الدرس الثامن
فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله المعيوف
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان.
مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات.
مرحبًا بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نتناول فيه كتاب آداب العالم والمتعلم، للإمام النووي -رحمه الله تبارك وتعالى-، يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ المفضال/ محمد بن عبد الله المعيوف، باسمي وباسمكم جميعا أرحب بشيخي المبارك.
حياكم الله فضيلة الشيخ محمد}.
حياكم الله يا شيخ معاذ، وحيا الله الإخوة جميعًا، وفقنا الله وإياكم للخير، ورزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، والدعوة إليه. أمين.
{أحسن الله إليكم، وجزاكم الله عنا خيرا الجزاء.
شيخنا الفاضل، كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند أحكام المفتين، واليوم -بإذن الله- نكمل في بداية هذا الفصل.
بسم الله الرحمن الرحيم.
قال المصنف -رحمه الله-: (فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الْمُفْتِينَ.
فِيهِ مَسَائِلُ، إحْدَاهَا: الْإِفْتَاءُ فَرْضُ كِفَايَةٍ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هاد له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله ﷺ. أمَّا بعد، فقد تحدث الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في هذا الكتاب عمَّا يتعلق بالفتوى، من جهة الكلام عن المفتي وعن المستفتي، وسبق بيان من هو المفتي، وأنه المخبر بالحكم الشرعي، والمستفتي هو السائل عن الحكم الشرعي.
وذكر الإمام -رحمه الله تعالى- هنا حكم الفتوى، وبين أنَّ حكمها فرض كفاية، ولابد من وجود مًفتٍ يسأله الناس، قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل:43]، وإذا لم يكن في البلد إلا شخص واحد؛ تعينت عليه الفتوى، لأنَّ فرض الكفاية كما مرَّ بنا، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يقم به من يكفي، ولم يكن إلا رجل واحد -عالم واحد-؛ تعين عليه أن يُفتي.
ولذا لا يمكن أن يُترك الناس دون مُفتٍ؛ لأنهم إذا تُرِكُوا دُون مُفتٍ استرسلوا في أهوائهم، وعملوا بغير علم.
قد يقول قائل: في هذا الزمان إذا نظرنا إلى كلام العلماء في المفتيين، وشروطهم في المفتيين -كما ذكرهم رحمه الله في أصناف المفتين وأقسامهم- قد يكون مثل هذا العالم عزيزًا، فهل يسوغ للإنسان أن يُفتي بالتقليد؟ والتقليد هو اتباع من ليس قوله حجة بلا حجة، يعني: يأخذ كلام أهل العلم دون أن يكون له نظر فيه كدليل، فهل يجوز للمقلد أن يفتي؟
الأصل أنَّ المقلد ليس معدودًا من أهل العلم؛ لأنه تابع لغيره، حتى لو حفظ المتون دون أن يكون له نظر في الأدلة، من حيث موافقتها أو مخالفتها للدليل، قال أبو عمر ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-: "أجمع العلماء على أنَّ المقلد ليس مَعدودًا من أهل العلم"؛ لأنَّ العلم معرفة الحق بدليله. هذا أولاً.
قال ابن القيم -وهو كما قال أبو عمر-: فإنَّ الناس لا يختلفون أنَّ العلم هو المعرفة الحاصلة من الدليل، وأمَّا بغير دليل فليس بعلم".
ثم ذكر ابن القيم ثلاثة أقوال في فتوى هذا المقلد:
القول الأول: الجواز.
القول الثاني: عدم الجواز.
القول الثالث: يجوز إذا لم يوجد غيره، وهذا قولٌ وسطٌ وهو الحق؛ لأنه إمَّا أن يستفيد الناس من هذا المفتي بالتقليد، وإمَّا أن يُتْرَكُوا دون مُفتٍ، ولا ريب أنَّ الفتوى في التقليد خير لهم من أن يُتركوا هكذا، يسترسلون بأهوائهم، ويصيرون في كل أمورهم عن غير علم.
المقصود: لا بد أن يوجد مفتٍ في كل بلد، والأولى، والأحسن أن يكون المفتي من البلد نفسها.
هنا مسألة جدت في هذا، وهي كثرة المفتين عبر أجهزة التواصل، فهل يدخل الإنسان على كل مفتٍ ويسأله؟
من آداب المستفتي -كما سيأتينا- أن يسأل من يَعلم أنه أهل للفتوى، وهو الذي يجمع وصفين اثنين:
العلم، والورع، فيكون لديه علم ويُفتي بالعلم، ويكون لديه ورع؛ لأنَّ العلم وحده لا يكفي، ولا بد مع العلم من ورع، فإذا كان هذا العالم معروفًا بالعلم ومعروفًا بالورع فلا بأس أن يستفتيه، وأمَّا أن يستفتي مفتٍ أيًّا كان ذكر المفتي، فلا تبرأ الذمة بهذا بحال من الأحوال.
{ثم قال -رحمه الله-: (الثَّانِيَةُ: إذَا أَفْتَى بِشَيْءٍ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ)}.
أي: إذا رجع المفتي عن قوله الأول، والعلماء قد يرجعون عن بعض الأقوال، إمَّا لأنه اطلع على دليل لم يطلع عليه قبل ذلك، دليلٌ يخالف ما ذهب إليه، أو أنه تغير نظره وتأمله في الدليل، فرجع عن القول الأول، فهل يقال: يتعين على المستفتي أن يرجع؟
إن كان رجوع المفتي إلى نصٍ من الكتاب والسنة، وكان هذا النص جليًا واضحًا بينًا؛ فلا بد أن يرجع معه.
وأمَّا إذا كانت المسألة مسألة اجتهاد، وقد سبق للمستفتي أن عمل بهذه الفتوى، فقد عمل بما أُفتي به، وعمله يعتبر صحيحًا، فإذا رجع فيما يستقبل مع المفتي وفي غير هذه المسألة، وأمَّا في هذه المسألة إن كان قد عمل بها فهذا أمر انتهى، لا سيما إذا كانت المسألة مبنية عن اجتهاد.
وأمَّا إن كانت عن النص فإنه يرجع معه بلا شك.
{ثم قال -رحمه الله-: (الثَّالِثَةُ: يَحْرُمُ التَّسَاهُلُ فِي الْفَتْوَى)}.
هذه مسألة كبيرة، وهي التهاون والتساهل في الفتوى، فالمفتي مُوقع عن الله -عز وجل-، ومخبر عن شرع الله، فهو لا يخبر عن رأيه، وإنما يخبر عن شرع الله -عزَّ وَجَل- ولذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- والسلف عمومًا يتدافعون الفتوى، وكل واحد يقول: اذهب إلى فلان فهو خير مني، وربما جلسوا مُدة كما سئل ابن مسعود -رضي الله عنه- عن رجلٍ عقد له على امرأة فمات قبل أن يدخل بها، فسألوه عن هذه المسألة، وترددوا عليه مرارا، حتى قال في آخر الأمر: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه. ثم أفتاهم، فشهد معقل بن سنان أنَّ النبي ﷺ حكم في امرأة منهم بمثل ما قال به ابن مسعود، فَسُرَّ بذلك وفرح فرحًا شديدًا لموافقة قوله كلام رسول الله ﷺ.
ولذا لا يجوز التساهل بالفتوى، وواجب عليه أن يتأنَّى، يفهم السؤال فهمًا جيدًا، ويتصور المسألة، إذ الحكم على الشيء، فرع عن تصوره. ويفصل بالإجابة إذا كان السؤال محتملا، كما لو سئل عن زوجة وأخ وعم، فلا بد أن يسأل، هل هذا الأخ أخ شقيق؟ أو هل هو أخ لام؟ لأن الجواب يختلف، فإن كان لأب أخذ الباقي وحجب العم، وإن كان أخا لأم أخذ السدس والعم يأخذ الباقي، أي لا ينظر إلى مجرد اللفظ ويقول: أخ ويحكم عليه بأنه أخ شقيق ويحجب العم. فإذا كان السؤال محتملاً يُفصل فيه.
وأيضًا لا يُفتي إلا وهو هادئ البال، ولا يفتي على انشغاله بهم، أو ضجر، أو برد، أو جوع، أو ما أشبه ذلك، وذلك حتى يتسنى له أن ينظر في السؤال، وأن يتأمل الجواب الذي يجيبه عليه.
المقصود أنه لا يجوز التساهل في الفتوى بحال. لماذا؟ لأنه إن أفتى بجهل فالإثم عليه، والحديث المخرج في السنن، قال ﷺ: «منْ أُفتي بفُتيا غيرِ ثبتٍ، فإنما إثمهُ على منْ أفتاهُ»[1]، وفي الحديث المخرج في الصحيح: «إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَمَاءِ، حتَّى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا»[2]، فبدلاً من أن يكون مُفتيًا مُعلمًا للخير، داعيًا إليه، يكون ضالاً مُضلاً بفتواه، وفي الأثر: «أجرؤكم على الفُتيا أجرؤكم على النار».
{ثم قال -رحمه الله-: (الرَّابِعَةُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُفْتِيَ فِي حَالِ تَغَيُّرِ خُلُقِهِ، وَتَشْغَلُ قَلْبِهِ)}.
هذه ذكرناها وانتهينا منها
{قال: (الْخَامِسَةُ: الْمُخْتَارُ لِلْمُتَصَدِّي لِلْفَتْوَى أَنْ يَتَبَرَّعَ بِذَلِكَ)}.
أي لا يأخذ عليه مقابلاً، وإن احتيج إلى أن تكون هناك وظيفة ينتسب إليها ويأخذ مقابلا من بيت المال فلا بأس بهذا، ولكن أن يأخذ من المستفتين مالاً فهذا لا ينبغي، وينبغي لمن سلك هذا الطريق أن يقصد نفع الناس، وأن لا يستجدي من ورائه أموالهم.
{شيخ هل نقدر أن تقاس الفتوى على القضاء مثلا، حيث غنَّ القاضي إذا لم يوجد له رزق قال للمتخاصمين: أحكم لكما بِجُعلٍ كذا وكذا}.
القضاء -يا إخوان- لا بد من أن يُزيل الإشكال بين الناس، فالمفتي أحيانًا قد لا يجد موردًا، فهل له أن يأخذ كمعلم القرآن مثلا؟ وقد قال النبي ﷺ: «إنَّ أحقَّ ما أخذتُم عليه أجرًا كتابَ اللهِ» حديث مخرج في الصحيح في قصة أصحاب السرية، فهل له ذلك؟
كأنَّ النووي -رحمه الله- يرى أن الأولى أن لا يأخذ شيئًا، فإن احتاج وأُعْطِيَ فلا بأس، ولكن فرق بين الفتوى وبين القضاء.
فالمفتي لو أُهدي إليه مثلا هدية، وليس المقصود بها الفتوى أو رشوة؛ فلا بأس أن يأخذها خلافًا للقاضي الذي لا يقبل هدية من أحد.
{هذا يا شيخ احتيج إليه مثلا في الفصل بين الناس، وهذا أيضا احتيج إليه لتبيين الحكم الشرعي}.
على كل حال إن كان محتاجًا وأخذ فجائز، ولكن الذي يفهم من كلام النووي -رحمه الله- أنَّ الأفضل ألا يأخذ، ولكن إن أخذ فلا بأس بهذا، وإن كان لا ينبغي حقيقة أن يتخذ الإفتاء مهنة، فيأخذ من الناس أموالا مقابل إفتائهم وتعليمهم.
حديث «إنَّ اللَّهَ وملائِكتَهُ وأَهلَ السَّماواتِ والأرضِ حتَّى النَّملةَ في جُحرِها وحتَّى الحوتَ ليصلُّونَ على معلِّمِ النَّاسِ الخيرَ»، فمعلم الخير إن أخذ شيئًا فلا شك أنَّ هذا أقل في أجره، وليس كمن تبرع، ولهذا ثبت في الصحيح أن النبي قال: «ما مِن غازِيَةٍ تَغْزُو في سَبيلِ اللهِ فيُصِيبُونَ الغَنِيمَةَ، إلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أجْرِهِمْ مِنَ الآخِرَةِ، ويَبْقَى لهمُ الثُّلُثُ، وإنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً، تَمَّ لهمْ أجْرُهُمْ»[3]. فعلى الإنسان أن يحتسب الأجر عند الله، ولا شك أنه ينال أجرًا عظيمًا، ويبارك له في علمه، وفي فتواه.
لكن لو فرضنا أنَّ شخصًا في مكان ليس له مورد، ولا وليس له عمل يعمله، وأخذ مقابلا، فلا بأس به عند الحاجة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (السَّادِسَةُ: مُرَاعَاةُ عُرفَ الْأَلْفَاظِ فِي الْفَتْوَى)}.
هذه مهمة جدًا، فالإنسان إذا لم يكن من بلد المستفتي فلا ينبغي أن يفتي بالأمور التي لها علاقة بالألفاظ، مثل الأيمان مثلا، أو الألفاظ التي يحتاج أن يرجع إلى مُراد أهلها فيها، ولابد أن يكون له معرفة بعرف البلد الذي يفتيهم فيه، فإمَّا أن يكون منهم، وإمَّا أن يكون قد عرف الألفاظ ومدلولاتها، والفرق بين الألفاظ، فعند الناس فرق شاسع جدًا، والإنسان إذا ذهب إلى مكان حتى وإن لم يكن مفتياً ينبغي أن يعرف كثيرا من ألفاظهم ومصطلحاتهم.
فمثلا في بعض البيئات إذا قلت لرجل كبير يا ولد، ربما ينشرح صدره أنك خاطبته بوصف الشباب، وبعضهم براها تقليلا من شأنه، فالأعرف تتفاوت في مصل هذه الأمور، ولذا صارت معرفة العرف مُهمة جدًا؛ لأنَّ العرف له دور في الشرع، والعرف في الشرع له اعتبار، إذا عليه الحكم قد يدار.
{ثم قال -رحمه الله-: (السَّابِعَةُ وُجُوبِ الاعتِمَادِ عَلَىَ الْكُتُبِ الموثوقة)}
لا بد أن يكون له مرجع فيما يفتي به، ويرجع إلى الكتب -كما قال المؤلف- الكتب الموثوقة المعروفة، يرجع إلى كتاب وأكثر من كتاب، ولكن يستوثق من هذه الكتب، ويتثبت منها.
والكتب أحيانًا يكون فيها شيء من التبديل أو التغيير -لا سيما في الزمن الأول-، كونها تكتب بأيدي النساخين، وقد يكون فيها شيء من التصحيف أو شيء من الغلط، ولكن قد تكون الكتب الآن أسلم من حيث الطباعة، ومع ذلك نجد أن من عندهم دراية في الكتب يخرجون فروقًا في الطباعة، سواء من حيث جودتها أو حتى من حيث الأمانة العلمية، فيتثبت الإنسان من الكتاب الذي يقرؤه، ومن المصدر الذي صدر عنه ذلك الكتاب.
{ثم قال -رحمه الله-: (الثَّامِنَةُ تَكَرُّر الحادثة المفتى فيها)}.
إذا تكررت الحادثة الْمُفْتَى فيها، فإذا أفتى فيها العالم مرة، وتكررت على هذا الشخص الذي استفتاه، فهل يعمل بالفتوى الأولى أو يسأل في كل مرة وقد أفتاه؟
فإذا كان العالم لم يرجع عن كلامه الأول، فإنه يعمل بفتواه، وأمَّا إذا كان قد رجع عن كلامه الأول، فلا بد أن يسأله، وأن يأخذ بما انتهى إليه اجتهاده في هذه المسألة والله أعلم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (التَّاسِعَةُ: أهمية تحرير الخلاف للمستفتي)}.
ينبغي أن لا يدخل المستفتي في الخلاف، ولا يقول المفتي للمستفتي: المسألة فيها خلاف، والعلماء مختلفون فيها، لأن هذا ليس جوابا، والعامي لا يعرف الخلاف، بل يريد القول الراجح في المسألة، فتحرير الخلاف بمعنى أنه يأخذ القول الراجح من أقوال أهل العلم ويفتي به علم المستفتي، لا بد أن يكون إذا كان له نظر في الخلاف، وله دراية في أقوال أهل العلم، وفي نظرهم، وفيما هو القول الراجح من هذه الأقوال بدليله، فيأخذ بالقول الراجح، ويخبر به المستفتي، ولكن لا يُقحم المستفتي في مسائل الخلاف، ويقول: هذه المسألة فيها خلاف، فما ينبغي هذا.
{أغلب مسائل الفقه أو جلها فيها خلاف}
هذا لا شك فيه، ولكن ليس كل خلاف جاء يكون معتبرًا، إلا خلاف له حظ من النظر، فالخلاف القوي هو الذي ينظر إليه لا سيما إذا كان له نظر في الخلاف، وطالب العلم في بداياته -وهذه تتعلق بأدب الطلب- لا يدخل في الخلاف، لا يقرأ العلم، ويقرأ الفقه حسب المذهب الموجود في بلده، ثم بعد ذلك يترقى في طلب العلم إذا استوعب هذا الكتاب، واستوعب ما هو المختار في المذهب الموجود في بلده، يترقى إلى معرفة الخلاف، والنظر في الأدلة، والنظر فيما هو القول الراجح فيها.
ولهذا الأصل في المفتي كما ذكر النووي -رحمه الله- في أصناف المفتين، وهذا بحث جيد في الحقيقة حتى يتبين من هو المستفتي؟
فالمنبغي للمستفتي أن يكون له دراية بأقوال أهل العلم وبالدليل أيضا، إذ الفقه معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية، وليس مجرد معرفة فقط، بل لا بد أن يعرف الحكم بدليله، فإذا عرف الحكم، وعرف الدليل أفتى، وأمَّا إذا عرف الحكم ولم يعرف فهو مقلد.
وهنا يأتينا هل المقلد يفتي أو لا يفتي؟
{أحسن الله إليكم شيخنا.
هنا تأتينا مسألة، لو أنَّ طالب العلم بشكل عام درس متنًا وحفظه، ودرسه على المذهب الذي هو عليه، ثم بعد ذلك أراد أن يختار لنفسه قولا مثلا في المسألة، فعلى سبيل المثال المسألة فيها ثلاثة أقوال، فرجح قولاً بخلاف قول المذهب، فهل يجوز لطالب العلم أن يختار لنفسه قولا؟ كأن يكون قد بحث في هذه الأقوال الثلاثة واختار من خلال دراسته قولا وعده صحيحًا وكان مخالفًا لقول المذهب، فهل يجوز له ذلك؟}
هذه مرتبة رفيعة لمن بلغها ولا تكون في البدايات، ولكن إذا بلغ هذه المرتبة وصار له نظر في مدارك الفقهاء وأقوالهم، ونظر في الأدلة أيضا، وفي أوجه الاستدلال، لأنه لا يكفي كما يحدث من بعض الإخوان أن ينظر في القول، وأن ينظر في الدليل، ثم يقول: هذا القول يخالف الدليل، وهذا القول كذا.
نقول: لا، بل ينبغي له أن ينظر أيضا في تطبيق هذه الأحكام على هذه الأدلة، وكيفية استنباط هذه الأحكام، يعني: يكون له دراية بعلم أصول الفقه، يكون له دراية بالسنن ومعرفتها، فإذا يوصل إلى مستوى بحيث يمكنه النظر في الحكم، والنظر في الدليل، والنظر في أوجه استنباط الحكم من الدليل؛ حينها يستطيع أن يأخذ بالقول الذي يراه موافقًا للدليل.
{أحسن الله إليكم. ثم انتقل -رحمه الله- إلى (فَصْلٌ فِي آدَابِ الْفَتْوَى)
قال -رحمه الله-: (فِيهِ مَسَائِلُ، إحْدَاهَا: يَلْزَمُ الْمُفْتِي أَنْ يُبَيِّنَ الْجَوَابَ بَيَانًا يُزِيلُ الْإِشْكَالَ)}.
نعم، لا بد أن يُبين الجواب بيانًا شافيًا ولا يكون الكلام مُقتضبًا، أو يكون بعبارة ركيكة غير واضحة، بل يكون بعبارة مبسطة، وما أحسن لطالب العلم في الدعوة أو الفتوى من أن ينزل إلى مستوى الناس، ولا يتكلم بمستواه أو يتكلم بلغة رفيعة لا يفهمها العوام، وبالتالي لا ينتفعون بها، ولكن إذا نزل إلى مستواهم في فتواه، وفي تعليمه، وفي دعوته، فإنهم يرتاحون لكلامه، ولهذا نأخذ مثالا للإمام النووي -رحمه الله-، وكان معروفًا أنَّ كلامه سهل في شروحه ومؤلفاته، ولهذا صار لكتبه من الرواج والانتشار الشيء الكثير، أي أنَّ كثيرا منها يقرؤها طالب العلم المبتدئ، مثل: كتاب رياض الصالحين، والذي لا تخلو منه مكتبة تقريبا فيه، ويقرأ في كل المساجد، فهو كتاب سهل وسلس، وانتقاه بدرايته وباعه في السنة وفي الحديث.
وكتبه -رحمه الله- معروفة بسهولتها، وهذا مما ساعد على انتشارها ورواجها بين الناس.
{قال -رحمه الله-: (الثانية زيادة الإجابة على ما في الرقعة)}.
نعم، قد يحتاج أن يجيب، فإذا كان السؤال مستوفيًا للمقصود فعليه أن يجيب ويزيد على ما فيه فائدة، ولما سأل رجل النبي ﷺ فقال: إنَّا نَركَبُ البَحرَ ونَحمِلُ معنا القَليلَ من الماءِ، فإنْ تَوضَّأْنا به عَطِشْنا؛ أفنَتوَضَّأُ بماءِ البَحرِ؟ فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «هو الطَّهورُ ماؤُه»، انتهى الجواب، ولكنه أضاف إضافة لا بد منها، فقال: «هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيتَتُه»[4]، مع أنَّ السائل لم يسأل عن السمك، ولكن لما كان الجواب يحتاج إلى هذه الإضافة؛ أضافها النبي ﷺ، وعليه فينبغي للمفتي أن يضيف ما يرى أن السائل في حاجة إليه، فإن السائل قد يكون فهمه قاصرا، ويسأل عن جانب واحد، فيتم سؤاله لذكر ما يتعلق بذلك الأمر، ويفصل في الإجابة تفصيلا وافيًا كافيًا
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (الثَّالِثَةُ: الصبر على المستفتي بطيء الفهم)}.
أي إذا كان المستفتي بطيء الفهم فلا يغضب، وما أحسن أن يكون طالب العلم ملتزمًا بالآداب وهو قدوة، فلا ينبغي أن يكون سريع الغضب، أو سريع الانفعال، ولا يصبر على الناس، بل لا بد أن يتحلَّى بالصبر، وتلك صفة عظيمة جدا، وقد بين الله جزاء الصبر، وبين أنه من أعظم أسباب دخول الجنة، وذلك لَمَّا ذكر الله أهل الجنة، قال في ذكر أوصافهم -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم جميعا منهم-، قال: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران:17]، فصدر أوصافهم بالحديث عن الصبر، ومن أعظم الصبر، الصبر على العلم وعلى أهله، ولهذا لَمَّا لقي موسى الخضر، قال الخضر: ﴿إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾ [الكهف:67-69]، فلمَّا لم يصبر قال له بعد ذلك: ﴿هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف:78]، ولهذا قال النبي ﷺ: «رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْنَا وعلَى مُوسَى، لَوْلَا أنَّهُ عَجَّلَ لَرَأَى العَجَبَ»[5].
المقصود: أنه يرفق بالمستفتين، وفي بعض الأحيان قد يحتاج إلى أن يؤدب المستفتي، وهذه مسألة لعل النووي أشار إليها، فإذا رأى أن المستفتي له مآرب، وليست مآرب الناس واحدة يا إخوان، فالبعض يكون هدفه الحق والعمل به، وهذا الذي ينبغي بل يجب، وبعضهم يكون هدفه امتحان المستفتي، أو تتبع الرخص، أو ضرب أقوال أهل العلم بعضها ببعض، وهذا موجود في هذا الزمان كثيرًا.
تجد الشخص يأتي ويسأل، ولو سألته هل سألت أحدا؟ أخبرك أنه قد سأل.
يأتي يسأل عن مسائل في العلاقة الزوجية فيخبر بجانب ولا يخبر بالجانب الآخر، فيحتاج المفتي أحيانًا إلى أن يغلظ القول، ويؤدب مثل هؤلاء الذين يتلاعبون بالشرع حقيقة. فيحاول أن يبحث عن رخصة، وعما هو الأيسر في كلام الناس فيتتبعه، أو يضرب كلام هذا بهذا، أو يكون نقالا للكلام، ويأخذ كلاما من هذا، ويذهب به إلى آخر، ويقول: قال فلان وقال فلان.
فمثل هؤلاء ما ينبغي تركهم، بل لا بد من تأديبهم، والأدب يحتاج إليه مع كل أحد، والله المستعان.
{ثم قال -رحمه الله-: الرَّابِعَةُ. لِيَتَأَمَّلْ السؤال تَأَمُّلًا كافيًا شَافِيًا)}.
لابد أن ينظر في السؤال ويتأمله كما مر، إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فإن لم يتصور السؤال فلا يأتي الجواب على وجه الصواب، ولذا عليه أن يتأمل وألا يتسرع، وينظر فيه واحتمالاته، حتى يكون الجواب مطابقا للسؤال.
ثم قال -رحمه الله-: (الْخَامِسَةُ: عَرض المفتي الفتوى على من حضر من أهل العلم)}.
لابد من التواضع، كأن يعرض الفتوى أو يعرض السؤال على من حوله، حتى ولو كانوا من طلابه، لعل أحدًا عنده من العلم بهذه المسألة ما ليس عند شيخه، والإنسان عندما يستشير يقال: إنه يفكر بعقل غيره، وعندما يستبد لا يفكر إلا بعقله هو فقط، وقد قال الله -عز وجل- لأكرم الخلق ﷺ: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران:159]ـ فسؤال الإخوان عمومًا وسؤال الأقران من طلبة العلم عن بعض المسائل التي قد تشكل عليه، لا سيما في هذا الزمن يا إخوان، لأن هذا الزمن قد كثرت فيه المسائل وتنوعت، وكثرت المخالفات من الناس.
وأمَّا في الزمن السابق -زمن الصحابة- كانت الحاجة الى المفتين قليلة. لماذا؟
لأن الناس يعملون بما انتهى إليه علمهم ولا يخالفون، ولكن لَمَّا كثرت المخالفات احتاج العلماء إلى أن ينظروا في هذه المخالفات وأحكامها! فتضخم العلم، وكبرت دواوينه وكتبه، ولهذا قال عليٌّ -وهذه الكلمة سبق أن أشرنا إليها-: العلم نقطة كَثَّرَهَا الجاهلون، فالذي يحتاج إليه يسير -يا إخوان-، كيف تتوضأ؟ كيف تصلي؟ كيف تصوم؟ كيف تحج؟ كلها أشياء سهلة وواضحة.
لَمَّا وَلَّى أبو بكر عمر القضاء، جلس أيامًا لم يأته متخاصمين، فجاء إلى أبي بكر وقال: قوم أنت أميرهم كيف يحتاجون إلى قاضٍ، أو كما قال.
على كل حال، هذه أمور مثالية لأناس اختارهم الله -عزَّ وَجَل- لصحبة نبيه ولنصرة دينه، ولكن علينا نحن أن نجعلهم رموزنا وقدوتنا، نتأسى بهم، ونسير على نهجهم، ونحاكيهم، لعل الله أن ينظمنا في سلكهم، وأن يحشرنا في زمرتهم، وزمرة محمد ﷺ.
{آمين. جزاكم الله كل خير.
ثم قال -رحمه الله-: (السَّادِسَةُ: لِيَكْتُبْ الْجَوَابَ بِخَطٍّ وَاضِحٍ.
السَّابِعَةُ: أين يكتب الجواب من الورقة؟)}.
أَّما ما يتعلق بالكتابة، فعليه أن يكتب بخط واضح، قال الله -سبحانه وتعالى-: ﴿وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ [البقرة:282]، وقال أيضا: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ واختلف العلماء في الكاف هنا، فقيل: إنها للتعليل، أي: لا يبقى كاتب أن يكتب؛ لأن الله علمه، وإذ علمه فلا ينبغي أن يشح بالكتابة على إخوانه، وعلى هذا تكون الآية كقوله تعالى: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص:77]، أي: أحسن لأنَّ الله أحسن إليك.
وقيل: الكاف للتشبيه، ﴿أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ ، أي: مثل ما علمه الله، فيجود خطه، ويحرر ما يكتب، بحيث يكون جليًا واضحًا بينًا، لا غموض فيه ولا إشكال.
{ثم قال -رحمه الله-: (الثَّامِنَةُ: اختصار الجواب بصورة مُفْهِمَه)}.
أي لا يطيل الكلام؛ لأن الكلام إذا طال أنسى آخره أوله، والفقيه هو من يؤدي المعنى الكثير باللفظ اليسير. قال ﷺ في الحديث المخرج في صحيح مسلم: «إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ؛ مَئِنَّةٌ مِن فِقْهِهِ»، هذا الفقيه الذي يؤدي المعاني الكثيرة بكلمات يسيرة. وقد ابتلي الناس بكثرة الكلام في هذا الزمان، وما كانوا يعرفونه فيما مضى، فما كانوا يحبون كرة الكلام، والقلوب أوعية، وإذا امتلأ الوعاء فاض، فإذا كثر الكلام يسمع منه الناس قليلا والباقي لا يسمعونه، يتكلم المتكلم مع نفسه، وهذا الذي ابتلينا به، ولا قوة إلا بالله.
قال إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: "من لم يعرف عيبه فهو أحمق"، وإياس قاضٍ معروف بالحكمة والذكاء، فقيل له: ما عيبك أنت؟ قال: كثرة الكلام. فما كانوا يحبذون كثرة الكلام، ولكن كانوا يحبون الكلام الوجيز البليغ الذي يُؤدي المعنى بأقل وأقصر العبارة.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (التَّاسِعَةُ: تريث المفتي في الحكم بالتكفير)}.
قضية التكفير ليست سهلة وليست بيده، ولا ينبغي أن يبادر إلى الحكم بكفر أحد؛ لأنه لو حكم بكفر أحد لم يكن كافرًا، يرجع الأمر عليه ولا قوة إلا بالله، للحديث المخرج في الصحيح: «وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوَّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ»[6]. والأصل في المسلم الإسلام، وقد يقول القائل قولاً مكفرًا، فلا يكفره حتى يُقيم عليه الحجة، فإذا أقيمت عليه الحجة، وكان هذا القول مُكفرًا بينًا واضحًا، هنا يحكم عليه، وإن كانت هذه المسائل من اختصاص القضاة؛ لأنهم هم المخول لهم الحكم على شخص بردته عن الإسلام.
وأما أن تكون كلمة التكفير على ألسنة الناس، فلم يكن هذا من نهج أهل العلم، ولا من طريقتهم، بل ترد هذه الأمور إلى أهلها الذين لهم دراية ومعرفة بها.
{ثم قال -رحمه الله-: (العاشرة إذا ضاق موضع الجواب في الرقعة)}
ذكر بعض أهل العلم أنهم لا يحبون الجواب مكتوبًا، وذكر عن أبي حامد المروزي وهو من فقهاء الشافعية، أنه ما كان يرغب في الكتابة في الرقاع، يعني: في الأوراق، خوفا من أن يضاف إلى هذا الكتاب شيء، وهذا تخوف وارد.
وعمر -رضي الله عنه- لَمَّا اتخذ الختم، سببه أنه كتب عطاء لرجل، فأضاف إليه شيئا، مما اضطره إلى أن يتخذ الختم، ليختم على الكلام المكتوب، ولكن لا بد للناس أن يكتب لهم، وقد يكون المستفتي غير موجود، وقد يكون أرسل شخصًا، ولذا فلا بأس أن يرسل أحدًا إذا كان لا يمكن أن يأتي، أو يسأل عن مسألة قد لا لا يحب السؤال عنها، أو يستحي منها، وجاء عن علي -رضي الله عنه- أنه أمر المقدار بن الأسود أن يسأل النبي ﷺ قال:
«كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، وكُنْتُ أسْتَحْيِي أنْ أسْأَلَ النبيَّ ﷺ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فأمَرْتُ المِقْدَادَ بنَ الأسْوَدِ فَسَأَلَهُ فَقالَ: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ ويَتَوَضَّأُ».[7]
فيكتب الجواب في الرقاب، ولكن ما ينبغي أن يكتب الجواب في ورقتين؛ لأنه قد تسقط ورقة، فيكون الجواب مبتورا، فيكتب في الورقة، وإن احتاج فليكتب في الناحية الثانية للورقة.
وينبه أيضًا على أن تتمة الجواب في الحاشية أو في آخر الورقة.
وإن كان هناك أسئلة متعددة فيؤتي بها مرتبة، وإن أشكل عليه بعض الأسئلة فيؤجل الجواب عنها، فيعتذر ويقول: حتى ننظر في هذه المسألة.
{ثم قال -رحمه الله-: (الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: ظهور غرض آخر للمستفتي.
إذَا ظَهَرَ لِلْمُفْتِي أَنَّ الْجَوَابَ خِلَافُ غَرَضِ الْمُسْتَفْتِي أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِكِتَابَتِهِ فِي وَرَقَتِهِ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى مُشَافَهَتِهِ بِالْجَوَابِ)}.
إذا كان المفتي فهم السؤال بغير ما قصد المستفتي، وكتب جوابا لم يكن على السؤال الذي يريده، ثم رجع إليه المستفتي وقال: أنا ما قصدت هذا، وإنما قصدت كذا وكذا، فلا يكتب له ثانية، وإنما يجيبه مشافهة؛ لأن الإجابة مشافهة أوضح لا شك. فيقول: أنت سألت عن كذا، فالجواب: كذا وكذا.
والكتابة لا تليها أمور، منها: كون المستفتي ما تصور السؤال، أو كون السائل لم يحسن السؤال في الكتابة، والجواب المكتوب قد لا يكون السائل حاضرا حتى يسأله عن مراده، فإذا تبين له أنَّ مُراد المستفتي غير ما كتبه يجيبه كما قال -رحمه الله-: (مشافهة).
{ثم قال -رحمه الله-: (الثَّانِيَةُ عَشْرَةَ: الفتوى بما فيه تغليظ)}.
كما ذكر النووي، أنَّ المفتي قد يحتاج إلى القوة في كلامه مع المستفتي إذا رأى منه بعض الصفات التي ما ينبغي أن يتحلى بها المستفتون، كأن يراه صاحب هوى، أو أنه يتتبع الرخص، أو أن قصده إفحام المستفتي واختباره، أو ضرب أقوال أهل العلم بعضهم بعض، أو غير ذلك من المقاصد السيئة التي قد يحتاج إلى أن يغلظ عليه الكلام.
{ثم قال -رحمه الله-: (الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: تقديم الأسبق من الرقاع)}.
يعني إذا كانت عدة مسائل أو لقاءات فيقدم الأسبق منها، كحال المتخاصمين في القضاء، يقدم الأول فالأول، ولكن قد يحتاج إلى أن يقدم الضعيف أو المرأة أو من هو على جناح سفر ويخشى فوات رفقته. وما أشبه ذلك.
{ثم قال -رحمه الله-: (الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: من متعلقات الميراث.
قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو : إذَا سُئِلَ عَنْ مِيرَاثٍ فَلَيْسَتْ الْعَادَةُ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الْوَرَثَةِ عَدَمَ الرِّقِّ وَالْكُفْرِ وَالْقَتْلِ ، وَغَيْرِهَا مِنْ مَوَانِعِ الْمِيرَاثِ ، بَلْ الْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا أَطْلَقَ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامَ وَبَنِيهِمْ)}.
يعني: إذا سئل -كما ذكرنا منذ قليل- عن زوجة وأخ وعم، هل يقول: الزوجة لها الربع، والأخ له الباقي، والعم لا شيء له، وهذا بشرط أن يكونوا موافقين في الدين، وألا يكونون أرقاء، وألا يكون أحد منهم قاتلاً؟! يعني: هل يذكر موانع الإرث؟
نقول: لا حاجة لذلك؛ لأنَّ الأصل السلامة من هذه الموانع، ولكن ما يكون فيه احتمال فعليه أن يوضح وأن يبين وأن يزيل الاحتمال الذي قد ينشأ عنه إشكال، فالأخوة كما ذكر هنا، إذا كان الأخ شقيق أو أخ لأب أو أخ لأم، وكذلك الأخوات وما أشبه ذلك، فيفصل في الجواب.
{قال -رحمه الله-: (السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: إذا لم يفهم المفتي السؤال جيدا)}.
إذا لم يفهم جيدا، فمر بنا أنه يرفق به، ويعيد عليه الجواب مرة ثانية ويصبر، وكان المصطفى ﷺ كما يقول أنس: «إذا سلم سلم ثلاثا»، وربما أعاد الكلام ﷺ حتى يفهمه من حوله، فلا ينبغي العجلة؛ لأنَّ العامي قد يسمع الكلام ولا يفهمه ولا يعرفه؛ فإن كان يعرفه لم يسأل، ولذا ينبغي التأني، ثم يسأله هل فهمت؟ فلا يتسرع في الكلام ولكن يتأنى ويرفق بالمستفتي كما ذكر -رحمه الله- قبل ذلك.
{ثم قال -رحمه الله-: (السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: ذكر المفتي حجة فتواه)}.
جميل أن يذكر المفتي الحجة والدليل، والعامي إذا سمع قال الله، وقال الرسول ﷺ يطمئن لكلام هذا المفتي، وإن لم يذكره وذكر له الحكم فلا بأس، ولكن لا شك في أن قرن الحكم بدليله يعد من الأمور الطيبة المرغب فيها، والتي يرتاح لها حتى العامي ويثق حينئذ بجواب المفتي، أنه مستند إلى حجة ودليل.
{ثم قال -رحمه الله-: الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: (الفتوى في المسائل الكلامية)}.
تكلم النووي -رحمه الله- في مسائل علم الكلام كثيرًا، وذكر أن المتكلمين الذين خاضوا في علم الكلام، كالغزالي، وأبي المعالي الجويني، وهما من فقهاء الشافعية الكبار -رحمهم الله- رجعوا في نهاية أمرهم عن علم الكلام، وذكر عن الجويني في كتاب العيافي أنه قال: "على الإمام أن يحمل الناس على طريقة السلف، وأن يُعيدهم عن طرق المتكلمين".
والغزالي -رحمه الله- ترك علم الكلام في آخر حياته، وألف كتابه إلجام العوام عن علم الكلام، وأقبل على علم الحديث، قيل: ومات في صحيح البخاري على صدره، لأنهم دخلوا في هذه الأمور وتأذوا منها كثيرًا، فكلها شبهات، ولا قوة إلا بالله. أمور يزعم أهلها أنها أمور يدل عليها العقل، والعقل بعيد عنها كل البعد، فصريح العقل موافق لا شك لصحيح الشرع.
ثم قال -رحمه الله-: (التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: سؤال المفتي عن التفسير)}.
المفتي غالبا يكون فقيهًا، ويكون علمه بالفقه أكثر من التفسير، ولكنه قد يكون متفننًا، يعني: قد يكون فقيهًا ومفسرًا وله دراية بكثير من العلوم، فمثل هذا يُسأل عن التفسير وعن الفقه.
وأما إذا كان اهتمامه بالفقه أكثر، ومعرفته بالتفسير أقل، فما ينبغي أن يسأل، وإذا سئل ينبغي له أن يحيلهم على من له عناية بالتفسير، اللهم إلا إذا كان السؤال عن مسألة فقهية لها علاقة بالتفسير، ولهذا ألف العلماء -رحمهم الله تعالى- كتبا مختصة بآيات الأحكام، وذكروا ما فيها من الأحكام، فإذا كان السؤال عن حكم فقهي له علاقة بالتفسير يسأل عنه الفقيه المفتي، وأمَّا إذا كان الكلام له علاقة بعلوم اللغة ومعاني الألفاظ وما أشبه ذلك، فما ينبغي له أن يجيب عنه إن لم يكن له دراية بهذا العلم، بل يحيل السائل على أهله.
{أحسن الله إليكم. ثم انتقل المصنف -رحمه الله- إلى (فصل فِي آدَابِ الْمُسْتَفْتِي وَصِفَتِهِ وَأَحْكَامِهِ)، فقال -رحمه الله-: (فِيهِ مَسَائِلُ، إحْدَاهَا: فِي صِفَةِ الْمُسْتَفْتِي، كُلُّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْمُفْتِي فَهُوَ فِيمَا يُسْأَلُ عَنْهُ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مُسْتَفْتٍ مُقَلِّدٌ مَنْ يُفْتِيه ، وَالْمُخْتَارُ فِي التَّقْلِيدِ أَنَّهُ قَبُولُ قَوْلِ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْإِصْرَارُ عَلَى الْخَطَأِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ عَلَى عَيْنِ مَا قُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِفْتَاءُ إذَا نَزَلَتْ بِهِ حَادِثَةٌ ، يَجِبُ عَلَيْهِ عِلْمُ حُكْمِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِبَلَدِهِ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّحِيلُ إلَى مَنْ يُفْتِيهِ ، وَإِنْ بَعُدَتْ دَارُهُ ، وَقَدْ رَحَلَ خَلَائِقُ مِنْ السَّلَفِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ اللَّيَالِيَ وَالْأَيَّامَ)}
المستفتي له آداب، والكتاب كله كتاب للآداب، آداب طالب العلم، سواءً في العالم، أو في المتعلم، أو في المفتي، أو في المستفتي.
يدل على أهمية الأدب في هذا الأمر، وهذا الأدب قد يكون اسمه أدبًا، ولكن قد يكون واجبًا من واجبات الشرع، كما مَرَّ بنا الكثير من الواجبات التي ذكرت ضمن هذه الآداب، والحكم على الشيء أدب ليس حكمًا شرعيًا، ولكن لا ريب أن أمور الشرع كلها من الأدب العظيمة، التي ينبغي للناس أن يتحلوا بها جميعًا، من لم يكن مُفتيا ولا من أهل الفتوى فهم مستفت، وبالتالي يتأكد عليه أن يبحث عمن يفتيه، وهذا الزمن تساهل الناس -يا إخواني- في هذا الأمر كثيرًا.
ومن يعرف الزمن الماضي، والذي ليس ببعيد، وينظر في أحوال الناس اليوم، يرى تساهلا من الناس في هذه الجوانب، صاروا يعملون ما يريدون دون أن يطرأ ببال أحدهم أن يسأل أحدًا، ربما لأنه يعرف أنه لو سأل لأخبر بأن أفعاله هذه أفعال غير لائقة ومحرمة ولا تجوز، لكن الواجب أن يلتزم شرع الله -عزَّ وَجَل-، ولو التزم شرع الله وصار على نهج رسول الله ﷺ، فقد لا يحتاج إلى المفتي إلا في أقل القليل.
عندما يحتاج المفتي فهؤلاء الذين يتخطون الحدود، ويقعون في المخالفات، ولا بد من أن يسأل، فإن لم يكن أحد يسأله في بلده، فكان في الزمن الماضي يسافر، والآن الحمد لله، فقد قربت الدنيا بعضها من بعض، وصار الإنسان بإمكانه أن يسافر إلى أقصى مكان وهو جالس في بيته.
{ثم قال -رحمه الله-: (الثَّانِيَةُ: البحث عن صاحب الأهلية في الإفتاء)}.
هذه مهمة في صفات المستفتي، وقد سبقت الإشارة إليها أنه يتأكد عليه أن يبحث عمن هو من أهل الفتوى، قد يقول قائل: من يدرك العامي أنَّ هذا من أهل الفتوى لا شك أن العالم يشار إليه بسبب علمه أو بسبب ورعه، فيعرف بهذا، ويصير له قبولا بين الناس جميعًا. وبالتالي لا يسأل أحدًا مجهولاً لا يُعرف حاله، ولا يعرف أمره، فلا يسأل إلا من يعرفه أهلًا للفتوى، وذلك من ناحيتين كما ذكر:
من ناحية العلم، ومن ناحية الورع.
{ثم قال -رحمه الله-: (الثالثة: تغير العامي من المذاهب)}.
العامي ما ينبغي أن يتغير ويتنقل من المذاهب، ويأخذ من كل مذهب ما يروق له، لأن هذا من تتبع الرخص، وقد قال العلماء -رحمهم الله تعالى-: من تتبع الرخص تزندق. ولكن يمشي على ما هو موجود في مذهبه، ويستفتي العلماء الموجودون في بلده، ممن يرى لهم أهلية الفتوى، ولكن إذا كان بين أقوال فماذا يفعل؟ هل يأخذ بالأيسر؟ أو يأخذ بالأشد أو يخير؟ يعني: يختار من هذه الأقوال ما يريد.
رأيت الشيخ محمد ابن عثيمين -رحمه الله-: يميل إلى أنه يأخذ بالأيسر، ويقول: إن التيسير موافق لروح الشريعة، قال تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة:6]. وقال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة:185]، فهنا لا يتخير تشهيًا، ولكن إذا رأى هذا الأمر أيسر فليأخذ به؛ لأن الأصل براءة الذمة، كما يقول أهل العلم.
وبعض العلماء يقول: يأخذ بالأشد احتياطًا، نقول: لا نضيق على الناس ونقول بالأشد، يقول سفيان -رحمه الله-: إنما العلم عندنا الرخصة يقولها الثقة، وأما التشديد فيجوزه كل أحد، يعني: كل ما يسأل عن مسألة يقال: هذا حرام، هذا كذا، هذا لا يصلح، هذه يجيدها كل واحد، وأمَّا أن يبحث عن الرخصة الموافقة للشرع، فهذا هو الفقيه.
{أحسن الله إليكم شيخنا، ونفع بكم، وزادكم من فضله، نكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجزيكم عنا خير الجزاء، ويرضى عنكم، ويسعدكم في الدارين، ويفتح لكم فتوح العارفين، وأن يصرف عنكم كل مكروه}.
أعاذك الله يا معاذ من كل مكروه وبارك فيك، وبارك في الإخوان المتابعين، ورزقنا وإياهم العلم النافع، والعمل الصالح، والدعوة إليه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم.
{والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، ونلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب اليك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------------------------------
[1] أخرجه أبو داود (3657)، وأحمد (8266).
[2] أخرجه مسلم (2673).
[3] رواه مسلم (1906).
[4] أخرجه أبو داود (83)، وابن ماجه (386)، وأحمد (8720).
[5] رواه مسلم (2830).
[6] رواه مسلم.
[7] أخرجه البخاري (269)، ومسلم (303).
سلاسل أخرى للشيخ
-
5564 7
-
23160 9