الدرس التاسع

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

9851 9
الدرس التاسع

عمدة الأحكام 3

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله معاشر طلاب العلم في المستوى الرابعِ من برنامج (جادة المتعلم) ، والذي نستكمل فيه شرح كتاب (عُمدة الأحكام) للحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه الله تعالى-، يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، باسمكم جميعًا نُرحب بفضيلة الشيخ، حياكم الله شيخنا}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، طلاب العلم وطالباته، وأسأل الله -عزَّ وَجَلَّ- أن يرزقنا وإياهم العلم النافع والعمل الصالح.
{نستأذنكم في إكمال القراءة}.
نعم، استعن بالله، بسم الله.
{قال -رحمه الله تعالى- في باب الفرائض: (عَنْ ابْنِ عُمَرَ أنْ النَّبِيِّ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعن هِبَتِهِ») }.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أمَّا بعد، فهذا الحديث وهو حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- يُعد أصلًا في بابه، فيما يتعلق بتحريم بيع الولاء وهبته، والأصل أنَّ الولاء كما أخبر النبي : «الولاءُ لُحْمَةٌ كلُحْمَةِ النسبِ لا يُباعُ ولا يُوهبُ»[1]، واللُحمة هي الشيء الذي يُلحم بالثوب، فهو مرتبط بالإنسان كارتباط نَسَبِهِ.
وكما أنَّ النَّسب نهى النبي عن الانتفاء به أو عنه، فقال : «مَنْ ادَّعَى إلى غَيْرِ أَبيهِ، أوْ تَوَلَّى غيرَ مَوَالِيهِ؛ فَعليهِ لَعْنَةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعينَ»[2]، فلعن رسول الله من انتسب إلى غير أبيه.
ولَمَّا قال عمر -رضي الله عنه- يومًا ممازحًا لصهيب: "يا صهيب إنه ليس فيك عيبٌ إلا أنك تنتسبُ إلى غير أبيك"، فقال صهيب -رضي الله عنه-: "والله لو فلقتني بعرةٌ لانتسبت إليها"، وكيف أنتسب إلى غير أبي؟ لأنه هو صهيب بن سنان، كيف أنتسب إلى غير أبي، وقد سمعت النبي يقول: «لعن الله مَن ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أبِيهِ»؟ ولكني سُرقت وأنا صغير.
فصُهيب هو: صهيب بن سنان، قالوا: إنه من النمر بن قاصد، والنمر بن قاصد هي قبيلة من قبائل العرب، ولكنه عند الناس يُدعى بصهيب الرومي، نسبةً إلى الروم، فكأن عمر -رضي الله عنه- قال: كيف تنتسب في العرب؟ فأخبره صهيب أني عربي أصلًا، وأنه ما انتسب إلى غير أبيه.
كذلك أيضًا الولاء؛ الولاء إذا قيل في فلان مولى فلان، بمعنى أنك أنت عتيقه، فما يجوز لك أنك تنتفي من ذلك البتة ولا تخرج منه، حتى لو كان ولاءك لامرأة، ما تخرج منه، ولهذا يقال: فلان مُولى فلانة من النساء، ويقبل بذلك، لماذا؟ لأنه انتساب، فلان مولى فلان، فيقبل به حتى ولو كان رجلًا سيئًا، وهذا مثله مثل والدك، أو مثل: نسبك، فما تستطيع أن تنتفي منه.
والولاء كما ذكرنا ناتجٌ عن العتق، وقد ذكرنا حرص العرب في الزمان الأول على الموالي، ولهذا لَمَّا كان الصديق -رضي الله عنه- يُعتق الضعفاء من عبيد مكة، فعتق بلالاً -رضي الله عنه- وطائفةً معه.
فماذا قال له والده "أبو قحافة" وقد كان على الشرك؟
قال: يا بُني لو أعتقت رجالًا ينفعونك، أي: أعتق رجالاً ينفعونك وقت الشدة، أي: أعتق رجالاً أشداء أقوياء من هؤلاء الغلمان، حتى إذا طلبتهم وجدتهم في النوازل عندك وفي الشدائد، وأما هؤلاء ما ينفعونك.
فقال: يا أبتي إنما أريد ما أريد، يعني أنا أريد وجه الله -عزَّ وَجَلَّ- والدار الآخرة، وليس مقصدي مقصد الدنيا.
فقد كان الاستكثار من الموالي عند العرب، وقد يكون لفلان ألفًا من الموالي، وكل هؤلاء إذا دعاهم أجابوه، كأنما هم أبناؤه، فإذا حُرم الإنسان منهم من الذرية خاصةً؛ استكثر من الموالي.
إذًا فالولاء عند العرب كان أمرًا مُعظمًا، وأمرًا محبوبًا ومرغوبًا فيه، خاصة فيمن نجب من الغلمان، وكان ذكيًا.
ولهذا لَمَّا رأى بريرة ذكية، ورأى أنه قد يُحصل منها خيرًا، قال لعائشة: اشتريها ولنا الولاء، فأخبر النبي أنَّ «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»، وأنه ناتج عن عملية العتق، وهو بالضبط كالنسب والذي ينتج عن عملية زواج، كأن تزوج فلان من فلانة وأنجبا، فكذلك أعتق فلان فلانًا، فتكون الثمرة هي الولاء.
إذًا هذا هو معنى الولاء، وهو مرتبة من مراتب العصوبة.
ذكرنا أنَّ «الولاءُ لُحْمَةٌ كلُحْمَةِ النسبِ»، فإذا «الولاءُ لُحْمَةٌ كلُحْمَةِ النسبِ»، لم تجز المعاوضة عليه، كيف لا توجد المعاوضة عليه؟ يعني: ما يجوز للإنسان أن يقول: تعال أنا عندي ألف مولى قد أعتقتهم، هل تريد أن أبيعك ولاء أيًا منهم؟
أو يقول: أعطني مبلغًا من المال، وأبيعك ولاء أحدهم، أو يقول: أنا لن أبيعك بل سأهبك هبةً مولى منهم، أي: سأنقل ولاءه مني إليك.
نقول: هذا لا يجوز، بالضبط كما أنه لا يجوز لك أن تبيع أولادك، ولا أن تنقل نسبهم، فكذلك أيضًا الشأن في الولاء؛ لأنَّ «الولاء لُحْمَةٌ كلُحْمَةِ النسبِ».
حديث: «النَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعن هِبَتِهِ» رواه تابعي جليل، وقد تفرد به عن عبد الله بن عمر، وهذا التابعي هو: عبد الله بن دينار، وعبد الله بن دينار -رحمه الله ورضي عنه- قد كان من أهل العبادة والإخبات، وهو أجل ثلاثةٍ رووا عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، فإنَّ أعلى الناس وأحظى الناس بالرواية هو ابن عمر، من حيث جلالة أصحابه وارتفاع قدرهم.
أبو هريرة يروون عنه جملة كبيرة من العلماء -رحمهم الله-، وابن عباس كذلك، ولكن أجْل هؤلاء هو ابن عمر، يروي عنه ثلاثة كلهم من أئمة زمانهم، وهم:
الأول: سالم بن عبد الله بن عمر.
والثاني: نافع مولى عبد الله بن عمر، وقد وقع الخلاف بين العلماء -رحمهم الله- الخلاف المشهور، أيهما أفضل؟ من المقدم سالم ولا نافع؟
والظاهر والله أعلم أن المقدم في الحفظ والإتقان نافع، والمقدم في الفقه والمعرفة بعبد الله بن عمر هو: سالم.
والثالث: عبد الله بن دينار -رحمه الله-.
فإذًا عندنا الطبقة الأولى من أصحاب ابن عمر هؤلاء الثلاثة، وعبد الله بن دينار هو من روى هذا الحديث -حديث ابن عمر-، ولم يشاركه فيه أحد، فكان لعزازة هذا الحديث وجلالتهِ وارتفاع قدره، يقول شعبة: "والله لوددت أني أُقَبِّلُ رأس عبد الله بن دينار إذا حدث بهذا حديث"؛ لأنه ما يوجد عند غيره، أي يقصد قوله: «نَهَى النبي عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعن هِبَتِهِ».
ودلَّ ذلك على أنَّ التفرد عند العلماء -رحمهم الله- يُقبل إذا كانت منزلته قريبة من الصحابي، فإنَّ عبد الله بن دينار من مشاهير العلماء -رحمهم الله-.
إذًا نهى النبي «عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعن هِبَتِهِ»، وذكرنا أنه لا تجوز المعاوضة على الولاء، ولكنه يُورَثُ أيضًا. فهو لا تجوز المعاوضة عليه ولا بيعه، ولكنه يورث. كيف؟
لو أنَّ رجلًا أعتق غلامًا له، فتوفي هذا الرجل، فإنَّ الولاء ينتقل من هذا الرجل إلى ذُريته الذكور، دون الإناث؛ لأنَّ الولاء في الميراث يتعلق بالذكور، يعني: انتقل منه، فأصبح العبد بدلا من أن كان هذا العبد مولى لفلان من الناس، أصبح مولى لأولاده الذكور، فلو توفي هذا العبد انتقل ميراثه إلى الذكور من أولاد سيدهِ.
يقول قائل: ما الفائدة من الولاء غير ما ذكرته لنا من النصرة؟ أي: لو فرضنا أنَّ هذا المعتق ما يطمع منه بنصرة، فما الفائدة؟
نقول: الفائدة منه الميراث، لو أنَّ هذا المولى المعتق توفي ولم يكن له ثم وارث، رجع الميراث إلى مواليه، ولو أنه توفي وقد كان له وارثٌ بالفرض دون التعصيب، كيف؟ توفي العبد وما كان له إلا ابنة، كم للبنت إذا توفي والدها؟ لها النصف، البقية لمن؟ يذهب للموالي، فهذه هي فائدة الميراث، وهي التي جعلت هؤلاء يطمعون في بريرة، وطمعوا في بريرة، لأنها امرأة تعمل، فربما تتوفى عن ميراث كبير، فإذا ما لحقنا الميراث على الأقل يلحق أولادنا، فهذا الذي جعلهم يطمعون فيما يتعلق بالميراث من الولاء.
كذلك الولاء أيضًا تتعلق به معان أخر، ليست فقط الميراث، تتعلق به معان مثل: لو أنَّ هذا المولى جنى جناية، أخطأ مثلا أو قتل، فإنّ سيدهُ السابق يكون مُشاركًا في الدية، ينبغي له أن يشارك في الدية؛ لأنه من عصبة هذا المولى، فيشاركه في الدية.
فإذًا هذه كلها معان، يعني الغُنم بالغُرم، كما أنك أنت تَغنم منه، فإنك أحيانًا قد تَغرم بسببه، وهذه هي القاعدة بوجهٍ عام.
ولهذا تجد أنَّ الرجل الذي لا يَغرم أبدًا ما يكون له حظ من الميراث، يعني مثلًا: بنت العم! بنت العم ما تَغرم، ما لها علاقة، لو أنَّ ابن عمها قَتَلَ فليس لها علاقة فيه، ولكن أبناء العم يغرمون ويشاركون في الدية، فلأجل ذلك كان لهم حظٌ في الميراث، عند عدم بعض الأصول أو الفروع الوارثة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَعَنْ عَائشَةَ -رضيَ اللَّهُ عَنْها- قالَتْ: كانت في بريرة ثلاث سنن، خُيِّرَتْ عَلى زَوْجِهَا حين عَتَقَت، وأُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ وَالبُرْمَةُ عَلَى النَّارِ، فَدَعَا بِطَعَامٍ، فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَأُدُمٍ مِنْ أُدمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: «أَلَمْ أَرَ بُرْمَةً عَلَى النَّارِ فِيهَا لَحْمٌ؟» فَقَالُوا: بلَى يَا رَسُولَ اللهِ، ذَلِك لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُطْعِمَكَ مِنْهُ، فَقَالَ: «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ مِنْهَا لَنَا هَدِيَّةٌ»، وَقَالَ النَّبي فِيهَا: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ») }.
هذا حديث بريرة -رضي الله عنها- وقد ذكرنا أن بريرة -رضي الله عنها- كانت جاريةً مملوكةً لطائفةً من الأنصار -رضي الله عنهم- فكاتبت أهلها، وذكرنا معنى الكتابة، والكتابة هي أن يشتري العبد نفسهُ من سيدهِ، وهي مشروعة، قال الله -عزَّ وَجَلَّ- في كتابه: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾ [النور:33].
ولهذا لَمَّا فتح الله -عزَّ وَجَلَّ- على الصحابة -رضي الله عنهم- العراق، وأصابوا غِلمانًا، كانوا في مدرسة يتعلمون علوم دينية في مدينةٍ يقال لها: عين التمر، أصابوا فيها عشرين غلامًا، وكانوا أذكياء، فأخذهم الصحابة -رضي الله عنهم- ضمن السبي ووزعوهم، فوقع منهم غلامٌ لأنسٍ -رضي الله عنه- وكان هذا الغلام اسمه سيرين، وهو أبٌ للعلماء المشهورين السبعة.
سبعة علماء ومنهم: حفصة بنت سيرين، وهي من أعلم نساء الأمة، وكان منهم أنس بن سيرين، ومحمد بن سيرين وهو أشهرهم، ومعبد بن سيرين، وكان منهم حفصة بنت سيرين؛ هؤلاء هم الذين رووا في سُنة النبي .
فكان سيرين غلامًا عبدًا مملوكًا لأنسٍ -رضي الله عنه- وكان يعمل ويُغل، يعني: يُدخل غله، فأراد من أنسٍ -رضي الله عنه- أن يكاتبه فأبى، قال ما أكاتبك؟ قال: كاتبني على أربعين ألف درهم، من أعظم ما يكون من المكاتبة، قال: ما أكاتبك، أنت رجل صالح، وستؤدي الحق الذي عليك ولن تغشني، ورجل ذكي تستطيع أن تتاجر.
فذهب سيرين إلى عمر -رضي الله عنه-، فأقبل عمر على أنسٍ -رضي الله عنهما- فعلاه بالدرة، وقال: كاتبه، ويقرأ عليه قول الله -عزَّ وَجَلَّ-: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾ [النور:33]، ولا أرى هذا إلا ممن عَلِمَ الله فيه خيرًا، فكاتبه أنسٌ -رضي الله عنه-، وعتق بذلك سيرين.
 إذًا هذا أيضًا من تشوف الشرع للعتق، والحقيقة أنَّ مسألة العتق من المسائل التي ينبغي أن يُوقف عندها وقفات طويلة؛ لأنها مَرَّت علينا جملة من المسائل، فقد يُشكل عند بعض الناس، يقول: العتق والعبودية، وهل الإسلام فيه عبودية؟ نقول: العبودية باقية، والرق باقٍ ما أبقى الله الجهاد، هذا ديننا، ولا نخجل من دين الله -عزَّ وَجَلَّ.
ومن زعم أنَّ الرق منتهي فإنه مُبطل، الرق ما ينتهي، ما دام أنَّ هناك جهاد، ولكن الأهم أن يكون هذا الرق رقًا شرعيًا، أي لا يكون غصبًا أو نهبًا أو سرقة، ونحو ذلك، ثم يُرق الناس.
فإن قيل: لم قلنا؟ لأن الله -عزَّ وَجَلَّ- قد شرع الجهاد الذي هو المدافعة، وكل أمة لا تدافع ولا تجاهد ولا تنشر دينها فهي أمة ضعيفة، وأمة محكوم عليها بالفشل، ولهذا من ينتقد الفتوح الإسلامية، نقول له: اخرج من بلاد المسلمين، تنتقد الفتوح الإسلامية! وهل صارت هذه الأراضي إلى المسلمين إلا بالفتوح الإسلامية؟! وهل الأرض إلا ملكٌ لله -عزَّ وَجَلَّ- يُورثها من يشاء من عباده، فالأرض ملك لله -عزَّ وَجَلَّ-، وليست ملكًا لك، ولا ملكًا لأمة من الناس.
والعيب كل العيب حينما يقاتل الناس على أمرٍ ليس لهم فيه يد، كيف؟ تقاتل الناس على أنهم ليسوا من قبيلتك، فتفتح البلاد أنت باسم القبيلة، أو تفتح البلاد باسم العرق، عرق المغول، أو عرق الرومان، الناس غيرك يقولون: يا أخي طيب كيف أنا أصنع؟ أنا أريد أن أكون معك، كيف أصنع؟ من تقبلني.
لكن حينما تقاتل الناس، أو تفتح البلاد باسم الدين، الذي تقول: الدين متروك للجميع، فادخل في دين الله -عزَّ وَجَلَّ-، هذا هو دين الله -عزَّ وَجَلَّ-، وهذا ليس فيه عيب، ولا يلحقك ظلم.
ثم إنَّ الأصل في الجهاد في سبيل الله أنه للتخلية بين الناس وبين معتقداتهم، تقول كيف؟ نقول: يُخلي بين الناس وبين حريتهم الدينية، يعني ما يكونون خاضعين لكُهان أو رهبان أو ملوك وسلاطين يُجبرونهم على دينٍ غير دين الإسلام، كما قال النبي لهرقل لَمَّا كاتبه: «أَسلِمْ تَسلَمْ؛ يُؤْتِكَ اللهُ أجرَك مرَّتينِ؛ فإن تولَّيْتَ فإنَّ عليكَ إثمَ الأريسيِّينَ»[3].
 لماذا قوله: «فإنَّ عليكَ إثمَ الأريسيِّينَ»؛ لأنه هو من يحول بينهم وبين الإسلام، ولهذا لَمَّا جاء الإسلام ما أجبر المسلمون أحدًا من الناس على الإسلام، بل إن هناك مسألة فقهية، وهي: لا يجوز إكراه الناس على الإسلام، ولكن يُخلى بينك وبين الدين، فيعتنق الناس الدين بالمعاملة.
ولهذا نرى أن كثيرًا من البلدان التي غزاها غير المسلمين ما أستتب لهم الحال فيها، لكن المسلمين لَمَّا غزوا هذه البلدان استتب لهم الحال؛ لأنهم خلوا بين الناس وبين معتقداتهم، فأقبلوا سراعًا إلى دين الله -عزَّ وَجَلَّ-، ورأوا أنَّ دين الدين الذي جاء به الله -عزَّ وَجَلَّ- أحب إليهم من هذه الديانات التي كانوا عليها.
ولهذا قال ربعي -رضي الله عنه-: "إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الملوك والأديان إلى عهد الإسلام"، هذا أمر.
ولو لم تغزُ أنت وتفتح لغُزيت؛ لأنَّ هذه سنة الله.
تقول: يا أخي أنا لا أريد أن أغزوا، نقول: إذًا تُغزى؛ لأن هذه سنة التدافع التي قررها الله -عزَّ وَجَلَّ-، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود118-119]، ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾ [البقرة:251].
إذا أنت لم تكن فيك شهوة القتال ستكون في غيرك، وستكون في غيرك شهوة التوسع؛ حتى في هذا العالم الآن الذي هناك أنظمة أمم متحدة وما إلى ذلك ومواثيق، نجد أن الشهوة التوسع لا زالت في بعض البلدان.
فإذًا هذه الشهوة موجودة، وهي سنة من الله -عزَّ وَجَلَّ-، وهي سنة مطبوعة في البشر، إذا كان كذلك فإذا لم تغزُ فإنك قد غُزيت، وإذا كان الحال كذلك فإن الغزو يستتبعه أمور أعظم بكثير من الرق؛ لأن الإشكالية أنَّ الرق إنما يكون رقًا مذمومًا حينما يُصور بالصورة التي كان عليها الرق في الأزمنة الحديثة قبل مائة سنة أو مائة وخمسين سنة، حينما كانوا يسترقون الناس من غير ما وجه حق.
يذهب الأوروبيون إلى الأفارقة فيأخذونهم ويسوقونهم كأنما يسوقون البهائم، يستولون عليهم، فما يملك الرجل منهم أن يدفع عن نفسه، ولا يعرف لِمَا استولي عليه ولم أخذ؟ ثم يعامل أبشع المعاملة، ويمتهن أعظم الامتهان، ولكن دين الله -عزَّ وَجَلَّ- ليس كذلك، دين الله -عزَّ وَجَلَّ- وسط، فهو يقول: الجهاد سيقع فيه قتل، وسيقع فيه رق، لماذا؟ لأنَّ الرق أسير بين يديك، والأسير ماذا تصنع به؟ تصنع به عدة أمور:
-      إمَّا أن تقتله، وقد لا يكون القتل محببًا، ولا محبذًا، وهو لم يستفد منه.
-      وإمَّا أن تُطلقه فيرجع إلى بلدهِ، ثم يرجع مقاتلًا لك مرةً أخرى.
-      أو أن تسترقه.
هذه ثلاثة أمور، فإذا استرققته وجب عليك مع ذلك أمور كثيرة، من أهمها وأعظمها: مبدأ العدالة في المعاملة، ترى الرق –الاسترقاق- قد يكون في كثير من الأحيان أحسن من كوني آخذه وأحبسه في معسكرات الاعتقال، كما تصنع مثلًا بعض الدول، كان هذا في الحرب العالمية الأولى والثانية، وكانت هناك معسكرات اعتقال ضخمة جدًا، مات فيها مئات الملايين من البشر، أو عشرات الملايين من البشر، لماذا؟ يقول لك: هؤلاء أسرى حرب، ما الذي يصنع بهم! إما أن أقتلهم، أو أن أضعهم في هذه المعسكرات، أو أن أستعبدهم، فأنا أضعهم في هذه المعسكرات.
ولو تُخير هؤلاء -كما لو قلت له-: ستكون عبدًا مملوكًا ولكن وفق الشروط التالية:
أولًا: يُضمن لك المعاملة الحسنة، كما قال النبي : «إخوانُكم خَوَلُكُم، جَعَلَهُم اللهُ تحت أيديِكم، فمن كان أخوه تحت يده، فلْيُطْعِمه مما يأكلُ، ولْيَلْبِسُه مما يَلْبَسُ»[4]، مرتبة عظيمة، يعني ترى العبد مساويًا لك، تعامله كما تتعامل أنت، ترى هذا ما يتحقق حتى في السائق، السائق ليس عبدًا، فلا يلزمك أنت أن تُطعم السائق من طعامك، ولا أن تكسوه من كسوتك
ولكن العبد يلزم، ما تأتي وتطعمه طعامًا دون طعامك، فتأكل أنت من طعام جيد خاص وتُعطيه العبد، لا، نقول هذا خلاف السنة، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم.
ثم نأتي إلى الأمور التي يعتق بها العبد، فنجد أمورًا كثيرة، شرائع كثيرة وأحكامًا كثيرة كلها يعتق بها العبد؛ حتى في كفارة اليمين -الحلف- فقد جعل الشارع أول ما يكون من كفارة الِّظهار العتق، وفي القتل العتق، وفي أمور كثيرة جعل العتق، لماذا؟ تحريضًا على العتق، وحثًا عليه.
ثم قال النبي في الجارية لَمَّا لطمها، قال: «إنما كفارة ذلك أن تعتقها»، لفظ فقط، ثم شرع المكاتبة وأمر بها، فجعل هناك وسائل كثيرة للعتق؛ لأن العتق بلية مثل القتل في القتال، مثل القتل في القتال ما يستطيع الإنسان أنه يتحاشاه، كذلك أيضًا العتق الرق بنفس هذا المعنى، ومع ذلك فإن الشارع قد أحاطه بمثل هذا الحياط الجليل الذي يجعل العبد كائن بشري محترم له حقوقه، بل إن الله -عزَّ وَجَلَّ- قد أعطى العبد ما هو أجل من ذلك؛ حتى تمنى بعض الصحابة الرق.
يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: "والذي نفسي بيده، لولا الجهاد في سبيل الله وبر أمي، لتمنيت أن أكون عبدًا مملوكًا"، لماذا؟ لأن النبي قد قال في الحديث الصحيح: «ثَلاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ»[5]، وذكر منهم رجلٌ أدى حق الله -عزَّ وَجَلَّ- وحق مواليه، يعني: العبد المملوك إذا أدى حق الله، وفي الحديث الآخر: «والعَبْدُ المَمْلُوكُ إذَا أدَّى حَقَّ اللَّهِ وحَقَّ مَوَالِيهِ»[6].
يعني كل أعمالك تعملها -أيها المملوك- فهي مضروبة في اثنين، حتى الصلاة، فإن صلى في مسجد فالصلاة لغيره بسبع وعشرين، بينما له تضرب في اثنين، فكلها مضاعفة، فلأجل ذلك هو بلاء وقع عليه، كما أن في الدنيا مُعاقين، وكما أن في الدنيا مبتلين، وكما أن في الدنيا فقراء، وكما أن في الدنيا مظلومين ومرضى، فكذلك أيضًا فيها هؤلاء.
لكن الإشكالية ما هي؟
الإشكالية أن تنقل إلينا الصورة السيئة للرق، من جراء ما فعله الغرب؛ لأن الغرب كان قبل مئة سنة قد ابتلي ببليتين: بلية التعامل مع المرأة، وبلية التعامل مع العبيد، فكان تعاملهم مع المرأة تعامل في غاية ما يكون من القبح، وكان تعاملهم مع العبيد كذلك.
فلما أتت حداثتهم وأتى نظامهم الجديد انقلبوا انقلابًا جذريًا على هذه الصورة، فأصبحوا يجعلون المرأة مساوية للرجل في كل شيء؛ حتى فيما لا تقره الطبيعة، وأتوا يشنون الحملات على الرق بطريقة ليست هي الطريقة الصحيحة، وهم كما يقال: إما أن يكونوا في أقصى اليمين أو يكونوا في أقصى اليسار، لأنه ليس عندهم نوع من الاعتدال.
فما يصح أن تورد هذه، نقول: هذه أنت عامل فيها نفسك، لماذا؟ لأنك كنت مجرمًا في حق المرأة، وكنت مجرمًا في حق العبيد، ولكن لا تأتي تعامل بها أهل الإسلام الذين أرسوا المعالم الصحيحة في معاملة المرأة، أو في معاملة العبيد، أو في معاملة الصبيان، أو غيرها.
إذًا هذا بسطٌ يسير لِمَا يتعلق بموضوع الرق، وما يُشاع حوله، سواءً كانت إشاعات من الأقوال التي تقول: إن الرق انتهى، وأنه لا يوجد رق. وهذه نقول فيها: انتهى فعليًا كواقع، ولكنه لم ينته شرعًا، فهو باق، ولا يجوز إنكاره، ولكن ما هي أسبابه؟ هذه أمور أخرى.
(قالت -رضي الله عنها-: كانت في بريرة ثلاث سنن: «خُيِّرَتْ بريرَةُ عَلى زَوْجِهَا حين عَتَقَت») ، هذه أيضًا من الأمور المستتبعة للرق، والعلماء -رحمهم الله- قد بوبوا أبوابًا كثيرة متعلقة بالرق منها: كتاب العتق، ومنها: كتاب أمهات الأولاد، ومنها: كتاب التدبير؛ وهذه كلها أمور تتعلق بالعتق، وما ينتج عنه.
فذكر ها هنا: أن بريرة -رضي الله عنها- لَمَّا عُتقت كان فيها ثلاث سنن:
السنة الأولى: أنها خُيرت على زوجها، وكان اسم زوجها مُغيث، وكان عبدًا أسودًا مملوكًا، وكان محبًا لبريرة، وكانت هي مبغضة له، فهي كانت مبتلاه، فلما عَتقت خُيرت، قيل لها: إمَّا أن تبقي مع زوجكِ، أي: هذا العبد المملوك، أو أن تنفصلي منه، فكانت هذه سنة.
ولهذا كان الصحيح من أقوال أهل العلم: أن زوجها كان عبدًا ولم يكن حرًا، خلاًفا لِمَا قاله الأسود، فإن الأسود قال: كان زوجها حرًا، وهذا غير صحيح، فلو كان حرًا ما خُيرت. فهي لماذا تخير وزوجها أعلى منها، ولكن لَمَّا كان عبدًا خيرت.
فكان يبكي بكاءً مُراً عليها، حتى قال النبي للعباس: يا عباس ألا تعجب من حُب مُغيثٍ لبريرة؟ وُبغض بريرةٍ لمغيث! وكان رجلًا قد كبر في السن، فكان يذهب يبكي عليها في الأسواق، ويسيل دمعه، وجاء النبي إلى بريرة، وهذا في الحقيقة يدل على أن بريرة كانت مبغضةً له بغضًا عظيمًا، فاستشفع فيه، استشفع إلى بريرة، وهذا دلالة على أنَّ أحكام الله -عزَّ وَجَلَّ- تمشي على الجميع، والنبي قالك: هذا حكم شرعي لا يُغير، ولكن استشفع فيه، قال: لو راجعت زوجك، فقالت: يا رسول الله أتأمرني أو شافع؟ قال لها: إنما أنا شافع ولا آمرك، ليس أمرًا شرعيًا، فقالت: يا رسول الله لا حاجة لي فيه. وما رجعت إليه.
فكان هذا هو الحكم الشرعي الأول: أن المرأة المملوكة إذا عَتقت وكان زوجها عبدًا فإنها تُخير، وخيارها يسقط بأمرين:
الأمر الأول: الرضا، أي أن تقول: رضيت به، فإذا قالت: رضيت به، لا تطالب.
الأمر الثاني: أن تُمكنه من إصابتها وتكون عالمة، أي: تجعله يُجامعها، فإذا حصل وكانت عالمةً بذلك، سقط حقها في الخيار.
ولكن قد تكون لا تعلم، فإن تبين أنها لم تكن تعلم، فلها الخيار في فسخ النكاح منه، هذه السنة الأولى.
ومن الطريف أن عائشة -رضي الله عنها- كانت تحب أن تعتق الزوجين معًا، وذلك عملاً بالحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي أنه قال: «مَن أنْفَقَ زَوْجَيْنِ في سَبيلِ اللهِ نُودِيَ في الجَنَّةِ: يا عَبْدَ اللهِ، هذا خَيْرٌ»[7]
كيف زوجين؟ قالوا: يعتق رجلا وامرأة، أو يتصدق بذبيحتين، أو يتصدق بثوبين زوجين، من أنفق زوجين، فكانت عائشة -رضي الله عنها- ممن يحب المنفق أو يعتق الزوجين، تأتي إلى الجارية والغلام وهم أزواج فتعتقهما، ولكن حتى لا تفرق بينهما تبدأ بعتق الزوج قبل عتق الزوجة؛ لأنها لو عتقت الزوجة، فقد تفسخ نكاحه منها، فحتى تسد هذا الباب تعتق الزوج فتبدأ به، ثم تعتق المرأة.
إذًا هذه السنة الأولى.
السنة الثانية: أن بريرة -رضي الله عنها- «أُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ وَالبُرْمَةُ عَلَى النَّارِ»، البُرمة هي القدر الذي يوضع فيه اللحم أو يطبخ فيه اللحم، ولا يزال موجودًا حتى الآن عندنا، معروف.
قال: «فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَأَدَمٍ مِنْ أَدَمِ الْبَيْتِ»، الأدم ما يُؤدم به الخبز، يعني كل شيء سائل أو قريب من السيلان الذي يُغمس فيه الخبز، وقد كان النبي يقول: «نِعم الإدام الخل».
الخل ليس هو الخل المعروف، هو قريب منه، وكانوا يتركون أحيانًا النبيذ حتى يتخلل، الأهم من ذلك أن لا يكون مُسكرًا، ثم كانوا يَغمسون الخبز فيه، فأوتي النبي بخبز وأدمٍ منه أُدم البيت، فقال : «أَلَمْ أَرَ بُرْمَةً عَلَى النَّارِ فِيهَا لَحْمٌ؟».
قد كان يمكث الشهر والشهرين والثلاثة ما يأكل اللحم، ليس تكرهًا له، لكنه ما يريده ، وكان لا يتكلف شيئًا غير موجود، ولكنه لا يأنف من شيءٍ موجود، ولهذا استغرب، لماذا أتيتموني بأُدم وخبز وتركتم اللحم؟
فقالوا: «يَا رَسُولَ اللهِ، ذَلِك لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ»، هو صدقة على بريرة، «وكَرِهْنَا أَنْ نُطْعِمَكَ مِنْهُ»، أي هذا اللحم تُصدق على بريرة، وهي أهدت لنا منه، فبريرة تُصدق عليها بشاة، فأخذت الشاة -رضي الله عنها- وقطعت منها الكتف وأهدتها إلى عائشة زوج النبي ، فأخذت عائشة تطبخها، فكانت صدقةً على بريرة، ولكنها من بريرة إلى النبي هو هدية.
فقالت: «فَكَرِهْنَا أَنْ نُطْعِمَكَ مِنْهُ»، لماذا؟ لأنَّ النبي لا يأكل من الصدقة، وفي حديث الحسن بن علي -رضي الله عنه- لَمَّا أخذ تمرة، كما في حديث أبي هريرة، أخذ تمرةً سقطت من تمر الصدقة، فقال النبي : «كِخْ كِخْ». لِيَطْرَحَهَا، ثُمَّ قالَ: «أَمَا شَعَرْتَ أنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ؟»[8].
ولَمَّا مر النبي أيضًا بتمرة ساقطة على الأرض، فقال: «لَوْلا أنْ تَكُونَ مِن صَدَقَةٍ لَأَكَلْتُها»[9]، آل البيت ممنوعون من الصدقة، قالوا: لأن الصدقة الأصل فيها أنها أوساخ الناس، ولكن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه في حال ما إذا انقطع الخمس -أي: الخمس الذي يكون من الغنائم، لأن الله -عزَّ وَجَلَّ- قال في كتابه: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [الأنفال:41].
الأصل أن آل القربى من آل قُربى رسول الله يُعطون من المغانم، فلو ما حصل لهم شيء، ما كان يصلهم شيء من هذه المغانم أو من هذا الفيء ونحو ذلك-
لذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنه يجوز الصدقة عليهم؛ لأنهم يهلكون، يتعبون، ويتضررون ضررًا عظيمًا.
فيقال: نعم، كل من كان منهم يجد سعةً، أو يجد منأى عن الصدقة، فلا يجوز له أن يأخذها، ولكن إذا عجز جاز له أخذها.
قالت: «فَكَرِهْنَا أَنْ نُطْعِمَكَ مِنْهُ، فَقَالَ: هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ مِنْهَا لَنَا هَدِيَّةٌ»، هذا يدل عند العلماء -رحمهم الله- على قاعدة معروفة، وهي قاعدة تحول المال، يعني: أن المال يتحول.
فإذًا إذا تصدقت أنت على مسكين، فهذه الصدقة بعينها لا تكون صدقةً بكل حال، يعني: إذا أخذها وأخرجها هذا المسكين وباعها في السوق، هل يجوز أو أن يشتريها الناس؟ يجوز أن يشتريها. لماذا؟ لأنها ليست صدقة في هذه الحال.
انتبه: يجوز شراؤها من كل أحد إلا ممن تصدق بها.
لو أنه حينما أراد أن يعرضها للبيع، قال له الناس: على أي أساس تعرضها؟ كيف تعرض هذه الصدقة؟ فيقول: يا أخي هي صدقة عليَّ، ولكن أنا أبيعها، نقول: يجوز، ويجوز لأي شخص أن يشتريها إذا لم يكن هو من تصدق بها، كما في حديث عمر -رضي الله عنه-.
ويجوز له أن يُهديها، على سبيل المثال: مسكين تُصدق عليه بكمية كبيرة مثلًا من الأرز في صدقة الفطر، فأهدى لجاره، أو طبخ له أرز من هذا الأرز، نقول: هل يجوز أن يأكله؟ نقول: نعم يجوز أن يأكله حتى لو كان جاره ممن لا تحل له الصدقة؛ لأنَّ هذه ليست صدقة، وإنما هي هدية فقد تغيرت بتغير حالها.
وهذا أخذ منه العلماء معنىً جليلًا، وهو معنى تغير أموال الربا، كيف؟
بعض الإخوان يسأل يقول: إنَّ والدي ممن يتعاملون بالربا، فهل يجوز لي أن أكل من ماله؟ نقول: نعم، يجوز لك أن تأكل من ماله؛ لأنَّ مالهُ عليه حرام، هو أخذه من وجه محرم، ولكنك أنت أخذته من وجهٍ جائز؛ لأنه هو أعطاك إياه، فهي نفقة، فهي من باب النفقة، فإذا كان كذلك جاز لك أن تأخذه.
كما كان النبي يدخل على اليهود فيأكل من طعامهم، وهم أساتذة الربا، ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ [النساء:161]، أكثر الناس ربا وإغراقًا في الربا هم اليهود، ومع ذلك فقد كان النبي يأكل منه، من طعامهم.
فإذًا يجوز للإنسان؛ حتى لو كان والده يأخذ الربا، يجوز له أن يأكل من ماله، بناءً على أنَّ هذه نفقة، وأنه قد تغير وجهها، فهو أخذه من مالٍ حرام، ولكن النفقة الآن عليك هي من مالٍ حلال، أو بوجهٍ حلال.
لكن بعض العلماء -رحمهم الله- قال: يُستحب التنزه عنه من باب استطابة المطعم، فإنه ليس من باب استطابة المطعم أن يأكل الإنسان من هذا المال الربوي.
لكن يُقال: إذا عُلم أنَّ هذا المال بعينه هو الربا فقد يقال فيه ذلك، وأمَّا إذا كان مال والده كثيرًا، والربا يدخل في عرض منه وجزء منه، فإنه لا يحرم كله، بل يقال: إن الأصل فيه هو الجواز.
قال: «فَكَرِهْنَا أَنْ نُطْعِمَكَ مِنْهُ، فَقَالَ: هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ مِنْهَا لَنَا هَدِيَّةٌ»، وقد كان من هدي النبي قبول الهدايا، وألا يمتنع من الهدية، حتى إنه لَمَّا أهدى له أعرابي هدية، ثم أخذ يُطالبه بمقابلها، قال النبي : «لقدْ هَمَمْتُ أنْ لا أقبلَ هدِيةً إلا من قرشيٍ، أو أنصاريٍ، أو ثَقَفِيٍ، أو دَوْسِيٍ»[10].
 لماذا؟ لأنَّ هؤلاء هم الناس الذين كانوا يُهدون ولا يطالبون بالبدل، يعني: كان يعامل الهدية معاملة الهدية، بعض الناس يعامل الهدية معاملة هدية الثواب، ما معنى هدية الثواب؟ جاء في بعض الأحاديث عن النبي : «من أُهدي هديةً ثوابٍ فلم يثمنها، فله الرجوع فيها»، وهذا الصحيح إنما هو موقوفٌ على عمر -رضي الله عنه-.
كيف هدية الثواب؟ الهدية على وجهين:
الوجه الأول: أن تكون هدية يبتغى بها المحبة والصلة والقربى، ويستصحب فيها النية الصالحة، فهذه هي الهدية الشرعية، ولا يبتغى بها الثواب.
الهدية الثانية: تأتي أنت فتهدي لشخص مشهور وثري، وأنت رجل من أوساط الناس، وتهدي له دائمًا أشياء نفيسة وغريبة، يعني: على سبيل المثال عندك لوحة سيارة غريبة فتهديها له؛ لأنه من الصعب تحصيلها، أو لديك جوهرة فريدة مثلا، قد حصلت عليها بطريقةٍ ما فتهديها له؛ حتى يُثيبك منها، حتى يعطيك هدية جيدة أعلى منها، وكأنه يقول: أنت أهديتني شيئًا بخمسين ألف، فخذ مثلًا مليونًا، فهذه تسمى هدية الثواب.
يُعلم منها أنك ما أهديت هذا الرجل لأجل القربى، ولا لأجل المحبة، وإنما لأجل المقابل، فأنت بالحرية إن أهدى لك فأرضاك منها وإلا جاز لك الرجوع، أي: تقول: أنا والله يا فلان أهديتك، وكنت أظن بك أنك تهديني هدية أعظم منها، فما وجدت عندك شيئًا، ولذا فأنا أريد أن أسترد هديتي، هل يجوز؟
قالوا: يجوز، ولكنه مكروه كراهةً شديدة، وهذه تسمى عند العلماء -رحمهم الله- بهدية الثواب.
إذًا قال النبي : «لقدْ هَمَمْتُ ألا أقبلَ هدِيةً إلا من قرشيٍ، أو أنصاريٍ، أو ثَقَفِيٍ، أو دَوْسِيٍ»، وقد كان من هَديه قبول الهدية مُطلقًا، ما يكرهها ولا يردها ، ولهذا كان أحد ما اختبر به عبد الله بن سلام علامة النبوة في النبي الهدية، فإنه قد كان يقرأ في الكتب السابقة، وسلمان -رضي الله عنه- أيضًا كذلك، قد كان يقرأ في الكتب السابقة -وكان هذا من آخر ما عهد به إليه الكُهان الذين كانوا معه- أن من صفات النبي أنه يقبل الهدية ويأكل منها، ولا يأكل من الصدقة.
فجاء سلمان -رضي الله عنه- وكان عبدًا مملوكًا في ذلك الوقت، سُرق وأصبح عبدًا مملوكًا عند رجل من اليهود، وكان يعمل في النخل، فجاء بشيءٍ من التمر ووضعه بين يدي النبي وقال: إن هذا صدقةٌ تصدقت بها عليك، فقال النبي لأصحابه: «كلوا ولم يأكل من شيء »، فقال سلمان هذه واحدة.
ثم جاء إليه مرة أخرى بتمر، فوضعه بين يديه ، وقال: هذا هدية، فقال النبي لأصحابه: «كلوا وأكل منها »، وقد كان النبي يحث على الهدية، ويأمر بإكثار المرقة، وأن يُصيب بها جيرانه، كما قال النبي لأبي ذر -رضي الله عنه: «يا أبا ذَرٍّ إذا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فأكْثِرْ ماءَها، وتَعاهَدْ جِيرانَكَ»[11].
كل هذا من النبي في الترغيب والحث على نشر هذا المعنى؛ لأنه من المعاني الجليلة، ولهذا من أحسن ما يكون أن يُهدي الإنسان مثلًا السواك، والعبرة بالهدية ليس بحجمها، ولكن العبرة بالهدية معناها، العبرة بالهدية أنك أنت في قلبي وأني ما نسيتك، وأني سأهاديك حتى لو طال بي الزمن، وحتى لو كان شيئًا يسيرًا.
وهو الذي يتحقق به أيضًا أمر النبي بالهدية، وحثه عليها وإشادته بها .
قال: «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ مِنْهَا لَنَا هَدِيَّةٌ»، وَقَالَ النَّبي فِيهَا: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»، هذه هي السُّنة الثالثة من السنن التي جاءت في بريرة -رضي الله عنها- وهي سنة أن الولاء للمعتق.
وقصتها كما سبق وذكرناه: أن عائشة -رضي الله عنها- لَمَّا كاتبت بريرة نفسها مع أهلها على تسع أواق في كل عامٍ أوقية، ومن المعلوم أن المكاتب لا يعتق إلا في السنة التاسعة، يعني في آخر السنوات، هي تسع أواق لا يتحقق عتقها إلا في السنة التاسعة، فسيطول بها الزمان، وتبقى تسع سنوات أمة مملوكة.
فأتت إلى عائشة -رضي الله عنها- وقالت: يا أم المؤمنين إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عامٍ أوقية فأعينيني، فقالت عائشة -رضي الله عنها-: «إن رأى أهلكِ أن أصبها لهم صبةً واحدة»، أو أُعدها لهم عُدةً واحدة فعلت، ويكون ولاؤكِ لي، فذهبت إلى أهلها فأبوا، فقالوا: لا، إن شاءت أن تعتقكِ، يعني: تحتسب عليك ويكون الولاء لنا.
فجاءت بريرة -رضي الله عنها- إلى عائشة -رضي الله عنها- والنبي عندها، فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء، فقال النبي : «اشْتَرِيهَا، وأَعْتِقِيهَا، ودَعِيهِمْ يَشْتَرِطُونَ ما شَاؤُوا»[12]، وفي بعض الروايات: «واشترطي لهم الولاء»، لكن هذه اللفظة ذكرنا أنها لفظة ليست محفوظة؛ لأنها لا يمكن أن تشرط هي شرطًا خاطئًا، قالت: اشتريها ودعيهم يشترطوا ما شاءوا، فإن «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ».
ثم أعتقتها عائشة –رضي الله عنها- وأصبحت بريرة مولاةً لعائشة –رضي الله عنها- فلما كانت مولاةً لعائشة وكانت مولاةً نجيبة، وذكية، أصبحت تُصيب عائشة –رضي الله عنها- بخيرها، فكانت تعمل عند عائشة –رضي الله عنها- وكانت كأنما هي من بنات عائشة –رضي الله عنها- تتعاهد عائشة –رضي الله عنها- أعظم مما تتعاهد البنت أمها، وكانت كثيرة الدخول على عائشة –رضي الله عنها-.
ولهذا رأينا ها هنا من ثمرتها لما أهدي لها الشاة أو تُصدف عليها ما نست عائشة –رضي الله عنها- فأهدت إلى عائشة –رضي الله عنها- هذه الهدية، وهذا مما يدل على أن بريرة –رضي الله عنها- كانت امرأة عاقلة.
وقد كان أيضًا لبريرة موقفٌ حسنٌ في غاية ما يكون من الحسن، فإن أم المؤمنين –رضي الله عنها- لما قُذفت بما قذفت به وبما برأها الله -عزَّ وَجَلَّ- به من فوق سبع سماوات، استشار النبي جماعةً من النساء ومن القرابات، فاستشار النبي أسامة بن زيد فقال: أهلك ولا نعلم عليهم إلا خيرًا، واستشار زينب ضرة عائشة –رضي الله عنها- فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت وما رأيت إلا خيرًا.
واستشار بريرة، فقالت بريرة -رضي الله عنها-: "والله ما علمت عليها إلا الخير، إلا أنها كانت صبيةً تغفل عن طعام أهلها أو عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله"، يعني ما عاد فيها عيب، إذًا هذا هو العيب، فما بقي فيها عيب -رضي الله عنها- فلما مُست بعذاب، يعني: القائم عليها ضربها سوطًا وقال: اعترفي هل في شيء؟ قالت: والله إنما هي كالتبر الأحمر، ما أعلم عليها شر -رضي الله عنها- تبر أحمر، نقية، منزهة، مطهرة -رضي الله عنها-.
فكان هذا أيضًا مما يدل على أن بريرة كانت عاقلة، ولهذا استشارها النبي في أمر سيدتها عائشة -رضي الله عنها- وقَبِل النبي مشورتها، وقَبِل النبي أيضًا قولها في عائشة –رضي الله عنها-.
فإذًا هذه كلها من ثمرات عتق هذه الجارية الصالحة التقية التي هي بريرة -رضي الله عنها-، وكل هذه السنن ظهرت في بريرة -رضي الله عنها- وهذا أيضًا مما يدل على عِظم قدر الصحابة -رضي الله عنهم- في نفوسنا، فإن جملةً من السنن التي شُرعت لنا من التخفيف، إنما كان سببها الصحابة -رضي الله عنهم-.
فسنة مثلًا التيمم، من سببها؟ سببها آل أبي بكر، عائشة -رضي الله عنها- أولم يقل أسيد بن حضير: والله ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، أن أنزل الله -عزَّ وَجَلَّ- التيمم على رسوله وعلى صحابته -رضوان الله -عزَّ وَجَلَّ- عليهم- فخفف الله -عزَّ وَجَلَّ- على الأمة ما خفف.
فإذًا الأصل أن الصحابة –رضي الله عنهم-قد كانوا هم من أعظم الناس أثرًا على هذه الأمة، كثير من الأسباب والتخفيف إنما جاء من جراء أعمالهم الحسنة ونياتهم الصالحة –رضي الله عنهم وأرضاهم-.
ولعلنا نتوقف هنا -إن شاء الله عزَّ وَجَلَّ-.
{أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم فضيلة الشيخ، وبهذا بحمد الله تعالى نكون قد أنهينا هذا المستوى، وننتقل -بإذن الله تعالى- معكم إلى مستوىً قادم، وحتى ذلك الحين، نستودعكم الله، وإلى لقاءٍ قادم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------------------------
[1] أخرجه الشافعي في (الأم) (5/268) ، وابن حبان (4950) ، والحاكم (7990) .
[2] أخرجه ابن ماجه (2609) ، وأحمد (3037) واللفظ له.
[3] رواه البخاري (7) .
[4] أخرجه البخاري (30) ، ومسلم (1661) .
[5] أخرجه البخاري (3011) ، ومسلم (154) .
[6] أخرجه البخاري (97) ، ومسلم (154) .
[7] أخرجه البخاري (3666) ، ومسلم (1027) .
[8] أخرجه البخاري (1491) ، ومسلم (1069) .
[9] أخرجه البخاري (2055) واللفظ له، ومسلم (1071) .
[10] أخرجه الترمذي (3945) ، والنسائي (3759) ، وأحمد (7918) .
[11] أخرجه مسلم (2625) .
[12] أخرجه البخاري (2565) ، ومسلم (1504) .

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك