الدرس الأول

فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله المعيوف

إحصائية السلسلة

11422 9
الدرس الأول

آداب العالم والمتعلم

{الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان.
مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، نرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) والذي نتناول فيه كتاب (آداب العالم والمتعلم) للإمام النووي -رحمه الله تعالى-، يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ/ محمد بن عبد الله المعيوف، باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، حياكم الله يا شيخ محمد}.
أهلاً وسهلاً ومرحبًا بكم، وبالإخوة المتابعين، وفقكم الله، وسدد خطاكم، وبارك فيكم، ونفعكم ونفع بجهودكم، وأعانكم فيما تسمون والوصول إليه.
{أمين وجزاكم الله خيرًا، وأحسن إليكم.
قبل أن نبدأ فضيلة الشيخ في هذا الكتاب، وفي تناول هذا المقرر المبارك، كتاب (آداب العالم والمتعلم) للإمام النووي- رحمه الله-، ودنا فضيلة الشيخ لو نأخذ مُقدمات في طلب العلم وفضله}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل، له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
إخواني: إنَّ طلب العلم من أجل العبادات وأفضلها، وقد أُمِرَ المصطفى ﷺ أول ما أُمِر وأنزل عليه، فأول ما أُنزل آيات فيها الأمر بطلب العلم، والقراءة بالنظر بالكتابة، وهذا في قوله -عز وجل- في سورة العلق: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1-5]، فأمره -عز وجل- بالقراءة، وذكر أدواتها، ومنها:  الكتابة، مما يدل على شرف هذا العلم وفضله، ثم أنزل عليه سورة أخرى فيها الأمر بالدعوة إلى الله -عز وجل-، في قوله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 1-5]، ثم أنزل عليه سورة المزمل، والتي فيها العمل. ﴿بسم الله الرحمن الرحيم. يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلً﴾ [المزمل:1-4]، فتضمنت هذه السور الثلاث المنهج الذي تضمنته رسالة محمد ﷺ، وهو العلم النافع، والعمل الصالح، والدعوة إليه.
وبُدِئ أول ما بُدِئ بالعلم، إذ هو المنطلق الأول الذي ينبغي أن ينطلق منه طالب العلم، فيجتهد في الطلب، ويبذل جهده وغاية وسعه في طلب العلم، ثم يُردِفُ ذلك بالعمل، إذ العمل هو الثمرة، فالعلم بلا عمل -كما يقولون- كالشجرة بلا ثمر، والعمل -ولا شك- من بركة العلم النافع، ثم بعد ذلك الدعوة إلى الله -عز وجل-.
فإذا جمع طالب العلم الأمور الثلاثة؛ كان على المنهج القويم، والطريق المستقيم، الذي سار عليه سيد الأولين والآخرين محمد ﷺ.
يبدأ طالب العلم أول ما يبدأ بطلب العلم، ويبذل جهده، ويستعين بربه أولا وقبل كل شيء، فالطريق ميسر ولله الحمد والمنة، إذا وفق العبد إليه.
ولهذا يتأكد على الإنسان وهو في هذا الطريق طيلة حياته، أن يستحضر وأن يستشعر توفيق ربه في كل ما يعمله، وفي كل ما يصبو إليه، ولهذا قال شعيب -عليه السلام- لقومه وهو يدعونهم إلى الله -عز وجل-، ويبين لهم صدقه وإخلاصه في نيته وفي دعوته: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾ [هود:88]، وهذه إرادة نبي ليس فوقها إرادة، ومع ذلك لم يركن إلى هذه النية ولم يعتمد عليها، بل التفت قلبه إلى توفيق ربه سبحانه وبحمده، ولهذا قال مباشرة: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود:88]، فنسب التوفيق إلى من بيده التوفيق سبحانه وبحمده، ولكن ذكر أسبابا للتوفيق، ولا شك أنَّ للتوفيق أسبابًا، منها:
-      النية الخالصة، كما قال: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾.
-      ومنها: التوكل على الله -عز وجل-، وإنابة القلب إليه سبحانه وبحمده.
فهذه صفات يتأكد أن يتحلى بها طالب العلم، مع ما يبذله من الأسباب في الجد، وفي الطلب، وفي الاجتهاد والنشاط فيه، ولذا يقول ربنا -عز وجل-:  ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾، فالقرآن ميسر ولله الحمد والمنة، يحفظه الصغير والكبير، ويحفظه العربي والأعجمي، وكمْ من الإخوة المسلمين ممن لا يتكلمون العربية يحفظون القرآن كاملا، وقد ذكر لي اثنان من الإخوة أنهما حفظا القرآن وهما لا يعرفان اللغة العربية، فقلت: صدق الله، ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾، ولكن ﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾؟
قال العلماء: هل من طالب علم فيعان عليه؟ فإذا جدَّ الإنسان في الطلب واجتهد، واستشعر توفيق الله -عز وجل- وثبت على الطريق، واستمر عليه، فلعل الله -سبحانه وتعالى- أن يبلغه مناه، ويصل إلى ما يريده ويتمناه، من العلم النافع، والعمل الصالح، والدعوة إليه.
العلم كما يقول العلماء -رحمهم الله- أفضل نوافل العبادات، واختلفوا في المفاضلة بينه وبين الجهاد في سبيل الله، فبعضهم فضله على الجهاد في سبيل الله، وذكر أنه هو الغاية من الجهاد في سبيل الله، والجهاد وسيلة إليه، وقد ذكره الله -عز وجل- مع الجهاد في قوله -عز وجل-:  ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة:122]، وعن الإمام الشافعي -رحمه الله- أن الآية كلها في العلم، ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُو﴾ يعني: نَفَرَ من كل فئة، ومن كل جماعة أو قبيلة، طائفة ذهبوا ﴿لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾ ثم إن يرجعوا إلى قومهم، يدعونهم وينذرونهم.
وقيل: أول الآية في الجهاد، إذ النفير فيه، والآيات في سياق الجهاد، ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾ أي: للجهاد، وبقيت طائفة أخرى ﴿لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾.
وأيًا كان فقد جُعِلَ طلب العلم نظيرًا للجهاد وقسيمه، وهذا مما يدل على عظم قدره، وعلو مكانته ومنزلته.
{أحسن الله إليكم.
شيخنا قد يأتي سؤال، وقد يرد للإنسان مع انشغالات هذا العصر وارتباطاته وكثرة الصوارف التي تصرف طالب العلم عن طلب العلم، فإذا سأل سائل وقال: كيف أطلب العلم وأنا منشغل الذهن، ولدي انشغالات وارتباطات؟ فكيف يجمع بين انشغالاته وبين طلب العلم؟
هذا الأمر يحتاج إلى جهاد يا إخوان، وطلب العلم نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله، فلابد للإنسان أن يجاهد نفسه في هذا الأمر، ثم إذا فترت منه الهمة فليذكر نفسه أن هذا طريق الجنة، قال ﷺ في حديث لعلي أذكره كاملا، وأقترح على الإخوة -وفقهم الله- أن يحفظوه، فحفظ النصوص -يا إخوان- في بداية الطلب وفي سن الشباب مهم جدا، وينبغي للشاب أن يحرص على الحفظ ما دام أن هناك سببًا، حتى لا يكون مثلنا، فالإنسان إذا كبر -يا إخوان- يجاهد في المحافظة على شيء مما حفظه، ويصعب عليه الحفظ. فطلب العلم في سن الشباب، وإذا فات الشباب دون طلب العلم، فَقَلَّ أن يُحصل الإنسان علمًا إلا أن يُعينه الله تعالى ويفتح عليه، ولكن الغالب أنَّ السن الملائم والمناسب لطلب العلم، هو سن الشباب، ولذا قال الشافعي -رحمه الله-:

وَمَنْ فَاتَهُ التَّعْلِيمُ وَقْتَ شَبَابِهِ ... فَكَبِّرْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا لِوَفَاتِهِ

أي كأنه توفي، وتوفي لا تعني أنه قد مات، وإنما عُمره فيما يتعلق بالعلم قد انتهى.
عُمر طالب العلم قصير -يا إخوان- وقصدي بذلك عمر الطلب، وأمَّا عمره الذي يعيشه في هذه الدنيا فهو كغيره، وعلمه بيد الله -عز وجل-، وسألت بعض مشائخنا -يرحمه الله- فقلت: كم السن الذي يحصل فيه الإنسان العلمَ؟
قال: إلى سن الأربعين، وهذا في الجملة؛ لأنه قد يوجد من الناس ما شاء الله من يستمر في القدرة على التحصيل أكثر من ذلك، ولكن الغالب أنَّ الإنسان في سن الأربعين يتوقف نموه في معظم الأمور، ومنها القدرة على التحصيل.
أقول: ذكروا أنفسكم -يا إخواني- بفضل العلم، وفي حديث أبي الدرداء أنَّ رجلاً قَدِمَ إليه من المدينة وهو في الشام، فقال: ما الذي جاء بك؟ قال: بلغني أنك تحدث حديثًا عن رسول الله ﷺ، فأتيت إليك كي آخذ هذا الحديث. قال: ما جئت لعمل آخر؟ ما جئت لتجارة؟ قال: لا. قال: ما جئت إلا لهذا الحديث؟ قال: نعم. قال: قال رسول الله ﷺ: «مَنْ سَلَكَ طَريقا يَبْتَغي فيه عِلْما سَهَّل الله له طريقا إلى الجنة»[1]، وهذه الزيادة رواها مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة، بلفظ: «من سلك طريقًا يطلبُ فيه علمًا، سهل اللهُ به طريقًا إلى الجنة»، ثم قال: «وإنَّ الملائكةَ لتضعُ أجنحتَها رضًا لطالبِ العِلمِ، وإنَّ العالِمَ ليستغفرُ له من في السماواتِ ومن في الأرضِ، والحيتانُ في جوفِ الماءِ، وإنَّ فضلَ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ، وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، ورَّثُوا العِلمَ فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ».
فاحرصوا -يا إخواني- على حفظ هذا الحديث، فهذا الحديث ينشطكم ويعينكم في الثبات على هذا الطريق والمداومة عليه.
ولا ريب أن توفيق الله تعالى -كما ذكرت- هو الأصل، وكمْ من الناس يسير في هذا الطريق ثم يتخلى عنه في أوله، أو في أوسطه، فتعرض له أمور الدنيا ومعوقاتها، ولكن الموفق -نسأل الله لنا ولكم التوفيق جميعا- يُعينه الله تعالى؛ فيثبت في الطريق، ويستمر عليه إلى أن ينتهي أو ينتقل من هذه الدنيا؛ لأنَّ هذا الطريق يبدأ من حين أن يضع الإنسان قدمه فيه إلى الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها، وكما سمعتم في قول النبي ﷺ: «من سلك طريقا يلتمسه فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة»، فذكر ﷺ البداية والنهاية، فالبداية: «من سلك طريقا يلتمس فيه علمً»، والنهاية «إلى الجنة»، فالنبي ﷺ يبين أولا أن طريقه طويل، وأن الإنسان يستمر عليه إلى الممات، ثم يذكر النبي ﷺ الجنة؛ لتكون مُرغبًا ومحفزًا ومنشطًا، أنَّ هذا هو الطريق.
فإذا أحسَّ الإنسان بالفتور، والإنسان -يا إخواني- يأتيه الفتور وهذه طبيعة، ولهذا لا يفاجئ الإنسان عندما يفتر في بعض الأوقات أو بعض الساعات؛ لأن النفس لها إقبال ولها إدبار، لكنها مع ذلك تحتاج إلى جهاد واستعانة بالله -عز وجل-، ثم ذكر الغايات، ومن هذه الغايات ما ذكره ﷺ بقوله: «سهل الله له به طريقا إلى الجنة».
ومن الأمور المعينة على الثبات على هذا الطريق، معرفة الإنسان بوظائفه في هذه الدنيا، فإن لكل واحد منا أعمالا لا بد أن يتعرف عليها، وأن يعرفها، وأن يؤديها، حتى يقوم بعمله على الوجه المطلوب، وإن كان التقصير من طبيعتنا -والله المستعان- وقد بين النبي ﷺ هذه الأمور التي ينبغي للإنسان أن يحرص عليها في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو حديث جليل عظيم، ينبغي لطالب العلم -بل لكل شاب- أن يقرأه، وأن يطلع عليه.
كان عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه وأرضاه- حريصًا على الخير، مجتهدا في العبادة، يقول: زوجني أبي وكنت شابا يافعا، أي لَمَّا تزوج كان في ريعان شبابه، وأظن أن عمره كان سبع عشرة سنة، قال: زوجني أبي امرأة ذات حسب، وكان يتعاهد كَنَّتَهُ فيسألها، فتقول: "نِعْمَ الرَّجُلُ مِن رَجُلٍ؛ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا، ولَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أتَيْنَاهُ".
إذًا ماذا كان يعمل؟
كان يصوم النهار، وكان يقوم الليل، وكان يقرأ القرآن كل ليلة.
قال: فذكر أبي ذلك للنبي ﷺ فقال: «الْقَنِي به» فأتيت النبي ﷺ فقال لي: «كيفَ تَصُومُ؟ قالَ: كُلَّ يَومٍ، قالَ: وكيفَ تَخْتِمُ؟ قالَ: كُلَّ لَيْلَةٍ». فبين له النبي ﷺ المنهج في ذلك وقال له: «اقرأ في كل شهر، في كل عشرين، في كل جمعة ولا تزد» يعني: في كل أسبوع. وأمره بالصيام فقال: «صُمْ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ في الجُمُعَةِ، قُلتُ: أُطِيقُ أكْثَرَ مِن ذلكَ، قالَ: أفْطِرْ يَومَيْنِ وصُمْ يَوْمًا، قالَ: قُلتُ: أُطِيقُ أكْثَرَ مِن ذلكَ، قالَ: صُمْ أفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ: صِيَامَ يَومٍ، وإفْطَارَ يَومٍ»، وكأن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه وأرضاه- يحكي صفات الشاب، وأن الشاب غالبا يريد الأمور وفق ما يطلبه ويتمناه، ولكن النبي ﷺ قال له: لا، أي: لا أفضل من ذلك، أي: صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما.
في النهاية قال عبد الله بن عمرو: يا ليتني أخذت بنصيحة رسول الله ﷺ، وذلك أني كبرت وضعفت. فكان يفطر الأيام حتى ينشط على الصيام، وكان يتلو حزبه من الليل على بعض أهله في النهار؛ لينشط على قراءته بالليل.
المقصود: أن النبي ﷺ لَمَّا رسم له هذا المنهج، قال له هذه الكلمات العظيمة.
ومثل هذا فقد كان الناس يرحلون ويضربون أكباد الإبل لطلب حديث واحد، مثل هذا الحديث -رحمهم الله ورضي عنهم- قال: «إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولزورك -يعني ضيفك- عليك حقا؛ فأعط كل ذي حق حقه».
عندما يقوم الإنسان بهذه القسمة العظيمة، يؤدي الوظائف كلها في يومه، حق ربه -عز وجل- فيما يؤديه من شعائره من صلاة، وعبادة، وتلاوة للكتاب، وطلب علم، وأيضا يؤدي حقوق والديه، وحقوق أهله، وحق نفسه. والعلم يا إخوان ينبغي أن يكون له النصيب الأوفر من الوقت.
والناس لها أيضا حق، والإنسان يحتاج أيضا إلى أن يريح نفسه بعض الأحيان من أعباء الحياة ومن متاعبها، فترتيب الوقت مهم لطالب العلم، والموفق من يستعين بالله -عز وجل- على ترتيب وقته، ولا يجعل المهمات والأمور الكبار في أوقات الفراغ إذا انتهى من مشاغله، لا، بل يجعل الأمور المهمة في أولويات أعماله، ويجعل زهرة وقته للأمور المهمة، ويستمر في الطريق شيئًا فشيئًا، ويسير بتؤدة، ولا يحمل نفسه عبئًا كبيرًا، وعملا كبيرا، حتى يثقل عليه الحمل، ولن يستطيع أن يقوم به، ثم في النهاية يتخلى عنه، وهذا -يا إخواني- من أسباب ترك الطريق، أنَّ الشاب في سن الشباب يندفع، ويريد أن يأخذ كل شيء دون مقابل كبير يبذله. هذه نزعة موجودة لدى الشاب مع الحماس، وهي ليست عيبا فيه إذا هي وجهت، فهي طاقة لكنها تحتاج إلى توجيه، ولا بد من أن يسترشد الإنسان بمن يرشده، فهذا الزهري -رحمه الله- الإمام الكبير والمحدث الشهير، يوصي أحد تلاميذه وهو: يونس بن يزيد، فيقول له: يا يونس لا تكاثر العلم، وفي رواية: لا تكابر العلم، فإن العلم أودية فأيها دخلت فيه قُطِعَ عليك قبل أن تبلغه، ولا تَرُمهُ جملة؛ فإنَّ من رامه جملة تركه جملة، ولكن مع الليالي والأيام.
لا تظن أن العلم يأتي هكذا دفعة واحدة، ولكن مع الليالي والأيام، ومع طول المدة يحصل الإنسان علمًا، فاليوم علم، وغد مثله، من نخب العلم ما تلتقط، يحصل المرء فيه حكمة، وإنما السيل: اجتماع القطرات، فقطرة ثم قطرة تسيل منها أودية، والعلم هكذا، فاليوم فائدة، وغدا فائدة.
وعلى الإنسان أن يحرص على العلم، ويثبت العلم بالعمل، فإذا عمل هو بعلمه يُبَارك له فيه، ويؤجر عليه، ويثبت عليه، وتلك أمور مُباركة، إذا أتاها الإنسان بصدق وإخلاص -كما سيأتينا إن شاء الله تعالى-.
{أحسن الله إليكم شيخنا. بعد أن أخذنا مقدمات في طلب العلم وفضله، نريد أن نعلق على حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه وأرضاه- بما أنه يتناول موضوع طلب العلم وفضله}
قلت في حديث أبي الدرداء: أوصيكم بحفظه؛ لأنَّه لابد لطالب العلم من ذخيرة، لا بد من أن يكون عنده محفوظات، وأولها حفظ كتاب الله -عز وجل- مع فهمه.
وأقول أيضًا: لا تحفظوا شيئًا لا تفهمونه، فهذا من الأخطاء التي يقع فيها طلاب العلم في البداية، وربما يستمرون عليها لوقت طويل، ولكن إذا حرص الإنسان على هذا المنهج في الطلب، وأنه لا يحفظ شيئًا إلا وقد فقهه، فسيجد حلاوة العلم، والعلم له حلاوة، وله لذة، ولكنها تحتاج إلى وقت، فإذا وجدها ما يعدل بالعلم شيئا.
قبل دخول في حديث أبي الدرداء، أقول: الدنيا فيها ملذات كثيرة، والشاب على كل حال يجد هذه الملذات أكثر من الكبير، فالكبير تجاوزها، وخبت في نفسه، ولكن الشاب يميل إلى ما فيه لذته، فتراه يتلذذ بأكله، وبشربه، وبنومه، وبزواجه، وبأمور كثيرة. ولكن هناك ملذات تجد مزاحمة في سن الشباب، كما ذكر الأخ في المشاغل وغيرها.
وهناك لذتان عظيمتان كبيرتان، ربما يستشعرهما الشاب في أول العمر، وهذا من فضل الله عليه، وربما يتأخر هذا الأمر معه إلى منتصف العمر، أو إلى آخر العمر، وهما: لذة العبادة ولذة العلم، فتجد الندم عند كبار العلماء في أواخر أعمارهم كثيرة. لماذا؟ وجدوا اللذة، وندموا على لحظات، أو ليال ضاعت من أعمارهم كما يقولون! فكيف بالأعوام والسنين؟!
الشافعي -رحمه الله- له بيتان جميلان في هذا المعنى، والشافعي من هو؟ إمام كالشمس، لا يوجد مسلم لا يعرفه -رحمه الله- في علمه وعلو قدره. كان يقول: "إذا هجع النوام، أسبلت عبرتي، وأنشدت بيتا وهو من ألطف الشعر.

أليسَ منَ الخسرانِ أنَّ لياليا ... تمرُّ بلا نفعٍ وتُحسبُ من عُمري

يبكي الشافعي على ليال مرت من عمره، وما استفاد فيها من العلم! فكيف بنا وقد مرت الأعوام، والله المستعان.
يندم الإنسان بعد كبر السن، وحتى لا تندموا يا إخوان، جاهدوا أنفسكم، واستعينوا بربكم، وجدوا واجتهدوا في طلب العلم، ففي العلم لذة، وفي العبادة لذة أيضا يا إخواني؛ لأنَّ العلم والعبادة لذتهما في القلوب، وأما بقية اللذات فغالبًا تخدم البدن. لذات جسدية من أكل وشرب وما أشبه ذلك، إنما يا إخواني منبعها ومصبها ومرجعها إلى القلب، ولهذا تجد الإنسان يزداد ويزداد فيها، وكلما وجد حلاوتها ولذتها.
هذا الآخر يندم أيضا على تقصيره في عبادة ربه، ويسجل هذا في أبيات له معروفة، يوردها ابن القيم -رحمه الله- كثيرًا، فيقول:

وَاحَسْرَتَاهْ تَقَضَّى الْعُمُرُ وَانْصَرَمَتْ ... سَاعَاتُهُ بَيْنَ ذُلِّ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ
وَالْقَوْمُ قَدْ أَخَذُوا دَرْبَ النَّجَاةِ وَقَدْ ... سَارُوا إِلَى الْمَطْلَبِ الْأَعْلَى عَلَى مَهْلِ

يندم ويقول: إن عمري ضاع بين العجز والكسل، بين كسل الشباب وعجز المشيب، هذه حالات الإنسان، فإذا وجد الكسل في أول العمر صحبه وتبعه، ولكن عندما يكون الإنسان ذا همة في سن شبابه، ويستعين بربه، يجد هذه الحلاوة، وهذه اللذة، فلن يبتغي بالعلم بديلا.
نرجع إلى حديث أبي الدرداء، قوله ﷺ: «من سلك طريقا يلتمس فيه إلا سهل الله له به طريقا إلى الجنة»، وقد أشرتُ قبل قليل إلى أنَّ النبي ﷺ ذكر البداية والنهاية، فالبداية في قوله: «من سلك طريق»، فحينما تدخل في طلب العلم، وتُشْعِر نفسك بأنك بدأت بالطلب، فقد بدأت في سلوك الطريق.
وأمَّا النهاية ففي قوله: «إلى الجنة» نسأل الله أن يجعلنا وإياكم جميعًا من أهلها.
وسلوك الطريق أمر حسي ومعنوي، فالحسي كأن يسافر الإنسان من بلد إلى بلد طلبًا للعلم كما كان الناس يفعلون في الأزمنة الماضية، وكانوا يركبون الإبل ويقطعون المسافات في ذلك.
جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- سمع أنَّ صحابيًا يحدث حديثًا -مع أن جابرًا كان من المكثرين في الحديث-، فسمع أن صحابيًا يحدث حديثًا في الشام لم يكن يعرفه، فاشترى جملاً، وشدَّ عليه رحله، وركبه ومضى إلى الشام، شهر كامل في ذهابه، وشهر في رجوعه، ثم ذكر قصته فقال: فلما أتيت وجدت رجلاً بالباب، فقلت: قل له جابر، فقال: جابر بن عبد الله! فخرج يطأ ثوبه -رضي الله عنه وأرضاه- فعانقني وعانقته، وإذا هو عبد الله بن أنيس، ثم سأله عن الحديث، فأخبره به.
المقصود أن جابرًا -رضي الله عنه- سافر لأجل أن يسمع حديثًا واحدًا.
وقبل جابر -رضي الله عنه- كان موسى -عليه السلام- نبي الله ورسوله، سافر وترك بني إسرائيل، وترك دعوتهم إلى الله -عز وجل- لماذا؟
لأجل طلب العلم؛ لأنه سُئل من أعلم الناس؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه، إذ لم يَكِل العلمَ إليه، فأخبره أنَّ في مجمع البحرين رجلا عنده من العلم ما ليس عندك، فركب البحر، وركب الخطر، وأحسَّ بالنصب والتعب، وقال: ﴿لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبً﴾ [الكهف:60]، أي: لا أزال سائرًا حتى أبلغ هذا المكان، وأجد ذلك الرجل، وآخذ العلم الذي عنده، أو أمضي حقبًا، والحقب الزمن الطويل، يَعدونه بسنين طويلة، فمنهم من يقول: الحقب الواحد وثمانين سنة، ومنهم من يقول أكثر.
فموسى يقول: أنا مستعد أن أسير حقبًا حتى أجد الرجل؛ لأتعلم وأخذ العلم الذي عنده، وفي هذه القصة فوائد جميلة عظيمة، وللشيخ ابن سعدي حقيقة إفاضات جيدة وكتابات فائقة حول هذه القصة، وذكر جملة من الفوائد فيها، فلعلكم ترجعون إليها في تفسيره -رحمه الله تعالى-.
«من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة» كيف يسهل له طريق إلى الجنة؟
أي أن يسهل له العمل أولا، والعمل هو من أعظم وأكبر أسباب الجنة، ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الزخرف:72]، فالأعمال هي السبب الأكبر في دخول الجنة بعد رحمة الله -عز وجل-.
والعلم هو الذي يسهل هذا العمل، وهو الذي يجعل الإنسان في عمله أن يسير على بصيرة، فكم من الناس من يعمل وهو على جهل وضلال، ولا قوة إلا بالله، ولكن إذا كان يعمل بعلم فهو على الطريق الواضح البين، ثم يسهل الله -سبحانه وتعالى- له علومًا أخر لسلوكه هذا الطريق، ويفتح عليه من الخير، ومن بركات العلم؛ لأن هذا العلم -يا إخواني- مبارك، قال -عز وجل-: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص:29]، وذَكَرَ هذا الوصف لكتابه العزيز في أربع آيات، في كل آية منها يصفه بأنه مبارك دون أن يقيد هذه البركة بقيد.
-      ﴿وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ۚ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ [الأنبياء:50]
-      ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ آيتين في الأنعام.
-      ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص:29].
ففي أربع آيات يوصف القرآن بالبركة، وأطلقت هذه البركة حتى لا يكون لها حد ولا نهاية، فإذا صار الإنسان على المنهج في الطلب؛ بورك له في علمه، وفتح الله -سبحانه وتعالى- عليه من العلم ما يفتحه، ويسر له الطريق الذي يكون به عمله، ويكون به ثباته على هذا الطريق واستمراره عليه إلى أن يصل إلى الغاية والمنتهى.
المسألة الثانية: «وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم» فالملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم بما يصنع، وتحف مجالس الذكر ومجالس العلم بأجنحتها، وفي الحديث المخرج في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده».
وفي الحديث الآخر المخرج في الصحيح أيضًا: إنَّ للَّهِ ملائِكَةً سيَّاحينَ في الأَرضِ فضلًا، فإذا وجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنادَوْا: هَلُمُّوا إلى حاجَتِكُمْ. فَيَحُفُّونَهُمْ بأَجْنِحَتِهِمْ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ -وهو أعْلَمُ منهمْ- ما يَقولُ عِبادِي؟ قالوا: يُسَبِّحُونَكَ ويُكَبِّرُونَكَ، ويَحْمَدُونَكَ ويُمَجِّدُونَكَ» إلى آخر الحديث، إلى أن قال الله -عز وجل- في الحديث القدسي: «فَأُشْهِدُكُمْ أنِّي قدْ غَفَرْتُ لهمْ، قالَ: يقولُ مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ: فيهم فُلانٌ ليسَ منهمْ، إنَّما جاءَ لِحاجَةٍ، قالَ: هُمُ الجُلَساءُ لا يَشْقَى بهِمْ جَلِيسُهُمْ».
ولا تظنوا أن مجالس الذكر هي مجالس التسبيح والتهليل والذكر فقط، وهذه من مجالسه لا شك، ولكن أعظم مجالس الذكر حلق طلب العلم، الحلق التي يُعلم فيها كتاب الله حفظًا وفهمًا وتدبرًا، وكذلك يعلم فيها السنة والعلوم الشرعية النافعة، فهذه أفضل وأعظم مجالس الذكر.
المسألة الثالثة التي وردت في الحديث: «وإن العالم ليستغفر له أهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت»، الملائكة معلومون أنهم يستغفرون للمؤمنين، قال تعالى: الذين ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر:7]، وقوله: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ ۚ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الشورى:5]، فهم يستغفرون لأهل العلم؛ لأنهم من عباد الله المؤمنين، ويستغفرون لهم استغفارا خاصًا؛ لأنهم من أهل العلم، وإذا كان طالب العلم يَستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، وحتى النملة في جحرها، وإذا كان الفضل في العلم بهذه المثابة؛ فإنَّ العقوبة -عياذ بالله- من كتم العلم عظيمة وشديدة أيضا، كما قال -عز وجل-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ [البقرة:159]، فكانت العقوبة في الكتمان شديدة، وكان الفضل في التعلم والتعليم عظيمًا.
وإذا كانت النعمة عظيمة، كانت العقوبة في عدم شكرها عظيما كما هو معروف في كتاب الله -عز وجل-.
قال: «وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب» شبه العابد بالكوكب، فالكوكب ضوؤه حوله لا يتجاوزه، والعابد عبادته على كل حال فيها خير، ولكن ينتفع بها وحده.
وشبه العالم بالقمر؛ لأنَّ القمر مضيئ، ويستضيء الناس بضوئه، وكذا العالم. وعندما نتكلم عن العالم إنما نتكلم عن العلماء العاملين، المجتهدين في تعلمهم، وفي تعليمهم، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم جميعًا منهم.
ثم قال: «والعلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا، وإنما ورثوا العلم». الأنبياء ما ورثوا الدنيا، ولم يأتوا لعمارة الدنيا، قال تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل:16]، أتظن أن سليمان ورِث من داود المال؟! لداود أولاد كثر، فعلام يستأثر سليمان بماله؟، وإنما ورثه في النبوة والعلم.
زكريا لَمَّا دعا ربه أن يرزقه ولدًا قال: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّ﴾ [مريم:6]، وقال ﷺ: «نحنُ معشرَ الأنبياءِ لا نورَثُ ما ترَكناهُ فهو صدقةٌ»، ولكن لهم ميراث عظيم، أعظم من أمور الدنيا، وميراثهم هو العلم النافع.
فما أسعد الإنسان أن يكون له نصيب إلى هذه التركة.
جاء أبو هريرة -رضي الله عنه- الناس يوما في السوق وقال لهم: هلموا إلى تركة رسول الله ﷺ تقسم في المسجد، فأسرع الناس في الذهاب إلى المسجد، يظنون أنَّ شيئًا من المال كان عند رسول الله فأرادوا أن يقسموه عليهم، فلما جاؤوا لم يجدوا إلا حلق العلم والذكر. وقال: هذه تركة رسول الله ﷺ.
وإذا كان طالب العلم وارثًا للأنبياء، فينبغي له إذ ورث منهم العلم، أن يورثه أيضًا لغيره، وهذا سيأتينا -إن شاء الله- في غاية طالب العلم في التعلم وفي التعليم، فيعلمه غيره، ولو أن يعلمه آية من كتاب الله، قال ﷺ: «بلغوا عني ولو آية».
فإذا استفاد الإنسان بفائدة، وأخبر بها إخوانه من طلاب العلم، أو استفاد فائدة وأفاد بها عاميًا، فهو على خير، وهذا هو المقصود من الطلب كما سيأتي.
الأمر الثاني: إذ ورث النبي ﷺ ونال شيئًا من ميراث المصطفى ﷺ؛ فينبغي له أن لا يحرص على جمع الدنيا وتوريثها، فالأنبياء لا يُورثون، فليحرص طالب العلم على ألا تكون الدنيا غاية همه، وإنما يُحصل منها ما يُغنيه عن الناس، ويكف وجهه. وهذه مسألة مهمة، والناس يتفاوتون فيها بين إفراط وتفريط، ولكن طالب العلم يأخذ من الدنيا البُلغة التي يحتاجها، ولا يحرص على جمع المال، فإن المال مُشغل ومُلهٍ، وصدق ربنا -عز وجل- إذ قال: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾.
فإذا كثر المال عند الإنسان ألهاه وأشغله عن أعظم الأمور وأهمها، وهي طلب العلم، والمقصود أنَّ الإنسان يجتهد في النية الصادقة في طلبه للعلم كما سيأتي في الإخلاص، ويفعل الأسباب التي بها يستعين بربه -سبحانه وبحمده- ويجاهد نفسه، ويرتب وقته، ويستشعر دائما وأبدا أنه في طريق الجنة، وكلما استشعر هذا المعنى، كلما استرد نشاطه، وزال عنه ضعفه وفتوره.
نسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا وإياكم جميعًا العلم النافع، والعمل الصالح، والدعوة إليه.
{أحسن الله إليكم.
شيخنا في حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- والذي ذكرتموه، قال النبي ﷺ: «من سلك طريقا يلتمس فيه علمً» ما هو حد الالتماس الذي يبلغ به الإنسان طريق الجنة؟ هل هناك حد؟}
أولا: أنا كنت أشرت إلى أن الطريق طريقان: حسي، ومعنوي، والحسي معروف، والمعنوي حتى لو كنت جالسًا في بيتك وفي غرفتك، تقرأ وتبحث وتتدبر، فأنت في الطريق. والطريق المعنوي عظيم ولا شك، والإنسان عندما يلتمس شيئًا؛ كأنه يلتمس ضالة له، كأنه يبحث عن شيء هو حريص على البحث عنه، فهو يلتمسه ويحرص أن يجده، والتماسه هنا إشارة إلى أنه يطلب العلم بتؤدة، «يلتمس فيه علمً» فهو لا يندفع في طلبه، بل يلتمسه شيئا فشيئا، ويطلبه بالرفق، مستعينا بالله، سائرًا على النهج السليم، والطريق القويم.
ولا تنسوا يا إخواني أن تسألوا الله ربكم دائمًا الثبات على هذا الطريق، فالنبي ﷺ ضمَّ ابن عباس إليه، وقال: «اللهم فقهه في الدين وعلمه الكتاب»، وفي رواية في الصحيح: «وعلمه الحكمة»، وفي رواية ثالثة في الصحيح أيضًا: «وعلمه التأويل» فيحسن بالواحد منا يا إخوان أن يدعو بهذه الدعوات، "اللهم فقهني في الدين، وعلمني الكتاب والحكمة والتأويل"، وليكثر من ﴿رَبِّ زِدْنِي عِلْمً﴾، فإن الله -عز وجل- لم يأمر نبيه بالتزود من شيء في القرآن كله إلا من العلم، ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمً﴾ فيدعو ربه دائمًا ويقول: "رَبِّ زِدْنِي عِلْمً"، وفي الدعاء المأثور أيضًا، «اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني -وفي رواية- وارزقني علمًا ينفعني»، فمثل هذه الأدعية يحسن أن يدعو بها طالب العلم؛ لعل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقه، وأن يعينه، وأن يثبته على هذا الطريق، فالطريق عظيم، وإذا كان الطريق عظيمًا، فينبغي أن يكون -لا أقول الثمن؛ لأن هذا الطريق ليس له ثمن- ولكن السبب، فلا بد من أن تكون الأسباب كبيرة.
وفق الله الجميع للخير، وسدد خطاهم على الحق، وألهمنا وإياهم الرشاد.
{بارك الله فيكم شيخنا المبارك، وفتح الله لكم فتحًا مبينًا، وزادكم من فضله، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يوفقنا وإياكم وجميع المستمعين الكرام لطلب العلم النافع، والعمل الصالح.
أحسن الله إليكم مشاهدينا الكرام، والشكر موصول لكم على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بإذن الله تبارك وتعالى- في اللقاءات القادمة، لكتاب (آداب العالم والمتعلم) للإمام النووي -رحمه الله-، والذي نتناوله في هذا المقرر -بإذن الله تبارك وتعالى-.
ونلتقي بكم -بإذن الله تعالى- في حلقات قادمة، ونستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------------
[1] أخرجه أبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وأحمد (21715).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك