عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه وأرضاه-، فذكروا أن وفد المدينة جاءوا إلى عمر بن عبد العزيز، فتقدم شاب ليتكلم، فقال له عمر: كَبِّر كَبِّر، قال: يا أمير المؤمنين لو أنَّ المسألة بالكبر لكان في المجلس من هو أولى منك، فأنشد عمر

تَعَلَّمْ فَلَيْسَ الْمَرْءُ يُولَدُ عَالِمًا ... وَلَيْسَ أَخُو عِلْمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِلُ
وَإِنَّ كَبِيرَ الْقَوْمِ لَا عِلْمَ عِنْــدَهُ ... صَغِيرٌ إِذَا الْتَفَّتْ عَلَيْهِ الْجَحَافِلُ

العلم يرفع بيتًا لا عماد له، والجهل يهدم، فالعلم عظيم يا أخوان، يجعل من لا نسب له نسيبًا، والجهل يجعل ذا النسب غير نسيب، والله المستعان.
ذكروا أنَّ الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك -رحمه الله- جاء إلى مكة فاستقبله الناس كل، أي: الناس؛ لأنه خليفة المسلمين.
فسأل وقال: من بقي ولم يأت؟
قالوا: بقي عطاء بن أبي رباح. قال: أين هو؟ قالوا: في مكان كذا في المسجد، فجاء سليمان ووقف عنده وهو يصلي ويصلي، وكلما انفتل من صلاة أقبل على صلاة، ما يجد إهانة ولي أمر المسلمين وحاشاه، لكن له ورد يكمله، فلمَّا أكمله قام وسلم على الخليفة، وكان ولده عنده يقول: يا أبتي أمير المؤمنين يريد أن يُسلم عليك، وذلك حتى انتهى من الصلاة.
فلما عاد إلى الشام وصى بنيه بالعلم، وقال: يَا بَني عليكم بالعلم، فإني لا أنسى ذلي بين يدي العبد الأسود، وكان عطاء أسود اللون، قصير القامة، قصير العنق، أعمى، مبتور اليد، يعني: فيه أمور وأمور كثيرة، ولكن صدق ربي ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة:11].
وكان عطاء مولى مملوكًا، ولو رجعتم إلى تاريخ الإسلام لوجدتم الموالي صاروا فيه جبين الأمة، وهذا يدل أولًا على حسن التربية.
ولعل لهذا الكلام مجال يأتي إن شاء الله.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
الحديث له شجون، ومر معنا سريعًا، أسأل الله أن يفتح لكم فتحًا مبينًا، وأن يزيدكم من فضله، والشكر موصول لكم مُشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في الدروس القادمة.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
------------------------------------
[1] رواه البخاري (54)، ومسلم (1907).
[2] أخرجه البخاري (7290) واللفظ له مطولاً، ومسلم (781).
[3] أخرجه البخاري (1423)، ومسلم (1031).
[4] أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (15)، والخطيب في تاريخ بغداد (4/368) واللفظ لهما، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى (209) باختلاف يسير.
[5] رواه البخاري (2697)، ورواه مسلم (1718).
[6] أخرجه مسلم (867).
[7] أخرجه مسلم (2557).
[8] أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك