الدرس السادس

فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله المعيوف

إحصائية السلسلة

23160 9
الدرس السادس

آداب العالم والمتعلم

{بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان، مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نُرحب بكم في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلم) ، والذي نتناول فيه كتاب (آداب العالم والمتعلم) للإمام النووي -رحمه الله تعالى-، يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ/ محمد بن عبد الله المعيوف، باسمي وباسمكم جميعًا نرحبُ بشيخنا المبارك}.
حياك الله يا شيخ معاذ، أهلًا وسهلاً بك وبالإخوة جميعًا.
{الله يحسن إليكم ويبارك فيكم، شيخنا المبارك قبل أن نبدأ في الحلقة نريد لو تفضلتم علينا بملخص لِمَا أخذناه في الحلقة السابقة}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدهُ ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا، أمَّا بعد، ففي الحلقة الماضية استعرضنا ما يتعلق بأدب المعلم في نفسهِ، حيث ذكر النووي -رحمه الله تعالى- جُملةً من الآداب المرعية التي يتأكد على المعلم أن يتحلى بها، والمعلم قدوة لتلاميذه، ولهذا يتأكد عليه أن يُراعي هذه الآداب؛ لأنَّ طُلاب العلم ينظرون إلى مُعلمهم في كل أعماله وفي كل أحواله، ويحسبون أن كل عملٍ يَعمله هو موافقُ للشرع، وهذه مسألة سبق أن أشرت إليها، وهي تؤكد على طالب العلم الحرص على التزام الشرع في كل أحواله وأعمالهِ.
وذكر جملةً من الآداب منها -بل أهمها- وهذا الأمر يُبدع فيه النووي -رحمه الله- ويُعيده ويكرره كثيرًا نظرًا لأهميته، وهو إخلاص العمل لله -عز وجل-، والإخلاص بمعناه اليسير السهل: أن يبتغي الإنسان بعلمهِ وعمله وجه الله تعالى.
الأمر الثاني: تحليه بالأخلاق الحسنة واتصافه بها، من الصدقِ، والورعِ، والصبرِ، والمروءةِ، وما أشبه ذلك من الأمور التي يَحسن التخلق بها اقتداءً بالمصطفى .
الأمر الثالث: أن ينأى بنفسهِ بعيدًا عن الأخلاق الدنيئة والرديئة، وذكر منها –رحمه الله تعالى- الحسدَ، والرياءَ، والعُجبَ، واحتقار الناس، وما أشبه ذلك من الخلال الذميمة التي يعاب فيها جميع الناس، فكيف بطالب العلم الذي يوجه الناس ويربيهم ويعلمهم!
أيضًا ذكر منها: أنه ينبغي أن يكون له وِردٌ من التسبيحِ، والتهليلِ، وذكر الله -عز وجل-، لِمَا للذكرِ من أثرٍ عظيم في راحة نفسه، وطمأنينة قلبه.
ومنها أيضًا دوام مراقبتهِ ربهُ -عز وجل-، فيكون دائم المراقبة لله، يستشعر ويستحضر أن الله معه أينما كان، فيراقب الله في سرهِ وإعلانه، وأيضًا يكون له وِردٌ من نوافل العبادات.
تفضيل العلم -يا إخواني- على نوافل العبادات لا يعني أن يتساهل طالب العلم بها، وأن يقول أنا أعمل في هذا المجال وهو عملٌ متعد، وهو أفضل من نوافل العبادات؛ لأن نوافل العبادات عباداتٌ قاصرة، وما أشبه ذلك مما يقال كثيرًا. نقول: لا، وينبغي لطالب العلم أن يكون له نصيبٌ من هذا ومن هذا، أسوةٌ برسول الله ، وقد ذُكِرَ الحديث المخرج في البخاري من حديث أبي هريرة، وهو حديثٌ قدسي، وقول الله -عز وجل-: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حتى أحبه، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها» ، والمعنى: أن الله -سبحانه وتعالى- يوفقه فيما يسمع، وفيما يُبصر، وفيما يعمل، وفيما يسعى إليه، ولهذا ورد في رواية: «فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يمشي، وبي يبطش»، ثم قال: «وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَ بي لَأُعِيذَنَّهُ»، أي: يكون مجاب الدعوة.
فيكون له نوافل من الصيام، ومن تلاوة القرآن، ومن صلاة الليل، وما أشبه ذلك من نوافل العبادات التي يحتاج إليها قلبه، وليس مقبولًا أن يأمر الناس بهذه الأمور وهو لا يأتمر بها، ولا يمتثلها.
ومن الأمور التي أشار إليها -رحمه الله تعالى-: أن الإنسان عندما يظهر منه عملٌ يظنه الناس خطأً، أو ارتكب فيه مخالفةً، وهو لم يحصل منه شيء، ولكن ربما يَظن الناس من ظاهر حالهِ وقوعه في هذا الأمر أن يُجلي الأمر للناس وأن يُبينه له؛ حتى لا يُظن به السوء؛ لأنَّ الناس كما قيل: ينظرون إليه كما ينظر الطير إلى اللحم، فيبين الأمر على ما هو عليه.
ودليل ذلك: قول النبي عندما خرج ومعه صفية –رضي الله عنها وأرضاها- وقد جاءت تزوره في معتكفه، فقام يقلبها في الليل، فمر به رجلان من الأنصار، سيد بن حضير وعباد بن بشر -رضي الله عنهما وأرضاهما-، فأسرعا لَمَّا رأيا النبي ، فقال: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ، فَقَالا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ» أو نشك فيك –معنى كلامهم-.
فقَالَ : «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابن آدم مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا» أَوْ قَالَ: «شَيْئًا» متفقٌ عليه.
فأخبرهما النبي أن المرأة التي معه صفية، وذلك حتى يُقطع الطريق على الشيطان، حتى لا يقع في النفوس ما يمكن أن يقع، وحاشاهما أن يقع في أنفسهما في رسول شيئًا، ولكن أُخذ من هذا أنَّ الإنسان يُبين جلية الأمر؛ حتى لا يُظن به خلاف ما هو عليه.
وهناك مسائل أشار إليها لو نُبه عليها: وهي: مسألة الورع والزهد، ما الفرق بينهما؟
يذكر أهل العلم فرقًا بين الورع وبين الزهد، فالورع هو ترك ما يُخشى ضرره في الآخرة، وترك يعني: أمرًا مشتبهًا يخشى أن يضره في دينه وفي آخرته فيتركه ورعًا، وإليه الإشارة بقول النبي : «إنَّ الحلالَ بيِّنٌ وإنَّ الحرامَ بيِّنٌ وبينهما أمور مُشتبِهاتٌ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرئ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى» الحديث.
وأمَّا الزهدُ فهو ترك ما لا ينفع في الآخرة، بينما الأول ترك ما يخشى ضرره، يعني أمر مشتبه، ولكن هذا ليس مشتبهًا، ولكنه لا ينفع في الآخرة، فَتَرَكَهُ الإنسانُ زُهدًا، ولكن بشرط أن يكون هذا الزُهد في حدود الشرع، ولا يخرج عن حدود الشرع، فللزهد مثل غيره حدودٌ يلزم المسلم أن يتقيد بها وألا يتجاوزها.
مسألة أيضًا أشار إليها -رحمه الله- وهي مسألة: كثرة المزاح، وقال: إنَّ طالب العلم لا ينبغي له أن يُكثر المزاح، ولا أن يُظهر المزاح أمام عموم الناس، وهذا لا يعني أن يكون جافًا، لا، بل يمازح ويداعب لكن في حدود، وربما مع خواصه، ومع إخوانه، ولكن أن يُكثر المزاح، وأن يُكثر الضحك أمام العامة فلا، أي: لا يتساهل في هذا الأمر، فإن الإنسان إذا كثر مزاحه قَلَّتْ هيبته عند الناس.
تقول عائشة -رضي الله عنها- وحديثها في الصحيح: «ما رَأَيْتُ النبيَّ مُسْتَجْمِعًا قَطُّ ضَاحِكًا، حتَّى أرَى منه لَهَوَاتِهِ، إنَّما كانَ يَتَبَسَّمُ» ، وما رأيته يعني: يضحك ضحكًا حتى تبيين لي لهواته، يقهقه، أو يرفع صوته بالضحك، لا حاشاه، ولكنه كان كثير البشر، دائم الابتسامة.
يقول جرير بن عبد الله: "ما رأيت النبي إلا وتبسم لي" ، فكان دائم الابتسامة.
ولكن لا تزيد هذه الابتسامات بحيث تتجاوز إلى الضحك والقهقهة، وكما قلت: لابد للإنسان من أمور تُسلي خاطره وبعض المداعبة، والنبي كان يداعب أصحابه.
جاءه أعرابيُ، فقال: «احمِلْني يا رسول الله، قال : إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ، قال: ما أصنعُ بولدِ الناقةِ يا رسول الله؟، فقال النبيُّ : وهل تلدُ الإبلَ إلا النوقُ؟» ، وهذا الأعرابي يظنه القعود الصغير.
ورأى امرأةً كبيرة فقال: «لا يدخل الجنة عجوز»، وهي تظنُ أن المرأة إذا كبرت لا تدخل الجنة، وهو قصد أنها لن تدخل الجنة إلا وهي شابةٌ فتية، أي لا تدخل وهي عجوز، فكان يداعب أصحابه .
ولكن تكون المداعبة بقدر الملح الطعام، إن زاد سمج الطعام، وإن نقص سمج الطعام، ولكن يكون بقدر، ولهذا قيل:

أفدْ طبعَكَ المكدودَ بالجد ساعةً ... يَجُمُّ وَعَلِّلهُ بِشَيءٍ مــــن المَــــزحِ
ولكِنْ إذا أعطيْته المَزحَ فلْيَكُن ... بِمقدارِ ما تُعطي الطَّعامَ مِنَ الملح

ثم انتقل -رحمه الله تعالى- إلى آداب المعلم في درسه، نعم يا شيخ معاذ.
{قال -رحمه الله-: (فصلٌ. آداب المعلم فِي دَرْسِهِ وَاشْتِغَالِه
ومن آدابه أدبه فِي دَرْسِهِ وَاشْتِغَالِهِ: فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَزَالَ مجتهدًا في الاشتغال بالعلم، قراءةً وإقراءً وَمُطَالَعَةً وَتَعْلِيقًا وَمُبَاحَثَةً وَمُذَاكَرَةً وَتَصْنِيفًا، وَلَا يَسْتَنْكِفُ مِنْ التَّعَلُّمِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي سِنٍّ أَوْ نَسَبٍ أَوْ شُهْرَةٍ أَوْ دِينٍ أَوْ فِي عِلْمٍ آخَرَ، بَلْ يَحْرِصُ عَلَى الْفَائِدَةِ مِمَّنْ كَانَتْ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فِي جميع هذا)
}.
هذه آداب أيضًا يتحلى بها في درسه، الآداب العامة أدبه في نفسه، سواء في الدرس أو في غير الدرس، وهناك آداب يتحلى بها في درسه منها: الانشغال بالعلم أثناء الدرس "قراءةً، وإقراءً، وشرحًا، وتعليقًا، وإيضاحًا"، يعني: يكون ديدنه الشغل بدرسه وبموضوع درسه، وليبدأ في درسه بالأهم فالأهم من المسائل.
يقول الشيخ حافظ حكمي –رحمه الله-:
وبِالْمُهِمِّ الْمُهِمِّ ابْدَأْ لِتُدْرِكَهُ ... وَقَدِّمِ النَّصَّ والآرَاءَ فَاتَّهِمِ
قدم الأصل، كتاب الله تعالى، وسنة رسوله ، وإذا أراد أن يبحث مسألة أو يتصفح كتابًا، وأشير للإخوان أن يُحافظوا على هيبة الكتاب، وقدر الكتاب، ومكانة الكتاب، فالكتاب مكانتهُ بدأت تتأثر بوجود المكتبات -مكتبات الدنيا- في الأجهزة، وصارت النظرة إلى الكتاب أقل مما كانت، وقد أدركنا مشائخنا، ورأينا كيف كان الواحد يفرح بالكتاب فرحًا عظيمًا إذا هو اقتناه، وكان يُقدم اقتناؤه ربما على بعض حاجاته الضرورية.
واليوم المكتبات تشكو من قلة الوافدين، وأغلقت كثير من المكتبات التجارية لقلة من يرتادها من طلاب العلم، فاحرص على أن تكون الصلة بالكتاب أوثق، لا تقطع صلتك بالكتاب، فالكتاب له مكانةٌ وقدرٌ ومنزلة، وفيه متعة، يتفقون على أن القراءة في الأجهزة ليس فيها متعة، نعم فيها سرعة فائدة، تجري الفائدة بعجالة، لكن ما تجد اللذة التي تجدها في الكتاب.
تقوى علاقة الإنسان بالكتاب حتى يكون الصديق الوفي له؛ حتى يأتيه أحيانًا ما يسمونه في الأجهزة بالإدمان، إذا كانوا في الأجهزة يدمنون بحيث يظل الإنسان يبحث فيها وينظر فيها الليل والنهار، فتكُل ذهنه وتتعب نفسه، وأما الكتابِ فولعٌ ومحبة، تجد عشاقه دائمًا معه يقرؤونه ويتصفحونه، لا يشعرون بمللٍ ولا يشكون منه سأمًا.
عند تصفح الكتاب يبحث عن مسألة، يبدأ بالمسألة التي يبحثها؛ لأنه عندما يفتح الكتاب ربما يجد مسألةً أحسن وأمتع من مسألته التي يبحث عنها، فيتشاغل بها، وتضيع المسألة التي كان يبحث عنها، ولكن ليبدأ بالمسألة التي فتح الكتاب وتصفحهُ من أجلها.
عن عتبان بن مالك وحديثهُ في الصحيحين: أنه جاء النبي وقال: «يا رَسولَ اللهِ، إنِّي قدْ أنْكَرْتُ بَصَرِي»، يعني: ضعف بصري، «وأنا أُصَلِّي لِقَوْمِي، وإذا كانَتِ الأمْطارُ سالَ الوادِي الذي بَيْنِي وبيْنَهُمْ، ولَمْ أسْتَطِعْ أنَّ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ فَأُصَلِّيَ لهمْ، ودِدْتُ أنَّكَ يا رَسولَ اللهِ، تَأْتي فَتُصَلِّي في مُصَلًّى، فأتَّخِذَهُ مُصَلًّى فقالَ رَسولُ اللهِ : سَأَفْعَلُ إنْ شاءَ اللَّهُ، قالَ عِتْبانُ: فَغَدا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهارُ، فاسْتَأْذَنَ رَسولُ اللهِ ، فأذِنْتُ له، فَلَمْ يَجْلِسْ حتَّى دَخَلَ البَيْتَ، ثُمَّ قالَ: أيْنَ تُحِبُّ أنْ أُصَلِّي مِن بَيْتِكَ؟ قالَ: فأشَرْتُ إلى ناحِيَةٍ مِنَ البَيْتِ، فَقامَ رَسولُ اللهِ ، فَكَبَّرَ، فَقُمْنا وراءَهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، قالَ: وحَبَسْناهُ علَى خَزِيرٍ صَنَعْناهُ له»، أي: قد حبسهم على طعامٍ صنعه لهم، والنبي في الحديث بدأ بالغرض الذي جاء من أجله، وهو الصلاة في المكان الذي يريده أن يتخذه مُصلى.
من الأشياء أيضًا: أن لا يستنكف طالب العلم عن البحث عن الفائدة من أي مصدر، فإذا سمع فائدةً اقتنصها واكتسبها وفرح بها.

إذا أفادك إنســـــانٌ بفائـــدةٍ ... من العلوم فلازم شكره أبدًا
وقل فلانٌ جزاه الله صالحةً ... أفادنيها وخلي الكبر والحسد

سمعناها من مشايخنا وكانوا يرددونها –رحمهم الله-.
فإذا استفاد الإنسان فائدةً يفرح بها، ولا يستنكف أن يأخذ هذه الفائدة من شخصٍ أقل منه، أو من شخصٍ أصغر منه، وقد كان الصحابة يروون عن التابعين، والتابعون يروون عن تابعي التابعين، وقد ذكر النووي –رحمه الله- أن عمرو بن شُعيب -وهو ليس من التابعين- روى عنه سبعون رجلًا من التابعين، وهو عمرو بن شُعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنه وعن آبائه-، روى عنه سبعون تابعيًا، وهو ليس من التابعين، كونه كان مُكثرًا في الرواية، لا سيما عن أبيه شُعيب، عن جده عبد الله بن عمرو، يعني: جد شعيب –رحمهم الله تعالى أجمعين-.
أيضًا من المسائل التي يتأكد عليه أن يلتزم بها في درسهِ: التواضع، إذا لم يُكسبه علمهُ تواضعًا فعليه أن يُراجع نفسه، وأن يراجع علمه، وأن يراجع نيته، وأن يراجع أمورًا كبيرة وكثيرة، وإذا أكسبه العلم -عياذًا بالله- تعاليًا وترفعًا على الناس، فإنَّ من ترفع على الناس وضعه الله أسفل؛ ولهذا قال : «ما تواضع عبدٌ لله إلا رفعهُ» ، والعلم فيه رفعة، ولا يرتفع صاحبه إلا إذا تواضع لله -عز وجل- وتواضع للناس، ولهذا قال المصطفى لأُبي ابن كعب: «إِنَّ اللهَ أمرَنِي أنْ أقرأَ عليكَ هذه السورةِ»، أي سورة البينة: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ ، «إِنَّ اللهَ أمرَنِي أنْ أقرأَ عليكَ هذه السورةِ قال أُبي –رضي الله عنه-: وسَمَّاني ربي يا رَسولَ اللَّهِ؟ قال: نعم» ، فبكى أُبي –رضي الله عنه- وما له لا يبكي! وقد سماه الله -عز وجل-، سماه ربه أولًا، ثم قرأ عليه المصطفى هذه السورة، وهذا تواضع لا شك، سيد الأولين والآخرين يقرأ على رجلٍ من أصحابه، وكانوا من شباب الصحابة.
لَمَّا مات النبي كان أُبي عمره قريبًا من اثنتين وعشرين سنة، أو عشرين سنة، بين العشرين والثنتين وعشرين سنة، لم يكن كبيرًا، ومع ذلك يقرأ عليه سورةً بأمرٍ من ربه سبحانه وبحمده.
أخذ العلماء من هذا التواضع، أن طالب العلم يتواضع حتى لمن هو أصغر منه، ويتواضع لطلابه، ويستفيد منهم أيضًا، ويُكلفهم بالبحث في بعض المسائل، وقد يأتون ببعض النوادر وبعض الفوائد التي لم يَطّلع عليها.
نحن يا إخوان بشر، وماذا يُحصل إنسان من الفوائد بالنسبة لِمَا هو موجودٌ في بطون الكتب؟ فتجد عند هذا فائدة، وعند ذاك فائدة، فقد يكون عند الشاب المبتدئ فائدةً لم يسمع بها طالب العلم الكبير.
أيضًا من الأمور المهمة حقيقةً في درسهِ، أنه إذا سُئل عن مسألةٍ لا يعلمها، يقول: لا أدري، هذه كلمة كبيرة تدل على الصدق والإخلاص، لا يعنيه أن يقول من حوله: إنه لا يدري، بل يعنيه ويهمه أن لا يقول على الله بغير علم، فإنَّ القول على الله بغير علم خطير.
ولهذا ذكره الله تعالى بعد الشرك به سبحانه، بل عطفه على الشرك، ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:33]، والنفس ضعيفة، ربما إذا سُئل المعلم عن مسألةٍ لا يعرفها، إن كان ورعًا لن يُجيب عليها بجوابٍ خاطئ، وإن لم يكن ورعًا ولا قوة إلا بالله أجاب بأي جواب، وتكلم بأي كلام.
لكن إن كان عنده شيءٌ من الورع ربما يُغير وجهة السؤال ويأتي بجوابٍ يعرفه لم يقصد السائل في سؤالهِ، وهذا تصرفٌ ما ينبغي، بل الذي يتأكد عليه أن يُجيب على سؤاله إن فهمه واستحضره، أو يقول: لا أدري، قالوا: "إِذَا أَخْطَأَ الْعَالِمُ "لَا أَدْرِي" أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ" .
قال ابن مسعود: يا أيُّها النَّاسُ مَن علِم شيئًا فلْيقُلْ به، ومَن لَمْ يعلَمْ شيئًا فلْيقُلِ: اللهُ أعلَمُ، فإنَّ مِن العلمِ أنْ يقولَ الرَّجُلُ لِمَا لا يعلَمُ: لا أعلَمُ، فإنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- قال لنبيِّه : ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص:86]» .
وقال عمر: «نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ»، والأثران في الصحيح، ما أمرنا بالتكلف، ما أمرنا أن نكلف أنفسنا شيئًا لا وسع ولا طاقة لنا به.
وسمعنا يا إخواني مشائخنا دائمًا يقولون: لا أدري، وحدثني أحد مشائخنا عن شيخهِ أنه كان يُكثر من قوله: "لا أدري" أول ما قَدِم عليه.
وشيخنا الشيخ حسن بن مانع -رحمه الله- قال: "قدمت على الشيخ محمد إبراهيم سنة ستين وثلاثمائة وألف، وكنت أسمعه يقول: لا أدري إذا سُئل بعض المسائل"، قال: وبعد مدة قلّ استعماله لهذه الكلمة، فما السبب؟
السبب: قوله لا أدري. كيف؟
يعني قوله: "لا أدري" هو الذي جعله يقلل منها مُستقبلاً، فما السبب؟ ها يا إخوان؟
نقول للإخوان جميعًا: لعلهم أن يتأملوا في الموضوع، يعني عندما يقول المعلم: لا أدري، لا أدري، لا أدري في سنة، في سنتين، في خمس سنوات، بعد عشر سنوات يقل استعماله لكلمة: "لا أدري".
والسبب: إنه عندما قال: "لا أدري" في البداية ذهب وبحث عن المسألة فعلم بها، والمسائل تتكرر يا إخوان، والمسألة ما يسألها شخصٌ واحد، بل يسألها عشرات من الناس، فكل من قال: لا أدري ذهب وبحث عن المسألة، فأصبح يدري مُستقبلًا، وإلا لا يعني أنه ترك هذه المسألة عدولًا عنها، لا حاشا، وهم معروفون بورعهم –رحمهم الله-.
والشيخ محمد بن إبراهيم معروفٌ بعلمه وبورعه، لكن استعمال هذه الكلمة -كما ذكرت لكم- يجعل الإنسان يُقلل منها مستقبلًا، والسبب أنه كما قال الشيخ معاذ: "قول لا أدري جعله يدري"، وبالتالي ما يحتاج إليها كثيرًا، والله المستعان.
وعلى كل حال: فالعلمُ شقان: شقٌ تعرفه. وشقٌ لا تعرفه.

فَقُل لِمَن يَدَّعي في العِلمِ فَلسَفَةً ... عرفت شَيئاً وَغابَت عَنكَ أَشياءُ

والذي يغيب أكثر من الذي يَعيه الإنسانُ ويعقل.
هناك حقيقة جملة من الآداب التي ينبغي لطالب العلم أن يراعيها، سواء في نفسه كما ذُكر، أو كان أيضًا في درسه، ومنها: ألا يترك السؤال حياءً أو كِبرًا، وبعض الناس يستحي أن يسأل ويبقى جاهلًا بهذا الأمر، وبعضهم -عياذًا بالله- لا يسأل كِبرًا، ولهذا ورد عن مجاهد -رحمه الله تعالى- أنه قال: "لاَ يَتَعَلَّمُ العِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلاَ مُسْتَكْبِرٌ"، ومن أهمها وأعظمها أنه لا يزال طالب علم ينظر هذه النظرة في نفسه، ويربي طلابهُ أيضًا عليها، لا يزال طالب علمٍ طيلة حياته.
ولسعيد بن جبير كلام، قال: "لا يزال الرجل عالما ما تعلم؛ حتى إذا ترك العلم ورأى أنه استغنى واكتفى فهو أجهل الناس"، فإذا ترك العلم ورأى أنه حصل من العلم ما يكفي، فهو أجهل الناس.
والعلم فيه بركةٌ، والبركة هي النماء وزيادة، فهو ينمو ويزيد ما أخلص الإنسان فيه النية، وأنفقه في سبيل الله تعالى.
هناك شرط يا شيخ معاذ أيضًا مسألة بعد هذه، وهي!
{قال -رحمه الله-: (وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْتَنِيَ بِالتَّصْنِيفِ) }.
أينعم عنايته بالتصنيف، وهذا بالنسبة للمعلم ولطلاب العلم الكبار، يعتني بالتصنيف، والنووي تكلم عن أمثالهِ –رحمه الله تعالى- أنه مات وهو في مقتبل العمر، في الأربعين أو الخمسة وأربعين سنة، يمكن عُمره خمسة وأربعين سنة، ولكن انظر إلى مؤلفاته –رحمه الله-.
يعجب الإنسان يا إخوان مع قلة الإمكانات والوسائل، لم تكن كهرباء، لم تكن أقلام كما هي موجودةٌ الآن، وسائل ضئيلة وضعيفة جدًا، لكن توفيق الله أولًا ثم همم الرجال، وكل هذه الوسائل.
يعني بعضهم ربما لو قسمت عمرهُ على صفحات كتبهِ وجدت أنه يكتب في اليوم عشرات الصفحات، قال ابن جرير وهو يَهم بتأليف تفسيره، قال لطلابه: "تنشطون لكتاب، قالوا: كم ورقة؟ قال: ثلاثون ألفًا، قالوا: ستفنى أعمارنا، قال: ضعفت الهمم -رحمه الله-.
{سبحان الله، وهذا في زمنه}.
نعم في زمنه، ثلاثون ألف ورقة يا إخوان، وليس عنده كتبٌ يتصفحها ويأخذ منها، لا، هم يأخذون من أفواه الرجال.
على كل حال: إن وُفق للكتابة والتصنيف وكان في كتابته تجديد لِمَا يكتب، وليس نسخًا ينقل من الكتب وينسبها إليه، لا، لا يكون فيه شيء من التحقيق، وشيء من إثراء القُراء بشيءٍ يستفيدون منه، فيه شيءٌ من التوضيح، طَرْق لبعض المسائل المستجدة التي ربما لم يتعرض لها المتقدمون؛ لكونها من النوازل في هذا الزمان، هذا شيءٌ مفيد، فإذا كان له نصيبٌ من هذا فهو من العمل الذي يبقى.
{قال -رحمه الله-: (وَلْيَعْتَنِ بِعِلْمِ الْمَذْهَبِ) }.
اللي بعدها، بعدها موضوع، ما في عنوان بعدها؟
نقرأ الكلام: {(يَطَّلِعُ عَلَى حَقَائِقِ الْعِلْمِ وَدَقَائِقِهِ وَيَثْبُتُ مَعَهُ لِأَنَّهُ يَضْطَرُّهُ إلَى كَثْرَةِ التَّفْتِيشِ وَالْمُطَالَعَةِ) }.
هذا في التصنيف، لكن بعد التصنيف.
اللي بعدها: {(وَلْيَعْتَنِ بِعِلْمِ الْمَذْهَبِ) }.
بعدها؟
انتهى؛ {(ومن آدابه آداب تَعْلِيمِهِ) }.
هو -رحمه الله- يُركز على أن طالب العلم يبدأ بقراءة المذهب الموجود في بلدهِ أول ما يبدأ، كتب المذهب الموجودة، كان المذهب السائد شافعيًا أو مالكيًا أو حنفيًا أو محمديًا، يتعلم أول ما يتعلم من كتب المذهب.
قال وبعدها: يستطيع أن يتوسع ويذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، لكن كبداية يقرأ في الكتب الميسرة والمختصرات المتاحة والموجودة، وبعدها إن وُفق وفتح الله عليه يقرأ بعد ذلك ما شاء أن يقرأ، ولكن وهو يقرأ في كتب المذهب تكون غايتهُ الأصلين: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله ، فما وافق الكتاب والسنة أُخذ به، وما لم يوافقهما لم يؤخذ به أيًا كان قائله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ومن آدابه آداب تَعْلِيمِهِ، اعْلَمْ أَنَّ التَّعْلِيمَ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي بِهِ قِوَامُ الدِّينِ وَبِهِ يُؤْمَنُ إمْحَاقُ الْعِلْمِ فَهُوَ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ وَأَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَآكَدِ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، يقول المولى تبارك وتَعَالَى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران:187]، وَقَالَ تبارك وتَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا﴾ [البقرة:159]، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ طُرُقٍ أَنَّ النَّبِيَّ قَال: «لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ»، وَالْأَحَادِيثُ بِمَعْنَاهُ كَثِيرَةٌ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُعَلِّمِ أَنْ يَقْصِدَ بِتَعْلِيمِهِ وجه الله تبارك وتعالى) }.
يتحدث هنا عن التعليم: التعليم هو الشق الثاني -يا إخواني- من حياة طالب العلم.
الشق الأول ما هو؟
أن يتعلم، فإذا تعلم واستفاد بدأ يُعلم ويفيد، وهذه إحدى الغايات الكبار التي من أجلها تعلم، وسبق أن ذُكر قول الإمام أحمد -رحمه الله-: العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته، قالوا: كيف ذلك؟ قال: ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيرهِ".
وقال والحديث أُشير إليه مراراً، وكنت قد اقترحت على الإخوان أن يحفظوه، وهو حديث أبي موسى: «مَثَلَ ما بعثني اللهُ مِن الهدى والعِلْمِ كمثَلِ غيثٍ أصاب أرضًا» إلى أن قال في آخرهِ: «فذلك مثل من فقه في دين الله فنفعهُ الله ونفع به فَعَلِمَ وعَلَّمَ» ، هذه الزيادة: «ونفع به» رواها أحمد في المسند بسندٍ على شرط الشيخين، ورواية الصحيحين كما هي مثبتة عندكم: «فذلك مثل من فَقه في دين الله فنفعه ما بعثني الله به فَعَلِمَ وعَلَّمَ»، الزيادة «ونفع به»، وهذا هو التعليم.
فلماذا تعلم؟
ليقال عالم -عياذًا بالله-، والشافعي -رحمه الله- له كلمة فائقة يقول: "وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولم يُنسب إليّ منه حرفٌ"، يعني: تمنى أن الناس يأخذون علمه كله، ولا يقال: قال الشافعي، هذا هو الإخلاص، فهو لا ينظر إلى نفسه، ولا ينظر إلى حظ نفسه بحال من الأحوال، وإنما ينظر إلى ما يستفاد من علم.
ذكر المؤلف هنا النصوص الدالة على هذا، والآية التي لعلي قلتها أكثر من مرة، وهي آية لطالب العلم أن يتأمل فيها، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ [آل عمران:79]، في أي شيء؟ ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران:79].
ولعلي ذكرت -يا إخوان- في مناسبة: أن الله تعالى قدّم التعليم على الدراسة، مع أن المعروف أنَّ الدراسة تُقدم، الإنسان يدرس ثم يُعلم، لكن ربنا عز وجل قال: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران:79]، أن الغاية هي التعليم، وأن الإنسان ما درس إلا لأجل أن يُعلم، فقُدم له لأهميته.
وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ [آل عمران:187] عياذًا بالله ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [آل عمران:187]، فالإنسانُ ما قرأ الكتاب ولا طلب العلمَ إلا ليبينه ويُعلمه للناس.
وكان الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- يقول: "لابد لطلاب العلمِ أن يُفسروا القرآن للناس، قالوا: نقرأ عليهم التفسير، قال: لا، أنتم تفسروه لهم"، وقصده أن طالب العلم ينزل إلى مستوى الناس، بخلاف ما إذا قرأ كتابًا ربما لا يفهمه إلا طالب علم، لكن إذا هو فسر للناس واستطاع أن ينزل إلى مستواهم، وأن يُبين لهم كتاب الله -عز وجل-، لا شك أنَّ هذا من النفع الذي يحتاج إليه.
والعلم يا إخواني يُراد به أول ما يُراد به حفظ هذا الدين، كما قال النووي –رحمه الله-: "يؤمن فيه مِحاق العلم" يعني: يؤمن فيه زوال الدين وزوال العلم، فيقصد به حفظ الدين، يقصد به أيضًا حماية هذا الدين والذب عنه، ويُقصد به تعليم الناس وإيضاح دينهم لهم.
هو عندما يُعلم يحرص على جانبٍ آخر أيضًا هو غاية في الأهمية، وهو جانب التربية: لذلك اقتصروا على التعليم، ولو أن التعليم هو الهدف الأكبر لا شك، لكن التربية أيضًا يجب أن يكون لها مجال في تعليمهِ، فيحرص على تربية طلابه.
ربنا يقول: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ [آل عمران:79]، من هو الرباني؟ أو لماذا سُمي رباني؟ سُمي ربانيًا من التربية، قيل من التربية؛ لأنَّ الرجل رُبيّ ورَبى نفسهُ على طاعة ربه والتزام شرعه، وقيل إن رباني: نسبة إلى الرب -عز وجل-، لالتزامه بدينه واستقامته على شرع ربه أيضًا.
وإذا كان الرباني مشتق من التربيةِ، فمعناه: أنه لابد أن يحرص على تربيتهم وعلى تنشئتهم، فإذا رأى منهم فتورًا، أورد من الأدلة ما يدل على حث الهمم وتنشيط النفوس، وإذا رأى منهم ضعًفا أيضًا نهرهم ونصحهم، وذكرهم بالمهمة التي يسعون إليها، والغاية البعيدة الطويلة التي يرمون الوصول إليها، وهي أن يتعلموا ويُعلموا في الدنيا، وأن يتبوؤوا الغرفات في أعلى الجنات في الآخرة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم جميعًا منهم، ويرغبهم في الإخلاص، إخلاص العمل لله -عز وجل.
أعادها النووي مرةً ما لم يكن ثانية أو رابعة الإخلاص يا إخوان، الإخلاص عزيز عظيم، والنفس ضعيفة، وينازع الإخلاص أمور كثيرة، شهوات النفوس، وكلام الناس، والدنيا برمتها، وأمور كبيرة تنازع الإخلاص.
ما ذُكر في أكثر من مناسبة أن العمل الصالح أي عمل لا يكمل إلا بشرطيه وركنيه: الإخلاص والمتابعة للمصطفى ، والإخلاص أدلته في القرآن ما تخفى وقد ذكر، وفي السنة عُمدته الحديث الشهير معروف: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ» ، والمتابعة أدلتها في القرآن كثيرة، ومنها آية المحنة: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران:31]، وقد سبقت الإشارة إليه.
﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾ [آل عمران:31] فهاتوا البرهان والدليل، والبرهان هو اتباع محمدٍ ، وقول النبي في حديث عائشة المخرج في الصحيحين: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» ، في رواية: «من عمل عملًا ليس عليه غيرُ أمرِنا فهو رَدٌّ»، هذه المتابعة.
فيُذكرهم بالإخلاص دائمًا، ويُذكرهم بفضيلة العلم، وربما أورد لهم شيئًا من تراجم بعض العلماء المتقدمين.
وبالمناسبة ننصح الإخوة بقراءة سير السلف الصالح -رحمهم الله تعالى- في البداية والنهاية لابن كثير -رحمه الله تعالى- إذا مرّ بسنة قال: "ذِكر من مات فيها من الأعيان، ويترجم لمن توفي فيها من العلماء"، في السير –سير النبلاء الذهبي- وغيرها من كتب التراجم المشهورة والمعروفة، يقرأ الإنسان لإخوانه سير الأوليين، تقرأ سيرهم وكأنك تعيش معهم، تعرف قدرهم ومكانتهم ومنزلتهم، وأنهم ما بلغوا الذي بلغوه بعد توفيق الله -عز وجل- إلا بالجد، والاجتهاد، والمثابرة، وإفناء الأوقات في الوصول إلى أشرف الغايات.
وتعرف قدرك أمامهم وضعفك، وأنك مقصر، فالذي يُولد ذلك في نفسك شعور بأنك لابد أن تجتهد وأن تعمل شيئًا، ولعل هذا يُولد لديك شيئًا من النشاط ومن الهمة والرغبة أن تقفوا أثر هؤلاء، وتسير على طريقتهم ونهجهم.
أيضًا يحنوا على تلاميذهِ، ذكر -رحمه الله- يحب لهم الخير، يحب لهم ما يحب لنفسه، ينظر إلى تلاميذه وكأنهم أولادهُ، يحرص عليهم على متابعتهم، ربما يطرح عليهم بعض الأسئلة ويطلب منهم الإجابة عليها، ربما يحتاج إلى أن يراجعهم أيضًا فيما تقدم مما عرضه من العلم، ينبههم إلى القواعد المهمة التي يحتاج إليها.
وقد ذكر عندك يا شيخ معاذ جملة من القواعد، ذكر النووي -رحمه الله- جملة من القواعد الفقهية، والقواعد الأصولية، والقواعد اللغة العربية، هذا يدل على باعه -رحمه الله- في هذه الفنون.
إذا كان الشيخ يُنبه طلابهُ إلى مثل هذه القواعد؛ لأنَّ القواعد -يا إخوان- علمٌ رفيع، وعلمٌ جليل، القاعدة تحتوي كثير من الفروع والمسائل، بدلًا من أن يحفظ الإنسان كثيرًا من الفروع وقد لا يتمكن من حفظها، وقد يحفظها وينساها، يحفظ ويتقن ويفهم القاعدة التي تجمع شتات هذه المسائل؛ حتى إذا نسي بعض هذه الفروع بقيت عنده هذه القاعدة، فاستعان بها على استدراكِ ما فات، وتذكرِ ما نسي.
ومن هذه القواعد، ذكر جملة من القواعد يا شيخ معاذ.
ابتدئ -رحمه الله- في جملةٍ من القواعد، قال: {(إذَا اجْتَمَعَ سَبَبٌ وَمُبَاشَرَةٌ قَدَّمْنَا الْمُبَاشَرَةَ) ، ثم قال –رحمه الله: (وَإِذَا اجْتَمَعَ أَصْلٌ وَظَاهِرٌ) }.
إذا اجتمع سببٌ ومباشرة تُقدم المباشرة، ففي باب الجنايات مثلا: شخصٌ تسبب في حدوث أمر، ولكن شخصٌ باشرهُ، فالمباشر هو الذي يتحمل الأمر، إذا كان يمكن تحميله هذا الأمر، أمَّا إذا كان لا يمكن فلا يكون متسببًا في هذا الأصل، ومثله لهذا فيما لو ألقي شخصٌ في زِبية الأسد في جحر الأسد -ألقاه إنسان- فمن لا يضمن لا ينجده من الأسد، والتلف حصل بالأسد وليس بالرجل، لكنه كان هو المتسبب، فيتحمل في هذه الحالة.
أيضًا تكلم على مسألة الأصل والظاهر، وأنه إذا اختلف الأصل والظاهر، وهذه مسألة جليلة كبيرة ذكرها ابن رجب في قواعده، وذكرها العلماء -رحمهم الله تعالى- ويقررون دائمًا أن الظاهر إذا كان حُجة شرعية؛ فإنه يرفع الأصل.
نعم إذا كان الظاهر حُجة شرعية، كالبينة مثلًا في باب الدعاوى، يأتي اثنان إلى القاضي ويختصمان، وأحدهما يدعي على الآخر مالًا مثلًا، فالأصل براءة ذمة هذا الشخص، والأصل أنه بريء، فإذا أتى المدعي ببينة أو بحُجة شرعية، فإن القاضي يحكم له، ولا ينظر إلى الأصل، وهنا الحُجة الشرعية قضت على الأصل.
أمَّا إذا لم تكن حُجة شرعية، فإن كانت قرائن واضحة قوية، فإنه يُعمل بها، وإلا فالأصل بقاء ما كان على ما كان.
من القواعد أيضًا يا إخوان.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِذَا اجْتَمَعَ قَوْلَانِ قَدِيمٌ وَجَدِيدٌ فَالْعَمَلُ غَالِبًا بِالْجَدِيدِ إلَّا فِي مَسَائِلَ) }.
هذا في مذهب الشافعي –رحمه الله- بخاصة، له مذهبٌ قديم، ومذهبٌ جديد في العراق وفي مصر، فيؤخذ بالجديد، يقول: إلا في مسائل يذكرها أو ذكرها النووي -رحمه الله-.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَأَنَّ مَنْ قَبَضَ شَيْئًا لِغَرَضِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ: وَمَنْ قَبَضَهُ لِغَرَضِ الْمَالِكِ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ لَا إلَى غَيْرِهِ) }.
هذه مسألة الرد، إذا اختلف في الرد، يعني قال: رددت عليّ سلعتي، قال: رددتها إليك، قال: لم تردها عليَّ، فإن كان المدعى عليه قبضها لمصلحته هو، لا يقبل قوله في الرد، كالعرية مثلًا، استعار من إنسان شيئًا، ثم قال: رددتها عليك، قال: ما رددته علي، فلا يُقبل قوله في الرد، لماذا؟ لأنه قبضها لمصلحته.
وإن كان لمصلحة المدعي قُبل قوله في الرد كالوديعة مثلًا، أو دعاه شيء، ثم جاء يطلبه قال: رددته عليك، قال: لا ما ردتها عليّ، فيُقبل قول المودَع، فهنا لماذا؟ لأنه قبض هذه السلعة لمصلحة صاحبها وليس لمصلحته، عكس العارية، وهو محسن، ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:91].
{ثم قال -رحمه الله-: (وَأَنَّ الْحُدُودَ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ) }.
الحدود، وقد رويّ عن النبي أنه قال: «ادرءوا الحدود بالشبهات»، وإذا كانت هناك شبهة فإنه يُدرأ الحد عن الشخص.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَأَنَّ الأمين إذَا فَرَّطَ ضُمِّن) }
الأمين؛ من هو الأمين؟ الأمين في المعاملات هو من أخذ الشيء عمومًا بإذنٍ من المالك أو من الشارع.
أخذها بإذن من المالك، مثل: الوكيل، يقول: أعطاني هذا الجوال، وقال: بعه لي، فهو هنا قد أخذه بإذنٍ من صاحبه.
أو بإذن من الشارع، كولي اليتيم مثلًا، ولي اليتيم إنما تولاه بإذن من الشارع، وهذا يسمى الأمين.
الأمين لو تلف الشيء بيده، فإنه لا يضمنه؛ لأنه أمين، لكن لو فرط؟ يضمن، وهذه قاعدة أن الأمين يضمن بالتعدي أو بالتفريط، إذا حصل منه تعدٍ أو حصل منه تفريط، فإنه يضمن في هذه الحالة.
{لكن الأصل يا شيخ أنه ليس ضامنًا}.
الأصل أنه ما هو ضامن، لا؛ لأنه أمين، ولكن إذا فرط وتهاون فإنه يضمن.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَأَنَّ الْعَدَالَةَ وَالْكِفَايَةَ شَرْطٌ فِي الْوِلَايَاتِ) }.
لابد من هذين الشرطين في كل الولايات، سواء ولاية يتيم، أو ولاية سفيه، أو غيرها من الولايات، لابد فيها من العدالة بأن يكون عدلًا مستقيمًا في دينه، وذا مروءة.
والكفاية أيضًا، لأنه قد يكون عدلًا ويكون ضعيفًا، وهذا لا يصلح في الولايات.
قالت ابنة صاحب مَدين: ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ﴾ [القصص:26]، فجمع حقيقةً كل الصفات القوة والأمانة، هل القوة وحدها تكفي؟
قد يكون قويًا، ولكنه ليس أمينًا، والأمانة وحدها كذلك لا تكفي إذا كان ضعيفًا، فلابد إذًا من العدالة ومن الكفاية.
{أحسن الله إليكم شيخنا، ونفع الله بكم، وبارك فيكم، وزادكم من فضله، لعلنا نكتفي بهذا، فالباب طويل، ونُكمل ما تبقى في اللقاء القادم بعون الله تبارك وتعالى}.
الله يوفقنا وإياك للخير.
{أحسن الله إليكم، ورضي الله عنكم، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك