الدرس الرابع

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

9850 9
الدرس الرابع

عمدة الأحكام 3

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله معاشر طلاب العلم، نرحب بكم في (المستوى الرابع) من برنامج (جادة المتعلم)، نستكمل شرح كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه الله- يصحبنا في شرحه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، حياكم الله شيخنا}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإياهم العلم النافع، والعمل الصالح.
{اللهم أمين، نستأذنكم شيخنا في البدء.
قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ فَأَعْيَا، فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ، فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ فَدَعَا لِي وَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْراً لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ، قَالَ: «بِعْنِيهِ بِأُوقِيَّةٍ»، قُلْتُ: لَا، ثُمَّ قَالَ: «بِعْنِيهِ»، فَبِعْتُهُ بِأُوقِيَّةٍ، وَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلَانَهُ إِلَى أَهْلِي، فَلَمَّا بَلَغْتُ أَتَيْتُهُ بِالجَمَلِ فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَقَالَ: «أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لِآخُذَ جَمَلَكَ؟ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أمَّا بعد، فحديث جابر -رضي الله عنه- مع حديث عائشة السابق -رضي الله عنها- هما العمدة في باب (الشروط في البيع)، وباب الشروط في البيع من الأبواب التي قد تنازع فيها العلماء قديمًا، ما بين مُوسعٍ ومضيق، فإذا نظرنا إلى الظاهرية -رحمهم الله- وعمدتهم في هذا الإمام ابن حزم -رحمه الله- سنجد أنه من أشد الناس تضييقًا في هذا الباب، فهو لا يُجيز من الشروط إلا الشروط المنصوصة في الكتاب والسنة، وبناء عليه فشروط النصوص في الكتاب والسنة شروط يسيرة جدًا، لا تتجاوز عشرة شروط، منها مثلا:
-      اشتراط الكفيل.
-      اشتراط الحملان، كما في حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه.
-      اشتراط بائع الثمرة على المشتري أن تكون ثمرته له.
-      وغير ذلك من الشروط اليسيرة التي جاء النص بها من رسول الله .
ومن المعلوم أنَّ النبي ما أتى ليبين لنا كيف نبيع وكيف نشتري؟ لأنَّ البيع والشراء من الأمور الجبلية، ولهذا قال النبي للصحابة -رضي الله عنهم- لَمَّا قَدِمَ إليهم المدينة وهم يؤبِّرونَ النَّخلَ: «ما أرى ذلك يغني عنكم شيئا!» فتركوه فخرج شيصًا، فلمَّا بلغ النبي ذلك قال: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»[1].
هل جاء الشرع وفتح باب المعاملات فتحًا مُطلقًا، وقال للناس: تبايعوا كيف شئتم بلا قيد ولا شرط؟ نقول: لا، بل وضع شروطًا، وقعد القاعدة العامة، وهي قول الله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ﴾ [البقرة:275]، ولذا كان الأصل أن كل ما كان بيعًا فهو حلال، حتى يرد عليه ما يصرفه عن الحلية إلى الحرمة، وقد ذكرنا أن رؤوس المسائل التي تصرف البيع من كونه حلالاً إلى كونه حرامًا ثلاثة أبواب كبيرة، مضى معنا منها بابان، وهما: (باب الغرر) و (باب الغش)، وبقي منها باب ثالث، وهو أصل هذه الأبواب، وهو: (باب الربا).
ولهذا وجب أن ينظر في أي معاملة إلى هذه الأمور الثلاثة، وهي:
هل يكتنفها غش؟
هل يكتنفها غرر؟ والغرر هو الشيء المجهول الذي لا تعرف هل يتم أو لا يتم؟ ويؤدي غالبًا إلى التنازع.
هل يكتنفها ربا؟
فإذا كانت المعاملة خالية من هذه الثلاث كانت حلالاً، وعلى من أنكر عليك ذلك أن يأتي بالدليل.
إذًا الظاهرية قالوا: الأصل في الشروط هو التضييق، وضيقوا فيها إلى الغاية، ثم تتابعت من بعدهم المذاهب شيئًا فشيئًا.
وجاء مذهب الشافعية بعد الظاهرية في التضييق، والمذهب الحنفي قريب منه، ثم كان أوسع هذه المذاهب المذهب المالكي ثم المذهب الحنبلي، فهو أوسع هذه المذاهب في الشروط، ويرى أنَّ الأصل في الشروط هو الجواز، ما لم يكن هذا الشرط مخالفًا لمقتضى العقد أو مقصود العقد، وإلا فإنَّ الأصل في العقد أنَّه جائز.
وأمَّا قول النبي : «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ» فليس على ما فهمه ابن حزم، من أنَّ الشرط الذي في كتاب الله هو الشرط المنصوص في القرآن أو المنصوص في السنة، بدليل أنَّ هذا الحديث الذي معنا حديث جابر -رضي الله عنه- فيه شرط ليس منصوصًا عليه في القرآن، وإنما المراد: كل شرط ليس في كتاب الله، أي كل شرط يخالف المقتضى من العقد، أو يخالف النص الشرعي. لماذا؟
لأنه لا ينبغي أن يُعزل الحديث ولفظه عن سببه، فإنَّ هذا الحديث وارد على سبب، وهو حديث بريرة -الذي كان معنا في المجلس الماضي- والسبب أن هؤلاء باعوا الجارية وأرادوا أن يشترطوا ولاءها، ومن المعلوم أنَّ الولاء لمن أعتق شرعًا، فأنت أتيت تخالف مُقتضى الشرع. كحال من أراد أن يبيع فقال للمشتري: سأبيعك هذا البيع بشرط أن هذا البيع لا يفيد التملك. نقول: لا يجوز شرعًا. لماذا؟
لأن الشرط هذا يخالف مُقتضى البيع، لأنَّ الأصل في البيع التملك، وبالتالي لا يجوز لك شرعًا.
أو كحال من قال: أؤجرك هذا البيت، والأصل في الإجارة المنفعة، فإذا قال: أؤجرك البيت بشرط أن لا تسكن فيه، ولا تنتفع به. ما المقصد منه إذًا؟ قال: المقصد منه أن يقال: إنك استأجرت البيت. نقول: هذا ليس صحيحًا، والشرط مخالف لمقصود العقد ومقتضاه، وبالتالي فالشرط يعد باطلا، وهو مخالف لكتاب الله -عز وجل-؛ لأنَّ هذه هي القواعد العامة في هذه المعاملات. فالأصل في الإجارة المنفعة واستغلال المنفعة، والأصل في البيع التملك، فإذا جاء شرط يعترض هذه الأصول والقواعد في هذه الأبواب كان شرطا مردودًا.
إذًا جاء الحنابلة فوسعوا، ثم جاء من بعدهم شيخ الإسلام ابن تيمية فوسع في ذلك توسيعًا عامًّا، أخذه من مقاصد الشريعة، ونظر إلى عموم الأدلة، وإلى عموم الأقوال، وإلى عموم المذاهب، فجمع منها هذا القول الذي دلَّ على التوسع في الشروط.
وقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هو القول المعمول به الآن في عامة بلدان الإسلام، وهو القول الذي استقر عليه عمل الناس، ولا يستطيع أحد الآن أن يعمل بقول الظاهرية. لماذا؟ لوجود عقودا كثيرة يلتزم بها الناس، عقود عمل مع جهة العمل، عقود عمالة في حال ما إذا كان لديك عمال، وعقود تعقد وتبرم مع الشركات، إذا ما أردت أن تشتري منهم أي بضاعة من البضائع، وهذا العقود كلها عند ابن حزم باطلة. لماذا؟ لأنها تحتوي على شروط كثيرة.
والآن في هذا الزمن -وهذا مما يؤكد لنا هذا الباب- أصبحت القاعدة في العقود هي: الشروط، بينما في الزمان الأول ما كان يُشترط، وأما في هذا الزمان فتجد اشتراطات العقد، والتزامات الطرف الأول، والتزامات الطرف الثاني، والالتزامات المشتركة بين الطرفين، شروط طويلة حتى تأتيك عقود من عشرات الصفحات، إن لم تكن مئات الصفحات كلها التزامات بين الطرفين؛ لإتمام هذا العقد بالطريقة التي يتراضيان عليها، فهل نبطلها؟ نقول: لا.
إذًا الأصل في الشروط بوجه عام: الحل والإباحة، والأصل أنه إذا وجد الشرط المخالف لمقتضى العقد أن يبطل الشرط، ولا يبطل العقد؛ لأن الأصل هو تصحيح العقود ما أمكن، وذلك حتى لا تفسد عقود الناس، ويصبح الإنسان المتحايل إذا ما أراد أن ينال غرضه من حاجة ما؛ أَبرمَ عقدًا مع شخص آخر، وغرَّه بأن اشترط في هذا الشرط شروطًا باطلة، ثم يأتي بعد أن ينال حاجته من هذه السلعة وهذه البضاعة أو هذه المنفعة يقول: هذا العقد باطلا. لماذا؟ لأنَّ هناك شروط باطلة، نقول: لا. العقد ماض، والشروط هي الباطلة، ومردودة عليك، بدليل أنَّ النبي قد أمضى العتق، وأمضى الشراء الذي أبرمته عائشة مع أهل بريرة، ولكنه أبطل شرطهم، وما قالوا عندها: رد علينا البيع. نقول: ليس هناك رد للبيع، بل البيع مضى، وهو صحيح، والشرط هو الباطل.
إذًا كان عندنا في الحديث السابق ما يدل على الشروط الباطلة، وفي هذا الحديث عندنا ما يدل على الشروط الجائزة، وقد ذكرها هنا فقال: (أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ فَأَعْيَا)، وكان هذا جمل جابر -رضي الله عنه-، وهذا الحديث من أشهر الأحاديث، وهو معروف تحت مسمى: جمل جابر -رضي الله عنه-، وهو حديث واسع الأطراف، حتى إنَّ الإمام البخاري -رحمه الله- يُعِدُّ هذا الحديث ثاني أكثر الأحاديث في البخاري من حيث عدد الأطراف، وهو بعد حديث عائشة -رضي الله عنها- في الحج، وهذا الحديث نثره الإمام البخاري وفرقه في مواضع كثيرة، وفيه اضطراب في تعيين الثَّمَن، وهذا من الأمثلة التي تدل على أن من الاضطراب ما لا يُعَلُّ به الحديث؛ لأنهم قد اختلفوا في تعيين الثَّمن، يعني: ما هو الثمن الذي دفعه النبي في شراء البعير من جابر؟
قال بعضهم: أوقية، وقال آخرون: أربعون درهمًا، وقيل: أقل من ذلك أو أكثر، فاختلفوا فيه اختلافًا كثيرًا.
هل هذا الاختلاف يعلُّ الحديث؟
لا، لا يعلُّ الحديث؛ لأن تعيين الثَّمن لا يفيد بشيء، وإبهام الثمن لا يضر الحديث، وهو باق على ما هو عليه.
قال: (أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ فَأَعْيَا، فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ) يعني: يدعه ويتركه، ويقول: أمشي برجلي أحسن من أن أمشي على هذا الجمل، الذي يمشي تارة ويقف تارة.
قال: (فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ ) وقد كان جابر -رضي الله عنه- حديث عهد بفقد والده، وقد تزوج امرأة ثيبًا تقوم على أخواته، وكان له تسع أخوات، وما كان لوالده إلا جابر -رضي الله عنه-، ولهذا لَمَّا كانت معركة أحد التي استشهد فيها عبد الله بن حرام -والد جابر رضي الله عنهما- دعاه والده فقال له: إني لا أخلف أحدًا بعد رسول الله أحب إليَّ منك، وإنه لولا الجنة والشهادة لما آثرت نفسي عليك، ولهذا قيل: إنَّ جابرًا ما شهد غزوة أحد -رضي الله عنه-، ثم أوصاه بأخواته خيرًا، فحمل جابر -رضي الله عنه- هذا الحمل الثقيل، وكان النبي رحيمًا، يعلم أنَّ جابرًا -رضي الله عنه- قد فقد أمه من قبل، ثم فقد والده، وهو لا يزال شابًا؛ لأنه في ذلك الوقت كان قد بلغ تسع عشرة سنة أو قريبا منها، فصار ينوء بحمل تسع أخوات ينفق عليهن، ولم يخلف عبد الله بن حرام -رضي الله عنه- مالاً، بل خَلَّفَ بستانًا، وكان عليه دين عظيم، وقد ذكر جابر -رضي الله عنه- مع هذه القصة قصة الدَّين.
الشاهد، أنَّ من ضمن متاع جابر الذي خلَّفه والده له هذا الجمل العيي الكبير، قال: (فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ ) فقال: ما شأنك؟ قلت: الجمل. قال: (فَدَعَا لِي وَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْراً لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ). قال في الحديث الآخر: حتى جعلت أكفه أن يسابق النبي ، فتحول من جمل هزيل إلى جمل نشيط، حتى أصبح في المقدمة بعد أن كان في المؤخرة، وهذا ببركة دعاء النبي .
ثم قال له النبي : («بِعْنِيهِ بِأُوقِيَّةٍ»)، هذا الثمن هو أقل من ثمن هذا الجمل، ولكنَّ النبي ما كان يريد شراءه، وإنما كان يريد به نفع جابر. قال: («بِعْنِيهِ بِأُوقِيَّةٍ»(قُلْتُ: لَا)، وفي هذا دلالة على أنه في حال البيع والشراء تجوز المماكسة، وليس في هذا ما يخدش المروءة ولا الحياء، ولكن يحسن لمن وسع الله -عز وجل- عليه أن لا يُماكس ضعاف الناس في الأمور البسيطة.
مثال: رجل يمتلك الملايين ثم يذهب إلى محل من المحلات الصغيرة -الأكشاك- التي تبيع منتجات فإنَّ هذا لا يليق، ولكن لو فعل لم ينكر عليه، ولكن يقال: إن الأولى بالإنسان أن لا يماكس، وأن يحتسب ما زاد من باب النفع؛ لأنَّ هذا البائع يريد أن يكف وجهه بهذا العمل، فينبغي لك أن تعينه من غير أن تكسر خاطره؛ لأنَّ بعض الناس يريد الشراء فيسأل بكم؟ يقال: بعشرة، فيقول: لا، خمس ريالات تكفي، ثم يعطيه العشرة كاملة. نقول: هذا فيه نوع من كسر النفس، وهذا ليس من الصدقة عليه، والأولى أن تجعلها إعانة له، وهذا مما يؤجر الإنسان عليه، بل ربما كان أجره عليه أعظم من تصدقه بالصدقة الخالصة؛ لأن كثيرًا من هؤلاء من المستعففين، يأكل من عمل يده، وليس له عيشة إلا هذا، ولذا ينبغي للإنسان أن يعينه.
الشاهد، أنَّ جابرًا قال: لا. (ثُمَّ قَالَ: «بِعْنِيهِ»، فَبِعْتُهُ بِأُوقِيَّةٍ، وَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلَانَهُ إِلَى أَهْلِي). الآن وقع الإيجاب والقبول، وبالتالي تم البيع، ولم يتبق إلا خيار المجلس، ويظهر أن جابرًا -رضي الله عنه- سيفترق ويتقدم في الجيش أو يتأخر ويتقدم عليه النبي ، والمهم أنهم سيفترقون افتراقًا ينقطع معه خيار المجلس بكل حال.
لكن الشاهد من ذلك بعد أن تم الإيجاب والقبول أصبح الجمل ملكًا للنبي ، وأصبحت الأوقية ملكًا لجابر في ذمة النبي ؛ لأنَّ النبي لم يعطه، وهذا يدل على جواز بيع النسيئة، أي: البيع المؤجل، وعلى أنه يُتَسَمَّح في الأجل اليسير. كيف؟
الأصل أني إذا بعتك بيعًا أن أوفيك الثمن، وإن كنت لن أوفيك الثمن الآن فعلى الأقل لا بد أن أحدد لك مدة حتى ما يقع بيني وبينك نزاع. مثال: أنا سأشتري سيارة وسأتفق على دفع الثمن بعد أسبوع أو بعد شهر، هذا هو الأصل حتى لا يقع بيننا نزاع؛ لأن هذا كأنما أصبح قرضًا، أقرضتك إياه، لأنه أصبح في ذمتك وما سددته لي فورا، ولكن إذا كان الزمن يسيرا فإنه يتسمح فيه، ولا يحتاج إلى تسمية أجل.
إذًا النبي ها هنا اشترى بأوقية ولم يعطه الثمن ولم يسمِّ الأجل، فدل ذلك على جواز هذا البيع.
قال: (وَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلَانَهُ إِلَى أَهْلِي)، أي قلت: يا رسول الله الجمل لك الآن، ولكن سأستثني ظهره إلى المدينة، يعني: سأركبه واستخدمه إلى أن أصل إلى المدينة، وهذا يدل على جواز بيع المبيع واشتراط منفعة فيه مدة معلومة. كيف؟
عندي بيت أنا ساكن فيه، وأردت أن أبيعه، فقلت لصاحبي: سأبيعك البيت، وينعقد البيع، ويصبح البيت مُلكا لك، ولكني سأشترط أني سأبقى فيه سنة، وبعد السنة أُسلمه لك. هل يجوز؟
نقول: نعم ما في بأس، لحديث جابر -رضي الله عنه-، واشتراط المنفعة في البيع هو من الشروط التي يحتاج إليها الناس الآن في هذا الزمان كثيرًا؛ لأنها من الأمور التي توسع لهم البيع دائمًا، والبيع أحيانا يعقد بغتة وفجأة، والأصل أنه حينما يعقد البيع تخرج من البيت، أو تنزل من السيارة، وهذا يحصل كثيرا في السيارات، تجد أنك تبيع السيارات، ومن حين ما تم الإيجاب والقبول بين البائع والمشتري فقد تم البيع، وليس من الشرط أن تسلمه السيارة ويسلمك الثمن، لأنَّ هذا الأمر يكون لاحقًا، والبيع إنما هو الإيجاب والقبول، وحصل التفرق فقد ثبت البيع، وأصبحت السيارة ملكا للمشتري، والمبلغ ملكا للبائع.
ولكن من صور البيع حاليًا ما يتم عن طريق وسائل التواصل وغيرها، أو عن طريق الهاتف، ويبقى صاحب السيارة ينتفع بها يومًا أو يومين وثلاثة، وهذا الانتفاع إذا لم يشرطه أو يأذن به العرف فهو انتفاع محرم؛ لأنَّ الأصل أن السيارة ملك له، فإذا بعته وطلبت الانتفاع بالسيارة فترة واتفقتما على ذلك فلا بأس، وإذ لم تتفقا وانتفعت بالسيارة لجاز له أن يطالبك بالأجرة! يقول لك: أنت انتفعت بسيارتي مدة أسبوع؛ أعطني الأجرة على هذا.
فإذًا الأصل في ذلك أنه يجوز للإنسان أن يشترط هذا الشرط، وهو من الشروط التي يحتاج إليها الناس في هذا العصر.
قال: (فَلَمَّا بَلَغْتُ أَتَيْتُهُ بِالجَمَلِ فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ)، أي لَمَّا جاء إلى النبي أمره النبي أن يصلي ركعتين في المسجد؛ لأنَّ هذا من هدي النبي ، أنه حينما يرجع إلى المدينة كان أول شيء يبدأ به أن يصلي في المسجد.
قال: (فَلَمَّا بَلَغْتُ أَتَيْتُهُ بِالجَمَلِ فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ) وفي بعض الروايات أنه جاءه من الغد، فطلب منه النبي أن يصلي ركعتين. قال: (فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ)، أي: أعطاه ثمن الجمل، "أُوقِيَّةٍ" أو أكثر أو أقل على الخلاف المشهور.
قال: (ثُمَّ رَجَعْتُ، فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَقَالَ: «أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لِآخُذَ جَمَلَكَ؟») يعني: تعتقد أني حينما ماكستك كنت أريد أن أخذ جملك؟ أنا كنت أريد أن أنفعك، فالنبي كان يريد أن ينفعه من غير أن يكسره، وهذا أحسن ما يكون من النفع، أن تنفع الإنسان الذي ترى أنه في حاجة وهو متعفف من غير أن تكسره؛ لأنَّ كسرة الإنسان تلقي عليه طابع الذلة، وتجعله مهينًا. كيف؟ أي يصبح أمر السؤال عند من الأمور العادية، فيسأل الناس ويطرق أبوابهم، وأبوب المساجد، وهذا أمر لا يقبله الشرع ولا يحبه، والأصل أن لا يفعله الإنسان، وقد جاء عن النبي أنه قال: «مَن سَأَلَ النَّاسَ أمْوالَهُمْ تَكَثُّرًا، فإنَّما يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ، أوْ لِيَسْتَكْثِرْ»[2]، وقوله: «ما يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حتَّى يَأْتِيَ يَومَ القِيَامَةِ ليسَ في وجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ»[3]، وهذا فيه إشارة إلى افتقاده للحياء، ولذا فالأصل أن المسلم كريم وشريف وعزيز، وقد جعل الشرع ما يتعلق بإهانة المسلم مقدمًا على كل شيء، لدرجة أنها مقدمة أحيانا على بعض شروط الصلاة، ولذلك نجد بعض الرسائل المهمة الآن مثل: المسائل المعللة بالإهانة، وفيها: لو أنَّ الإنسان فقد الماء في سفر، وما استطاع أن يحصل على الماء إلا بسؤال تحصل به المنة عليه، كما لو أنه طرق بابًا وسأل الناس عن الماء -هذه تحصل بها المنة- قال: جاز له التيمم؛ لأنَّ الإسلام عظَّم شأن المسلم وشرَّفه والمسلم عزيز.
ولذا فالنبي لم يُرد أن يُعَوِّد أصحابه على السؤال فلجأ إلى هذا الأمر الحسن، وهذا ما ينبغي للإنسان أن يفعله، فقد يأتي من يريد منك قرضًا فتسلفه، ثم تعلم أنَّ هذا الرجل بحاجة، وأنه لا يمكن أن يسأل الناس صدقة أو زكاة، فيمكنك أن تخبره أن المبلغ الذي أسلفته إياه هو هدية له، وهذا أمر حسن، وهو مشابه لفعل النبي مع جابر، فقد اشترى منه الجمل وأصبح بيعًا مما استوجب أن يرد عليه النبي الجمل وثمن البيع.
قال: «أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لِآخُذَ جَمَلَكَ؟ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ» وفي هذا الحديث ما ذكرناه من أنَّ الأصل في الشروط في البيع هو الجواز، وقد بينَّا أنَّ جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قد استثنى حملان الجمل إلى أهله، ولم يستنكره النبي .
{أحسن الله إليكم.
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلَا تَسْأَلِ المَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا»)}.
حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قد مضى شرح جملة منه، وهي: «أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ»، وذكرنا أن هذا هو معنى السمسرة، وذكرنا الحالات التي يجوز فيها بيع الحاضر للباد، وذكرنا أيضًا معنى النجش، كما في حديث أبي هريرة السابق، وذكرنا أيضًا معنى البيع على بيع أخيه، والخطبة على خطبة أخيه، وقد بينا أنَّ النَّبي قال: «ولا يَخطُبَ الرَّجلُ على خِطبَةِ أخيه، حتَّى يَترُكَ الخاطِبُ قَبلَه أو يَأذَنَ له الخاطِبُ»، فهذه المسائل كلها قد ذكرناها في المجالس الماضية، وفي هذا الحديث زيادة، وهي قول النبي : «وَلَا تَسْأَلِ المَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا»، هذا اللفظ هو ألصق وأشبه بباب النكاح، ولهذا فالفقهاء -رحمهم الله- يجتزئونه ويضعونه في (باب النكاح)، لكنه يُفيد بوجه عام معنى اجتناب كل ما يثير الضغينة والبغضاء بين المسلمين، فكل ما كان سببًا في إثارة الضغينة والبغضاء بين المسلمين؛ فإن الشرع قد حرمه وأغلق بابه، ولهذا حَرَّمَ البيع على البيع، والشراء على الشراء، على السوم على السوم، والخطبة على الخطبة؛ لأنها كلها مما توجب الضغائن بين المسلمين.
ومنها هذا الباب، أي: سؤال المرأة طلاق أختها «لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا» سواء كان السؤال هذا من الزوجة الأولى -القديمة- أو من الزوجة الثانية -الجديدة- يعني: الزوجة الثانية لَمَّا أراد أن يتزوجها أخبرها بخير زواجه من الزوجة الأولى، فردت وقالت: إذا أردت الزواج بي فأنا أشترط عليك أن تطلق زوجتك الأولى. نقول: هذا لا يجوز شرعًا، وكأنما أتيت إلى الطعام الموضوع لأختك فكفأتيه.
وقوله: «لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا» فيه دلالة على أن الأصل في الرجل أنه هو الذي يتكفل بالطعام والشراب، وقد جعل الزواج بالنسبة للزوجة -سواء الأولى أو الثانية- كأنما هو الطعام والشراب، فكأنها كما يقال: تهدر نعمتها، أو تتلف نعمتها، وكأنما أتت المرأة النعمة التي ساقها الله -عز وجل- إلى أختها، والتي هي الزوجة الأولى فأتلفتها.
أو على العكس، فإذا تزوج الرجل من الثانية نشزت الأولى وقالت: إمَّا أنا أو هي، فإذا أردتني فطلق الثانية!
نقول: بلا شك أن هذا اللفظ من الألفاظ المحرمة؛ لنهي النبي عن ذلك، وقال: «وَلَا تَسْأَلِ المَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا».
وقد بين النبي أنَّ الصبر على ذلك فيه خير عظيم سواء للزوجة الأولى أو للثانية، ولا تدري المرأة أين تجد الخير! أفي تفردها بالزوج أو في التعدد الذي في ظاهره نقمة عليها! ولكن يكون في باطن ذلك نعمة عظيمة، قد تبيح لها أن تتفرغ لأولادها، وأن تتفرغ لنفسها، فالمرأة إذا كانت مع زوجها الأيام كاملة انشغلت به، ولكن إذا كان معها زوجة ثانية أو ثالثة أو رابعة ربما تفرغت لأولادها، وهذا ليس دفعًا للتعدد، ولكنه تعزية لمن ابتليت به، ولعل في ذلك خير لها.
وعلى المرأة أن لا تجعل دُنياها مقصورة على رجل؛ لأنَّ هذا من الضعف والهوان، والدنيا -بلا شك- أوسع من الرجل، وإذا كنت تقولين: أنا لا أبالي به، وسأطلب الطلاق، نقول: على الأقل اجعلي زوجك هذا جزءا من حياتك، ولا تجعلينه كل الحياة، وعليك بالوسط في أمور حياتك، واشتغلي على نفسك إما بعلم شرعي، أو بعلم دنيوي نافع، وإما بعبادة، أو رعاية للأولاد، أو بغيرها من الأمور التي سترين أثرها فيما بعد.
والحقيقة أننا إذا نظرنا إلى سير الصحابة -رضي الله عنهم- سنجد أن العامة من الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا معددين، وأنَّ الصحابيات قد كن يرين في هذا خير للمرأة، كي تتفرغ لنفسها، ولهذا ما تم تربية الأولاد التربية الصحيحة في الجيل الأول إلا لَمَّا كانت المرأة تتفرغ لهؤلاء الأولاد في بعض أيامها تفرغًا تامًّا، وتعلم المرأة أن سندها بعد الله -عز وجل- هم أولادها؛ لأنها أحست أن الزوج منشغل بينها وبين ضرتها، فأصبحت تعتني بأولادها حتى يكونوا سندًا لها بعد الله -عز وجل-.
فإذًا هذه معان عظيمة وجليلة ينبغي للمرأة أن تستشعرها في هذه المسألة.
{أحسن الله إليكم.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (بَابُ الرِّبَا وَالصَّرْفِ
عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :
«الذَّهَبُ بِالوَرِقِ رِباً؛ إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ رِباً؛ إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِباً؛ إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ»)}.
قال المصنف -رحمه الله-: (بَابُ الرِّبَا وَالصَّرْفِ)، هذا الباب -كما ذكرنا- هو من أهم الأبواب المتعلقة بالبيع، وهو أكثر ما ينبغي لطالب العلم، أو لمن يدخل في باب البيع والشراء أن يعتني به؛ لأن الله -عز وجل- قد عظَّمه، وحرَّمه، ونهى عنه، وأذن بالحرب على فاعله، ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [البقرة: 275]، وقد مَثَّلَ الله -عز وجل- أكليه بأمثلة قبيحة، ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ [البقرة:275]، من جهة أنهم في دنياهم قد خلطوا الحلال بالحرام، فكانوا متخبطين، فكانت عاقبتهم في الآخرة من جنس أفعالهم في الدنيا.
والربا من حيث اللغة هو: الزيادة، وهو كذلك من حيث الشرع، فهو إما تفاضل وإمَّا نساء، والصرف هو: مبادلة النقد بالنقد، وسيأتي بابه -إن شاء الله عز وجل-.
والأصل بوجه عام في الربا أنه على نوعين:
ربا النسيئة: وهو أصل الربا، حتى إنَّ النبي قال كما في حديث أسامة -رضي الله عنه-: «إنَّما الرِّبا في النَّسِيئَةِ»[4]، وقد فهم ابن عباس -رضي الله عنهما- الحديث على ظاهره، فكان يظن أنَّ الربا لا يقع في الفضل، والصواب أنَّ قول النبي «إنَّما الرِّبا في النَّسِيئَةِ» لتعظيم خطره؛ لأنَّ الحصر يدل على عظم الخطر، ولا يدل على نفي ما عداه، خاصة إذا قام الدليل على إثبات ما عداه.
النوع الأول من الربا: ربا النسيئة، وهو التأجيل؛ لأنَّ النَّسَاء يعني: المؤجل، وأنسأتك يعني: أجلتك. ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة:37]، والنسيء هو أنهم كانوا يُؤخرون الأشهر الحرم، وقوله: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا﴾ [البقرة:106]، وفي بعض القراءات: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ ننسأهَا﴾، أي: نؤخرها، فالنسيئة تعني التأخير، ولا تقع النسيئة -غالبًا- إلا بفضل، أي: زيادة؛ لأنه لن يؤخرك دون أن يزيد عليك.
النوع الثاني من الربا: ربا الفصل.
إذًا بوجه عام، الربا إمَّا ربا فضل وإمَّا ربا نسيئة، والقاعدة في الشرع أنَّ الربوي إمَّا مكيل أو موزون، ولا يدخل الربا في غير هذين البابين.
المكيل عبارة عن الأصناف الأربعة التي وردت في الحديث، وهي: البر، والتمر، والشعير، والملح، وما يقاس عليها.
وقد اختلفوا في العلة التي يقاس عليها! هل يقاس على ذلك كل مكيل أو لا بد من شرط آخر؟
فقال بعضهم: الكيل مع الطعم، يعني أن يكون مكيلاً مَطعومًا؛ وذلك لأنهم لَمَّا نظروا إلى الصفة الجامعة لهذه الأشياء وجدوا أنها تُكال وتطعم؛ لأنها عبارة عن بُرٍّ وشعيرٍ وملحٍ وزبيبٍ، فهذه أربعة أشياء كلها مطعومة.
والنوع الثاني: الموزون، مثل: الذهب والفضة، حتى في الزمان الأول ما كان منها معدودًا فإنَّه يؤول إلى الوزن.
إذًا هذه هي قاعدة الربا، إما أن تكون في مكيلٍ أو في موزونٍ، فأما الموزون فهو الذهب والفضة، وأمَّا المكيل فهي الأصناف الأربعة السابقة.
وذكرنا العلة في المكيل، وهي تشتمل على الكيل مع الطعم، يعني: كونه مطعومًا مكيلاً، وأمَّا الموزون؛ فإنهم اختلفوا فيه، فقال بعضهم: العلة هي الثمنية، يعني: كونها أثمانًا، ومنهم من قال: لا، العلة فقط هي الوزن فقط.
وكون العلة فقط هي الوزن فيه إشكال، أنَّ الشارع لم يجعل الحديد بالحديد مع أن الحديد موزون، ولم يجعل النحاس بالنحاس، ولم يجعل الصفر بالصفر، وهذه كلها مستخدمة عندهم.
فلمَّا لم يذكر إلا الذهب والفضة، والذهب والفضة هي الأثمان التي يتبايع بها الناس في الزمان الأول، فإذًا قالوا ها هنا: العلة ليست كونها فقط موزونة، بل كونها أيضًا مع ذلك أثمانًا. ولذا فغيرها لا يدخلها الربا، كالحيوانات على سبيل المثال، فهذه كلها ما يدخلها الربا.
إذا كان الأمر كذلك فإن بيع الجنس الربوي بجنسه، والربوي يقصد به ما يدخله الربا، مثل: المكيلات أو الموزونات، ولا يقصد به المحرم، فإذا بيع الربوي بجنسه اشتُرِطَ فيه شرطان:
الشرط الأول: التقابض.
والشرط الثاني: التماثل.
وهذا هو قول النبي ها هنا: «الذَّهَبُ بِالوَرِقِ رِباً؛ إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ».
مثال لبيع الربوي بجنسه: أن أبيع ذهبًا بذهب، أي جنس الذهب بعته بجنس الذهب، فها هنا يشترط شرطان:
الشرط الأول: يشترط أن يكونا متماثلين.
الشرط الثاني: يشترط أن يكون التقابض في مجلس العقد.
وكذلك لو بعتك تمرًا مثلاً، فيشترط أن يكون "كيلو بكيلو" أو "صاع بصاع" وأن يكون التقابض في مجلس العقد، ولهذا النبي لَمَّا جاءه بلال -رضي الله عنه- يوما بتمر جَنِيبٍ، والتمر الجنيب هو التمر المنقى، أي الجيد، فقال النبي : «أكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟» قالَ: لا، واللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِن هذا بالصَّاعَيْنِ، والصَّاعَيْنِ بالثَّلَاثَةِ، فَقالَ : «لا تَفْعَلْ، بِعِ الجَمْعَ بالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا»[5].
لماذا نهاه عن فعله؟ لأنه باع الصاعين من الرديء بصاع من الجنيب، فكان هناك تفاضل، ولذا قال: «بِعِ الجَمْعَ بالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا»، والجمع هو النوع الرديء، فدل هذا على أنه لا يجوز بيع الصاعين بصاع، حتى وإن كانت جودة الصاع عالية جدا، وذلك إذا كانا من جنس واحد، مثل: تمرٍ بتمر، أو بر ببر، أو شعير بشعير، أو ذهب بذهب، أو فضة بفضة، إلا بشرطين: التماثل والتقابض.
وإن بيع الربوي بغير جنسه مثل: الذهب والفضة، بعتك ذهبًا بفضة، نقول: قال النبي : «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ»[6]، ولهذا الحديث قصة، فعن مالك بن أوس، قال: بينما نحن في مجلس عمر -رضي الله عنه-. إذ قال رجل من يصطرف لي ذهبا. فقال طلحة «حَتَّى يَأْتِيَ خَازِنِي مِنْ الْغَابَةِ»، والخازن هو ما نسميه: أمين السر، أو رجل الصندوق الذي يحفظ الأموال. فقال عمر: «وَاللَّهِ لَا تُفَارِقُهُ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْهُ»، فطلحة قد استلم الذهب، وقال: إذا جاء صاحبي أعطيتك، فقال عمر: أعطه في نفس المجلس؛ لأنَّ «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ»، فإذا بيع الربوي بغير جنسه، كالذهب بالفضة، فإنه لا يشترط فيه إلا شرط واحد، وهو شرط التقابض في مجلس العقد.
ولا بأس أن أبيع عشر دراهم فضة بدينار من ذهب، أو أبيع عشرة كيلوات من الفضة بكيلو ذهب، والمهم أن لا أنصرف من المجلس وبيني وبينه شيء، ويقاس على هذا اصطراف العملات الآن على اختلاف أنواعها، فإذا اصطرفت ريالات بدولارات، فهذا جائز، ويجوز التفاضل فيه، يعني: يجوز أنك تصرف عشر ريالات بـ دولارين أو ثلاث دولارات، هذا ليس فيه بأس، ولكن يُشترط التقابض في مجلس العقد.
طيب تصطرف ريالات بريالات؟
يشترط لذلك شرطان، هما: التقابض والتماثل، وبناء عليه فما يصنعه بعض الناس حينما يأتي إلى البقالة ويقول له: اصرف لي مائة ريال أو خمسمائة ريال، فيقول له: ما عندي، يقول: اصرف وخذ منها عشر ريالات. نقول: هذا لا يجوز؛ لأنك اصطرفت خمسمائة بأربعمائة وتسعين، والواجب أن تكون متماثلة ويداً بيد.
مثال آخر لِمَا يقع من بعض الناس: يأتي أحدهم ليصطرف، فيقال له: ليس عندي إلا خمسين فقط، فيقول: سآخذ الخمسين والباقي فيما بعد. نقول: هذه المعاملة لا تجوز. لماذا؟ لأنه فقد ها هنا شرط التقابض.
مثال لبيع المكيل بالموزون، يعني: يباع الذهب بالبر، أو الفضة بالشعير، فهذه لا يشترط فيها التقابض ولا يشترط فيها التماثل كذلك، ولذا يجوز ها هنا أن تبيع عشرين صاعًا بدرهم واحد، ويكون التقابض مؤجلاً؛ لأنَّ البيع ها هنا في أصناف لا يجري فيها الربا، قال رسول الله : «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ»، والورق هنا هو الفضة، وقوله: «إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ» إشارة إلى التقابض، فـ "هاء" أي خُذ، و "ها" أي: أعطِ.
«وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ» أيضًا البر بالبر ربا، ويشترط فيه التقابض والتماثل.
«وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ» أي يشترط في البيع هنا: التقابض والتماثل أيضًا.
{أحسن الله إليكم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله قال: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الوَرِقَ بِالوَرِقِ إِلَّا مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِباً بِنَاجِزٍ».
وَفِي لَفْظٍ: «إِلَّا يَداً بِيَدٍ».
وَفِي لَفْظٍ: «إِلَّا وَزْناً بِوَزْنٍ؛ مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ»)}.
حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- هو من أحسن الأحاديث في هذا الباب؛ لأن هذا الحديث ذكر ربا الفضل وربا النسيئة، وبينها بيانًا حسنًا.
قال النبي : «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلاً بِمِثْلٍ» المثل بالمثل يعني: المماثلة، «وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ» أي لا تزيدوا في بعضها على حساب بعض، والإشفاف هو الزيادة. وقال في آخر الحديث: «وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِباً بِنَاجِزٍ»، وقال في بعض الروايات: «إِلَّا يَداً بِيَدٍ»، وهذا يدل أيضًا على التقابض، فدل الحديث على وجوب التماثل وعلى وجوب التقابض.
قال: «وَلَا تَبِيعُوا الوَرِقَ بِالوَرِقِ إِلَّا مِثْلاً بِمِثْلٍ»، والورق هو الفضة.
«وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِباً بِنَاجِزٍ» كما ذكرنا في قصة طلحة -رضي الله عنه-؛ لأنَّ الصرف هو نوع من البيع، فقصة طلحة -رضي الله عنه- أنه أخذ الدنانير من الذهب، وأراد أن يصرفها بفضة، أو العكس، ولم يكن خازنه حاضرًا، فنهاه عمر -رضي الله عنه- وقال: «وَاللَّهِ لَا تُفَارِقُهُ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْهُ» أي ليس بينكما بيع، حتى تسلمه المقابل كما استلمت أنت. لماذا؟ لأنَّ هذا مما يُفضي إلى النزاع غالبًا عند اختلاف قيمة الذهب والفضة؛ لأنَّ الذهب والفضة والعملات تختلف قيمتها غالبا، فإذا سلمته وأعطيته الدنانير من الذهب على أن يصرفها لك بدراهم، فما دام أنك لم تقبضها في مجلس العقد، فقد ترتفع قيمتها غدًا، وبالتالي يقع بينكما نزاع، هل الحساب يكون بوقت العقد أم بوقت التسليم! ولهذا نهى الشارع، وأغلق الباب؛ لأجل ألا يكون ذلك وسيلة إلى ربا النسيئة، ثم إنه يُفضي في كثير من الأحيان إلى طلب الزيادة من الطرف الآخر.
فإذا أعطيتك الدنانير وتؤخرني ولا تعطيني الدراهم، أقول لك: على أي أساس حبست دراهمي أو مبلغي؟! إذًا زد فيه، فنهى الشارع عن ذلك سدًا لهذه الذريعة وقطعًا لهذه الذريعة التي تفضي دائما إلى الزيادة في الأجل.
ومن المعلوم أنَّ أعظم الربا هو ربا الديون، وهو ربا الجاهلية، وإنما هو ناتج عن ربا النسيئة، كيف؟
كان الجاهلي يبيعك السلعة -قد يكون البيع في أصله بيعًا صحيحًا- يقول لك: خذ هذه السلعة، عندك مائة صاع من البر بمائة درهم، توفينيها بعد سنة، البيع الآن في أصله ما في أي إشكالية حتى لو كان بالأجل. لماذا؟ لاختلاف الجنس؛ لأنَّه باع البر بدراهم، وبالتالي يجوز في البيع النساء، كما يجوز فيه التفاضل.
لكن ثبت في حقك أنك الآن مدين له بمائة، وثبت للبائع أنه له مائة! فإذا جاء الأجل بعد سنة، ولم يكن عنده ما يوافيه به حقه. قال الدائن: إما أن تقضي، وإما أن أرفع قيمة المبلغ الذي عليك، فإذا كان عليه تسعين صار عليه مائة.
 تعلمون -يا إخوان ويا أخوات- أن فرقًا في القيمة بين البيع النقدي وبين البيع الآجل، أي أنَّه أصبح للوقت ثمن، وهذا الثمن يعظم بشكل كبير جدا في نفوس الرأسمالية، فهو يرى أنَّ كل ما فاته من الوقت هو خسارة عليه.
وبناء عليه، أنت طلبت سلعة مؤجلة لنهاية العام، قال: ليس لدي مانع من ذلك، فلما جاء نهاية العام لم تجد من تسدد به، فيقول: إمَّا أن تقضي، وإمَّا أن تُربي، أي: تزيد! فإذا أجل مدة أخرى كسنة أخرى فإنه يزيد القيمة عليه، فبدلا من أن يدفع مائه سيدفع مائة وعشرة. وهذا هو ربا النسيئة العظيم، والذي يسمى عند العلماء -رحمهم الله- بـ "ربا الديون" والذي وضعه النبي ، وهو الذي لَمَّا جاء الإسلام، جاء النبي على قريش وثقيف وهما: أربى الناس، كانوا محترفين في هذا الباب، وما كان عندهم إلا أرصدة، ما كان عندهم أموال حقيقية، وهذا هو عيب الربا، العيب الحقيقي للربا أنه يجمد السلع، ويجمد الحياة، ويصبح عندك أرقام فقط، تستعبد بها عباد الله -عز وجل- وهي ليست حقيقية. كيف؟
تجد أنَّ كثيرًا من المرابين له على المدينين ذمم دائنة، وهو يحسبها الآن كأصول عنده، ولكنها ليست شيئًا، لأنه ما تحركت بسببها البضائع، ولا تحركت بسببها السلع، ولا تم بسببها عمليات بيع ولا شراء، وهذا كله مما لا يريده الله -عز وجل- ولا يريده رسوله .
{أحسن الله إليكم.
(وعنه -رضي الله عنه- أنَّه قال: جَاءَ بلال إلى النَّبيِّ بتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَالَ له النَّبيُّ : «مِن أيْنَ هذا؟» قَالَ بِلالٌ: كانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيٌّ، فَبِعْتُ منه صَاعَيْنِ بصَاعٍ؛ لِنُطْعِمَ النَّبيَّ ، فَقَالَ النَّبيُّ عِنْدَ ذلكَ: «أوَّهْ أوَّهْ! عَيْنُ الرِّبَا، عَيْنُ الرِّبَا، لا تَفْعَلْ، ولَكِنْ إذَا أرَدْتَ أنْ تَشْتَرِيَ فَبِعِ التَّمْرَ ببَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِهِ»[7])}.
هذا حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- الذي سبق وتكلمنا عنه، وهو من الأحاديث الدالة على تحريم بيع ربا الفضل، وربا الفضل ذكرنا أنه يقع فيما إذا ما بيع الربوي بجنسه، وإذا بيع الربوي بجنسه فينبغي أن يحذر من أمرين:
من أمر النسيئة؛ لأنَّ التأجيل هنا محرم.
ومن أمر الفضل، والفضل هو الزيادة.
قال: (جَاءَ بِلَالٌ إلى النَّبيِّ بتَمْرٍ بَرْنِيٍّ)، والتمر البرني نوع من أنواع التمور في المدينة، وهو من أجود أنواع التمور في المدينة، ولا يزال موجودًا حتى الآن.
وفي بعض الروايات: (تمر جنيب) وهو المختار بعناية. فقال له النبي : («مِن أيْنَ هذا؟» قَالَ بِلالٌ: كانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيٌّ، فَبِعْتُ منه صَاعَيْنِ بصَاعٍ؛ لِنُطْعِمَ النَّبيَّ )، أي أنَّ الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يتخيرون للنبي أفضل ما لديهم.
وفي رواية أنَّ النبي قال له: «أكل تمر خيبر وهكذا؟»؛ لأنه جاء به من خيبر، وخيبر كانت مليئة بمزارع كبيرة للتمور؛ لأن اليهود كانوا هم القائمين عليها.
فَقَالَ النَّبيُّ عِنْدَ ذلكَ: «أوَّهْ أوَّهْ! عَيْنُ الرِّبَا، عَيْنُ الرِّبَا» يعني: أنَّ هذا هو الربا الصريح، فالربا الصريح أن تبيع الربوي بجنسه مُتفاضلاً، فإذا بعت صاعًا من الجيد بصاعين وثلاثة فهذا عين الربا، وإذا بعت درهمًا بدرهمين، أو ريالاً بريالين، فهذا كله من بيع الربا المحرم.
ثم دَلَّه النبي على الوسيلة التي يخرج بها من هذا الأمر المحرم، وهذا فيه دلالة على أنَّ المفتي بوجه عام أو العالم إذا أفاد المستفتي بمسألة محرمة، أن يدله على ما يخرجه منها، وذلك من الوسائل الشرعية الجائزة، فإذا عَرَضَ عليك أي شخص من الناس مسألة من المسائل المحرمة، وقلت لا: هذه محرمة لأجل الربا، فعليك أن تدله على الخير، فتقول له: ولكن اصنع كذا وكذا؛ لأنَّ الرجل قد يُضطرَّ فيقع في الحرام، ولكن إذا فتح له باب الحلال سَلَكَه.
فقال له النبي عند ذلك: «لا تَفْعَلْ، ولَكِنْ إذَا أرَدْتَ أنْ تَشْتَرِيَ فَبِعِ التَّمْرَ ببَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِهِ»، أي إذا كان عندك تمر رديء، وتريد أن تتخلص منه، وأن تشتري به تمرًا آخر من نوع جيد، فعليك أن تأخذ هذا التمر وتبيعه، ثم تقبض ثمنه، ثم تشتري به تمرًا آخر، وهذا يقال أيضًا في البيوع التي تسمى عند الناس الآن: "بيوع التورق"، وهي من أكثر البيوع الشائعة عند الناس الآن، وبها معايش كثير من الناس، وهو ما يسمى عند العلماء ببيع النسيئة، ومثاله:
يأتي الرجل فيريد مبلغًا من المال، هو لا يريد السلعة، وإنما يريد مبلغًا من المال. فيقول: أريد أن أشتري منك هذه السيارة، كم قيمتها؟ فيقال له: قيمتها مائة ألف ريال، فيقول: نعم سأشتريها، فيقال له: متى تسددها؟ يقول: أسددها لك بعد سنة. فيقال له: إذًا ستزيد قيمتها بعد سنة وتصير مائة وعشرين ألفا.
فيتفقا على البيع وعلى السعر المؤجل للعام القادم.
فإذا استلم السيارة، يقول المشتري: ليس لي غرض فيها، وإنما أردت المال!
فإذا باعها كرو أخرى للبائع فهذا عند العلماء يسمى: بيع العينة، وهو نوع من الربا المحرم، وإن أخذها وباعها إلى شخص آخر فهذا هو البيع الجائز، الذي أرشد النبي بلالا إليه. فله أن يبيعها وأن يأخذ القيمة فينتفع به فيما يشاء من أمور حياته.
قال النبي : «ولَكِنْ إذَا أرَدْتَ أنْ تَشْتَرِيَ فَبِعِ التَّمْرَ ببَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِهِ» وهذا يدل على جواز فتح أبواب الوسائل الجائزة والشرعية، والتي لا يكون فيها تحايل على الربا، وإنما تكون الوسائل الشرعية، بأن يكون الشرع قد أرشد لها، ورخص فيها، وألا تكون -وهذا هو الأصل- مسائل صورية، مثل:
يقول لك البنك: سأشتري لك سلعة وسأقوم ببيعها، وأنت لا تدري ما هي عين هذه السلعة، ولا كميتها، ولا أرقام هذه السلعة، ولا تنظر إلى البيع الذي تم فيها، ولا تتحقق ملكيتك لهذه السلعة. هذا كله من العبث، وهذا كله من الأمور التي يجب غلقها؛ لأن الشارع لم يرخص فيها، وهي نوع من التحايل على الربا.
ومثلها أيضًا ما يسمى بجدولة الدين، وجدولة الدين تعني أن الدين قد حلَّ عليك، فيقول البنك: أنا لا أقبل الربا، ولكن سأبيعك سلعة، وتسدد بها هذا الدين الذي وجب عليك، وهذه السلعة مُؤجلة عليك إلى السنة القادمة.
نقول: بلا شك هذا محرم؛ لأنَّ قضاء الدين الواجب ممن وجب لك عليه بلا شك أنه محرم، والآن هو إنما قضى دينه بدين آخر، وعن طريقه هو.
لكن لو قال لك: سأدلك على شركة أخرى تقرضك، تعطيك سيارة بمائة ألف ريال إلى سنة، نقول: ما في بأس؛ لأنَّ الذمة انتقلت هنا، فأنت سددت وانتقلت الذمة إلى آخر.
{أحسن الله إليكم، ونفع الله بكم، وزادكم من فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بإذن الله- في الحلقة القادمة، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-----------------------------
[1] رواه مسلم (2363).
[2] رواه مسلم (1041).
[3] رواه البخاري (1474)، ومسلم (1040).
[4] رواه مسلم (1596)
[5] رواه البخاري (2201).
[6] موطأ مالك.
[7] أخرجه البخاري (2312)، ومسلم (1594).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك