الدرس السابع
فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله المعيوف
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلَّى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان، مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نرحب بكم في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نتناول فيه كتاب (آداب العالم والمتعلم)، للإمام النووي -رحمه الله تبارك وتعالى- يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ/ محمد بن عبد الله المعيوف، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك.
حياكم الله يا شيخ محمد}
حياك الله يا شيخ معاذ، وحيا الله الإخوة جميعًا، وفقنا الله جميعًا للخير، وسدد خطاكم جميعًا، وبلغنا وإياكم ما نَصبوا إليه في الدنيا والآخرة.
{آمين، جزاكم الله عنا خير الجزاء، وأحسن الله إليكم.
شيخنا في اللقاء الماضي توقفنا عند باب (آداب المتعلم)، نبدأ على بركة الله؟}.
تفضل.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
قال الشيخ -رحمه الله-: (بَابُ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ أَمَّا آدَابُهُ فِي نَفْسِهِ ودرسه فكآداب المعلم: وقد أرضحناها وَيَنْبَغِي أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبَهُ مِنْ الْأَدْنَاسِ لِيَصْلُحَ لقبول الْعِلْمِ وَحِفْظِهِ وَاسْتِثْمَارِهِ: فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّه ِﷺ أنه قال: «إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ القلب»[1]، وقالوا: تطييب القلب للعلم كتطيب الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ.
ثانيها: وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ الْعَلَائِقَ الشَّاغِلَةَ عَنْ كَمَالِ الِاجْتِهَادِ فِي التَّحْصِيلِ وَيَرْضَى بِالْيَسِيرِ مِنْ الْقُوتِ وَيَصْبِرَ عَلَى ضِيقِ الْعَيْشِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَطْلُبُ أَحَدٌ هَذَا الْعِلْمَ بِالْمُلْكِ وَعِزِّ النَّفْسِ فَيَفْلَحَ، وَلَكِنْ مَنْ طَلَبَهُ بِذُلِّ النَّفْسِ وَضِيقِ الْعَيْشِ وَخِدْمَةِ الْعُلَمَاءِ أَفْلَحَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا وارزقنا علمًا ينفعنا، اللهم إنا نسألك البصيرة في الدين، والإخلاص في القول والعمل. أما بعد، فيتحدث الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في هذا الباب عن آداب المتعلم، فبعد أن تحدث عن آداب المعلم في نفسهِ وفي درسهِ، انتقل إلى الحديث عن المتعلم، والمتعلم هدفٌ كبير من أهداف هذه العملية، فهو يُعد نفسهُ إلى أن يتعلم ليُعلم غدًا، والمعلم يعده أيضًا ليخلفه في هذا المكان؛ وحتى تستمر هذه العملية، ويتعلم الناس ويُعلم بعضهم بعضًا؛ ليبقى هذا العلم موجودًا، فيُحفظ به الدين، ويُذب به عن الدين، وتأمن فيه الأمة من المزالق، والمهالك، ومن الفتن.
وذكر -رحمه الله تعالى- من آدابه وأموره التي يتأكد عليه أن يهتم بها (تطهير قلبه)، إذْ القلب هو الوعاء وعاء العلم، قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت:49]، فصدرُ طالب العلم وقلبه وذهنه وعقله هو وعاء العلم، فمادام أن يكون هذا الوعاء نقيًا صافيًا طاهرًا، فلا حاجة أن يتعلم ولا قوة إلا بالله، وقد يكون ما يتعلمه وبالًا عليه وحجةً عليه.
أشار -رحمه الله تعالى- إلى حديث النعمان بن بشير، قال النبي ﷺ في آخره: «إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ القلب»، فصلاح الجسد وصلاح الحال وصلاح المآل والوطن بصلاح هذه المضغة، قال -عز وجل-: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ [الأعراف:58]، وهذا مثلٌ ضربه الله -عز وجل- لقلب المؤمن، فقلب المؤمن كالبلد الطيب الذي يخرج نباته بإذن ربه، وقلب المؤمن يخرج منه العلم النافع والخير والنفع الذي ينتفع به وينفع به الغير، وأما قلب الفاجر والكافر -لا قوة إلا بالله- فهو كالبلد الخبيث، ولهذا قال -عز وجل-: ﴿وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ [الأعراف:58].
الأمر الثاني الذي ينبغي أن يتحلى به: أن ينقطع عن كثيرٍ من العلائق والمشاغل، إذْ العلم أو الشغل الشاغل، والعلم يحتاج إلى جهدٍ جهيد، وإلى عناء وسهر، وأن يكون هذا العلم ديدنه وغايته طيلة حياته يتعلم، ويُحصل، ويقرأ، ويستفيد، وينتفع، يبتعد عن المشكلات، فإن المشكلات لا تُشغل جسدهُ فقط، بل تشغل قلبه وذهنه وفكره، يُقلل ما أمكن من المشاغل، ولهذا قال ربنا في آيةٍ لعلها ذُكرت مرارًا: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا﴾ [الحجر:87-88].
فَأَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا بِهِ أَغْنَاه، وَنَهَاهُ أَن تمدن عَيْنُهُ إِلَى الدُّنْيَا وشؤونها وحطامها، فإنه إذا امتدت العين إلى الدنيا شُغل القلب عن القرآن، وشُغل عن العلم، ولهذا قال بعض السلف: "لا يشغلنا عن القرآن والتشاغل بالحطامِ في قلب المؤمن، يُرتب وقته، ويعطي كل ذي حق حقه، ليس معناه أنه ينقطع عن كل أمور الدنيا وأعمالها، بل يعطي كل ذي حقٍ حقه، ولكن يجعل زهرة وقتهِ للتحصيل، والاستفادة، والقراءة، والنظر، والبحث.
من الفوائد أيضًا: ألا يستكثر من شئون الدنيا وأغراضها وملذاتها، بل يكتفي منها بما يكفي ويكتفي منها باليسير، فإنه إذا شُغل بالدنيا أصبحت الكماليات عنده أساسيات، وأصبح مشغولًا بها وبجمعها وبالعمل من أجلها، وشُغل عن هذا الأمر الكبير والأمر العظيم، لا شك فالأمور في هذا الزمان توسعت والناس أصبحت عاداتهم كثيرة، لكن الموفق من يسعين بربهِ في ترتيب وقتهِ والتعامل مع وضعه، ما نستطيع أن ننكر واقع الناس، ولكن يسعين الإنسان بربهِ وينظر في أوقاتهِ، ويجاهد نفسهُ بتحصيل العلم ما أمكنه إلى ذلك السبيل.
أيضًا من الأمور التي يحرص عليها "التواضع" يكون متواضًعا فما ينال العلم كما قيل مستحٍ ولا متكبر، ولهذا عرف النبي ﷺ الكِبر بأنه «بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاسِ»، بطر الحقِ: يعني ردهُ ورفضه وعدم قبوله، وغمط الناس يعني ازدراءهم واحتقارهم، فلا يجوز بحال أن يكون طالب العلم متكبرًا إلا ما قَبِل حقًا، ولا قال بحقٍ، ولا دعا إلى حقٍ، ولا علّم حقًا، ولا نظر إلى الناس نظرة الحريص عليهم وعلى تعليمهم وهداياتهم واستقامتهم.
قال الخليل أحمد -رحمه الله-: "الجهل منزلةٌ بين الحياء وبين الأنفة"، الجهل المنزلة بين الحياء وبين الأنفة، فذلك الإنسان يستحي لا يسأل ولا يتعلم ولا يواجه الآخرين، وربما يستحي من السؤال يكون في خاطره، وإذا كان متكبرًا كما ذُكر فلا ولن يكون طالب علم، ولا يصلح أبدًا أن يكون طالب علم.
ثم يحرص أيضًا على ملازمة شيخهِ، والقراءة عليه، وأن يكون الشيخ كما ذُكر في صفاته السابقة ذا ديانةٍ وصيانةٍ وورع، فيحرص طالب العلم على أن يكون الشيخ بهذه المثابة؛ حتى يكون قدوةً له.
الغالبُ أنَّ التلميذ يقتدي بأستاذه، فإذا كان أهلاً للاقتداء استفاد منه في حياته، كما استفاد منه في تعليمهِ، أما إذا لم يكن بهذه المثابة فربما يتأثر به وربما يضره، ولهذا يتأكد عليه أن يُحسن اختيار من يقرأ عليه، فابتعدوا عن أصحاب الأهواء وأهل البدع، ومن لا يحرصون على استقامتهم وديانتهم وصيانتهم؛ لأن الغالب أن من يتصدى لهذا الأمر إلى التعليم، الغالب أنه في حال استقامة، لكن يحرص الإنسان -لا شك- على شيخٍ يقتدي به، ويستفيد منه، ويتعلم منه.
أيضًا من آدابهِ: احترامه لمشايخه ومعرفة مكانتهم وقدرهم، وأن لا يُكثر الكلام في مجالس العلم، ويحسن الجلسة حتى وهو في درسهِ، ويذب عن أعراضهم إذا سمع أحدًا يتكلم عنهم، فبعد أن يختار من يُناسب من المشايخ يعرف لهؤلاء مكانتهم وقدرهم، لكن أن نؤكد على الاختيار كما أكد عليه الأئمة -رحمهم الله-، قال ابن سيرين، وكذا قال مالك: "إنَّ هذا العلم دينٌ، فانظروا عمن تأخذون دينكم".
من الصفات التي يتأكد على طالب العلم أن يتحلى بها: "الحلم، والأناة، والتريث"، فإنه إذا كانت العَجلة مذمومةً في كل الأمور، فإنها لا شك في العلم أكثر ضررًا وأعظم خطرًا، فإن طالب العلم إذا كان مُستعجلاً ربما يتسرع في حُكمه على الأمور، أو في فهمه لبعض المسائل، لكن إذا كان متأنيًا وذا حلمٍ وتريث لا شك كان أصلح لحاله، وأحسن لاستفادته واستفادة الآخرين منه، وحديث الأشج لا يخفى ولعله ذُكر لَمَّا قاله النبي ﷺ: «إنَّ فيك خَصلتينِ يُحِبُّهما الله: الحِلمُ، والأناة»[2]، منها التأني في الطلب بحيث لا يستعجل.
وذلك أن طالب العلم المبتدئ والشاب بصفةٍ خاصة، يأتي إلى هذا الباب، ويظن أنه بإمكانه أن يُحصل من العلوم الشيء الكثير في الزمن القصير، كونه ليس عنده دراية بهذا الأمر ولا خبرة، ولهذا كان العلماء -رحمهم الله- يؤدبون تلامذتهم ويوجهونهم الوجهة الصحيحة، يقول الزهري لتلميذه يونس بن يزيد -رحمهم الله تعالى أجمعين-: "يا يونس لا تكابر العلم"، وفي رواية: "لا تكاثر العلم، فإنَّ العلْمَ أَوْدِيَةٌ فأيّهاَ أَخذْتَ فيهِ قطَعَ بِكَ قَبلَ أنْ تبْلُغَهُ، ولا ترمه جُمْلةً، فَإنَّ منْ رَامَه جملة تركه جملة، ولكن مع الليالي والأيام".
أيضًا في تعلمه يكون مُبادرًا، لا ينتظر حتى يُطلب منه هذا الأمر أو هذا الشأن، بل يكون مبادرًا وحريصًا بنفسه ومن نفسه على ما ينفعه وما يُفيده من العلم، ويبدأ في تعلمهِ بالأهم فالأهم، فهناك أهم وأهم وهناك مهم والعلم بعضها أهم من بعض، يبدأ أول ما يبدأ بكتاب الله -عز وجل- يقرأه ويحفظه، قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت:49]، لابد أن يكون كتاب الله في صدره، وكان السلف -رحمهم الله- لا يقرئون أحدًا الحديث والعلم حتى يحفظ كتاب الله -عز وجل-.
وأدركنا هذا في مشايخنا -يرحمهم الله تعالى- فإنهم كانوا يشترطون على طالب العلم أول ما يبتدئ أن يكون حافظًا لكتاب الله -عز وجل-، وهذا أثر كثيرًا في طلاب العلم ورأيناهم يحفظون كتاب الله -عز وجل-.
{أحسن الله إليكم.
الآن شيخنا قد تثار مسألة عند كثير من الناس إذا تعارض عنده أو أراد أيهما يقدم على الآخر: إما أن يقدم طلب العلم أو يقدم حفظ القرآن؟ فهذه المسألة يتنازع فيها كثير من طلاب العلم خصوصًا المبتدئين، فأنتم تفضلتم من كلامكم أنه ينبغي الإنسان أن يبدأ بكتاب الله تبارك وتعالى، طيب لو أراد إنسان أن يُقدم العلوم الأخرى مثلًا ويأخذ معها القرآن، هل يصح هذا؟}
أولاً: قراءة كتاب الله هي طلب العلم الأكبر، ولهذا قال ربنا في الآية الآنفة الذكر: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت:49]، وقال -عز وجل-: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [آل عمران:164]، فقراءة كتاب الله القراءة الشرعية الصحيحة، هي أن تقرأ لفظهُ، أن تفقه معناه، وأن تعمل به.
وإذا جمع الإنسان هذه الخصال الثلاث، وهذه المحاسن الثلاث، فلا شك أنه سيجد من العلم الخير الكثير، قال مسروق بن الأجدع -رحمه الله-: "ما سألنا أصحاب محمدٍ ﷺ عن شيء، إلا وهو في كتاب الله، إلا أنَّ عِلْمنا قَصَرَ عنه"، يعني: كوننا نعتني بحفظ كتاب الله وحفظ الألفاظ، ونترك فقه المعاني، والمعاني هي الغايات. فالعلماء يقررون أنَّ الألفاظ وسائل، وأنَّ المعاني غايات.
والذي ينبغي لطالب العلم أن يحفظ كتاب الله، وأن يفقه معناه، واليوم والحمد لله تيسرت الأمور، وكتب التفسير الميسرة السهلة، والتي ينبغي للحافظ أن يبدأ بها موجودة ولله الحمد وميسرة، فليحرص الإنسان على أن يحفظ ما تيسر من كتاب الله، وأن يفقه معناه.
فإذا أكمل حفظ كتاب الله بفهمٍ فسوف يكون عنده علمٌ كثير وبتدبر، ثم ينتقل بعده إلى علم السنة، وقراءة وحفظ ما تيسر من أحاديث رسول الله ﷺ، ثم يهتم بالعقيدة والتوحيد لا شك، ويقرأ فيها ما يُفيده، ويفيد به غيره، والناس في العقيدة محتاجون إلى طلاب العلم، إلى توجيههم وإرشادهم، ثم يقرأ بعد ذلك ما تيسر من علوم الآلة.
ولكن يُلاحظ أنَّ الكثيرين يهتمون بعلوم الآلة في البداية، فتراه يبدأ بالنحو، والأصول، ومصطلح الحديث، وما أشبه ذلك، وهذه علوم عظيمة لا نُقلل من شأنها، ولكننا نتحدث عن أمورٍ أعظم منها، والبداءة تكون بالأهم.
يبغي لطالب العلم أن تكون همته عالية، وألا تكون نفسه ضعيفة، وقد أشرت في مناسبة إلى أنه ينبغي أن نقرأ سير السلف -رحمهم الله- لا سيما في تاريخ ابن كثير -رحمه الله-، فإنه يكتب بقلمه، ويكتب من فؤاده، ترى نبرات كلماته -ولا أقول صوته- فلكلماته نبرات مؤثرة، وكذلك الذهبي مؤرخ الإسلام -رحمه الله-، واقرأوا سير أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين ومن تابعهم، فإن الإنسان إذا قرأ هذه السير يعرف قدر الرجال، ويعرف قدره، ويعرف أنه لابد أن يبذل جهدًا، ولعله أن يقلدهم ويحاكيهم، ولعل الله أن يبلغه إلى شيءٍ مما بلغوه، وقرأوه.
عندما تقرأ سيرهم تجد أن جُلهم مات في منتصف العمر، بعضهم مات في الأربعينيات، فهذا النووي -رحمه الله- توفي قبل أن يبلغ الخمسين، وانظروا إلى ما أَلف وما دوّن وما كتب، فأوقاتهم كانت مباركة، وجهودهم كانت عظيمة.
لكن قراءة هذه الكتب -لا شك- أنها تقوي همة الإنسان، يقول عليٌّ -رضي الله عنه- فيما ينسب إليه:
إِذا أَظمَأتَكَ أَكُفُّ الرِجالِ ... كَفَتكَ القَناعَةُ شبعاً وَريّا
فَكُن رَجُلاً رِجلُهُ في الثَرى ... وَهامَةُ هِمَّتِهِ في الثُرَيّا
تكون الهمة عالية، والنفس عالية.
وَإِذا كانَتِ النُفوسُ كِباراً .... تَعِبَت في مُرادِها الأَجسامُ.
حَصَرَ أبو الوفاء ابن عقيل –رحمه الله- عمامته، ولم يكن كان كبيرًا في السن، فبدى شيبه، فقيل له في ذلك، فقال:
ما شابَ عزمي ولا حَزمي ولا خُلُقي ... ولا وَلائي ولا دِيني ولا كَرَمي
وإنّما اعتاضَ شَعري غيرَ صِبغتِه والشَّيبُ ... في الرأسِ غير الشيب في الهِمَمِ
الرأس يشيب، والشعر يشيب، ولكنَّ الهمة ما ينبغي أن تشيب يا إخوان.
أيضًا كما ذُكر يا إخوان: ينبغي أن يكون للإنسان ورِدٌ من الدعاء خاص بالعلم، يعني: أدعية، فالإنسان يدعو ربه في أمور كثيرة، ولكن وهو طالب علم ينبغي أن يكون في أدعيته نصيبٌ من هذا المجال.
من مثل الأدعية الوردة عن النبي ﷺ، ولن أجد أكمل ولا أحسن ولا أوفى ولا أوفر من أدعية المصطفى من جوامع الكلم -عليه الصلاة والسلام- ومن أدعيته، بل من دعائه الذي أمره الله تعالى به، وأمره أن يتزود منه ولم يأمره أن يتزود من غيره، قوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه:114].
فيكثر الإنسان من قول: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه:114]، من قوله ﷺ لابن عباس: «اللهم فقههُ في الدينِ، وعلِّمْهُ الكتاب»، في رواية: «الحكمة»، في رواية: «التأويل»، فيكثر الإنسان من قول: اللهم فقهني في الدين وعلمني الكتاب والحكمة والتأويل، من أدعيته ﷺ: «اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وارزقني علمًا ينفعني»، وما أشبه ذلك من الأدعية المأثورة، يصل الإنسان ربه، يفعل الأسباب، ويتضرع إلى ربه أن يعينه في سلوك هذا الطريق؛ حتى يبلغه الله تعالى ما يبلغه من العلم النافع، الذي ينتفع به وينفع به.
{شيخنا أحسن الله إليكم.
ذكرتم في النقطة الأخيرة، وهي قضية كثرة الدعاء، أن يجعل الإنسان لنفسه وردًا من الدعاء، فيكثر من الدعاء لله تبارك وتعالى، وفي سؤال الله للعلم، ولكن قد تأتي إشكالية، فبعض الناس يقول لنا: أنا أدعو الله وقلبي لاهٍ وغافل، هل يمكن هذا! من غير استحضار: رب فقهني في الدين، رب فقهني في الدين، غير استحضار، هذا.. كيف توجهون هذا؟}
والله يا شيخ معاذ لا شك أن الدعاء إذا كان بحضور قلب أقرب إلى الإجابة، والنبي ﷺ قال: «فإنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ»، أدعو الله وأنتم موقنون بالإجابة، وربنا -عز وجل- يقول: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [الأعراف55-56]، يُجمع الإنسان نفسه ويطرد الشواغل عنه ويتضرع إلى ربه.
مسألة عظيمة يا إخوان، ليست المسألة يرفع الإنسان يديهِ ويدعو بدعوات وقلبه سارحٌ في أودية الدنيا وشِعبها، بل يستحضر قلبه ويجاهد نفسه، وينظر إلى الأوقات والأماكن الفاضلة المباركة التي هي مظنة لإجابة الدعاء.
وعلى كل حال: كثير من هذا الكلام ذُكر في حلقاتٍ ماضية، لكن الأمر كبير بلا شك، والسلف -رحمهم الله- صوروا لنا هذا الأمر والنهج الذي صاروا عليه، وكما قلت لكم: اقرأوا سيرة أبي عبد الرحمن السلمي، عبد الله بن حبيب التابعي الذي أخذ القرآن عن عبد الله بن مسعود وعثمان –رضي الله عنهم-.
كيف قضوا حياتهم سنين متطاولة وهم على هذا النهج، وقد أدركناهم يا إخوان، أدركنا بقيتهم -يرحمهم الله- أمثال: الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ ابن عثيمين، الشيخ ابن جبرين، رأينا أشياء ربما لو حُكيت للناس لا تُصدق من جلدهم مع تقدم أعمارهم، لكنها لا شك القلوب إذا كانت حية.
واللذة يا إخواني في العلم، كما ذكرتها فيما مضى عظيمة، لا تنال بمجرد الأماني، يطلبها الإنسان ثم تأتي وهو جالسٌ في مكانه، لا، بل تحتاج إلى نية صادقة وإخلاص، وتضرع إلى الله -عز وجل-، ثم استمرار في هذا الطريق، وكل هذا الكلام تقدم.
أنت يا طالب العلم في البداية في امتحان، يختارك الله -عز وجل- ويمتحنك، هل تصلح أن تكون طالب علم أو لا تصلح؟ ولهذا فالإنسان من بداياته يُجاهد نفسه، ويحضر قلبه في دعائه، وفي طلبه، ويستعين بالله رب العالمين، فَمَا ثَمَّ إلا عَونُه وتوفيقه -سبحانه وتعالى-.
{أحسن الله لكم شيخنا.
عرض المصنف -رحمه الله- جملةً من آداب المتعلم، فقال: (أَنْ يَتَحَرَّى رِضَا الْمُعَلِّمِ)، ثم قال: (وَيُسَلِّمَ عَلَى الْحَاضِرِينَ، وَلَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، وَلَا يُقِيمَ أَحَدًا مِنْ مَجْلِسِهِ، وَلَا يَجْلِسَ وَسْطَ الْحَلْقَةِ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَيَحْرِصَ عَلَى الْقُرْبِ مِنْ الشَّيْخِ لِيَفْهَمَ كَلَامَهُ فَهْمًا كَامِلًا بِلَا مَشَقَّةٍ)}.
كل ما ذكر النووي -رحمه الله- صاحب حديث، كل هذا فيه حديث عن النبي ﷺ، (لَا يَجْلِسَ وَسْطَ الْحَلْقَةِ)، لقوله ﷺ: «لَعَنَ الله مَنْ جَلَسَ وَسْطَ الْحَلْقَةِ»[3]، ولا يقيم غيره، «لا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِن مَقْعَدِهِ، ثُمَّ يَجْلِسُ فيه»[4]، والآداب المرعية -لا شك- أنَّ على طالب العلم أن يتأدب بها.
والحقيقة هي أنَّ كل هذه الآداب يا شيخ معاذ ينتظمها حُسن الخلق، وحُسن الخلق انتظمه كتاب الله -عز وجل-، ولهذا لَمَّا سُئِلتْ عائشة عن خلق النبي ﷺ لم تُعدد أوصافه وأعماله وكذا وكذا، وإنما قالت: «كان خُلُقُه القُرآنَ»[5]، حتى قال السائل -سعد بن هشام رحمه الله- حينما سألها: "كدت ألا أسألها عن شيءٍ بعده، أعطتني الجواب الكافي".
فحسن الخلق من المعلم ومن المتعلم لا شك أمرٌ مهم وعظيم، وبه ينتفع الإنسان وينفع، وبه يقتضي الناس ويتأثرون به وبما يرون.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله- في الباب الآخر الذي بعده: (بابٌ في آدابٍ يشترك فيها العالم والمتعلم)، قال -رحمه الله-: (ويَنْبَغِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ لَا يُخِلَّ بِوَظِيفَتِهِ لِعُرُوضِ مَرَضٍ خَفِيفٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُمْكِنُ مَعَهُ الِاشْتِغَالُ وَيَسْتَشْفِي بِالْعِلْمِ ولا يسئل أَحَدًا تَعَنُّتًا وَتَعْجِيزًا، فَالسَّائِلُ تَعَنُّتًا وَتَعْجِيزًا لَا يستحق جوابا، وفي الحديث النَّهْيِ عَنْ غُلُوطَاتِ الْمَسَائِلِ وَأَنْ يَعْتَنِيَ بِتَحْصِيلِ الْكُتُبِ شِرَاءً وَاسْتِعَارَةً وَلَا يَشْتَغِلُ بِنَسْخِهَا إنْ حَصَلَتْ بِالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ أَهَمُّ)}.
هو يتحدث هنا عن صفات مشتركة، لا شك أن هناك صفات مشتركة بين طالب العلم وبين معلميه: منها: ألا يتعثر بأدنى سبب، بل يُعود نفسه الصبر والجلد، إذا عارضه عارضٌ يسير سهل، قال كلمة -رحمه الله- فائقة وليستشهد به، نعم يا إخوان قد يحس الإنسان أحيانًا بعرض وصداع في رأسه تعب في جسده، فإذا جلس للعلم وللتعليم نسي هذا الذي يحس به، بل ما عاد يحس به.
وهذا أمرٌ ملاحظ يا إخوان، فالعلم لا شك مبارك، والتشاغل فيه خيرٌ ونفعٌ ونشاط، وكما ذُكر الهمة في القلب، والنشاط في القلب، إذا ارتاح القلب لا يشعر الإنسان بتعب البدن، وهذا السر الذي قلت لكم أكثر من مرة كنا نعجب ونحن طلاب من مشايخنا، كان الشيخ ابن جبريل -رحمه الله- لعل اتصالي به كان أكثر خارج المعهد، وكان يدرسنا في المعهد، وكان يجلس في المسجد، فكنا نعجب ويتملكنا العجب من هذا الرجل! فهو في كل أوقاته مع العلم وأهل العلم، ألا يتعب؟! حتى إن من يكون معه يشعر بإرهاق، وليس بتعب فقط، وهو لا ينام. وكان هذا هو السر.
الشيخ ابن باز -رحمه الله- توفي وهو يناهز التسعين من عمره، وما ترك الجلوس بالناس إلى آخر ليلةٍ توفي فيها -رحمه الله-، الشيخ ابن عثيمين كما ذكرت لكم هذا الكلام من قبل، جيءَ به وبالأجهزة من المستشفى إلى الحرم ليكمل درسه المعتاد الذي كان يعقده في كل سنة -رحمه الله-.
حتى كل هؤلاء الرجال، هم بشر على كل حال، يتعرضون لِمَا يتعرض له البشر، فلماذا لا يحسون بالتعب الذي نحس به نحن، وقد يكون التعب ليس هينًا ولا سهلًا؟
السر -يا إخوان- هو راحة القلب ولذته ،وطمأنينة النفس وراحتها، فإذا ارتاح القلب فلا يعبأ الإنسان بتعب البدن، بل لا يشعر بتعب البدن، وإذا تعب القلب تعب الإنسان؛ حتى لو كان نائًما على فراشه.
والعلم -يا إخوان- من أعظم أسباب الراحة، والدنيا ليس فيها راحة، قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد:4]، لكنَّ الراحة واللذة، ولعلي أشرت إلى هذه اللذة وهي الكاملة، لا ننكر الملاذ الحسية من أكل وشرب ولباس، لكنها ملاذ عارضة في وقتها وتنتهي، ولكن الملذات الكاملة تكون في القلب، وفي الروح، وفي النفس.
فاللذة الكاملة في شيئين -يا إخوان- في العبادة، وفي طلب العلم، تعلمه وتعليمه، وقد يجد الإنسان أثناء التعلم مشقة، يُكابد الإنسان ويتعب، ولكن عندما يُحصل من العلم قدرًا، ويبدأ في التعليم، فهناك يجد اللذة، لكن -كما ذُكر- هذه أمور تحتاج إلى صبر ومصابرة.
ولهذا من أكبر أسباب صفاء القلب الصبر، ولهذا ماذا قال موسى للخضر لَمَّا لقيه، ﴿قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾ [الكهف:69]، كونه يصبر، وكونه يطيع معلمه، ويسمع توجيهاته وإرشاداته، لا شك أنَّ هذا من الأمور المعينة على هذا الأمر.
ومن الأشياء التي ينغي التنبيه عليها في ختام هذا الفصل يا شيخ معاذ، هي أن يكون طالب العلم نَسبه وانتسابه، واسمه الذي يتحلى ويعتز ويفتخر به انتسابه إلى دينه، قال -عز وجل-: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الحج:78]، فلا مذهبية، ولا طائفية، ولا حزبية، لا يكون ولاجًا خراجًا، يدخل مع هذه الفئة ويخرج منها، ويدخل مع هذه الفئة، ويشحن قلبه بالقيل والقال، بل ينأى بنفسه عن هذه الأمور، فإنَّ ربنا -عز وجل- قال: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون:52]، والأمة هنا هي الطريقة، وشريعتها المنهج، فنحن أمةً واحدة، ولو بقينا على هذا الأمر الذي ذكره ربنا وحضنا وحثنا عليه الله ورسوله ﷺ؛ لكنا كما كان المصطفى والصحابة، لكن حصل ما حصل، ولله في ذلك حكمة، لكن مع ذلك طالب العلم يتلمس الحق، ويبحث عنه، وينأى بنفسه عن الانتماءات، والولاءات، وأن يكون ولاؤه وبراءه فيها إنما هو لدينه، ومن أجل دينه.
ابن القيم له كلام جميل -يمكن إذا رجعتم إليه في كلامه عن صفات أهل العبودية-:
قال: إذا قيل له من شيخك؟ يقول: رسول الله ﷺ.
وإذا قيل له: ما طريقتك؟ يقول: طريقتي الاتباع.
وإذا قيل له: ما خِرقتك؟ يقول: لباس التقوى.
وإذا قيل له: ما مذهبك؟ يقول: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله ﷺ.
وإذا قيل له: ما رباطك؟ يقول في بيوتٍ أذن الله أن ترفع.
وذكر -رحمه الله- جملة أشياء مؤداها أن ولاءه ومحبته وانتماءه لكتاب ربه، وسنة رسوله ﷺ.
نسأل الله التوفيق والإعانة، وأن يرزقنا وإياكم من هذه الآداب وهذه الصفات، ما يفتحه ويُيسره لنا برسول الله ﷺ أكمل التأسي والاقتداء «كان خُلُقُه القُرآنَ»، وبأنبياء الله ورسله جميعًا.
هذا موسى -عليه السلام- لَمَّا لقي الخضر، وموسى يقول: "العلم هو ثالث الأنبياء بالفضل بعد الخليلين محمدٍ وإبراهيم -عليهما الصلاة والسلام-.
يقول له بأسلوبٍ متأدب: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ [الكهف:66]، ما قال: هات ما عندك وعلمني، وهو موسى بن عمران مكانته وقدره، الخضر أُختلف فيه هل هو نبيٌ أو ولي صالح؟ ومع ذلك يقول موسى -عليه السلام- بأسلوبٍ متأدب: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ [الكهف:66].
هذا الذي ينبغي أن يكونه عليه طالب العلم، أن تكون حِليته الأدب، والسمت، والخلق الحسن، والورع، والديانة، والصيانة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فصلٌ في آدَابُ الْفَتْوَى وَالْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي).
ودنا يا شيخنا المبارك قبل أن نستفتح هذا الباب لو نأخذ إلماحة عامة عن هذا الباب بما أنه طويل ومهم جدًا، ينبغي لطالب العلم أن يُعني له عنايةً خاصة؟}
الحقيقة هذا موضوع مهم، ومدَّ فيه النووي النفس، وأحيلكم عليه يا إخوان: لكن ذكر فيه حقيقة مسائل ينبغي التنبيه لها:
أولًا: المفتي هو المخبر عن الحكم الشرعي، والمستفتي هو السائل عن الحكم الشرعي.
ويا إخواني في بداية الطلب لا يحرص الإنسان على الفتوى -إياكم- قد يأخذ الحماس طالب العلم في بداياته، ثم يفتي الناس، ثم بعد سنين يتبين له أنه وقع في مزالق وفي أخطاء في فتوى، ينتظر ويصبر حتى يفتح الله عليه ويتأنى، كان السلف -رحمهم الله- وهم أئمة يتدافعون الفتوى.
إذا أفتى الإنسان بغير علم كان الإثم عليه، قال ﷺ في الحديث المخرج في السنن: «مَنْ أُفْتِيَ بغير علم، فَإِنَّـمَا إِثْـمُهُ عَلَى من أَفْـتَاهُ»[6] وقال ﷺ في الحديث المخرج في الصحيح: «إنَّ اللَّهَ لا يقبِضُ العِلمَ انتزاعًا ينتزِعُهُ من صُدورِ الرِّجالِ، ولكن يقبِضُ العِلمَ بقبضِ العلماءِ، فإذا لم يَبْقَ عالِمٌ اتَّخذَ النَّاسُ رؤُساءَ جُهَّالًا فَسُئلوا فأفتَوا بغيرِ عِلمٍ فضَلُّوا وأضلوا».
بدل من أن يكون معلمًا داعيًا إلى صراط الله المستقيم، يكون ضالًا مضلًا ولا قوة إلا بالله، فيحرص الإنسان على أن لا يتصدر لهذا الأمر، ولا يسعى إليه حتى بعد تقدمه، في العلم وطلبه من العلم لا يحرص عليه؛ لأن سعي الإنسان إليه وحرصه عليه قد يكون سببًا لحرمانه منه، قال ﷺ لعبد الرحمن بن سمرة: «لا تَسْأَلِ الإمارةَ، فإنك إن أُعْطِيتَها عن مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إليها، وإن أُعْطِيتَهَا عن غير مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عليها»، فالإنسان لا يسعى إلى هذا الشيء، لكن إذا كان عنده من العلم ما عنده فلابد أن يفيد إخوانه، وإذا سألوه وهو يعلم المسألة أجابهم، وإذا كان لا يعلم يقول: الله أعلم، ثم يذهب ويبحث عن المسألة، ثم يفيدهم بعد ذلك، مع الوقت تتكون لديه حصيلةٌ علمية.
أما إذا سُئل ربما أجاب خطأً -عياذًا بالله- إذا لم يكن ورعًا، أو ربما حاد عن السؤال إلى سؤالٍ يعرف جوابه، وأجاب السائل على غير سؤاله يضل بهذه المثابة، لا يحصل علمًا ولا ينال ورعًا.
يذكرون شروطًا للمفتي، يقول: لابد أن يكون –وهي شروط عظيمة لا شك وهي معروفة- أن يكون مسلمًا، مكلفًا، ثقةً، مأمونًا، بعيدًا عن مظاهر الفسق وخوارم المروءة، ذا ديانةٍ وخيرٍ وورعٍ واستقامة، فقيهٌ في نفسه، وفقه النفس يذكره النووي -رحمه الله- في مواطن، وفقه النفس سجية يتمكن الإنسان فيها من التصرف في الاجتهاد والنظر في الأدلة دون تكلف، يكون متصفًا بهذه الصفة، وهذه صفةٌ جليلة لا شك، صفة مهمة.
هناك حقيقةً شروط لجواز الفتوى، وشروط وجوبها، وآداب أيضًا للمفتي والمستفتي لعله أشار إليها -رحمه الله تعالى- فيما تقدم، وأن الإنسان لا يفتي إلا بما يعلمه يقينًا أو ظنًا راجحًا، يكون متيقن، أو يكون يظن بعد أن ينظر في الأدلة، ويظن يحضرني أو لا يحضرني؟ لا، إنما ينظر في الأدلة فيصل إلى اليقين في أن هذا الحكم المستنبط من هذا الدليل، أو إلى الظن الراجح، فإن الظن الراجح معمولٌ به في الأحكام الشرعية، كما هو معمول به في الصلاة، كما ثبت عن النبي ﷺ.
أيضاً عندما يُسأل يتصور السؤال تصوراً كاملاً، لا يتسرع بمجرد أن يسمع أول السؤال يُجيب عليه قبل أن يتم السائل سؤاله، لا، وقد رأينا من بعض مشايخنا أنه يعيد السؤال؛ حتى يكون جوابه على وفق السؤال الذي أعاده، فإن كان في سؤال السائل خطأً بيّنه ووضّحه، وكان الجواب على وفق السؤال الذي فهمه الشيخ منه.
أيضًا يكون عند الفتوى هادئ البال، ما يفتي حال انشغاله بهمٍ أو قلقٍ أو تعبٍ أو بردٍ أو جوع، وما أشبه ذلك، قال ﷺ: «لا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بيْنَ اثْنَيْنِ وهو غَضْبَانُ»[7].
ثم متى تتعين عليه الفتوى؟
تعين على الفتوى إذا كانت المسألة التي يسأل عنها واقعة، وأمَّا إذا لم تكن المسألة واقعة فلا ينبغي أن يفتي، وكان السلف إذا سُئلوا عن مسألة لم تقع، قال: اذهب فإذا وقعت سَل عنها، أحيانًا بعض الناس قد يسألون عن أشياء ويسألون عن عجيب وأمور، والذي ينبغي للمستفتي حتى ألا يسأل إلا فيما يحتاج إليه، وما يهمه، ولا يكون غرضه من سؤاله التعنت أو تتبع الرخص، أو إفحام المفتي واختباره، أو ما أشبه ذلك من المقاصد التي لا ينبغي للسائل أن يتحلّى بها.
ذكر يا شيخ معاذ في بحث لطيف الحقيقة "أقسام المفتين".
ابتدئهما في المستقل.
أينعم، ذكر أنَّ المفتين قسمان:
القسم الأول: المستقل، ويمكن أن يقال عنه المتبع للدليل الكتاب والسنة.
ممكن يأخذ يا شيخ حكم المقلد؟
لا، هذا ليس مقلدًا، لا بل ليس مقلدًا، وهذا أيضًا لا ينتمي إلى مذهب، ما ينتمي إلى مذهب وإنما مستقل بقوله، وبنظره في الأدلة، وطرق الاجتهاد أيضًا، طرق الاجتهاد لديه، النووي -رحمه الله- لما ذكر هذا قال: هذا لعله انقطع منذ زمن بعيد، يعني بعد وجود المذاهب، انتشرت المذاهب وصار عامة الناس منتمين إليها في الفروع، وصار الاجتهاد في ضمن هذه المذاهب.
ولهذا النوع الثاني غير المستقل وهو الذي ينتسب إلى مذهب، لا يعني أنه مقلد، ولهذا قسم هؤلاء أيضًا الذين يُنسبون إلى مذاهب إلى أقسام، فذكر منهم ما لا يتقيد بمذهب إمامه، ولا يتقيد حتى بأدلته، بل له نظرٌ في الأدلة ونظرٌ في الأقوال، لكنه يُنسب إلى هذا المذهب لكونه سلك طرق إمامه في الاجتهاد، يعني: سلك طرق الإمام في الاجتهاد، فقيل: إن هذا الفقيه شافعيٌ، أو حنبليٌ، أو ما أشبه ذلك، مع أنه مستقل، أي لا يقلده، أو يأخذ بمذهبه، أو بقوله هكذا مجردًا عن الدليل.
الثاني، ماذا قال؟
{قال: (القسم الثاني المفتي الذي ليس بمستقل)}.
ذكر أربعة أقسام، القسم الأول ما ذُكر، الذي ذُكر منذ قليل وهو الذي لا يتقيد بالمذهب ولا بأدلة إمامه، لكنه متقيد بطرقه في الاجتهاد.
{(الثَّانِيَ: أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُقَيَّدًا فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ)}.
هذا مشهور بين الناس المجتهد المقيد، يعني مجتهدٌ في المذهب، وليس مجتهدًا مطلقًا؛ لأن المجتهد المطلق هو المستقل، كما ذُكر، لكن المجتهد المقيد هو الذي يكون مجتهدًا في المذهب، لا يعني أنه مقلد للإمام، لا، لا ليس مقلدًا للإمام، لكنه يكون مستقلًا كما ذكر -رحمه الله تعالى- وله نظرٌ في الأدلة، مستقل في تقرير أصوله، مستقل في النظر في الأدلة، لكنه يتبع الإمام في التقعيد، في التعليل، في طرق الاستنباط، وما أشبه ذلك، هذا ما يسمى بالمجتهد في المذهب.
النووي -رحمه الله- يقول: عامة أصحابي المتقدمين الكبار منهم على هذه الشاكلة، على هذه الطريقة، هم يقال شافعية، ولكن ما يقال إنه مقلد، بمعنى أنه يأخذ بالقول دون أن ينظر في الدليل، لا، هم علماء كبار وفحول ينظرون في الأدلة ولهم استقلال في نظرهم، وفي استنباطهم واجتهادهم، وهذا موجودٌ في كل المذاهب.
النوع الثالث أقل من هذا.
{قال: (أَنْ لَا يَبْلُغَ رُتْبَةَ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ)}.
أينعم؛ لا يبلغ رتبة من تقدم، ولكن حافظٌ مذهب إمامه، مطلعٌ على أدلته يقرأ، وينظر، ويرجح، ويرد، ويقارن، يعني له يدٌ في معرفة قول الإمام، وفي معرفة أيضًا أدلته، ولكنه ليس مستقلاً كسابقه.
يقول: هذا أيضًا في كثير من المتأخرين يعني قُبيل القرن الرابع وهم الذين أصلوا وقعدوا وألفوا الكتب -رحمهم الله تعالى-.
على كل حال: العلماء طبقات، منهم من بلغ درجة الإمامة والاجتهاد، ومنهم من هو أقل من ذلك، ولهذا الطبقة الرابعة.
{قال: (أَنْ يَقُومَ بِحِفْظِ الْمَذْهَبِ وَنَقْلِهِ وَفَهْمِهِ فِي الْوَاضِحَاتِ وَالْمُشْكِلَاتِ)}.
أينعم، ولكن!
{(وَلَكِنْ عِنْدَهُ ضَعْفٌ فِي تَقْرِيرِ أَدِلَّتِهِ وتحرير أقيسته)}.
أقل من الثالث.
الثالث عنده إلمام بأدلة مذهبه، هذا أقل، هذا يَحفظ الأقوال، ويحفظ الفروع، ولديه اطلاع، ولكن ليس لديه نظرٌ في الأدلة، وليس عنده عناية في الأدلة، وليس عنده تميزٌ بين صحيحها وضعيفها؛ فهذا أقل من سابقه، ولا شك أنَّ أولاهم بالفتوى المجتهد المطلق وهو المستقل الأول، ولكن هذا -كما قال رحمه الله- عَزَّ في الأزمنة الأخيرة وقل، ولكن يليه المجتهد المقيد في مذهبه، والذي ينظر في أقوال إمامه، وفي أقوال مذهبه.
وبالمناسبة يا إخوان: المذاهب ليست هذه الكتب كلها هي نصوص الأئمة -رحمهم الله-، لا، بل فيها مذاهب شخصية للإمام قالها، ومذاهب اصطلاحية، اصطلح عليها الفقهاء -رحمهم الله-، وربما خالف المذهب الاصطلاحي المذهب الشخصي للإمام.
قد يكون ما اتفق عليه الكثير من المتقدمين، أو المتوسطين، أو المتأخرين من الفقهاء يختلفُ عن نصوص الإمام، وذلك كما ذُكر منذ قليل أن بعض العلماء في المذهب لا يتقيد أحيانًا بقول الإمام، لا تقليل من شأن الإمام، لا، ولكن جادتهم موحدة -رحمهم الله تعالى- الأئمة هذا منهجهم، منهجهم أن ينظر الإنسان في أقوالهم ويعرضها على الدليل من الكتاب والسنة، فما وافق الكتاب.
ولعلي ذكرت لكم بعض سيرهم، فالشافعي -رحمه الله- والنووي كان شافعي المذهب، لكن له باع في الفقه -رحمه الله- وقد وضع هذه المقدمة المستفيضة لكتابه (المجموع) والذي تمنى أن يكمله ولكنه لم يتمه -رحمه الله تعالى-، وكان سفرًا عظيمًا، وموسوعة كبيرة في الفقه الإسلامي، وَأُتِمَّ بعد ذلك، ولكن النووي -رحمه الله- لا شك يده في الحديث أوفت إلى كتابهِ أيضًا وأضافت إليه مَيزة -رحمه الله تعالى رحمةً واسعة-.
الشافعي -رحمه الله- أجاب عن مسألة من المسائل بقوله: قال رسول الله ﷺ، فقال رجل: تقول أنت بذلك؟ فتَغير وجهه، اصفر وجهه وتغير، وقال: تراني خرجت من الكنيسة، ترى في وسطي زنارًا، أقول: قال رسول الله، وتقول أنت ما تقول؟! ثم قال له: رُح، ويقول له هكذا، نعم على العين والرأس، نعم على العين والرأس.
هذا نَسكهم، وهذا منهجهم، وتلك طريقتهم -رحمهم الله تعالى رحمةً واسعة- وجزاهم عنا وعن الإسلام والمسلمين جزيل الثواب، ورزقنا وإياكم جميعًا الاقتداء بهم، واقتفاء آثارهم.
{أحسن إليكم شيخنا المبارك، ورضي الله عنكم، وفتح لكم، وزادكم من فضله.
والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحُسن المتابعة، نلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
------------------------------------
[1] أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).
[2] أخرجه أبو داود (5225).
[3] رواه أبو داود، والترمذي.
[4] أخرجه البخاري (6270)، ومسلم (2111).
[5] أخرجه أحمد (25813) وأبو يعلى (4862)، والطحاوي في (شرح مشكل الآثار) (4435).
[6] أخرجه أبو داود (3657)، وأحمد (8266).
[7] رواه البخاري ومسلم.
سلاسل أخرى للشيخ
-
5298 7
-
21952 9