الدرس الخامس
فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله المعيوف
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته، ومن تبعهم بإحسان، مرحبًا بطلاب العلم حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات.
نُرحب بكم في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلم) والذي نتناول كتاب (آداب العالم والمتعلم) للإمام النووي -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا ويصطحبنا بشرحهِ فضيلة الشيخ محمد بن عبد الله المعيوف، باسمي وباسمكم جميعًا نُرحب بشيخنا المبارك}.
حياكم الله شيخ محمد.
حياك الله يا شيخ معاذ، وحيا الله الإخوة جميعًا، وفقنا الله وإياكم للعلم النافع، والعمل الصالح، والدعوة إليه.
{آمين؛ الله يحسن إليكم.
شيخنا كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند باب (أقسام العلم الشرعي)، نستأذنكم في البدء بالقراءة}.
نعم، تفضل ابدأ على بركة الله.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ تَعْلِيمُ أَوْلَادِهِمْ الصِّغَارِ مَا سَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيُعَلِّمُهُ الْوَلِيُّ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَنَحْوَهَا وَيُعَرِّفُهُ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَشَبَهِهَا: وَيُعَرِّفُهُ أَنَّ بِالْبُلُوغِ يَدْخُلُ فِي التَّكْلِيفِ وَيُعَرِّفُهُ مَا يَبْلُغُ بِهِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل لهم ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا وارزقنًا علمًا ينفعنا.
هذا الفصل عَقده الإمام النووي -رحمه الله تعالى- ليُبين فيه دور الأبوين في تنشئة الأولاد وتربيتهم، وكأنه -رحمه الله- يُشير إلى أنَّ أول معلم للإنسان ووالداه: أبوه وأمه، وأنه يلزمهما أن يُعلما أولادهما ما يحتاجان إليه في مُقتبل العمر.
وتعليم الأولاد الأقرب أنه مُتعين، واجب يلزم الوالدين تعليم الأولاد، وأمرهما أيضًا بالعبادات، حتى وإن لم تكن العبادات واجبةً عليهم -يعني الأولاد- قال ﷺ: «مُرُوا أبنائكم بالصلاةِ وهم أبناءُ سبعِ سِنِينَ، واضرِبوهم عليها بعشرِ، وفَرِّقُوا بينهم في المضاجعِ»[1].
والأمر هنا كما هو مقرر في علم الأصول يدل على الوجوب، فيجب على الوالدين أن يأمراهم بالصلاة وإن لم تجب.
وقد يقول القائل: إذا كانت الصلاة غير واجبة فما معنى أن يجب على الوالدين تعليمهما؟ بل يجب على الوالدين أن يعلموا أولادهم وإن كانت الصلاة غير واجبة عليهم؛ حتى يألفوها، ويتعودوا عليها، ويربوا عليها، فإنَّ الصغير كالغصن الرطب توجههُ وتميله حيثما تريد، حتى إذا شب واشتد وحاولت أن تثنيه ربما لا تستطيع، وربما لو حاولت ذلك كسرته، كما قيل:
إِنَّ الغُصونُ إِذا عدلتها اِعتَدَلَت ... وَلا يَلينُ اِذا كانت من الخَشب
ولهذا أمر النبي ﷺ بأمرهم وهم لا يزالون صغارًا ولم تجب عليهم الصلاة، وكان السلف يربون أولادهم على الصيام وهم صغار، حتى إذا أحسوا بالجوع وربما يبكي أحدهم، يُعطونهم لُعبًا من العهن، فيربونهم وهم صغار حتى ينشئوا عليها وهم كبار.
وقديمًا قيل: "لاعب ولدك سبعًا، وأدبه سبعًا، وصاحبه سبعًا، وبعدها اترك له الحبل على الغارب"، فبين السابعة والرابع عشر هذا هو وقت التوجيه والتنشئة، والغرس والتربية، فيربيه كما قلت آنفًا على الصلاة، يُربيه على الصيام، يُخبره بالواجبات، وبحقوق الوالدين، وبصلة الأرحام، فيخبره عن المحرمات، أيضًا تحريم السرقة، وتحريم الفواحش، وما أشبه غير ذلك، فيُعلمه هذه الأمور، ويرغبه في الخير ويقربه منه، ويحذره من الشر، وينهاه عنه.
وفي وصايا لقمان الحكيم درسٌ أو عبرة، فإنه وصى ولدهُ بوصايا عديدة، وهي وإن كانت لولدهِ إلا أنها للناس أجمعين، وهي منهجٌ أيضًا يسير عليه الآباء مع الأبناء.
قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه:132]، وقال -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم:6]، وقال ﷺ في حديث عبد الله بن عمر المخرج في الصحيحين وغيرهما: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»[2].
فليست المسئولية يا إخواني أن نوفر لهم الطعام والشراب واللباس، ولكن تربية قلوبهم أهم وأولى وأعظم من تربية أبدأنهم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (الْقِسْمُ الثَّانِي: فَرْضُ الْكِفَايَةِ، وَهُوَ تَحْصِيلُ مَا لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهُ فِي إقَامَةِ دِينِهِمْ مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، كَحِفْظِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ وَعُلُومِهِمَا، وَالْأُصُولِ، وَالْفِقْهِ، وَالنَّحْوِ، وَاللُّغَةِ، وَالتَّصْرِيفِ، وَمَعْرِفَةِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْخِلَافِ.
وَأَمَّا مَا لَيْسَ عِلْمًا شَرْعِيًّا وَيُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي قِوَامِ أَمْرِ الدُّنْيَا، كَالطِّبِّ، وَالْحِسَابِ، فَفَرْضُ كِفَايَةٍ، أَيْضًا نَصَّ عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ)}.
لا يزال يتحدث الإمام النووي -رحمه الله- عن حُكم العلم، فبعد أن تحدث عن القسم الأول، وهو العلم الذي يكون فرض عين على كل أحد، وهو العلم الذي لا يسع أحدًا الجهلُ به، كمعرفة التوحيد والعقيدة النقية السليمة، ومعرفة الصلاة والصيام، والزكاة، والحج، وأركان الإسلام، وأركان الإيمان، وأركان الإحسان المذكورة في أسئلة جبريل على محمدٍ ﷺ في الحديث الجليل العظيم الذي يُمثل منهجًا في العلم وفي العمل.
بعد أن ذكر المؤلف النوع الأول، انتقل إلى القسم الثاني وهو (فَرْضُ الْكِفَايَةِ) وقد سبقت الإشارة إلى الفرق بين فرض العين وفرض الكفاية، وفرض الكفاية هو الذي إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقيين، أو يقال: هو الذي يُنظر فيه إلى العمل، وأمَّا فرض العين فيُنظر فيه إلى العامل.
وهو كما ذكر النووي -رحمه الله- أن تحصيله ما لابد منه للأمة في قوامِ دينها، وذكر أمثلةً لفروض الكفاية: كحفظ كتاب الله -عز وجل-، وحفظ السنن، ومعرفة العلوم الأخر، وعلوم الآلة المساعدة، كعلم النحو، وهو مهم جدًا، وعليه مدار العلوم جميعها؛ حتى إنَّ حافظ كتاب الله وقارئه يحتاج إلى علم النحو حتى يَسلم من اللحن في كتاب الله، وكان العلماءُ منذ القدم يعتنون بهذا العلم عنايةً فائقة.
قال ابن الوردي -رحمه الله-:
جَمِّلِ المَنطِقَ بالنَّحو فمنْ ... يُحرَمِ الإعرابَ في النُّطقِ اختبلْ
لكن يعرف من هذا العلم مفاتيحه وأصوله والأشياء التي يحتاج إليها في كلامه، وكذلك يَعرف ما يتعلق برواة الأحاديث، بمواطن الإجماع والخلاف وما أشبه ذلك، وكل هذه من فروض الكفاية.
وقد أشار -رحمه الله تعالى- إلى أن فرض الكفاية فيه ميزةٌ على فرض العين، ليس معناه أنه أفضل من فرض العين، لا، بل فرض العين أفضل منه، ولكن ميزته أنَّ الشخص الذي يقوم به ينوب مناب الأمة كلها، فإذا قام به من يكفي، سقط الإثم عن الباقين، ولكن فرض العين -لا شك- أنه أعظم الأمور وأهمها، قال تعالى في الحديث القدسي -حديث أبي هريرة المخرج عند البخاري-: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ»[3]، الحديث.
المقصود: أنَّ فرض العين هو الأحب إلى الله، وهو الأعظم والأهم، ولكن فرض الكفاية -لا شك- مهمٌ، وفيه هذه الميزة التي أشار إليها -رحمه الله تعالى-.
وذكر أيضًا أنَّ هناك علومًا أُخر يحتاج إليها وهي غايةٌ في الأهمية، كالطب، والهندسة، وما جدَّ في هذا الزمان من معرفةِ الحواسب وما يتعلق بها، وأشياء تحتاج الأمة إليها حاجةً ملحةً، فاعتبرها أيضًا من قبيل فروض الكفاية، وأنه لابد للأمة أن يقوموا بها، وإذا قصروا بها فإنهم يأثمون جميعًا.
ذكر أيضًا -رحمه الله- في آخر هذا المبحث تعلم الصناعة والحِرف والمهن، والتي تحتاج إليها جميع المجتمعات، كالنجارة، وحرفة البناء، والصناعة، وما أشبه ذلك، فهذه أيضًا أمورٌ لها قِوام كما ذكر -رحمه الله- في صدر هذا الباب للبلادِ وللأمة، فيكون تعلمها فرض كفاية.
وعليه: فمن تعلم هذه العلوم، الطب، والهندسة، والحساب، تَعلمها بقصد كفاية الأمة، فإنه يكون مأجورًا بهذه النية، إذا هو نوى هذا الأمر، والأمة حقيقةً أحوج ما تكون إلى هذه العلوم؛ حتى تلحق بركب الأمم التي تخطتها وتعدتها في هذا المجال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (الْقِسْمُ الثَّالِثُ: النَّفَلُ وَهُوَ كَالتَّبَحُّرِ فِي أُصُولِ الْأَدِلَّةِ وَالْإِمْعَانِ فِيمَا وَرَاءَ الْقَدْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ، وَكَتَعَلُّمِ الْعَامِّيِّ نَوَافِلَ الْعِبَادَاتِ لِغَرَضِ الْعَمَلِ، لَا مَا يَقُومُ بِهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ تَمْيِيزِ الْفَرْضِ مِنْ النَّفْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي حَقِّهِمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ)}.
(الْقِسْمُ الثَّالِثُ) من العلوم ما كان تعلمه نفلٌ، والنفل هو الزيادة، وهو "التبحر" كما يقال في أصول الأدلة، والنظر فيما وراء ما يحصل به فرض الكفاية، يعني: حصل فرض الكفايةِ، فما زاد على فرض الكفاية يكون تعلمه نفلًا، ولابد للأمة أيضًا من أن يكون فيها أناسٌ يتعمقون في العلوم، ويكون لهم غوصٌ في دقائقها، وأن لا يقتصروا بمجرد الكفاية فقط، بل يَطلعون على ما وراء ذلك.
{قال -رحمه الله-: (فَصْلٌ حكمُ الْعُلُومِ الْخَارِجَةِ عَنْ العلوم الشرعية، وقَدْ ذَكَرْنَا أَقْسَامَ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ: وَمِنْ الْعُلُومِ الْخَارِجَةِ عَنْهُ مَا هو محرم أو مكروه أو مباح: فَالْمُحَرَّمُ كَتَعَلُّمِ السِّحْرِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَفِيهِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ فِي الْجِنَايَاتِ، حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وكالفلسفة والشعبذة والتنجيم وعلوم الطبائعين، وكل ما كان سببًا لإثارة الشُّكُوكِ وَيَتَفَاوَتُ فِي التَّحْرِيمِ، وَالْمَكْرُوهِ كَأَشْعَارِ الْمُوَلَّدِينَ الَّتِي فِيهَا الْغَزْلُ وَالْبَطَالَةُ، وَالْمُبَاحُ كَأَشْعَارِ الْمُوَلَّدِينَ التي ليس فيها سُخف ولا شيء مِمَّا يُكْرَهُ، وَلَا مَا يُنَشِّطُ إلَى الشَّرِّ، ولا ما يثبط عن الخير، ولا مَا يَحُثُّ عَلَى خَيْرٍ أَوْ يُسْتَعَانُ بِهِ عليه)}.
ذكر هنا القسم الرابع، وذلك بعد أن ذكر فرض العين، وفرض الكفاية، والنفل، فذكر ما هو محرمٌ من هذه العلوم، وذكر منها السحر، قال تعالى: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ [البقرة:102]، فدلَّ على أنَّ تعلم السحر محرمٌ، أي: السحر المتعلق بالشياطين تعلمه كفر بنص كلام اللهِ -عز وجل-.
كذلك تعلم العلوم المثيرة للشكوك وللشبهات، هذه أيضًا النظر فيها وتعلمها قد يكون فيه ضرر على مستوى الفرد، بل وعلى مستوى المجتمع كاملًا، كما ذكر هنا الشعوذة والفلسفة، وما أشبه ذلك، من الأمور التي النظر فيها قد يكون مُؤذيًا، وقد لا يكون فيه كبير فائدةٍ، وما يكون فيه إضاعة وقت.
يقول شيخ الإسلام: "كُنْت أَعْلَمُ أَنَّ الْمَنْطِقَ الْيُونَانِيَّ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الذَّكِيُّ وَلَا يفهمه الْبَلِيدُ"، فليس ثمة حاجةٌ لإشغال العقول وإشغال الأذهان بمثل هذه العلوم.
وذكر أشياء قد يكون تعلمها مكروهًا، كالنظر في شعر الْمُوَلَّدِينَ، الذي فيه الغزلُ والتشبيه بالنساء، وقد يصل أحيانًا إلى درجة التحريم إن أدى إلى إثارة الغرائز أو كان غزلًا فاحشًا، فلا ينبغي للإنسان أن يُشغل نفسه بمثل هذه الأشياء، وإن كان عنده ميلٌ للأدب وحفظ شيء من الشعر فلا بأس بهذا.
ولكن عمومًا يشغل نفسه بما هو أنفع وأجدى، وفي الحديث قال ﷺ: «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ له مِن أنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا»[4]، ولهذا عَصَمَ الله محمدًا ﷺ من معرفة الشعر أو حِفظه، قال تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِين﴾ [يس:69]، ولكن ما كان منه مُباحًا فلا بأس به، لكن لا يأخذ من وقتهِ ولا من جهدهِ النصيب الأوفر، بل يكون جهدهُ ووقتهُ مُنصبًا على كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ، والعلوم النافعة.
{أحسن الله إليكم.
قال –رحمه الله-: (فَصْلٌ حكم التعليم والإفتاء: تَعْلِيمُ الطَّالِبِين)}.
هذا سيذكره يا شيخ معاذ أيضًا في فصل آخر وهو قصير حتى ما أطال فيه؛ لأنه سيذكره في آداب المعلم بعد ذلك، لو تنتقل اللي بعده.
{قال -رحمه الله-: (آداب المعلم هذا الباب واسع جدا وَقَدْ جَمَعْتُ فِيهِ نَفَائِسَ كَثِيرَةً لَا يَحْتَمِلُ هَذَا الْكِتَابُ عُشْرَهَا فَأَذْكُرُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى نُبَذًا مِنْهُ، فَمِنْ آدَابِهِ أَدَبُهُ فِي نَفْسِهِ وَذَلِكَ فِي أُمُورٍ)}.
هو يتكلم هنا عن أدب المعلم، وكأنه يرسل رسالة إلى طالب العلم، أنك اليوم متعلم وغدًا لابد أن تكون مُعلمًا، هذا الأمر الذي جرى وصارت عليه الأمة لقرون قبل ظهور التعليم الحديث، وإنما حُفظ العلم بهذه الطريقة، يتعلم الطلاب ثم يخلفون مشايخهم فيعلمون من بعدهم، امتثالًا لقول ربنا -عز وجل-: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران:79]، فجمعوا الأمرين: الدراسة وتعليم الكتاب، ولقوله ﷺ في حديث أبي موسى -وكنت أشرت على إخواني أن يحفظوه، وهو حديثٌ مخرجُ في الصحيحين-، أن النبي ﷺ قال: «فَذلكَ مَثَلُ مَن فَقُهَ في دِينِ اللَّهِ، ونَفَعَهُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ به فَعَلِمَ وعَلَّمَ»[5].
وإذا أصبح معلمًا فما الآداب المرعية؟ وما الصفات التي ينبغي له أن يتحلى بها؟
ذكر النووي -رحمه الله تعالى- وهو الخبير بهذا الباب، وهو كان عالما مُعلمًا -رحمه الله تعالى، وأجزل له المثوبة والعطاء-، وقد خلَّف النووي وراءه علمًا، لا يزال سائرًا ومنتشرًا في كل مكان، وأثرى المكتبة أيضًا بكثيرٍ من التصانيف التي هي غايةٌ في التحقيق، فذكر جملةً من الآداب التي تتعلق بالمعلم، أشياء تتعلق به في نفسه، وأشياء تتعلق به في درسه، وفي علاقاته بطلابه، والذين اعتبرهم النووي بمثابة أولاده.
فمن الآداب التي تتعلق بالمعلم في نفسه، وهي جملة من الآداب.
أعطنا فضلا يا شيخ معاذ منها أدبًا أدبًا.
{قال -رحمه الله-: (مِنْهَا أَنْ يَقْصِدَ بِتَعْلِيمِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى)}.
النووي -رحمه الله- يذهب ويرجع إليه، وهي قضيةٌ كبرى وعظيمة يا إخوان، قد تكلم عنها فيما تقدم، وأورد النصوص الدالة عليها، ولا عجب أن يُكثر من الكلام عليها، وجاء ذكرها في كتاب الله كثيرًا لِمَا لها من أهمية؛ ولأنها الركن الركين لصلاح أي عمل، فإنَّ العمل كما سبق أن ذُكر لا يتم ولا يصح إلا بشرطين، وهما:
· الإخلاص لله.
· والمتابعة لرسوله ﷺ.
والإخلاص كما ذكره هنا بمعناه اليسير السهل، أن يبتغي بعمله وعلمه وجه الله -عز وجل، وأدلة الإخلاص مشهورة: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة:5]، ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ [الزمر:2]، والأحاديث في هذا مشهورةٌ أيضًا، وأشهرها حديث عمر: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوى»[6]، وحديث أيضًا سبقت الإشارة إليه وهو حديثٌ عظيم حقيقةٌ يجعله طالب العلم بين عينيه، قال ﷺ: «مَنْ طلب علْمًا ممَّا يُبْتَغى به وَجْهُ الله لا يَتَعلَّمُه إلا لِيُصِيبَ به عَرَضًا من الدنيا، لمْ يَجِدْ عَرْفَ الجنة غيرها»[7]، وهذا وعيد وتحذير شديد لمن ابتغى بعلمهِ الدنيا، ولم يقصد به وجه الله -عز وجل-.
والواجب استحضار هذا الأمر، واستحضار النية الصادقة في طلب العلم.
وأُذكر بما قلت أيضًا من قول الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "العلم لا يعدله شيءٌ لمن صحت نيته، قالوا كيف ذلك؟ قال: ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره"، هذا مقصده، وتلك غايته، أن يزيل الجهل عن نفسه، ويزيل الجهل عن غيره، وهذا نهجُ ورثة الأنبياء، «وإنَّ العُلَمَاءَ ورثةُ الأَنْبيَاءِ، وَإِنَّ الأَنبياءَ لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما رَّثُوا العِلمَ، فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ»[8].
{الثالث: (وَمِنْهَا أَنْ يَتَخَلَّقَ بِالْمَحَاسِنِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا وَحَثَّ عَلَيْهَا وَالْخِلَالِ الْحَمِيدَةِ وَالشِّيَمِ الْمُرْضِيَةِ الَّتِي أَرْشَدَ إلَيْهَا مِنْ التَّزَهُّدِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِفَوَاتِهَا وَالسَّخَاءِ وَالْجُودِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ إلَى حَدِّ الخلاعة والحلم والصبر والتنزه عن دنيء الِاكْتِسَابِ وَمُلَازَمَةِ الْوَرَعِ وَالْخُشُوعِ وَالسَّكِينَةِ)}.
ذكر جملةً من الأخلاق العالية التي يتأكد على طالب العلم أن يتحلى بها، وقدوتنا في ذلك رسول الله ﷺ، وقد قال عنه ربه وهو الذي أدبه واصطفاه واختاره، قال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:4].
سُئلت عائشة -رضي الله عنها- قد جاءها رجلٌ من بلدٍ بعيد يسألها عن أمور، يسألها عن قيام الليل، وقد جاء من قبل لابن عباس يسأله عن قيام الليل، فقال له: سَل أعلم الناس به، يريد بذلك عائشة -رضي الله عنها- قال: فأتيت عائشة، ودخلت عليها ومعي حكيم بن أفلح، فقالت: هذا حكيمٌ فمن الآخر، قلت: سعد بن هشام، قالت ابن من؟ قلت: ابن عمار، فترحمت على جدي عمار، وكان استشهد في غزوة أُحد -رضي الله عنه وأرضاه- فسألها مسائله، وسألها أول ما سألها عن خُلق رسول الله ﷺ. قالت: «كان خُلُقُه القُرآنَ»[9]، قال: فَهَمَمتُ أَلَّا أسألها عن شيءٍ بعده؛ لأنها أجابته إجابة عظيمة، وبينت له أنَّ أخلاق محمدٌ ﷺ تتمثل في هذا القرآن، فتخلق بما في كتاب الله -عز وجل- كي تشبه به -صلوات ربي وسلامه عليه-.
ثم سألها بعد ذلك عن جملة من المسائل، كان ﷺ دائم البشر، كان كثير الابتسام، كان مُتحليًا بكل الصفات الفاضلة، من الصدقِ، والعفاف، والحلم، والكرم، والوفاء، وقل ما شئت، فعدُّهَا لا يعني الحصر في أخلاقه وخُلقه -صلوات ربي وسلامه عليه-.
الخُلق في الشريعة له مكانة عالية؛ حتى قال ﷺ في الرجل يخطب المرأة: «إذا جاءكم من ترضَوْن دينَه وخلقَه»[10]، مما يدل على أهمية الخلق، وأنَّ الإنسان لا يكفي أن يكون منتسبًا إلى الخير فقط، فإذا جاء إلى الخُلق، إذا هو نشازٌ فيه، وخُلقه سيءٌ في طباعه.
نقول: لا ينبغي هذا لمسلمٍ عامةً، فكيف بطالب العلم الذي يُنظر إليه، والناس ينظرون -يا إخواني- إلى طالب العلم، وينظرون إلى أن أعماله التي يقوم بها هي من الشرع.
وكان الشيخ ابن عثيمين يحث طلاب العلم على مُراعاة القيم وتطبيق السنن، ويقول: الناس ينظرون إليكم، ويظنون أن ما تعملونه من الشرع، حتى ولو كان خطأً، فطالب العلم قد يجني جنايةً على شرع الله ودينه، إذا هو خالف فعلهُ وقوله.
والخُلق مكانته كما ذُكر في الإسلام عظيمة، ومنزلته أيضًا رفيعة، قال النبي ﷺ: «كاد حُسنُ الخُلقِ أن يذهب بخيرَيِ الدُّنيا والآخرةِ»، وقال: «أوَّلُ ما يُوضَعُ في مِيزانِ العَبدِ حُسنُ الخُلقِ»، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: «تقوى الله وحُسن الخلق»[11].
ولَمَّا جاءه وفد عبد قيس من شرق الجزيرة العربية، ونزلوا من إبلهم مسرعين وجاءوا للنبي ﷺ، كان معهم رجلٌ ذو أناة، تأخر عنهم وأناخ الإبل وعقلها، وأخرج من متاعه ثوبًا حسنًا ولبسه وجاء إلى النبي ﷺ، فلما رأى النبي ﷺ هيئته قَرَّبَه إليه وأدناه منه، فتحدث النبي ﷺ معهم، وقال: تبايعوني على الإسلام، عنكم وعما وراءكم؟ قالوا: نعم يا رسول الله، فقال هذا الرجل: وهو أشج عبد القيس-رضي الله عنه-، هذا لقبه: يا رسول الله إنك لم تزاول الرجل على شيء أشد من دينه، نبايعك عن أنفسنا، وأمَّا قومنا فنذهب إليهم فندعوهم، فإن أجابوا وإلا قتلناهم، فقال النبي ﷺ: «إنَّ فيك خُلَّتَينِ يُحِبُّهما اللهُ: الحِلْمَ والأَناةَ»[12]، أي: الحلم، وعدم الطيش، وعدم العجلة، وعدم الغضب، والتأني أيضًا، فهما خصلتان يحبهما الله، وهذا دليلٌ على أن الله تعالى يحب من الناس محاسن الأخلاق، قال الأشج: « فَقَالَ: أَخُلُقَيْنِ جُبِلْتُ عَلَيْهِمَا أَمِ تَخَلَّقْتُ بِهِمَا؟ فَقَالَ: "بَلْ جُبِلْتَ عَلَيْهِمَا"، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى مَا يُحِبُّ»[13]، وهذا يعني أنَّ هذا الخلق غريزة بالنسبة له وجبلة، أي: طبيعة طُبع عليها، وولدت معه هذه الغرائز، وهذه الغرائز إذا كانت في الإنسان ما يحتاج إلى تكلف، ولا إلى تصنع، ولا إلى مجاهدة للنفس، ولكن هل هذا يعني أن من لم تكن معه طبيعةً وغريزةً أنه لا يستطيعها؟
أبدًا، بل يستطيعها يا إخوان، ولهذا قال الأشج: «جُبِلْتُ عَلَيْهِمَا أَمِ تَخَلَّقْتُ بِهِمَا؟»، دليل على أن الإنسان يتخلق بالأخلاق الفاضلة، لكن مع مجاهدةٍ للنفس، ولهذا قال ﷺ: «ليسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ»، يملك نفسه مع أنه يغضب، ولكنه عندما يغضب يملك نفسه عند الغضب.
ولا نقول -يا إخوان- كما يقول كثير من الناس: أنا لا أستطيع، أنا هكذا، أنا سريع الغضب، أنا ابتليت بالعجلة بكذا وبكذا.. نقول: يا أخي جاهد نفسك، فالأسد وهو الحيوان الكاسر المعروف في شراسته وقوته، يُروض حتى يصبح كالكبش، فإذا كان الحيوان المفترس يروض، أما يستطيع الإنسان أن يُروض نفسه؟!
لا ريب أنه يستطيع ذلك، ولكن الأمر يحتاج إلى مجاهدةٍ للنفس.
{قال -رحمه الله-: (وَمِنْهَا الْحَذَرُ مِنْ الْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَالْإِعْجَابِ وَاحْتِقَارِ النَّاس)}.
هذه صفات أربعة ذكرها -رحمه الله-، وهي صفاتٌ دنيئة رديئة، ولا قوة إلا بالله.
أولها: الحسد وهو تمني زوال النعمة عن الغير، فيرى نعمةً على إخوانه، ويتمنى أن تزول هذه النعمة. وأمَّا إن تمنى مثلها فلا بأس بذلك، وهذا من الغبطة، وإن كان الشارع الحكيم يحث الناس على ألا يتغابطوا إلا على معالي الأمور ومهماتها، وأمَّا توافه الدنيا فلا ينبغي التغابط فيها؛ ولهذا قال ﷺ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَينِ: رجلٌ آتاه الله مالًا، فهو ينفقُه آناءَ الليلِ وأطراف النهارِ، ورجلٌ آتاه اللهُ الحكمة فهو يقضي بها بين الناس»، وفي روايةٍ أخرى: «رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ القُرْآنَ، فَهو يَتْلُوهُ آناءَ اللَّيْلِ، وآناءَ النَّهار».
دلَّ على أنَّ هذه المعالي والأمور الكبار هي التي ينبغي أن يَغبط الناس بعضهم بعضًا فيها، وأمَّا أن يغبطه لعمارته أو سيارته أو تجارته أو ما أشبه ذلك، فتلك أمورٌ ما تستحق أن يُغبط الإنسان فيها، والله المستعان.
والحسد لا شك مرض -ولا قوة إلا بالله- في القلوب، والإنسان يتعوذ بالله منه، ويسأل الله تعالى أن يُبعده عنه ويعافيه منه.
{قال -رحمه الله-: (الْحَذَرُ مِنْ الْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ)}.
الرياء ضد الإخلاص مباشرةً، ومعناه أن العبد لا يبتغي بعمله وجه الله، وإنما يبتغي بعمله أوجه الناس، ولا قوة إلا بالله، وإذا أمعن الإنسان النظر، وفكر بين أن يتقرب إلى ربه بعمل، وبين أن يتقرب إلى الناس، فيؤثر التقرب للناس على تقربه إلى الله -عز وجل-، ولهذا كان الرياء من صفات المنافقين، كما قال -عز وجل-: ﴿وإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء:142]، والنصوص في ذمه وذم أهله وتحذيرهم منه مشهورةٌ ومعروفة، والإنسان قد يضعف في بعض الأحيان، فالإنسان غير معصوم، وإذا كان النبي ﷺ خافه على صفوة الأمة وخيارها، خافه على أصحابه -رضي الله عنهم وأرضاهم-، فغيرهم أولى أن يُخشى عليهم؛ حتى قال ﷺ: «إنَّ أخْوَفَ ما أخافُ عليكم الشِّركُ الأصْغَرُ» فسئل عنه فقال: «الرِّياءُ؛ يقولُ اللهُ -عزَّ وجلَّ- لهم يومَ القِيامةِ إذا جُزِيَ الناسُ بأعمالِهم: اذْهَبوا إلى الذين كنتُم تُراؤون في الدُّنيا، فانظُروا هل تَجِدون عِندَهُم جزاءً؟!»[14].
وهذه الطريقة في التخلص منه، وعلاجه: أنك تنظر إلى هؤلاء الذين ترائيهم: هل ينفعونك أو يضرونك؟ أبدًا، لا نفع ولا ضر بهم منهم، ولا فائدة في كلامهم إذا تكلموا بشيءٍ من المديح، وما أشبه ذلك.
فالواجب على الإنسان أن يرائي ربه لا أن يرائي الناس، وأن يتقرب إلى ربه مخلصًا العبادة والنية له سبحانه وبحمده.
{قال رحمه الله: (وَالْإِعْجَابِ)}.
الإعجاب بالنفس، الإعجاب بالعمل، عندما يعمل الإنسان عملًا صالحًا يأتيه الشيطان، وهذا من مداخل الشيطان على الإنسان، فلا تظنوا أنَّ الإنسان إذا استقام، وطلب العلم، وتمسك بشعائر الله، أنه قد سلم من الشيطان، لا، بل الشيطان قاعدُ له في طرقه، ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف:17].
جاء اليهودي إلى ابن عباس، فقال: إن الشيطان يأتيكم في صلاتكم، أما نحن فلا يأتينا! قال: وماذا يفعل اللص في البيت الخرب؟! اللصوص لا يأتون البيوت الخربة، بل يأتون إلى البيوت التي فيها الأموال، والشيطان لا يأتي إنسانًا -لا حول ولا قوة إلا بالله- نكس على عقبيه، بل حينما يأتي إلى إنسان يقتنصه ويحاول أن يَغويه فيأتيه من هذا الباب، ويوقعه بالعجب بالعمل، عملت كذا، وعملت كذا، وعملت كذا، فجحد الإنسان من هذا الأمر.
ولذا يحاول -الإنسان- قدر الإمكان إخفاء أعماله، حتى يَسلم له إخلاصه، ويبتعد عن الرياء، ويبتعد أيضًا عن العجب، قال الشيخ حافظ الحكمي -رحمه الله-:
وَالعُجْبَ فَاحْذَرْهُ إِنَّ العُجْبَ مُجْتَرِفٌ ... أَعْمَالَ صَاحِبِهِ فِي سَيْلِهِ العَرِمِ
أي: كالسيل العرم الذي يدمر، وكذلك العُجب يقضي على عمل الإنسان.
وذكر -رحمه الله- هنا طريقةً فائقةً في التخلص من هذا العجب، فحقيقة تأتي هذه الأمور، وقد يقذف بها الشيطان -كما سيأتي- في رَوع الإنسان، أو في رُوع الإنسان، يقذف بها في روعه، فكيف يتخلص منها؟
يتخلص منها إذا هو استحضر واستشعر أنَّ ما به من شيءٍ، وما قام به من عملٍ، وما حازه من علمٍ إنما هو نعمةٌ من الله -عز وجل-، فالواجب عليه حيال هذه النعمة أن يشكر الله عليها.
فهل الشاكر ربه يُعجب بنفسه؟ لا يمكن أبدًا.
إذا استحضر أنَّ ما فتحه الله عليه مما حاول الشيطان أن يُدخل إلى نفسه فيه العجب أن هذا من الله وليس مني، لا أملكه، ولا أملك دوامه، إنما هو مِنةٌ من الله -عز وجل- أن دخلت في هذا الطريق وأن استمر عليه، فيورثه ذلك شكرًا لله -عز وجل-، وعرفانًا لنعمته، واعترافًا بتقصيره، وفقره إلى ربه سبحانه وبحمده.
أيضًا الإيمان بالقضاء والقدر يا إخوان، الإنسان إذا استشعر أنَّ ما حَصَّلَهُ من علم وعمل وخير، كله قد كُتب له في اللوح المحفوظ، وجاءه بأمرِ كوني من الله -عز وجل-.
إذًا ما دوري في هذا؟
دوري في هذا أن أشكر الله على ما حصل، لا أعجب بنفسي، ولَمَّا ذكر الله -سبحانه وتعالى- ما يحصل للناس في قوله -عز وجل-: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد:22]، قال بعدها: ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ [الحديد:23]، فلا تفرح فَرَحَ بَطَرٍ وأشر وعُجب وتعالي. لماذا؟ لأن هذا الأمر من الله، قسمه وقضاءه وقدره لك، فالواجب عليك لا أن تُعجب بنفسك وإنما تشكر ربك.
وأيضًا الاحتقار -عياذًا بالله- من الصفات الذميمة، ولهذا ذكروا من صفات أهل العلم أن الواحد منهم لا يحسد من هو أعلى منه، ولا يحتقر من هو أدنى منه، فلا يحسد من فوقه من أهل العلم، ممن فوقه ويتقدمه علمًا، ولا يحتقر من دونه، والاحتقار صفةٌ ذميمة يُبتلى بها الإنسان ولا قوة إلا بالله.
قال الله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ﴾ [الحجرات:11]، إلى أن قال: ﴿بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ﴾ [الحجرات:11]، فَعَدَّ ذلك فسقًا ولا قوة إلا بالله.
ثم عسى هذا المحتقر أن يكون خيًرا ممن احتقره، عسى أن يكون أذكى منه قلبًا، أحسن منه دينًا واستقامةً وخلقًا، فإذا هو يسخر بإنسانٍ هو خيرٌ منه، وأن ينظر إلى المعيار العظيم الذي لا يوجد في الدنيا برمتها إلا في هذا الدين العظيم، معيار التفاضل، وميزان التفاضل بين الناس، والذي ذكره ربنا بعد أن ذكر الأصول التي ينتمي إليها في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى﴾ [الحجرات:13] هذا الأصل.
الناس كلهم من قبيلة آدم وحواء، كلهم يرجعون إلى أصل واحد، إن افتخر أحدٌ بالأصل فالأصل واحد، ثم قال: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات:13] إنما جعلكم الله قبائل حتى يعرف بعضكم بعضًا؛ لأجل المعرفة لا أقل ولا أكثر.
ثم قال بعدها: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:13]، فالأكرم هو الأتقى، فلا يجوز أن يحقر أحدٌ أحدًا؛ حتى قال ﷺ: «بحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلِمَ»، بعدها قال: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، قالوا: بحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ» يكفيه من الشر احتقاره لإخوانه المسلمين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمِنْهَا اسْتِعْمَالُهُ أَحَادِيثَ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ وَسَائِرِ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّاتِ)}.
يأمر الناس بشيء وهو لا يمتثل، لا، بل يكون قدوة فيما يأمر به، حتى لا ينطبق عليه قول ربنا: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾ [البقرة:44]، وقال الله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف2-3]، فيكون له أوراد من التسبيح والتهليل والأذكار والأدعية، والعبادات التي هو أحوج ما يكون إليها.
وكنت قد قلت لكم -يا إخواني-: من سلك هذا الطريق الذي يلتمس فيه العلم مبتغيًا الوصول إلى الجنة -نسأل الله الجنة وإياكم جميعًا من أهلها- فليكثر من أدعية الثبات والتوفيق والهدى والسداد، وزيادة العلم، كقوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه:114].
وذُكر لكم أيضًا في مناسبةٍ مضت: أن الله تعالى لم يأمر محمدًا ﷺ أن يتزود من شيء إلا من العلم ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه:114]، والمقصود هنا بالعلم العلم النافع الذي ينتفع به صاحبه، وكان ذُكر لكم أنَّ العلم ثلاثة:
· علم نافع ينتفع به صاحبه.
· وعلمٌ نافع لا ينتفع به صاحبه ولا قوة إلا بالله، فيكون حجةً عليه يوم القيامة.
· وعلمٌ ضارُ كما ذكر -رحمه الله تعالى- في العلوم المحرمة.
يكون له أوراد من هذه العبادات الجليلة، وِرد من كتاب الله -عز وجل-، لابد في كل يوم أن يكون له وِردٌ من محفوظه من كتاب الله -عز وجل-، وأقول محفوظه؛ لأنه يتأكد على طالب العلم أن يحفظ كتاب الله، إن لم يحفظ احفظه كله، يحفظ ما تيسر منه، إن لم يكن لديه حفظٌ يكن له وِردٌ من التلاوة في كتاب الله -عز وجل-؛ حتى يطفئ ظمأ قلبه؛ فالقلب أحوج ما يكون إلى كتاب الله، فإن اللسان يقرأ، والأذن تسمع، والقلب يستقبل؛ لأن القلب يستقبل كل ما يمر على العين واللسان.
الواجب على الإنسان أن يلطف بقلبه ويلاحظه ويراعيه؛ حتى لا تكثر الواردات عليه من المذهلات والمشكلات، ويرد عليه أكثر ما يرد من العلم النافع من تلاوةِ وذكرٍ وتسبيحٍ وتهليلٍ وما أشبه ذلك.
{قال -رحمه الله-: (وَمِنْهَا دَوَامُ مُرَاقَبَتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي عَلَانِيَتِهِ وَسِرِّهِ مُحَافِظًا عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَوَافِلِ الصلوات والصوم وغيرهما)}.
ذكر -رحمه الله- جملة من الأشياء العظيمة الجليلة الكبيرة، ومنها: مراقبة الله -عز وجل-، ولعله أشير إلى هذه فيما تقدم، أنَّ الإنسان يتأكد عليه أن يراقب الله، ويستشعر قول ربه: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الشعراء217-220]، فهو يرى مكانك، ويسمع كلامك، ويعلم سرك وإعلانك، فكن مُراقبًا لربك؛ لأنَّ ربك رقيبٌ عليك، كما قال الله -عز وجل-: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1].
ثم أيضًا أعيد ما سبق أن ذكرته، وهو تربية أولادنا وبناتنا من سن الطفولة على مراقبة الله -عز وجل-؛ لأنهم أصبحوا يخلون بأنفسهم، وربما يرون أشياء لا نعلم بها، وربما يسمعون آراء مشبوهاتٍ خطيرة لا نعلم بها، ولا يدري الأب متى يفجأه أولاده ببليةٍ من البلايا، سمعها وعلقت في ذهنه -أي الولد- وهو خالي الذهن.
وعندما ذكر التربية هناك، ذكر أنه يجب عليه أن يربي أولاده، ومن تربيتهم: تنمية مراقبة الله -سبحانه وتعالى-، ولعله ذكر أيضًا قول لقمان لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان:16]، حبة خردل في جوف صخرة قد انطبقت عليها سيأتي بها ربنا -عز وجل-.
أي ربى الأولاد بل والكبار يربون أنفسهم أيضًا، ويجاهدون أنفسهم على مراقبة ربهم، وأن ربهم لطيفٌ خبير، يعلم ما دقَّ وخفى وبالغ في الخفاء، ما تخفى عليه خافية، وألا يكون حال المسلم كحال المنافقين الذين قال الله عنهم: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ﴾ [النساء:108] ولا قوة إلا بالله.
إِذا ما خَلَوتَ الدَهرَ يَوماً فَلا تَقُل ... خَلَوتُ وَلَكِن قُل عَلَيَّ رَقيبُ
وَلا تَحسَبَنَّ اللَهَ يُغفِلُ ساعـــــــةً ... وَلا أَنَّ ما يَخفى عَلَيهِ رقيـب
وذكر الورد من القرآن كما ذُكر منذ قليل، وهذه مسألة كبيرة وعظيمة جدًا أن يكون للإنسان ورد من كتاب الله.
لكن هنا سؤال، ولعله أشير إليه فيما سبق: لماذا سميت قراءة القرآن وردًا؟
تشبيهًا لقارئ القرآن بصاحب الإبل الذي يُورد أو الدواب الذي يورد دوابه على الماء، هو يوردها على الماء لتطفئ ظمأ أجوافها، تشرب ويشرب هو معها، لكنك يا قارئ القرآن ترد على القرآن لتطفئ ظمأ قلبك، قلبك محتاج إلى الشفاء، محتاج إلى الوعظ، محتاج إلى الهدى، محتاج إلى رحمة رب العالمين، وكل هذه وغيرها وأكثر منها في كتاب الله -عز وجل-.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس:57-58].
وأيضًا قال يا شيخ معاذ.
{قال -رحمه الله-: (وَنَوَافِلِ الصلوات والصوم وغيرهما)}.
أيضًا النوافل يا إخوان، يعني: عندما نتكلم عن فضل العلم، وفضلها على العبادة لا يعني أن نتساهل يا إخوان بالعبادة والتهاون بها، والنبي ﷺ شبه العابد بالكوكب، وشبه العالم بالقمر، والنبي ﷺ وصف بالقرآن بأنه السراج المنير: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب:45-46]، والسراج هو الشمس، كما قال -عز وجل-: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ [النبأ10-11]، إلى أن قال: ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾ [النبأ:13].
ولهذا يقول بعض أهل العلم من أهل الهيئة والفلك: إن القمر يستمد نوره من الشمس، فالعالم يستمد علمه من السراج المنير، والبشير النذير -صلوات ربي وسلامه عليه-.
والناس كلهم يحتاجون إلى العالم في عباداتهم، لكن يكون له أيضًا وِرد من العبادة، وكان أكرم الخلق وأشرفهم وأعلمهم يقوم حتى ترم قدماه، فيقال في ذلك: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: «أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»[15] -صلوات الله وسلامه عليه-.
تقول عائشة: «وَكَانَ يصُومُ حتَّى نَقُولَ: لا يُفْطِرُ، ويُفْطِرُ حتَّى نَقُولَ: لا يَصُومُ»[16]، فكان أكثر الناس عملًا واجتهاًدا في طاعة ربه -سبحانه وبحمده-.
بعض الإخوة عندما تأتي المقارنة بين العلم والعبادة، وأن العلم نفعه متعدٍ، والعبادة نفعها قاصر، وتشبيه العابد بالكوكب؛ لأن ضوؤه لا يتجاوزه.. إلى آخره.
قد يظن أنَّ شأن العبادة قليل، لا، العبادة يحتاج لها طالب العلم، يحتاج لها في قلبه؛ لأنها غذاء القلب، فالفكر والدعاء والعبادات غذاءٌ لقلبه، وبها ينشط القلب، وبها ترتاح نفسه، وبها يطمئن قلبه: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:28]، ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ [الحجر:97] ماذا قال بعدها؟ ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ [الحجر:98]، مما يدل على أنَّ التسبيح من أعظم أسباب انشراح الصدر، وطمأنينة القلب والخاطر.
بقي الحقيقة الإشارة إلى يعني فائدة من فوائد النوافل، وهو قول النبي ﷺ عن ربه: «وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ»، هذه أول مسألة وهي مسألة عظيمة وكبيرة، «فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها»[17]، في رواية: «فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَسْعَى»، وهي إشارةُ إلى التوفيق، نسأل الله لنا ولكم التوفيق.
يُوفق في سمعه، في بصره، في مشيه، في عمله، في كل شأنٍ من شؤونه، «وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّه».
إذًا، إذا أكثر من النوافل أحبه الله، ويتفرع عن محبة الله -عز وجل- هذه الأمور العظيمة، التوفيق، والإعانة، والتسديد، وإجابة الدعاء، وفقنا الله وإياكم لكل خير، ورزقنا وإياكم العلم النافع والأعمال الصالحة.
{أحسن الله إليكم شيخنا المفضال، على هذه الكلمات الطيبات النيرات، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلها في موازين حسناتكم، وأن يفتح عليكم فتحًا مبينًا، وأن يزيدكم من فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاءات القادمة، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه البزار (9823) وأبو داود وصححه الألباني.
[2] متفق عليه
[3] رواه البخاري (6502).
[4] رواه البخاري (6154).
[5] أخرجه البخاري (79)، ومسلم (2282).
[6] متفق وعليه
[7] أخرجه أبو داود (3664)، وابن ماجه (252)، وأحمد (8457).
[8] أخرجه أبو داود (3641) واللفظ له، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وأحمد (21715).
[9] أخرجه أحمد (25813) واللفظ له، وأبو يعلى (4862)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (4435) مطولاً.
[10] أخرجه الترمذي وحسنه الألباني.
[11] أخرجه الترمذي (2004) واللفظ له، وابن ماجه (4246)، وأحمد (9085).
[12] أخرجه أبو داود (5225).
[13] أخرجه أبو داود (5225)
[14] أخرجه أحمد (23630) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6831)، والبغوي في ((شرح السنة)) (4135).
[15] أخرجه البخاري (4836)، ومسلم (2819).
[16] رواه البخاري (1969).
[17] رواه البخاري (6502).
سلاسل أخرى للشيخ
-
5297 7
-
21952 9