الدرس الثاني
فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله المعيوف
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان.
مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، نرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نعلق فيه على كتاب (آداب العالم والمتعلم) للإمام النووي- رحمه الله تعالى-، يصطحبنا فيه فضيلة الشيخ/ محمد المعيوف.
باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، حياكم الله يا شيخ محمد}.
حياك الله يا شيخ معاذ، وأهلاً وسهلاً ومرحبًا بك وبالإخوة المتابعين والمشاهدين.
{في اللقاء الماضي قد تقدم الحديث عن مقدمات في طلب العلم، واليوم -بإذن الله تبارك وتعالى- نشرع في غاية طالب العلم من التعلم والتعليم، والمنهج في ذلك}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرا. أما بعد، فعلى طالب العلم كبيرة، ينأى بها بمجرد دخوله في هذا الطريق، وهذه المسؤولية تتمثل في أمرين:
في التعلم أولا، ثم التعليم ثانيًا، أن يضمر هذه النية منذ وضع قدمه في الغرس، وصار في الطريق الطويل الذي يبدأ من حين سلوكه فيه، وينتهي في الجنة كما بين ذلك المصطفى ﷺ، كما ذكرنا في الدرس الماضي في قوله ﷺ: «مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ»[1].
يبدأ أول ما يبدأ بالتعلم، فإذا حصَّل من العلم، وأدرك من هذا الخير العظيم، حَصَلَ منه قدرًا يبدأ بتعليمه الآخرين، وهذه وظيفة جليلة شريفة عظيمة، وهي وظيفة الرسل، وقد ذكرها ربنا -عز وجل- في محكمة تنزيله، وذلك في قوله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [آل عمران:79]، لا يمكن لبشرنا أن يكلفه الله بهذه المهمة العظيمة، ويشرفه بها، وهي النبوة، ثم يدعو الناس إلى عبادته. هذا لا يكون أبدًا.
وهذا فيه رد على من عَبَدَ المسيح -عليه السلام- وجعله إلها مع الله، وردٌ على المشركين الذين قالوا للمصطفى ﷺ: "تريد منا أن نعبدك؟"، فبين الله -عز وجل- أنَّ هؤلاء الأنبياء ليست دعوتهم أبدًا أن يدعوا الناس إلى أنفسهم، ولكنهم يدعون الناس إلى: ﴿وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران:79]، يدعون الناس إلى أن يكونوا ربانيين، والرباني هو من ذكر في الآية، وإنما سمي ربانيا:
إما نسبة إلى الرب -عز وجل- لالتزامه بشرعه، وسلوكه الصراط المستقيم الذي أمره بسلوكه، هذا الصراط المستقيم القائم على العلم والعمل، قال تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة:6-7]، والمغضوب عليهم هم من لديهم علم، ولكن ليس عندهم عمل، ولا الضالين: وهم الذين يعملون ولكن ليس لديهم لا علم، فالرباني هو الذي سلك هذا الطريق الذي يوصله إلى رضا ربه ومغفرته ورحمته.
وإمَّا من التربية؛ لأنَّ مهمتهم تربية أنفسهم أولاً وقبل كل شيء، ثم تربية غيرهم، فهذه وظيفة العالم الرباني، فبين الله تعالى من هو الرباني في قوله: ﴿بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران:79]، فجمعوا الأمرين، وأدركوا الغايتين.
الغاية الأولى: التعلم.
والغاية الثانية: التعليم.
لكننا نلحظ أيها الإخوان أنَّ الله -عز وجل- قدَّم التعليم هنا على التعلم، فقال: ﴿بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾، مع أنَّ المعروف المألوف أن الدراسة والتعلم تكون قبل التعليم، فلماذا قُدِّم التعليم إذًا؟
القاعدة في تقديم ما حقه التأخير، أنه إنما يقدم لأهميته وللعناية به؛ لأنَّ التعليم غاية كبيرة عظيمة من التعلم، فالإنسان ما تعلم ليستأثر بالعلم على نفسه، أو ليقال: إنه عالم، أو ليجني من وراء علمه المكاسب والمغانم، ولكنه تعلَّم العلم ليُعَلِّم، وهذا هو الرباني.
وأيضًا الإشارة إلى أن الإنسان وإن علم فهو لا يزال ولن يزال متعلمًا طيلة حياته، وهذه نقطة مهمة، فلا يظن المعلم أنه إذا بدأ بالتعليم أنه قد حوى العلوم، أبدًا فهو يعلم شيئًا وتفوته أشياء.
فَقُل لِمَن يَدَّعي في العِلمِ فَلسَفَةً ... حَفِظتَ شَيئاً وَغابَت عَنكَ أَشياءُ
فما يزال الإنسان يتعلم طيلة عمره، كما بَيَّنَ النبي ﷺ ذلك في الحديث المتقدم، حديث أبي الدرداء، والذي ذُكِرَ في الدرس الماضي، والذي أؤكد عليكم بضرورة حفظه، فهو عون لكم في هذا الطريق، فما يزال الإنسان يُحَصِّل، جزءٌ من عمره يتعلم، وجزء من عمره يُعَلِّمُ ويتعلم، ما يزال يتعلم، بل وما يزال يستفيد من إخوانه ومن طلابه، فهو قد يستفيد منهم فوائد لم يتوصل إليها ولم يدركها.
هذا العالم الرباني أشار إليه مجاهد بن جبر -رحمه الله تعالى- تلميذ ابن عباس، المفسر الشهير، والعالم الكبير، والذي قال فيه سفيان الثوري: "إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به". قال كلاما لا يخالف هذا المعنى بحال، حيث بَيَّنَ أنَّ الرباني هو الذي يعلم الناس صغار العلم قبل كباره، والمقصود أنه يُعَلِّم، ولكنه عندما يُعَلِّم فإنَّه يُعلم المسائل الصغيرة السهلة التي يحتاج إليها كل الناس، وأمور الشرع يسيرة، والأمور التي يحتاج الناس منها والتي لا يسعهم الجهل فيها قليلة، وإنما كثر الناس بالعلم بمخالفاتهم وتساؤلاتهم، وإلا فالنبي ﷺ عندما جاءه جبريل بين الدين كله في وهو وجيز، وهو حديث لا يخفى، لَمَّا سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، ثم قال بعد ذلك: «هذا جِبْرِيلُ أتاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ»[2]، هذا الدين كله.
ولهذا قال أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه وأرضاه-: العلم نقطة كثَّرها الجاهلون، فالعلم نقطة، يعني: العلم الذي لا يسع الناس الجهل به قليل، لكن الجاهليين بتخطياتهم ومخالفاتهم وتعديهم الحدود، هو الذي جعل العلماء يتكلمون في مسائل، كان لا بد أن يتكلموا عنها لَمَّا طُرحت عليهم وعرضت.
وهذا المعنى أشار إليه النبي ﷺ في حديث، وهو حديث جليل أيضا، أوصيكم بحفظه وتدبره يا إخوان، ولا ينبغي ولا يسع طالب العلم أن يجهله، والحديث مخرج أيضًا في الصحيحين عن أبي موسى -رضي الله عنه وأرضاه- أنَّ النبي ﷺ قال: «مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ به مِنَ الهُدَى والعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصابَ أرْضًا، فَكانَ مِنْها نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الماءَ، فأنْبَتَتِ الكَلَأَ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وكانَتْ مِنْها أجادِبُ، أمْسَكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بها النَّاسَ، فَشَرِبُوا وسَقَوْا وزَرَعُوا، وأَصابَتْ مِنْها طائِفَةً أُخْرَى، إنَّما هي قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذلكَ مَثَلُ مَن فَقُهَ في دِينِ اللَّهِ، ونَفَعَهُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ به فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومَثَلُ مَن لَمْ يَرْفَعْ بذلكَ رَأْسًا، ولَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الذي أُرْسِلْتُ بهِ»[3].
تأملوا -أيها الإخوان- كيف بيّن النبي ﷺ أنَّ هذا العلم يُشبه الغيث، والغيث يأتي إلى الأرض وهي مقحطه مجدبة، فإذا جاءها الغيث أنبتت من كل زهر ونبت، وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في غير ما آية في كتابه، في قوله -عز وجل-: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد:17]
ألم يحن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم للقرآن، وما نزل عليهم من الحق، ولا يتشبه بأهل الكتاب، الذين طال عليهم الأمد، فقست قلوبهم، وكثير منهم فاسقون. يقول عبد الله بن مسعود، وأثره في البخاري: «ما كانَ بيْنَ إسْلَامِنَا وبيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بهذِه الآيَةِ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ إلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ»، فالعتاب للصفوة، وللخيرة، وللسابقين الأولين من المهاجرين -رضي الله عنهم وأرضاهم-، العتاب لهم وهم لَمَّا يزالوا في مكة، ولهم أربع سنوات منذ أسلموا، وعوتبوا بهذا العتاب، فما الظن بنا وبحالنا بعد هذه القرون المتطاولة، والله المستعان.
ثم قال- عز وجل-: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الحديد:17]، وقد يتساءل متسائل ويقول: ما مناسبة ذكر هذه الآية، والكلام فيها عن إحياء الأرض في الآيات السابقة؟
المناسبة -يا إخوان- جلية واضحة بينة لمن تدبر وتأمل، فإنَّ الله -عز وجل- شبه القرآن بالغيث، فالغيث ينزل على الأرض فيحييها، والقرآن ينزل على القلوب فيحييها، كما قال -عز وجل-: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ [الأعراف:58]، فالبلد الطيب هو قلب المؤمن، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم جميعا منهم، والبلد الخبيث هو قلب الفاجر والكافر والمنافق.
نعود إلى الحديث.
قَسَمَ النبي ﷺ الأراضي بالنسبة لهذا الغيث إلى ثلاث أقسام:
القسم الأول: الأرض الطيبة والقلوب طيبة، فالقلوب الطيبة هي التي يأتيها هذا الغيث من كتاب الله تعالى وسنة ﷺ، فتنبت معاني الإيمان، ومعاني الخير، ومعاني الإيقان، تنبت في قلب صاحبها الخير الذي يعمر هذا القلب بما يرضي الرب -سبحانه وبحمده.
فاستوعبت الماء وأنبتت، بمعنى أنهم تعلموا ثم بعد ذلك تعلموا كما يأتي في آخر الحديث.
الطائفة الثانية من الأرض: هي أجادب، تمسك الماء ويبقى فيها، وتبقى فيها المياه مدة، فينتفع الناس بها، فيشربون ويسقون مواشيهم ويزرعون منها، وهذا المثل مَثَلٌ للحفاظ، أي: من يحفظ العلم، ولكن نصيبه من فقهه ومن تعليمه قليل، ولكنه ينقل العلم إلى الآخرين، وينشره بينهم، وهؤلاء لهم حظ ونصيب وافر من الخير، وقد دعا لهم المصطفى ﷺ كما في قوله: «نضَّرَ اللَّهُ امرأً سمِعَ مقالتي، فبلَّغَها، فرُبَّ حاملِ فِقهٍ، غيرُ فَقيهٍ»[4]، وفي رواية: «ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هوَ أفقَهُ»[5] المقصود أنهم حفظوا العلم، فاستفاد الناس منهم، ونقلوا عنهم العلم، وأمَّا الطائفة الأولى فجمعوا بين الحفظ وبين الفقه، بين التعلم وبين التعليم.
وأمَّا الطائفة الثالثة: فهي الطائفة المعرضة الغافلة التي لا خير فيها، وهي كالقيعان من الأرض التي لا تمسك ماء فينتفع به الناس، ولا تنبت كلاً فترعاه مواشيهم، ولهذا قال ﷺ: «فَذلكَ مَثَلُ مَن فَقُهَ في دِينِ اللَّهِ، ونَفَعَهُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ به فَعَلِمَ وعَلَّمَ» مثل للحافظ والفقيه، الذي نفع وانتفع، وتعلم وعلم، وهذه الغاية كما ذكرت.
ومَثَلُ -عياذً بالله- «مَن لَمْ يَرْفَعْ بذلكَ رَأْسًا، ولَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الذي أُرْسِلْتُ بهِ»، أي: من لم يبال بما يسمع من العلم، ولم يُعن الخير، مَثَلُهُ كمثل هذه الأرض، فغاية طالب العلم إذًا -وآثرت أن أقولها في المقدمة يا إخوان، حتى يضمرها الإنسان في نفسه، ويستعين بربه وهو سالك هذا الطريق، الذي يبدأ من المهد إلى اللحد، يسير عليه مستعينا بربه، سائلا منه الإعانة والتوفيق، مضمرا في قرارة نفسه، أنني أتعلم اليوم لأعلم غدًا، أنني أسير على مناهج المرسلين، وطريقة الأنبياء عليهم من الله أتم الصلاة والتسليم، ولهذا قال ﷺ: «إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ وملائِكتَهُ، وأهلَ السمواتِ والأرضِ، حتى النملةَ في جُحْرِها، وحتى الحوتَ، ليُصَلُّونَ على معلِّمِ الناسِ الخيرَ»[6].
ومن تعلم شيئًا ينبغي له أن يعلمه، وليس بالضرورة أن يكون الإنسان عالِمًا أو يكون جاهلاً، وهذه نظرة قد ينظرها بعض الإخوان أنني إن لم أكن عالِمًا فما حصلت شيئًا، فكيف أعلم؟
فرق بين أن تعلم إخوانك أشياء يسيرة وسهلة مما يحتاجونه في دينهم، حَفِظْتَ حديثًا فبلغهم إياه، إن فقهت أية فعلمهم إياها، وليس بالضرورة أن تُلمَّ بالعلوم، وتبلغ فيها مرتبة عالية، فإذا كان لديك علم فعلمه وانقله إلى غيرك، وكان الناس يأتون إلى النبي ﷺ ويمكثون عنده أيامًا، ثم يأمرهم بتعليمهم أقوامهم وأهليهم، يعلمونهم ما علموه من المصطفى ﷺ، وكما قلت لكم: العلم الذي يُحتاج إليه علم سهل ويسير، والمصطفى ﷺ يقول: «بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً»[7].
وهنا كلمة جميلة لبعض السلف، يرسم فيها منهج طلبة العلم مع العلم، يقول فيها: "كُنْ عَالِماً أَوْ مُتَعَلِّماً أَوْ مُسْتَمِعاً أَوْ مُحِبّاً لَهُمْ وَلاَ تَكُنِ اَلْخَامِسَ فَتَهْلِكَ". فـ "كن عالما" هذا مطلب عظيم، من وفق إليه فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وإن لم تكن عالما فكن متعلمًا، كما ورد عن أمير المؤمنين عليٍ -رضي الله عنه- في قوله: "الناسُ ثلاثةٌ: عالمٌ رَبَّانيٌّ، ومتعلِّمٌ على سبيلِ نجاةٍ، وهمَجٌ رَعاعٌ أتباعُ كلِّ ناعقٍ، يميلونَ مع كلِّ ريحٍ، لم يستضيئوا بنورِ العلمِ، ولم يَلْجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ".
فإن لم تكن متعلمًا فكن سامعًا، يعني: ممن يحضر مجالس العلم ويسمع، هؤلاء يستفيدون كثيرًا، وقد أدركنا بعض النماذج منهم، وقد حصلوا واستمعوا واستفادوا خيرا.
إن لم تكن بهذه المثابة، فكن محبًا للعلم وأهله؛ لأننا عندما نتكلم عن العلم إنما نتكلم عن الشريعة بأكملها يا إخوان، بعض الناس قد يفهم أنَّ المراد العلم هو ما يحفظ من المتون فقط، نقول: لا، العلم هو الدين، وعندما يذكر الله -سبحانه وتعالى- العلم في معرض الثناء عليه أو على أهله، فالمراد به من تعلم وانتفع بعلمه، من عَلِمَ وَعَمِلَ بعلمه.
أحيانًا عندما نذكر قول الله -عز وجل- لنبيه ونقول: إن الله لم يأمر نبيه أن يتزود من شيء إلا من العلم، وذلك في قوله: ﴿وَقُل رَبِّ زِدني عِلمًا﴾، المقصود بالعلم هنا: ما يشمل الدين كله، العلم النافع وثمرته، وهي العمل الصالح.
والخلاصة: أنَّ غاية طالب العلم أن يتعلم، وأن يحرص على التعلم، وأن يصبر على التعلم، وأن يعلم أن العلم لا يُستطاع براحة الجسم، ولا يُنال بين عشية وضحاها، وإنما يأتي مع الليالي والأيام، فمن صبر ظَفَرَ وقدرَ ونال مطلوبه وأجر.
وأمَّا من يريد الأمور الكبار بالهمم الصغار والأسباب اليسيرة، مِثْلُ هذا غالبًا لا يُحصِّلُ شيئًا، وربما يقطع عليه الطريق من أوله.
{أحسن الله إليكم.
قد يأتي سؤال وإشكال لدى بعض الطلاب، هل من يطلب شيئًا من العلوم الدنيوية -كعلوم الطب أو العلوم المنتشرة- هل يدخل ذلك في الثواب الذي أعده الله -تبارك وتعالى- لطالب العلم؟}.
العلماء عندما يتكلمون عن العلم، وهذا يأتي في منهج طالب العلم، يتكلمون عن العلم النافع، وما هو العلم النافع؟
الشيخ محمد بن عثيمين له تعريف جميل لهذه المسألة، قال: العلم النافع يشمل كل علم فيه خير للأمة في معاشها ومعادها، يعني: كل علم فيه مصلحة للناس في الدنيا أو في الآخرة فهو علم نافع، ولكن العلوم على كل حال تتفاوت من حيث فضلها وحيث نفعها وحيث ثوابها، ولا ريب أنَّ دراسة الطب أو الهندسة لا سيما أنَّ الأمة محتاجة حاجة ماسة إليها، أنها من العلوم النافعة، والإنسان إذا دخل فيها ينبغي أن يحضر شيئًا يسيرًا يغفل عنه وهو النية الطيبة، أنه إنما دخل لكي ينفع الأمة بأكملها، ولكي ينفع بلده، ولكي ينفع نفسه، فهو ما دخلها لأجل المادة الصرفة فقط، لا، وأنا لا أنكر عليه حاجاته الدنيوية، لكن يُدخِلُ في ضمن هذه الحاجات أُمَّ الحاجات، وأهمها: ابتغاء الأجر والثواب عند -عز وجل- يعني: ما ظنك أنَّ طبيبًا يأتي إلى المستشفى، وفي نيته نفع الناس وعلاجهم، أمثل هذا لا يُثاب؟
لكن ينبغي استحضار النية في مثل هذا العمل، فلهم عند الله ثواب عظيم وأجر كبير، ولا ريب أنَّ العلوم تتفاوت، وأشرفها العلم بالله -عز وجل-، أي: معرفة الله -عز وجل-، ولهذا يقولون كلمة جميلة يا إخوان: "شرف العلم بشرف المعلوم"، ولذا فأشرف العلوم معرفة الله -عز وجل- بأسمائه الحسنى، وبصفاته العلا، وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل، وبين الحكمة والرحمة، فمن عرف الله -عز وجل- بأسمائه وبآياته وبمخلوقاته، ذلك يُرثه يا إخواني العلم الأكبر والأعظم
والأعظم وهو الخشية، أي: خشية ربه، وخشوعه والتذلل بين يديه، والخضوع له سبحانه وبحمده، وهذا العلم هو أشرف العلوم وأعظمها، وهو علم القلوب، ولا شكَّ أنَّ الإنسان إذا وفق إليه كان ذلك فتحًا عظيمًا، وخير عظيمًا، وفضلاً كبيرًا.
{أحسن الله إليكم.
شيخنا لو نأخذ شيئًا عن منهج طالب العلم}.
المنهج ما معناه يا إخوان؟ المنهج في اللغة هو الطريق، كنت أسير مع رجلٍ من العامة، فقال لي: لو صرنا مع هذا المنهج. فقلت: وأنتم تعرفون المنهج؟ المنهج الطريق، ولكن منهجنا هنا يا إخواني هو المنهج إلى الله -عز وجل- وإلى الدار الآخرة، وهو الطريق المستقيم الذي ذكره ربنا بقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ من هم المنعم عليهم؟
هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، ما هو الدليل؟ ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا (69) ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾ [النساء:69-70] اللهم اجعلنا معهم يا أرحم الراحمين.
هذا الصراط المستقيم الذي سلكه هؤلاء المنعم عليهم، وهذا الصراط المستقيم هو المنهج، والمنهج يتمثل في العلم والعمل، أي: في العلم النافع والعمل الصالح، وذلك أنَّ العلم -يا إخواني- ثلاثة أقسام:
الأول: علم نافع ينتفع به صاحبه.
الثاني: علم نافع لا ينتفع به صاحبه عياذ بالله.
الثالث: علم ضار.
وهذه الأقسام كلها ذُكِرَت في كتاب الله -عز وجل-، وما نريده منكم جميعا هو: القسم الأول، أي: أن يحرص الإنسان على العلم النافع وينتفع به أيضًا، ولا يحرص على جمعه وحفظه. ونيله على الشهادات فيه، ثم لا يعمل به أو يخالفه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكما ذكرت منذ قليل، كل موضع أثنى الله تعالى فيه على العلم وأهله يُراد به هذا النوع، مثل قوله -عز وجل-: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾، وفي هذه الآية -يا إخواني- تشريف للعلم، وتشريف لأهله. ما وجه ذلك؟
فيها تزكية أولا، حيث أشهدهم الله على أعلى المطالب، وهو توحيده -سبحانه وبحمده-.
وفيه أيضًا أنهم دخلوا في وصف دخل فيه قبلهم الأنبياء، فقوله: ﴿وَأُولُو الْعِلْمِ﴾ هنا، قد يقول قائل أين الأنبياء؟
نقول: لا شك أنهم في الطليعة وفي المقدمة، فيدخل معهم أهل العلم تبعًا لهم، وهذا لا شك تشريف للعلم وأهله.
ومن مثل قوله -عز وجل-: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة:١١]، فبين الله تعالى أنه يرفع المؤمنين، وبين أنه يرفع الذين أوتوا العلم درجاتٍ فوق درجاتهم، وهذا هو العلم الذي يتعلمه الإنسان وينتفع به.
النوع الثاني: علم ينتمي الإنسان وينتسب إليه ولكنه لا يعمل به، وربما يخالفه -والعياذ بالله- وقد ذكر هذا في القرآن في بعض الآيات، مثل قوله -عز وجل-: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة:5]، فشبهوا بالحمار، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لماذا؟
لأنهم حملوا كتابهم ولكنهم لم يتحملوه عملا واكتفاء وامتثالًا.
وقال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا﴾، أي أنَّ الله منَّ عليه وآتاه آياته، ﴿فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ [الأعراف:175-176]، فقوله: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا﴾ يدل على أنَّ العلم فيه رفعة، ولكن الرجل ما أراد رفعة الدين والعلم، وإنما أراد رفعة الدنيا -عياذً بالله- فأخلد إلى الأرض، أي إلى الدنيا، واتبع هواه، ولهذا شبهه الله تعالى بما شبهه به، فقال: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾ والآيات في هذا معروفة في كتاب الله -عز وجل-.
العلم الثاني في العلم الضار، الذي لا يستفاد منه لا في دين ولا في دنيا، وقد ذكره الله تعالى في مثل قوله -عز وجل-: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ [البقرة:102]، وهذا السحر -عياذً بالله- هذا العلم الضار الذي لا خير فيه، بل هو شر محض.
والمقصود أن العلوم ثلاثة، وأولها هو الذي يُعنى به طالب العلم، ويحرص عليه، وهو العلم النافع الذي ينتفع به، وهذا العلم بالمناسبة -وكان الشيخ معاذ يسأل عن علوم الطب والهندسة وكذا- هذا العلم متاح للجميع، حتى الطبيب يمكنه أن يطلب العلم، وهنا نماذج -ما شاء الله- من الإخوة الأطباء والمهندسين -والله يا إخوان- وضعهم يثلج الصدر، ويفلح طالب العلم أن الخير والحياة في هذه الأمة ما تزال ولن تزال -إن شاء الله- حين تجد رجلا يعمل بالطب، ومع ذلك هو طالب علم، يعلم الناس، ويعطي دروسًا وهو طبيب، أو تجده مهندسًا فتجده متميزا على أقرانه ممن ينتسبون إلى العلم الشرعي، فالمسألة ليست تخصص، مع أنه في علمهم كما ذكر على خير، ولكنهم أبوا إلا أن يأخذوا أيضًا من هذا العلم حظًا وافرًا ونصيبًا؛ لأن هذا العلم علم عظيم.
والإنسان إذا كبر سِنه يا إخوان وهذه إشكالية كبيرة، فمعاذ -رضي الله عنه- لَمَّا حضرته الوفاة وكان شابًا عمره سبعة وثلاثين أو ثمانية وثلاثين سنة بكى، فقالوا: ما يبكيك يا صاحب رسول الله؟ قال: "أبكي على ظمَأِ الهواجر، وقيام ليل الشِّتاء، ومُزاحمة العلماء بالرُّكَب"، يعني: لا نندم من الدنيا على شيء، إلا على سهر الليل في مناجاته -سبحانه وتعالى- وعلى ظمأ الهواجر في الصيام، وعلى مزاحمة ركب العلماء في طلب العلم. هذا الذي يَتأسف عليه معاذ ويبكي عليه -رضي الله عنه وأرضاه-، وهذه لا شك أغلى ما في هذه الدنيا، وأعظم ما فيها؛ لأن كل شيء فان، وإنما يبقى معك الباقيات الصالحات.
بقي إشارة يا إخواني إلى مسائل في العلم:
المسألة الأولى: يُقَسَّم العلماء إلى ثلاثة أقسام، وهذا يحتاج إليه أيضا في المنهج.
الأول: عالم بالله وأمره.
الثاني والثالث لو سألتم أنفسكم لتمكنتم من استنتاجهما.
الأول: عالم بالله وأمره.
الثاني: عالم بالله فقط.
الثالث: عالم بأمره تعالى فقط.
العالم بالله -عز وجل- من هو؟
هو من عرف ربه -كما ذكرت منذ قليل- بأسمائه وصفاته وأفعاله، فأورثه ذلك تذللاً وخشوعًا وخضوعًا وإنابةً ورغبًا ورهبًا وتوكلاً على ربه -سبحانه وبحمده-، فتعلم العلم الذي يُعرفه بربه -سبحانه وبحمده-، ويورثه ذلك يقينًا وإيمانًا ومراقبةً لربه، ورغبة في العلم والمداومة عليه، والحرص عليه.
الثاني: عالم بأمر الله -عز وجل- هو هذا، عالم بالله وعالم بأمره، والمراد بأمره شرعه وأحكام دينه، فهو يتعلم الحلال والحرام وأحكام الشرع، فجمع الله له العِلمين، العلم بالله، والعلم بأمر الله- عز وجل-. وهذه مرتبة عالية -لا شك-، وهي التي نسأل الله -عز وجل- أن يبلغنا وإياكم جميعا إياها، وهي مرتبة كبيرة عظيمة، ومثل هؤلاء الذين يستمرون في العلم، ويداومون عليه؛ لأنَّ الطريق كما ذُكِرَ -يا إخواني- طويل، وفيه معوقات، وفيه أمور تقطع على طالب العلم طريقه، منها: شهوات، وملذات، ودنيا، ومغريات، ولا يخفاكم اليوم كثرتها وعظيم خطرها وضررها، فالثبات على هذا الطريق -لا شك- عظيم، ولكن كلما كان الإنسان أعرف بربه -عز وجل- كلما أعانه ذلك على سلوك هذا الطريق، والاستمرار فيه إلى غايته، وهي الجنة كما قال ﷺ.
الثاني: عالم بالله -عز وجل-، فلديه معرفة بربه -سبحانه وبحمده- وخشية، وتعظيم، وهيبة لربه سبحانه وبحمده، ولكن نصيبه من العلم بحدود الشرع أقل، وهذا نال من العلم قدرًا طيبًا، ولكن لديه -ولا شك- قصور في معرفة الشرع.
الثالث: لديه معرفة بحدود الشرع، وبالحلال والحرام، ولكن تعظيمه لربه أقل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وخشيته وهيبته منه أقل، وربنا يقول: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:28]، والخشية -يا إخواني- غير الخوف، فالخشية لا تكون إلا عن العلم بالمخشي وتعظيمه، ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "أصل العلم خشية الله". فليس العلم كما قلت منذ قليل: نصوص يحفظها الإنسان وفقط، بل نصوص يحفظها من كتاب الله، ومن سنة رسوله، ويفهمها من خلال فهم الصحابة -رضي الله عنهم- والسلف الصالح، ثم يظهر أثرها عليه، ويظهر أثرها على قلبه، وعلى سلوكه، وعلى حياته، وعلى علاقته بربه، وعلى علاقته بنفسه وأهله، وكذلك على علاقته بالآخرين، فيتجلى العلم في كل هذه الأمور، ولهذا لَمَّا أوصى النبي ﷺ معاذ بن جبل وقد بعثه إلى اليمن، قال له: «اتَّقِ اللهَ حيثُما كنتَ، وأتبِعِ السَّيِّئةَ الحسَنةَ تَمْحُهَا، وخالِقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسنٍ»[8].
فالوصية الأولى في صلته بربه.
والوصية الثانية في صلته بنفسه، أنه إذا ارتكب خطأ، وكلكم خطأ كما قال ﷺ: «وأتبِعِ السَّيِّئةَ الحسَنةَ تَمْحُهَا».
والوصية الثالثة: علاقته بالآخرين، «وخالِقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسنٍ».
هذا المنهج الذي يسير عليه طالب العلم في علاقاته مع الله -عز وجل- ومع نفسه، ومع الآخرين.
يسير الإنسان على منهج خير الأمة، وقد أسألكم وإن كنتم لا أسمع جوابًا، من هو خير الأمة؟ الجواب ليس مني -يا إخوان- وليس منكم، ولكنه من رسول الله ﷺ عندما قال في الحديث المخرج في الصحيح، حديث ابن مسعود: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ، يَنْذِرُونَ ولا يَفُونَ، ويَخُونُونَ ولا يُؤْتَمَنُونَ، ويَشْهَدُونَ ولا يُسْتَشْهَدُونَ، ويَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ»[9]، والقرن هنا ليس هو القرن بالمفهوم العام، وهو: "مائة سنة"، وإنما القرن هو: الجيل من الناس، فقرنه ﷺ، أي: هم أصحابه، ثم الذين يلونهم -التابعون- ثم الذين يلونهم -تابعو التابعين-، وهذا ما صلح على تسميته بالقرون المفضلة، وما صلح على تسمية أهله بالسلف الصالح، فإذا أطلق العلماء دائمًا السلف، فمرادهم هذه الأجيال الثلاثة: الصحابة، التابعون، وتابعو التابعين. ولا سبيل إلى زمانهم؛ لأنَّ زمانهم انطوى ومضى وانقضى، ولكن السبيل إلى نهجهم، وإلى طريقتهم متاح وممكن ولله الحمد، وإذا خُيرت يا أخي أن تشرب من مصب النهر أو من منبعه، فلا أظن أنك تؤثر بمنبع النهر، فمنبعه نقي وصاف، فالنقاء والصفاء في العلم، وفي العمل، وفي المنهج، إنما هو ما كان عليه هؤلاء الخيرة -رضي الله عنهم وأرضاهم، ورحمهم، وجعل جنة الفردوس مأوانا ومأواهم جميعًا، ورزقنا اقتفاء آثارهم، والسير على نهجهم
ولهذا يقول عبد الله بن مسعود -هذا العالم الكبير بين علماء، رضي الله عنه وأرضاه-، وقد قال فيه النبي ﷺ: «إنك غلام معلم»، وله كلمات أوصى الإخوان بالنظر فيها، وبحفظها، وبتأملها، كلمات تنبئ عن فقهه وما كان عليه -رضي الله عنه وأرضاه- من العلم والعمل، يقول: "مَن كانَ مُسْتَنًّا، فَلْيَسْتَنَّ بمن قد ماتَ، فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفِتْنَةُ، أولئك أصحابُ محمد ﷺ، كانوا أفضلَ هذه الأمة: أبرَّها قلوبًا، وأعمقَها علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا" هذه صفات ثلاث، قوم اختارهم الله لنصرة دينه "واختارهم الله لصحبة نبيِّه، ولإقامة دِينه، فاعرِفوا لهم فضلَهم، واتبعُوهم على أثرهم، وتمسَّكوا بما استَطَعْتُم من أخلاقِهم وسيَرِهم، فإنهم كانوا على الهُدَى المستقيم"[10].
تسمع من الشباب كثيرا من يقول: نحتاج إلى قدوات! فنقول: يا إخوان شريعتنا كلها قدوات، بداية من أكبر وأعظم القدوات، وهو رسول الله ﷺ، ثم بصحابته، والتابعين، وتابعيهم بإحسان، ثم بأئمة الإسلام الأعلام -علماؤه الذين هم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، رحمهم الله ورضي عنهم-.
قال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:21]، فقدوتنا الأكبر رسول الله ﷺ، فلا نقول ما عندنا قدوات. هذه الكلمة ترد على ألسنة بعض الإخوة من باب محبتهم، يقولون: نحتاج إلى قدوات وكذا وكذا وكذا، وأخشى على من يقولها أن يوقع الشيطان في نفسه الاعتداد بالنفس، يعني كأني أنا لا أجد من هو في مستواي لأقتدي به ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وللنفس حيل ومكر، وللشيطان خداع يخدع به الإنسان، ولدينا قدوتنا الكبرى رسول الله ﷺ، ولدينا الصحابة، ولهذا قال ابن مسعود: "مَن كانَ مُسْتَنًّا، فَلْيَسْتَنَّ بمن قد ماتَ، فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفِتْنَةُ"، وكأنه يقول: إياك أن تقتدي بالحي، لإنَّ الحي لا تؤمن عليه الفتنة، ولا يقدر أن يمنع عن نفسه البلاء.
إبراهيم -عليه السلام- وهو إمام الحنفاء، يقول: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم:35]، يعني يعرفون ربهم ويعرفون أنفسهم، ولا يأمن الواحد منهم على نفسه يا إخوان، وإنما يأمن على نفسه المعجب بها، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فنقتدي بأصحاب محمد ﷺ في هذه الصفات الثلاث التي ذكرناها، وهي:
كانوا أبر الناس قلوبًا.
أطهر الناس قلوبًا، أي أن قلوبهم نقية، ونفوس تقية، وأعمقهم علما، ولم يقل: أكثرهم علمً، والعلماء يقررون أنَّ علم الصحابة -رضي الله عنهم- لم يكن كثيرًا، ولا كان كلامهم كثيرًا، ولهذا قال ابن مسعود ذاته: "إنَّكم في زمانٍ كثيرٌ فقَهاؤُهُ قليلٌ خطباؤُهُ، إنَّكم في زمانٍ كثيرٌ فقَهاؤُهُ قليلٌ خطباؤُهُ"؛ لأنَّ الإنسان إذا قلَّ فقهه كَثُرَ كلامه، وأمَّا إذا كثر فقهه؛ فإن كلامه يعبر عن الكلام الطويل والمعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة، كما قال ﷺ: في الحديث المخرج في الصحيح:
«إنَّ طولَ صلاةِ الرجلِ وقِصَرَ خُطبتِه مَئِنَّةٌ من فقهِه»[11]، والكلام هنا عن خطبة الجمعة، وكون خطبة الجمعة قصيرة ووافية وبليغة، لا يستطيعها كل إنسان، ويستطيعها كل من فتح الله عليه، ووفقه ورزقه، فقهًا في دينه، وأقلهم تكلفًا، فليس عندم تنطع، وليس عندهم تضييق على النفوس، وبينهم رسول الله ﷺ.
وإذا حصل من بعضهم ما يحصل من ميل النفوس إلى التضيق؛ فزعوا إلى رسول الله ﷺ، فرسم لهم المنهج، حتى قال ربنا: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ [الحجرات:7]، اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
قد يقول قائل الآن: طيب الرسول مات الآن، فنقول: حتى وإن مات ﷺ فعلمه باق، أي لا يزال علمه باقيًا ولله الحمد والمنة موجودًا، والكتاب الذي نزل عليه بين أيدينا غض لم يخرم منه حرف واحد، فقال سبحانه في أول آية في البقرة: ﴿الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 1-2].
وكذلك السنة التي تكلم بها ونطق بها، حفظتها الأمة، وعملوا فيها أعمالاً لا توجد في أ] أمة من الأمم، فهذبوها ونقحوها، وتكلموا على رواتها، وبينوا ما هو الصحيح فيها، وما هو الضعيف، وما هو الموضوع، وما هو المردود.
فهذا هو المنهج يا إخوان، برٌ في القلوب، عمق في العلم، عدم تكلف. هذا منهج أصحاب محمدٍ ﷺ، ورضي عنهم، وهذا الذي ينبغي أن نكون عليه، وهذا منهج التابعين وتابعيهم بإحسان.
العناية بالعلم التاسع والانتفاع به كما ذُكِر، والرجوع إلى الأصلين، كتاب الله، وسنة رسوله ﷺ، والاسترشاد بكلام أئمة الإسلام، وعلمائه الأعلام في فهم كتاب الله تعالى، وسنة رسوله ﷺ.
فيسير الإنسان على هذا المنهج القويم، وهذا الصراط المستقيم، لعل الله -سبحانه وتعالى- أن ينظمنا الله -عز وجل- وإياكم في سلكهم، فننهج منهجهم، ونسير على طريقتهم، وتبلغ حيث بلغ القوم، فإنهم ما يلغوه -يا إخوان- بالتشاغل في الدنيا وحطامها، ولا بالميل إلى الأهواء واتباعها، وإنما بلغهم الله –عز وجل- بأسباب، فهم أخلصوا النية لربهم، وجَدُّوا واجتهدوا في طلب غايتهم؛ فنالوا غاية الدنيا، ولعل الله أن يبلغهم غاية الآخرة، وهي دخولهم الجنة، وأن ينظمنا في سلكهم، وأن يحشرنا معهم.
{آمين، آمين. أحسن الله إليكم شيخنا المبارك، رضي الله عنكم، وفتح لكم فتحًا مبينًا، ونحن تناولنا في هذه الحلقة المباركة مع شيخنا المبارك: غاية طالب العلم في التعلم والتعليم والمنهج في ذلك، فجزى الله شيخنا على هذه الكلمات النيرات المباركات الطيبات، ونسأل الله -تبارك وتعالى- بأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
نلتقي -بإذن الله تبارك وتعالى- في حلقة قادمة، نستودعكم الله مشاهدينا الكرام، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-----------------------
[1] أخرجه أبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وأحمد (21715)
[2] رواه مسلم (8).
[3] أخرجه البخاري (79)، ومسلم (2282)
[4] صحيح ابن ماجه.
[5] خرجه أبو داود (3660)، والترمذي (2656).
[6] أخرجه الترمذي (2685)، والطبراني (8/278).
[7] رواه البخاري (3461).
[8] صحيح الترغيب.
[9] رواه البخاري (6695).
[10] رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2/947ـ رقم 1810)، وفي إسناده ضعف، إلا أنه أثر مشهور متداول في مصنفات أهل السنة، ومعناه صحيح مستقر عندهم.
[11] رواه مسلم (869).
سلاسل أخرى للشيخ
-
5297 7
-
21952 9