الدرس السابع

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

9851 9
الدرس السابع

عمدة الأحكام 3

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله معاشر طلاب العلم، في (المستوى الرابع) من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نستكمل فيه شرح كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم. باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، حياكم الله فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات من طلاب وطالبات العلم، نسأل الله أن يرزقنا وإياهم العلم النافع والعمل الصالح.
{نستأذنكم في استكمال القراءة}.
نعم تفضل، توكلنا على الله.
{قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: (بَابُ اللُّقَطَةِ
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ:
«سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ عَنِ اللُّقَطَةِ؛ الذَّهَبِ أَوِ الوَرِقِ؛ فَقَالَ: اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْهَا، وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْماً مِنَ الدَّهْرِ فَأَدِّهَا إِلَيْهِ، وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الإِبِلِ؛ فَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟ دَعْهَا؛ فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ المَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا، وَسَأَلَهُ عَنِ الشَّاةِ؛ فَقَالَ: خُذْهَا؛ فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد، فقد عقد المصنف -رحمه الله- هذا الباب وهو (باب اللقطة)، وذكر فيه عمدة هذا الباب، وهو حديث زيد بن خالد -رضي الله عنه-، وهذا الحديث هو الأصل في هذا الباب، وإليه مرد جميع أحكام هذا الباب، فما كان في هذا الحديث من الأصول أو من المسائل المتعلقة فهو العمدة، وما تعارض مع حديث زيد بن خالد، وجب أن يرد إليه ويجمع بينه وبينه، فإن لم يتم رُجِّحَ حديث زيد، هذه هي القاعدة والضابط، وبناء عليه هذا يقرر لنا ما سبق وذكرناه من أنَّ هذا الكتاب عمدة للأحكام، يعني فيه أصول الأبواب والمسائل، فإذا أتيت إلى باب اللقطة، وسألت رجلًا من أهل العلم أو من طلاب العلم: ما هو أعلى حديث في باب الغصب؟ سيقول لك مباشرة: حديث زيد بن خالد الجهني، وسيذكر لك الحديث السابق «من ظلم قيد شبر من الأرض»، وهكذا، فأحاديث هذا الكتاب هي العُمَد في أبوابها وكتبها، هذا أمر.
الأمر الثاني: أن باب اللقطة من الأبواب التي يقول أهل العلم -رحمهم الله- فيها: إنها من الأبواب التي تدل على التَّكافل والتَّعاون في الإسلام، وعلى أنَّ هذا الدين ليس دينًا مبنيًّا على المادة، كما يحاول الرأسماليون أن يصوغوا دياناتهم عليه، ويجعلون فكر الناس متَّجهًا إلى الرأسمالية والمال، فلا يتعامل معك إلا بمقابل، ولا يعطيك إلا بمقابل، لكن هذا الباب لا، هذا الباب من أبواب التكامل والتضامن والتكافل بين المسلمين، وهو من الأبواب اللطيفة الحسنة التي لا يكاد أحد من الناس إلا ويمر بها، هو بابٌ عملي وباب كثير الوقوع، ما هناك أحد منا يمشي إلا ولابد أن يجد لقطة في وقت ما من أوقات دهره، على سبيل المثال: بعض الأبواب السابقة مثل باب الحوالة، الإنسان قد يمر به الدهر كله ولا يعرف هذا الباب، ولا يفقه شيئا من أحكامه، وباب الشفعة كذلك، لا يعرفه لأنه ما ابتلي به، ولا احتاج إليه، ولكن هذا الباب يحتاج إليه الناس كثيرًا.
والأصل بوجه عام، أن كلَّ باب يُحتاج إليه فإن فقه الناس فيه يكون أعلى؛ لأنهم إنما يتفقهون لأنهم يحتاجون إليه، ويحتاجون إلى ممارسته، ولهذا تجد أن فقه الناس مثلا في أبواب الطهارة وأبواب الصلاة أعلى منها في أبواب الصيام، وفي أبواب الصيام أعلى منها في أبواب الحج؛ لأن الأمر يختلف، فالصيام متكرر وهو ثلاثون يوما، ويصام مع جماعة المسلمين كلهم، بينما الحج فإنه لا يحج في العام إلا فئة يسيرة من المسلمين، وقد يمر بالإنسان السنة والسنتان والثلاث والخمس سنين وما حج.
إذًا كل ما احتاج إليه الناس كان عندهم شيء من فقهه، ولكن يجب أن يكون الفقه فقهًا مستندًا على الدليل، وليس فقهًا مستندًا على الأعراف والعوائد فقط، خاصة إذا كانت الأحاديث موجودة، لأن الأصل أن الاستناد على الأعراف جائز في أمور المعاملات، ما لم يكن ثم نصٌّ يحدد العمل.
قال المصنف -رحمه الله- ها هنا: (بَابُ اللُّقَطَةِ).
اللقطة: هي المال -أو المختص- الذي ضل عن ربه.
المال: الأموال المعروفة، وليس النقدين فقط؛ بل تشمل كل الأموال، مثل: بهيمة الأنعام، عندك قلم، أو ساعة، أو جوال؛ كل هذه تعد أموالًا.
والمختص: قلنا المختص يشمل أحيانا لقطة الغلام أو الصبي الذي ضلَّ، فإنه يدخل عندهم في هذه الأبواب، وعندهم باب اسمه: "باب اللقيط" وهو باب مختص بهذه المسألة، يعني: كيف يتعامل معهم؟ فهذه نفس ما يتعامل معها كما يتعامل مع المال.
قال: "مال أو مختص ضل عن ربه" هذا هو الأصل في اللقطة.
وقوله: "ضل عن ربه"، يعني ضل عن مالكه، أي: فقده مالكه.
والأصل بوجه عام عندهم: أن أموال اللقطاء على ثلاثة أقسام:
- قسم يتملك بلا تعريف: وهو كل ما كان محتقرًا في العادة، يعني على سبيل المثال: يجد الإنسان ريالًا، خمس ريالات، عشرة ريالات؛ هذه أموال محتقرة عند عامة الناس أو أوساط الناس، المرجعية فيها ليس إلى الأثرياء، الثري حتى الخمسمئة ريال المحتقرة عنده، ولا يكون المرجع إلى الفقير، لأن الفقير الريال يمثل له شيئا، ولكن العرف إنما هو عرف أوساط الناس، الذي يسمى عند الناس الآن بالطبقة المتوسطة، فيُنظر هل أنظار الناس تلتفت إلى هذا أو لا؟
مسبحة سقطت مثلًا، وكانت ليست من النوع الغالي، وإنما كانت من الأنواع العادية. أو قلم مثلًا بريالين أو بثلاثة ريالات، هذه كلها أمور ما تتبعها أوساط الناس.
وحتى نعرف هذا أو نقيسه فنقول: إن الإنسان لو وصل مثلًا إلى بيته فاقدًا لهذا الشيء وكان بيته بعيدًا، يعني في أول المدينة، وهذا المكان الذي سقط فيه في آخرها؛ فإنه لهوانه عليه لا يرجع إليه، على سبيل المثال: لو أنك في شمال الرياض، وسقط منك خمسة ريالات في جنوب الرياض؛ فهل ستذهب إليها؟ نقول: لا!
سقط منه قلم بخمسة ريالات، فهل يذهب إليه؟ نقول: لا. ولكن لو سقط منك جوال بخمسة آلاف أو قلم غال من الأقلام الغالية؛ فإنه سيرجع إليه.
فإذًا هذا من الضوابط التي قد يضبط بها موضوع مقدار الضَّالة، هل هي مما تتبعها همة أوساط الناس أو لا؟ نقول: صاحبها يرجع إليها أو لا؟ دعكَ من الإنسان الشَّحيح جدًّا الذي لا يريد أن يترك شيئًا ويستوفي كل شيء، ودعكَ أيضا من الإنسان المبذر الذي لا يلتفت إلى شيء؛ لكن نقول الوسط؛ هل يرجع ؟ قال: لا، ما يرجع. قلنا: إذا هذا معناه إنه قد سوَّغ لغيره في أن يأخذها.
هذا هو القسم الأول من أقسام اللقطة، وأظن -إن شاء الله عز وجل- أنه شُرح الآن شرحًا يستطيع الإنسان أن يسترشد به، لأن هذا القسم هو أكثر الأقسام سؤالًا، لما يقع فيه من إشكالية، فيجد الإنسان عشرة ريالات أو خمسة عشر ريالا مثلًا، ويجد أشياء كثيرة ساقطة، يقول: آخذها أو لا؟
فنقول: هل تتبعها همة أوساط الناس أو لا؟ فالمعيار كما ذكرنا لك.
القسم الثاني: ما لا يجوز التقاطه، وهو ما يمتنع عن السباع ونحوها، مثل: الإبل والبقر، فإن الأصل في الإبل والبقر أنها تدفع عن نفسها السباع، وترد الماء وترعى الشجر، فإذا كان كذلك فما الداعي إلى أن تأخذها وتلتقطها؟ إلا إذا كانت في مكان مخوف، ما ترد فيه الماء ولا ترعى فيه الشجر، ملقاة مثلًا في صحراء، ويعلم الإنسان أن هذه الصحراء صحراء مجذبة، يعني يتيقن من خلال ذلك أنها قد سقطت من صاحبها.
في مثل هذا نقول: هذا يعامل معاملة القسم الثالث، وهو: القسم الذي لا يمتنع من السباع مثل الأغنام، فهذه السبع يفترسها، وإذا ضاعت فإنها غالبًا ما تهلك، لو أن شاةً انفلتت ما تعرف ترد ولا ترعى شجرًا، ولا تدفع عن نفسها، فإذا كان كذلك جاز التقاطها.
وهذا القسم الثالث -بهيمة الأنعام التي لا تمتنع- لا يلزم فيها تعريف إلا تعريفًا يسيرًا؛ لأن النبي قال: «فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ» وما ذكر التعريف، لكن قالوا هم بالتعريف اليسير حتى ينفي عن نفسه شبهة السرقة، فعرف تعريفًا يسيرًا ومُرْ على مَن حواليك، هل هم يعرفونها أو لا؟
أمَّا قسم الأموال أو نحوها فيلزم تعريفها حولًا كاملًا، وقد فصَّل النبي هذه الأقسام في حديث زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه-، فإن رسول الله : «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ عَنِ اللُّقَطَةِ؛ الذَّهَبِ أَوِ الوَرِقِ».
الورق كما ذكرنا: أنه هو الفضة، وسواء كان هذا الذهب أو الورق مصكوكًا -يعني: مقلوبا- أو قد حول إلى دنانير ودراهم أو كان قطعًا خام، والأعم الأغلب في اللقطة أنها تكون للأشياء المصكوكة، يعني: الدنانير أو الدراهم.
قال: «فَقَالَ: اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً».
الوكاء: هو الرباط، تقول: أوكِ الإناء، يعني اربطه.
والعفاص: على أصح الأقوال وأقواها أنه الوعاء الذي تُحفظ فيه، وقيل إنه طريقة الشد، كيف طريقة ربطه.
لماذا تعرف الوكاء والعفاص؟ حتى إذا جاء طالبها يوما من الدهر؛ قلت له: هل فقدت ألف ريال؟ أو هل فقدت خمسمئة درهم؟ يقول: نعم.
تقول: ما هي صفة الوعاء؟ قال: كانت في وعاء أحمر، طيب ما هي صفة الوكاء، أي: الحبل؟ قال: كانت في حبل من خيش أو من صوف، وكان لونه كذا.
إذًا أصبح عندك يقين الآن أو غلبة ظن أنه هو صاحبها، لكن لو سألته فقال: ما كانت في وعاء وإنما كانت في علبة، قلت: له أنت لست صاحبه؛ لأنَّ الصفة اختلفت، فإذًا لا تُدفع لكل من طلبها، اعرف وكاءها وعفاصها حتى إذا جاء طالبها يومًا من الدهر سألته عنها.
قال: «ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً»، هذا هو التعريف الشرعي للقطة، الأصل في اللقطة: أنها تُعرف سنة وما جاء فيما سوى ذلك من الزيادة على السَّنة فإنه غير محفوظ، كحديث أُبي بن كعب -رضي الله عنه-، فإن فيه التعريف ثلاث سنوات، والظاهر -والله أعلم- أنه مردود إلى حديث زيد بن خالد، ويقال: الأصل تعرفها سنة، ويستحب أو يُسن أن تُعرف ثلاث سنوات احتياطًا.
كيف يُعرفها سنة؟
تعرفها حسب العرف، لأن بعضهم قال: في أول أسبوع يعرفها كل يوم، وبعد ذلك يعرفها كل جمعة، وبعد ذلك يعرفها كل شهر، لأن في أول أسبوع يكثر الطلب عليها، وتجد أن صاحبها مهتم بها، ثم بعد مُضي أسبوع يفتر الطلب، لأنه يظن أنها قد فقدت.
طيب كيف يعرفها؟ قال: يعرفها في مجامع الناس، يعني لنفرض أنه قد فقدها في الحارة الفلانية؛ فينظر الجامع الكبير في هذه الحارة، فإذا خرج الناس من الصلاة خرج وجلس عند باب الجامع في الخارج عند الرحبة، والأهم أنها لا تكون داخل المسجد، لأنه ما يجوز تعريف الضالة في المسجد، يجلس ويقول: يا جماعة مَن فقد مالًا؟ ما يبين كم قيمته كم قدره؟ ما يقول مَن الذي فقد ألف ريال؟ لا، محفظة فيها عشرة آلاف ريال؟ نقول: لا، فيقول: من الذي فقد مالًا؟ فإن جاء صاحبه، قال: أنا فقدتها في محفظة لونها أسود، نوعها من المحفظة الفلانية إذا كان لها نوع، والمبلغ كذا وكذا، إذًا ادفعها له، وإلا سيكثرون عليك الناس، كل واحد يقول لك: أنا فقدت؛ فهل تعطيها لكل من طلبك؟ نقول: لا، ما تعطيها لأنك أنت أحق بها منهم، ما دام أنه ما وصفها الوصف الشرعي، ثم ما يجوز أن تدفعها إلى شخص تعلم أنه ليس هو صاحبها، فإما تتيقن أو تظن ظنًّا غالبًا أنه صاحبها، لأن هذا نوع من إتلافها، وستكون ضامنًا لها إذا دفعتها مفرطًا، لكن أتاك رجل ووصف الوصف الصحيح ودفعتها له ثم تبين لك أنه ليس صاحبها، فما من شيء عليك، وأنت قد أديت ما عليك.
إذًا ذكرنا ها هنا أن التعريف إنما يكون راجعًا عن العرف، والآن التعريف بدأ يختلف فأصبح هناك وسائل تواصل اجتماعي يُعرف فيها، وأصبح فيه أشبه ما يكون بالأماكن أو التطبيقات التي تُعرَّف فيها الضوال، فينبغي للإنسان أن يقصد إليها ويُعرفها فيها، ما يمنع من ذلك أن يعرفها في مثل هذه، ما يمنع أن يضع ملصقًا على الجداران ويكتب: مَن فَقدَ كذا وكذا فعليه يتواصل مع الرقم كذا وكذا؛ هذا نوع من التعريف، لأن بعض الناس يقول: أنا أستحي أن آتي فأقوم في مجامع الناس وأقول مَن فقدَ كذا وكذا، نقول: ما في بأس، ليس من شرط ذلك المناداة عليها بالصوت، ضع أوراقًا، خاصة الآن أنه ليس هناك أحد إلا ويقرأ، وتكون أيضا الأوراق بأكثر من لغة، فقد يكون هذا أحسن من التعريف الصوتي، لأن التعريف الصوتي قد تُعرف باللغة العربية ويكون من فُقد منه ما يجيدها، فإذًا التَّعريف في كل شيء بِحسبه ويرجع للعرف، وهذه من الأحكام التي تتغير بتغير الأعراف، ففي الزمان الأول كانوا يقفون في المجامع فيقولون: مَن فقدَ كذا وكذا مَن فقد مالًا؟ ويصيح بأعلى صوته! الآن لا، كما ذكرنا الآن من صور التعريف التي هي التعريف الشرعي، بل قد يكون الآن تعريفها بمثل هذا التعريف لا يؤدي إلى نتيجة، أن تضيع مثلًا منه في حارة كبيرة جدا فيها عشرات المساجد فيذهب إلى أحد المساجد وينادي، نقول: ما يدريك أن هذا هو المسجد الذي ضاعت عنده؟! فإذًا كما ذكرنا قبل قليل من أن التعريف إنما يكون إلى العرف.
قال: «فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْهَا»، إذا مضت سنة وما عُرفت، فاستنفقها: أي اصرفها كلها، واجعلها نفقةً لك، لكن يبقى السؤال: هل تكونُ نفقة وصدقة عليك بما أنك عرفتها وبذلت الجهد؟ أو يقال لا؛ بل هي كأنما هي دين عليك إلى أن يأتي صاحبها؟
هذه مسألة وقع فيها الخلاف لأجل الخلاف في ألفاظ حديث زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه-، والمصنف -رحمه الله- اختار من الألفاظ ما يدل على أنها تكون وديعة عندهم، لأنه قال: «فَاسْتَنْفِقْهَا، وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ»، والحقيقة أن هذا هو الأسلم؛ لأن الأصل أن اللقطة إنما أكلتها بعد السنة لأجل عدم العلم بصاحبها، وهذا نوع من التكافل بين المسلمين، كما أني أنا بذلت في خلال سنة في مقابل التعريف، فما وجدت شيئا، فإذا أُكَافئ بأن آخذها، وهذه المكافأة إما أن تكون مكافأةً على سبيل القرض والوديعة -وهو الأصح- وإما أن تكون مكافأة على سبيل الهبة، كأن الشارع وهبك، هل الشارع يجوز أن يهب؟
نقول: يجوز للشَّارع أن يهبك ويُسوِّغ لك، لكن الأصل في ذلك أن مال المسلم إذا عُلم صاحبه وجب رده إليه؛ لأنه متى ما علمنا صاحبه فقد ارتفعت الجهالة عنه وأصبح مالًا معلومًا، فإذا كان مالًا معلومًا وجب رده إلى مالكه، وهذا هو القول الصَّحيح.
ولأجل ذلك كان طوائف من السلف يُعرض عن أخذ اللقطة بكل أحواله، يقول: ما هناك في اللقطة إلا البلاء، وقد جاء في السنن أن النبي قال: «ضالَّةُ المُسلِمِ حَرقُ النَّارِ»[1]، يعني كأنما هي حريقة عليك، ما يستفيد منها الإنسان شيئًا، لأنها تعريف وجهد، وبعد ذلك ستأخذها وستكون وديعة عندك، سيأتي صاحبها يومًا من الدهر، وربما ما يكون عندك شيء، فيصبح دينًا يطالبك به!
قال: «وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْماً مِنَ الدَّهْرِ فَأَدِّهَا إِلَيْهِ»، هذا حتى بعد التعريف؟ نعم، لأنه قبل التعريف ما يجوز، قبل التعريف إذا أخذتها وأكلتها فأنت بذلك عندهم متعدٍّ مفرِّط، يعني ما تمهل أنت أصلًا، وتكون آثمًا، ما تمهل: بمعنى أن طالبها لو جاء وقال: أعطينيها، فقلت: أكلتها! فيقال: لصاحبها الحق في أن يطالبك كما يطالب المدين ويشتد عليك في ذلك ما يشتد على المدين، بخلاف بعد السنة، بعد السنة يقال: الأصل في طالبها أنك يترفق به؛ لأن الشَّرع قد سوَّغ له ذلك، وقد قام بما أمر الله -عز وجل- به، فالأصل في ذلك أن تترفق به.
قال: «فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْماً مِنَ الدَّهْرِ فَأَدِّهَا إِلَيْهِ»، هل يعطيها له مُطلقا؟
نقول: لا، لأنه قال في بعض الروايات، كما هي رواية حماد بن سلمة، وحماد بن زيد: «احْفَظْ وِعَاءَهَا وعَدَدَهَا ووِكَاءَهَا، فإنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وإلَّا فَاسْتَمْتِعْ بهَا»[2]، إذا جاء الطالب تقول له: ماذا فقدتَّ؟ قال: فقدت ريالات. طيب كم عددها؟ قال: ألف، إذًا صدق في الجزئية الأولى. طيب في أي شيء كانت؟ قال: كانت في محفظة، طيب ما هو لونها؟ قال: لونها أسود، نوعها؟ نوعها من النوع الفلاني، إذًا عرف وعاءها وعفاصها وعددها؛ فتؤدَّى إليه، فإن خلَّط في ذلك وما عرف، قال: أنا ما أذكر يا أخي، والعهد في ذلك بعيد! تقول: لا يلزمني أن أدفعها لك! ولا يلحقك بذلك شيء، وقد يحصل كثيرا يكثر السؤال عنه خاصة لما يكون مبلغًا مجردًا أن تخرج من المسجد وتجد خمسمئة ريالًا ساقطة، ما فيها لا عفاص ولا وعاء ولا شيء! لو كان فيها عفاص ووعاء ففي الأعم الأغلب ما سقطت؛ لكنها ربما كانت في جيبه فأخرج شيئًا فسقطت معه، فهنا أتيت أنت تعرفها، وكتبت مَن فقد مبلغًا من المال فعليه أن يتواصل معي، فتواصل معك صاحبها، وقال: السلام عليكم، أنا فقدت مبلغا خمسمئة ريال. طيب، ما في عفاص ولا وعاء، ولكن فيه عدد، لكن فيه قرائن أخرى؛ لأنَّ النبي لَمَّا ذكر العفاص والوعاء ونحو ذلك، إنما أشار بذلك إلى معرفة القرائن، وأنها لا تدفع مُطلقًا، فيقال له: تعالَ ما عندنا مانع، أين فقدتها؟ قال: أظن أني فقدتها في حي كذا أو في مسجد كذا، أو في السوق الفلاني، أنا ذهبت إلى المنطقة الفلانية، ثم المنطقة الفلانية، ثم المنطقة الفلانية؛ فوجدت أنه قد أصاب واحدة من المناطق التي وجدتها فيها؛ فهذه بلا شك قرينة قوية تدل على أنه هو صاحبها.
والعمل بالقرائن في الشرع هو الصحيح، لأنه لا يلزم أن يكون كل شيء بينات قاطعة، هناك أحكام قد تكون بظنٍ غالبٍ، والظن الغالب معمول به في الشرع، خاصة فيما يتجاوز الحدود، أقصد الحدود الشرعية التي هي القطع ونحوه، فالأصل الحدود الشرعية أنه لا يُعمل إلا بيقين، لكن ما سوى ذلك يُتوسع فيه ويعمل بالظن بالغالب، وهذا جاء في كثير من السنة، ومما يدل على ذلك مثلًا إلحاق اللقيط بوالده بالقِيافة، والقيافة: أن نعرضهم على رجل من القافة، والقَافة: هم الذين ينظرون في الأشباه، فيقول: ما ندري عن والد هذا اللقيط، وادَّعاه أكثر من شخص اثنين أو ثلاثة أو أربعة، كلهم يقول: هو ولدي، هذا في الزمان الأول، أما الآن ففيه تحليل ما يسمى بالحمض النووي، فهذا يكشفه، لكن في الزمان الأول ما هناك طريقة، وكانت الطريقة أنهم يدعون له القافة، فيُدعون ويُدعى هذا الولد أو هذا الشاب أو هذه الفتاة؛ فينظر إليه وينظر إليهم، ويقول: أنت أقرب الناس شبهًا بهذا فيلحقه بوالده، هذا من الظن الغالب، فإذًا الظن الغالب معمول به.
قال: «وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الإِبِلِ؛ فَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟»، وفي بعض روايات أن النبي «فغضِب النبيُّ حتى احمرَّت وجنتاه»[3] وكان أبيض اللون مشوبًا بحمرة، فكان إذا غضب احمرَّت وجنتاه، فغضب حتى احمرت وجنتاه؛ لأنه رأى أن هذا نوع من التعدي في السؤال؛ ما شأنكم والإبل؟! يعني: لما رخَّصت لك في لقطة الذهب والفضة أتيت تترقى درجة حتى تريد أن تعتدي حتى على الإبل؟! الإبل تقوم بنفسها، فقال: «مَا لَكَ وَلَهَا؟»، لأن الإبل في الزمان الأول هي مال العرب، ولو فتح للناس باب دعوى الالتقاط في الإبل، لتحول الناس إلى سُرَّاق، وانظر الآن! إذا خرج الإنسان خارج المدن إلى الأرياف والقرى الصغيرة سيجد أن هناك إبلًا كثيرة سارحة أليس كذلك؟ لو أن الإنسان فتح على نفسه وقال: هذه كلها ضوال، والنبي رخص في الضَّوال، لتناهبها الناس وحصل بذلك الفساد العريض، والأصل: هو حماية مال المسلم بقدر الإمكان.
قال: «وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الإِبِلِ؛ فَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟ دَعْهَا؛ فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا»، حذاؤها: هو أظلافها، ولهذا قال النبي في الحديث الصحيح: «لا يزال الرجل راكب ما انتعل»، فالنعل الإنسان كالظلف لهذه البهائم.
والسقاء: هو سنامها.
ووعاؤها: هو كرشها الذي تخزن فيه طعامها وماءها، فالإبل أعلم بالماء وبمواردها منك.
قال: «فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ المَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا»، وهذا يدل على معنى، وهو أن الإبل إذا كانت في مكان لا تجد فيه ماء ولا شجرًا؛ جازَ التقاطها على أن تُعرَّف، لأنه يعامل فيها معاملة الذهب والفضة، إلا إذا كانت في مكانٍ تهلك فيه، في الصحراء وما تستطيع أن تعرفها، تحتاج إلى أن تقطع مسافات أربعمئة كيلو وخمسمئة كيلو، وأنت ما عندك الوقت لذلك! وعلمتَ أنها إن جلست في هذا المكان فإنها هالكة محالة، في ذلك الوقت قد يقال فيها بأنها تعامل كما تُعامل الشاة.
قال: «وَسَأَلَهُ عَنِ الشَّاةِ؛ فَقَالَ: خُذْهَا؛ فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ»، الشاة ضعيفة ليس عندها ما عند الإبل من الامتناع عن السباع، والسباع هنا هي السباع المعتادة، ما يأتي رجل فيقول: الإبل ما تمتنع من الأسود، ولا من النمور! نقول: ليس هناك نمور أو أسود في جزيرة العرب في الزمان الأول، وإذا كان فيه نمور فهي يسيرة جدًّا، وأما الأسود فلا يعرفها العرب، وإنما كان من السباع هنا إنما هو: الذئاب والكلاب ونحو ذلك، والإبل بلا شك أنها تمتنع من هذه، لكن الغنم ما تمتنع من هذه.
فإذًا رخَّص النبي في التقاط الغنم، وقال: «خُذْهَا؛ فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ»، يعني إما أن تأكلها أنت، أو يجدها صاحبها فيأخذها أو تكون للذئب.
وقول النبي : «خُذْهَا؛ فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ»، أقام الآن معنى الإخوة والتآزر، حتى فيما بعد لو أن صاحبها وقف عليك وقال: ما شاء الله! أكلت من شاتي! فقل: يا أخي إنما أنا أخوك، فكأنما هي ضيافة منك، كما قال النبي : «خُذْهَا؛ فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ»، فرخص النبي في أكلها.
تبقى مسألة: هل يستحب الالتقاط أو لا؟
قالوا في الصحيح: إنه يستحب الالتقاط لمن أمن على نفسه من التعدي، لو أنك وجدت لقطة خمسمئة ريال تأخذها أو لا؟ نقول: ما في بأس أنك تأخذها أو يستحب أنك تأخذها إذا كنت ستأمن على نفسك من التعدي فيها والتفريط، بمعنى أنك ستقوم فيها بالواجب الشرعي، ستعرفها سنة ثم تأكلها بعد ذلك، فإن كان يخشى على نفسه من أنه لا يستطيع ذلك إما لعجزه أو نحو ذلك؛ فنقول: الأحسن ألا يلتقطها.
مسألة أخرى: وهي أن اللقطة تكون لقطة بعينها وهذا معنى مهم، يعني لو أنك التقطت خمسمئة؛ فإن هذه الخمسمئة الورقة هي اللقطة، إذا استنفقتها أنت وقلت أنا عندي موجود في حسابي مليون وليس خمسمئة.
نقول: هذا نوع من التفريط؛ لأنَّ الأصل في هذه اللقطة أنها لقطة بعينها، وهذا إنما هو إقامة المِثل مقام الهالك، فأنت أهلكته الآن واستعضت عنها بمال عندك، وهذا قد يجعلك ضامنًا لها أبدًا، وهذه خطورة اللقطة، فيقال: الأصل هذه الخمسمئة، خذها واحتفظ بها عندك، لأن عين هذه الخمسمئة هي اللقطة، إذا استنفقتها أنت قبل المدة الشرعية ولو كنت ستضمنها، فإنك تُعد عند أهل العلم مفرطًا، فمن أجل ذلك كان كثيرًا من السلف -كما ذكرنا- ينفر من الالتقاط ولا يحرص عليه، يقول: ليس لي رغبة في الالتقاط.
تبقى أيضًا مسألة أخرى: وهي أجرة تعريف اللقطة، لو أن الإنسان عرف اللقطة ووضع منشورات ونحو ذلك؛ فعلى من تكون هذه الأجرة؟
خلاف بين العلماء -رحمهم الله:
- قال بعض العلماء: إن الأجرة تكون على ربها -الذي هو مالكها.
- وقال بعضهم: بل هي على الملتقط، لأنه نوع من الأمر الشرعي الذي يتعلق بك أنت ولا يتعلق بالمالك، فأنت المأمور بالتعريف، وإذا كنت مأمورًا بالتعريف ودفعت أنت مالًا لأجل أن تعرفها، كأن يقوم بإعلانات في مواقع التواصل الاجتماعي بمقابل مالي، كأن كانت اللقطة لقطة كبيرة فأعلن ببعض الإعلانات، وكان يظن أنه بعد هذه الإعلانات سينفقها ولا يأتي صاحبها، فتفاجأ أنه قد جاء صاحبها، فلما جاء صاحبها دفعها إليه، وقال: تعالَ أعطني قيمة الإعلانات. فهل يلزم ربها أن يعطيه هذا المال؟
هذه مسألة خلافية بين أهل العلم، لكن يظهر -والله أعلم- أنه يلزمه أن يعطيه، ولأنه ما عرفها إلا لأجل أن ترجع لصاحبها.
فإذا قال: ما تستحق هذه اللقطة أن تعرفها ولا أريدك أن تعرفها، فقل له: إذًا دعها، وما الذي جاء بك أن تطلب هذه اللقطة؟! فإذًا الظاهر -والله أعلم- أنَّ الأجرة إنما تكون على مالكها.
ويُستثنى من ذلك لقطة الحرم، فإن لقطة الحرم لا تُملك البتة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «ولا تُلتقطُ لقطتُه إلا من عَرَّفَها»[4]، وجاء أيضا في صحيح مسلم: «أنَّ النبي نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الحَاجّ»[5]، يعني: أنك إن التقطتَّ فستبقى معرفًا لها أبد الدهر ولن تتملكها؛ لأنَّ هذا من تعظيم الحرم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى: (بَابُ الوَصَايَا
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:
«مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ؛ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ».
وزَادَ مُسْلِمٌ: "قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي")}
هذا باب جليل، من الأبواب المهمة وهو باب الوصايا، وباب الوصايا هو الأمر بتنفيذ شيء ما بعد الموت، هذا هو الأصل في الوصية؛ لأن ما قبل ذلك يعد من الهبات ونحو ذلك، وما بعد ذلك يعد من الوصايا.
والأصل في الوصايا من حيث حكمها: أنها تدخلها الأحكام الخمسة: التحريم، والكراهة، والإباحة، والسنية، والوجوب، فيجب عليه إذا كان عليه دين لا بيَّنة له به، فإنه يجب عليه يوصي به، لأن هذا حق من الحقوق التي لا يحصل أداؤها إلا بالوصية والإفصاح، فينبغي للإنسان ما دام أنه قد استدان من أحد ما دينًا أن يسجله، وليس من شرط الدين يكون مالًا، قد تشتري منه سلعة، فتقول: أنا أشتري منك بيت مثلًا وسأعطيك خمسمئة ألف ريال اليوم، وخمسمئة ألف ريال بعد سنة، إذًا اذهب إلى وصيتك فسجل أن مبلغًا عليّ لفلان قدره خمسمئة آلاف ريال ناتج من بيعه لي البيت الفلاني، اشتريت منه سيارة أو اشتريت منه بضاعة تسجلها كلها، هذه كلها حقوق واجبة، إلا إذا كان بينك وبينه عقد ومعه العقد، ويستطيع أن يذهب ويطالب به أولادك؛ نقول ها هنا ما يجب، أو كان هناك شهود أحياء يشهدون على هذه المبايعة، أو على هذا الحق والدين، فنقول: ها هنا لا يلزمك أن تبيِّنه.
تسن أيضا الوصية لمن ترك مالًا كثيرًا، فيسن له أن يوصي بالثلث فما دون؛ لأن الأصل في الوصية أن الله -عز وجل- قد رحمك، والأصل في المال: أن مالك بعد وفاتك ليس لك، خلافا للنظام الغربي والأوروبي، النظام المادي الذي يجعل هذا المال ملكًا لصاحبه حتى بعد وفاته، فيكون لك الحق أن توصي لمن تشاء، حتى إنهم يوصون للكلاب والبهائم ويحرمون منها أهاليهم! وتجد أنه يضار في الوصية ضررًا عظيمًا، فربما أوصى بثروته كلها لأحد أولاده وترك البقية عقابًا لهم وتعزيرًا لهم أو نحو ذلك، وربما كانت معه زوجُه السنوات الطويلة كلها ثم يحرمها منه، فالله -عز وجل- تولَّى القسمة، قال: الثلثان هم لله يقسمها كيف يشاء، فقسمها سبحانه وبحمده، وجعل لكلِّ قرابتك حق بحسب قربهم منك وأولويتهم منك، فالدائرة الواسعة التي يحصل بها الميراث هي:
- دائرة الأصل الوارث: وهما الوالدان.
- والفرع الوارث: وهما الأولاد سواء كانوا ذكورا أو إناثا، والزوج والزوجة.
يعني هؤلاء إذا وُجدوا أو كان أحد منهم موجودا فإنه سيرث بكل حال لا يحرمون، تواجدوا كلهم فكلهم سيرثون لكن بحسب النصيب والقسمة التي قسمها الله -عز وجل- بينهم، ثم ينتقل الأمر إلى من بعدهم، إلى الإخوة وإلى أبناء العم، فهم في منزلة أبعد من هذه المنزلة.
فإذًا الأصل أنَّ الله -عز وجل- قد تولَّى قسمة الميراث في الثلثين ونزعها منك، فما لك فيها أنت يد، ستموت وسينظر مَن خلفت، هلكَ هالك عن فلان وفلان وفلان، زوج، أو زوجة، ابن، بنت، أم، أب، ثم يقسم بينهم القسمة الشرعية، وما سوى ذلك من الثُّلث قد رخَّص الله -عز وجل- لك فيه تعمل به ما شئت، على أن لا توصي به لوارث، لأن كيف توصي الوارث والله -عز وجل- قد تولى القسمة له، فما يأتي رجل حضرته الوفاة فيقول: بما إني رجل محب لزوجتي، وبما أن زوجتي ليس لها إلا الثمن لوجود الفرع الوارث الذين لهم أولادي، فإذًا سأوصي له أيضا بالثلث كاملًا! نقول: ما يجوز، هذه وصية لوارث فلا تجوز، لأن الوصية إنما تكون لغير الوارث، هذا هو الأصل، حتى إن العلماء -رحمهم الله- قالوا: إنه لو أوصى لغير وارث فأصبح عند الموت وارثًا حُجب ومُنع منها.
على سبيل المثال: أوصى لأخيه، وقد كان أخوه غير وارث لوجود الفرع الوارث، لأن لهذا الموصِي ولدًا -ذكرًا أو أنثى- لكن شاء الله أن يتوفى قبل وفاة والده، فأصبح الآن ما يوجد عنده فرع وارث، وأصبح الأخ الآن وارثه، فتبطل الوصية فيه.
إذًا يسن له أن يوصي في الثلث فما دون، إذا كان ذا مال كثير.
وقالوا: إنما تكون الوصية بالثلث فما دونه أو يكون النظر فيه إلى كثرة المال، فإذا كان الرجل صاحب مال كثير ويعلم أن الثلثين يكفيان أهله، ويزيدا عن حاجتهم كما هو الحال في كبار التجار، فمثل هذا يشرع له أن يوصي بالثلث كاملًا، ويُوصي به في وجوه الخير، سواء كانت وجوه الخير متعلقة بصفات أو كانت متعلقة بأشخاص.
متعلقة بالصفات: كأن يقول: أوصي به للفقراء -أي جنس الفقراء- أو أوصي به للمساكين، أو لطلاب العلم.
متعلقة بأشخاص كأن يقول: أوصي به لفلان من الناس من طلبة العلم، أو لفلان من الناس من الفقراء، أو لفلان من الناس من العُبَّاد. فهذه كلها جائزة.
قالوا: فإن كان ماله دون ذلك، ويُخشَى أن يكون هناك ضرر على ورثته إذا أوصى بالثلث فإن له أن ينزل في ذلك، حتى إن الصديق -رضي الله عنه- قال: "رضيت لنفسي بما رضي الله -عز وجل به"، فأوصى بالخمس؛ لأنّ الله تعالى قال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ [الأنفال:41]، وقال ابن عباس -رضي الله عنه- وهو الفقيه الألمعي: "لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ لأنَّ النبي قال: «الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِيرٌ»[6]"، وقد نهى النبي سعدًا -رضي الله عنه- لَما أراد أن يوصي بماله كله، فإن النبي دخل على سعد وهو مريض، فقال: يا رسول الله، أصابني الوجع، وإنه لا يرثني إلا ابنةٌ لي، فهل أوصي بمالي كله؟ قال: «لا»، فما زال يناقصه حتى أوصى بالثلث، ثم قال: «الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِيرٌ». فهذا سعد -رضي الله عنه- وهذا حاله.
إذًا؛ الأصل في الوصية أنها تسن لمن ترك مالًا كثيرًا أو يوصي بالثلث فما دونه.
وتُكرَه الوصية إذا كان له ورثة فقراء يحتاجون إلى ماله؛ لأن النبي قال: «الأقربونَ أَوْلَى بالمعروفِ»[7]، وقال : «أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»[8]، وقال : «ابدَأ بنفسِكَ ثمَّ بمَن تعولُ»[9]، فإذا كنت تعلم أن مالك يسير، وأنه لا يفي بحاجة ورثتك؛ نقول: ما يُشرَع لك أن توصي، بل احتسبها عند الله -عز وجل- احتسب أن هذا المال يكون نفقة عليهم، وستؤجر عليهم، ستؤجر في تركك الوصية كما يؤجر غيرك في الوصية.
وتحرم إذا كانت بما زاد عن الثلث، فإذا أوصى بما زاد عن الثلث، أو أوصى لوارث أو كان فيها جنف أو إثم، فإنها كلها محرمة.
وتباح إذا كان له ورثة أغنياء، فإنها تُباح بالثلث فيما دون.
قال: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ؛ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَه».
حديث ابن عمر -رضي الله عنه- هو الأصل في مشروعية الوصية، وقد قال بعض العلماء -رحمهم الله- بوجوب الوصية إذا كان له شيء يُوصي به، والحقيقة أن الحديث يدل عليه، لأن النبي قال: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ»، يعني حقٌّ على هذا المرء المسلم إذا كان له شيءٌ يوصي فيه، أي: دين ثابت عليه، فإذا كان عليك دين ثابت في ذمتك، وليس هناك ما يثبته عند الدائن فيجب عليك أن تثبته أن على نفسك؛ لأن هذا من استيفاء الحقوق.
فإذا كان هناك دينٌ لك على غيرك وما هناك إثبات؛ فيُشرَع لك أن تذكره، ولكن ليس واجبًا عليك، لأن عدم ذكرك له كأنما هو تنازل عنه، لكن الإشكالية أنك قد تدخل مَن بعدك من الورثة في نزاعات من جهة أنهم يقولون: أننا نذكر أن لوالدنا حق على فلان من الناس، فيذهبون يطالبن به، وربما أنكر هذا الرجل، فأنت تكون قد حرمت ورثتك من هذا المال الذي هو حق له.
وبناء عليه يُقال: ينبغي أن يوصي الإنسان بما له وما عليه، وإذا أراد أن يُحسِن فيما له فإنه يُقال له: اكتب: وإني لأطلب من ورثتي أن يتسمَّحوا في المطالبة وأن لا يشددوا في المطالبة. فهذا أمرٌ حسنٌ، مع أن هذا فيما بعد ليس لك، فما دام أنك أثبتَّ الحق فإن الأمر راجع للورثة، ولكن يكون نوعًا من الوصية بالخير.
قال: «يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ؛ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»، هذا مما يدل على قصر الأمل، النبي إنما رخَّص في الوصية وفي ترك الوصية ليلة أو ليلتين، فما أكثر من ذلك فلا، دلالة على قصر الأمل وعلى أن الإنسان ينبغي له أن يقصِّر عمره ويقصر أمله.
قال المؤلف: (زَادَ مُسْلِمٌ: "قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي").
هذا من امتثال ابن عمر -رضي الله عنه- لأمر النبي وهو يدل على أن الإنسان ينبغي له أن يبادر في مثل هذا الأمر حتى لو كان شابا، أنت عندك مال تريد أن توصي إذًا اكتب وصيتك من الآن حتى لا يأتي عليك زمان لا تستطيع أن توصي فيه.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله-: (عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ؛ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لَا»، قُلْتُ: فَالشَّطْرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لا»، قُلْتُ: فَالثُّلُثُ؟ قَالَ: «الثُّلُثُ؛ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ؛ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا؛ حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ»، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدُّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ البَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ؛ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ»)} .
لعلنا نتوقف على حديث سعد -رضي الله عنه- نشرحه -إن شاء الله عز وجل- في المجلس القادم.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، وإلى هنا تكون حلقتنا قد انتهت، ونستودعكم الله -عز وجل- وإلى حلقة مقبلة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
------------------------------
[1] صحيح الجامع (3896).
[2] صحيح البخاري (2426)، صحيح مسلم (1722).
[3] صحيح الترمذي (1372).
[4] أخرجه البخاري (1834)، ومسلم (1353).
[5] صحيح مسلم: (1724).
[6] صحيح البخاري (5659).
[7] المقاصد الحسنة (96).
[8] صحيح البخاري (5668).
[9] إرواء الغليل (1448).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك