الدرس الثالث

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

9851 9
الدرس الثالث

عمدة الأحكام 3

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى وصحابته ومن تبعهم بإحسان.
مرحبًا بطلاب العلم، طَيَّبَ الله أيامكم وأعمالكم بالبركات والخيرات، نرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) للمستوى الرابع، والذي نشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للإمام الحافظ المقدسي، يشرحه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، حياكم الله شيخ إبراهيم}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإياهم العلم النافع والعمل الصالح.
{آمين، جزاك الله خيرا، كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند: (بَاب العَرَايَا وَغَيْرِ ذَلِكَ).
قال المؤلف -رحمه الله-: (بَابُ العَرَايَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.
عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رضي الله عنه-
«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَخَّصَ لِصَاحِبِ العَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا».
وَلِمُسْلِمٍ: «بِخَرْصِهَا تَمْراً، يَأْكُلُونَهَا رُطَباً»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد، فقد قال المصنف -رحمه الله-: (بَابُ العَرَايَا وَغَيْرِ ذَلِكَ) سيذكر المؤلف في هذا الباب مسألة العرايا، وهي مسألة مشهورة عند العلماء، وجملة من الأحكام الأخرى المتعلقة باشتراط القبض في البيع وغير ذلك من الأحكام.
قالوا في العرية: "إنما سميت عريه؛ لأنها تَعْرَى مِنَ النقدين، والعرية هي شراء الثمر أو الرُّطب على رؤوس النخل بما يؤول إليه تمرًا بالتمر الموجود في الأرض أو التمر المحروث. كيف؟ يأتي الفقير أو المحتاج الذي لا يجد النقدين، وقد كان عنده خمسة أصُع أو عشرة أو خمسين أو ستين مثلا، المهم أنه لا يجاوز خمسة أوسق -التي هي ستمائة كيلو أو ما دونه- يريد أن يتفكه؛ لأنَّ الرطب -يا إخوان ويا أخوات- له شهوة، خاصة ممن يقتاته، شهوة لا يعدلها شيء عند أهله، ولا زال أهلنا في نجد ممن عندهم مزارع ونحو ذلك يعرفون ذلك، فإذا جاء وقت الرطب -هو الفاكهة- فإذا جاء هذا الموسم، وهذا الفقير عنده مائتين أو ثلاثمائة صاع من التمر قد أعده لقوته؛ لأنَّ التمر يخزن، فقال: أنا أريد أن أتفكه وأشتهي هذا الرطب.
قالوا: يجوز لك أن تذهب إلى صاحب المزرعة وتقول له: كم تؤول إليه هذه الثمرة أو هذه الشجرة من الرطب؟ قال: الرطب الموجود الآن ها هنا مائة صاع، طيب مائة صاع رطب لو جُفَّفَ وأصبح تمرًا، كم يصبح؟ قال: يصبح ثمانين، تقول: إذًا أنا سأشتري منك ثمانين صاعًا رضب بثمانين صاع من التمر، قالوا: هذا يجوز. هذا من ماذا؟ ذكرنا أنه يعد من بيع المزابنة عند العلماء، فبيع الثمر على رؤوس النخل بالتمر يسمى بيع مزابنة. لماذا؟
لأن فيه الجهل بالتماثل، فهو نوع من ربا الفضل، ولكن رَخَّصَ فيه الشارع في هذه الحالة الضيقة.
أولاً: أن يكون في خمسة أوسق فما دونها، والوسق ستون صاعًا، والصاع عبارة عن 2 كيلو، فإذًا يساوي ستمائة كيلو فما دون.
ثانيًا: أن يكون هذا الفقير أو المحتاج محتاجًا للرطب، أي: يشتهيه.
ثالثًا: أن لا يكون عنده أحد النقدين -سيولة نقدية- لإتمام عملية الشراء، وقد كانت السيولة في الزمان الأول عزيزة عند الناس، وإذا أراد أحدهم البيع خاصة في موسم الرطب ربما لم يجد أحدًا يشتري لقلة المال.
رابعًا: أن تحرز أو تخرص بما تؤول إليه تمرًا. كيف؟ أي لا تقل عن خمسمائة صاع من الرطب بخمسمائة صاع من التمر؛ لأنَّ النبي لَمَّا سُئل عن الرطب بالتمر قال: «أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذا يبِسَ؟» قَالُوا: نَعَم. قَالَ: «فَلَا إِذَنْ»[1]؛ لأنَّه إذا جفَّ نقص وزنه، وبالتالي فمائة صاع من تمر كم تؤول إذا يبست؟ تنقص تقريبًا عشرة في المئة، فيكون الباقي تسعون صاعًا. إذًا يبيع المائة صاع بتسعين صاع.
خامسًا: أن لا يقع التفرق قبل التقابض؛ لأنها في بيع متماثلات من الجنس نفسه، فإذا كان كذلك فلا يجوز التفرق قبل التقابض، أي أن تعطيه التمر فيعطيك الرطب مباشرة يدًا بيد، ولا يجوز تأخير التقابض.
إذًا هذه هي شروط العرايا، وقد رُخِّصَ فيها إرفاقًا بالناس.
(عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رضي الله عنه- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَخَّصَ لِصَاحِبِ العَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا»، وَلِمُسْلِمٍ: «بِخَرْصِهَا تَمْراً، يَأْكُلُونَهَا رُطَباً»)، لو قال: بخرصها فقط لظننا أنه بخرصها رطبًا، كما قال النبي لامرأة لَمَّا مَرَّ عليها وكان متجهًا إلى تبوك، كما في حديث أبي حميد السَّاعديِّ -رضي الله عنه- وقد مرَّ على امرأة في بستان فقال لها : «أَحْصِي مَا يَخْرُجُ مِنْهَا» لماذا؟ حتى تؤخذ منها الزكاة، «وقد خَرَصَ رَسُولُ اللَّهِ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ» فذهب النبي إلى تبوك ثم رجع إلى هذه المرأة وقد حازت هذا الرطب، يعني: جذته.
فقال لها النبي : «كَمْ جَاءَ حَدِيقَتُكِ؟ قَالَتْ: عَشَرَةَ أَوْسُقٍ خَرْصَ رَسُولِ اللَّهِ »[2]. فدلَّ ذلك على أنَّ العرب قد كان عندهم خاصية في معرفة الخرص، وقد كان عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- من أعلم الصحابة بالخرص، فكان النبي يبعثه ليخرص على اليهود؛ لأنَّ النبي لَمَّا فتح خيبر عامل أهلها بشطر ما يخرج منها، فقال: «لَكُم نِصفَ الثَّمرةِ، ولَنا نصفٌ»[3]. فمن يخرص؟ لأنهم قد يجزونه ثم يخفونه، فأرسل النبي عبد الله بن رواحة فيحاولون رشوته، والرشوة فيهم من قديم، فهم قوم سحت، فقال النبي : «تفعلون ذلك؟».
فقال عبد الله -رضي الله عنه-: «يا معشرَ اليهودِ أنتم أبغُض الناسِ إلي قتَلْتُمْ أنبياءَ اللهِ وكذَبْتُم على اللهِ -عزَّ وجلَّ- وليس يَحْمِلُنِي بُغْضِي إيَّاكُمْ على أنْ أَحِيفَ عليكم، قَدْ خَرَصْتُ عشرينَ أَلْفَ وسقٍ من تمرٍ، فإنْ شِئْتُمْ فلَكُمْ، وإنْ أَبَيْتُمْ فَلِي، فقالوا: بِهَذَا قامَتِ السماواتُ والأرضُ»[4]، فبين لهم أنه لن يجور عليهم مع بغضه لهم، فكيف يريدون منه أن يجور على النبي .
المهم قد يأتي الحازر -الخارص- فيخرص ويقول: هذه المزارع فيها خمسون ألف وسق، وإذا حزروا فأحيانًا يسقطون شيئًا منه لأجل الطير، ولما يقع في الأرض ونحو ذلك.
إذًا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَخَّصَ لِصَاحِبِ العَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا»، وَلِمُسْلِمٍ: «بِخَرْصِهَا تَمْراً» يعني: ما تبيعها بخرصها رطب، وإنما تنظر ما تؤول إليه تمرًا.
قال: «يَأْكُلُونَهَا رُطَباً» وفي هذا دلالة على أن البيع إنما هو لحاجة الأكل.
رجل يقول: لا أحتاج للأكل، أنا أريد أن أتاجر، نقول: لا يجوز لك أن تدخل في باب العرية، وإنما يدخل في باب العرية من يحتاج الأكل.
فكل ما يتعلق بالطعام والشراب والأكل المباشر، قد يُترخص فيه ما لا يترخص في التجارة؛ ولابد أن تكون هناك نوع من الحاجة التي يتغاضى فيها عن بعض أنواع الربا.
{قال -رحمه الله-: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ رَخَّصَ فِي بَيْعِ العَرَايَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ»)}.
هذا حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وهو الحديث الوارد عن النبي في الترخيص في بيع العرية في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق، والأصل في بيع العرية لَمّا رَخَّصَ فيها النبي في حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أن يقال بعمومها، فيقال: لو كان الإنسان يحتاج إلى ألف وسق أو ألفين وسق يجوز له ذلك. نقول: هذا هو الأصل، ولكن قد جاء حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مُقيدًا للإطلاق، قيده بقوله: «رَخَّصَ فِي بَيْعِ العَرَايَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ»، والحقيقة أنَّ خمسة أوسق أو ما دون خمسة أوسق تقع به الكفاية؛ لأنَّ الإنسان يتفكه فيه وزيادة، فأنت تتكلم عن ستمائة كيلو، وستمائة كيلو كبيرة، تستطيع أن تأكلها أنت وأهل بيتك في أشهر طويلة.
فاذًا هذه هي الرخصة من النبي .
والظاهر -والله أعلم- في المذهب أنها لا تصح إلا فيما دون الخمسة، أي أنَّ الخمسة لا تصح فيها -يعني: ستمائة- لا تصلها، بل أقل من ستمائة كيلو. لماذا؟ لأن الحديث قد وقع فيه شك من الراوي، ولم يقع فيه ترجيح، وهذا من الأحاديث القليلة التي وقع فيها الشك من الراوي، وما رُجِّحَ لنا بمرجح خارجي في خمسة أوسق أو ما دون.
طيب ما هو الراجح؟ ليس هناك راجح؛ لأنّ كل الأحاديث الواردة عن أبي هريرة إنما فيها هذا الشك، والظاهر أنَّ الشك من أبي هريرة -رضي الله عنه-.
فإذًا قال المذهب: الأحسن في هذا أن ننزل عنه؛ لأن ما دونه مشكوك فيه، الخمسة مشكوك فيها.
{قال -رحمه الله-: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ».
وَلِمُسْلِمٍ: «وَمَنِ ابْتَاعَ عَبْداً فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ»)}.
هذه مسألة مشهورة في بيع الأصول والثمار، الأصل -كما سبق وقررنا أنَّ بيع الثمرة قبل بدو صلاحها لا يجوز شرعًا، ولكن ذكرنا أنه يُستثنى من ذلك فيما إذا باع هذه الثمرة مع أصلها، كحال من باع المزرعة كلها بما فيها من ثمر، فبيع المزرعة جائز، وبيع الثمر جائز وبيعهما سويًا جائز.
لمن تكون الثمرة الآن، هل هي للبائع أو للمشتري؟
نقول: إذا كان ثَمَّ شرط بينهما فالشرط حاكم، سواء أُبرت أو لم تؤبر، والتأبير هو التلقيح، ففي النخل مثلاً، يأخذون اللقاح من النخل الفحال ثم يضعونه في بقية النخل، هذا هو التأبير، وهذا هو سبب حسن الثمار، فهو قد يُثمر بدون تأبير، ولكنه يثمر "شيصًا" يعني: شيء صغير ما ينفع، ولهذا لَمَّا «مَرَّ النبيَّ بقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقالَ: لو لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ قالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بهِمْ فَقالَ: ما لِنَخْلِكُمْ؟ قالوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»[5].
إذًا الأصل أنه إذا كان ثَمَّ شرطٌ فالشرط حاكم، ومقاطع الحقوق عند الشروط.
ماذا لو لم يكن ثم شرط بين البائع والمشتري؟
رجل باع مزرعته بما فيها بدون أن يشترط، ثم وقع الخلاف بين البائع والمشتري، قال البائع: الثمر لي، وقال المشتري: بل هو لي؛ لأنَّك بعتني المزرعة بما فيها. فكيف نفعل؟
نقول: يُنظر إن كان الثمر قد أُبِّرَ فإنَّ الثمرة للبائع؛ لقوله : «مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ» هذا هو الأصل.
وأمَّا إن باع نخلاً لم تؤبر فثمرتها للمبتاع. وهذا كله إذا لم يكن ثَمَّ شرطٌ، والشرط هو الذي يفصل بينهما.
قد يحدث التأبير أحيانًا بفعل البشر، وقد يحدث أحيانًا أخرى بدون فعل للبشر، وحتى إن حدث التأبير بغير فعل البشر، فما دام أنَّها قد وصلت إلى مرحلة التلقيح، فهي تعد من ضمن أصول البائع، ومن ضمن الأموال المملوكة له.
قال: (وَلِمُسْلِمٍ: «وَمَنِ ابْتَاعَ عَبْداً فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ») هذه أيضًا مسألة مهمة كانت في الزمان الأول، وهو أن يبيع العبد ويكون العبد تاجرًا، فمال العبد لمن؟ الأصل أنَّ مال العبد مملوكًا لسيده، بدليل قول الله -عز وجل-: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ﴾ [النحل:75]، وقوله: ﴿لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ﴾ أي: لا يملك، ولهذا لَمَّا سُئِلَ ابن عباس -وهذا من بديع استنباط ابن عباس- قيل له: "أيتصدق المملوك؟ قال: لا. لماذا؟ لأنَّ ماله ملك لسيده، واستدل بهذه الآية، فإذا كان ﴿لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ﴾ فكيف يخرج صدقة؟
وفي الزمان الأول قد كان بعض السادة يأذنون لعبيدهم بالعمل ويأذنون لهم بالخراج، وهذه سياسة جيدة وذكية، وهو أن يقال: الأصل في العامل ما لم يعمل لنفسه أنه لا يُعطيك جهده، وهذه قاعدة تعمل بها كثير من الشركات الآن، فما دام أنه لا يعمل لنفسه فإنه لن يعطيك جهده، بل يقول: سأعمل بقدر ما أؤدي أقل الواجب، ولهذا يضعون سياسة الحوافز والمكافآت. فيأتي هذا السيد ويقول: ما دام أنك كذا اذهب فاعمل، وأدِّ لي خراج وثمن معلوم، والباقي هو لك. ألم تر أن أبا لؤلؤة المجوسي الذي طعن عمر- رضي الله عنه- قد كان مولى للمغيرة، أي: مملوكا له، وقيل: كان معتقًا، ولكن الظاهر أنه كان مملوكًا، فكان يُؤدي خراجه للمغيرة، وقد أتى إلى عمر يشكو إليه، وزعم أن الخراج كثير عليه، فقال له عمر: إنك صاحب صنعة -يعني: أنت رجل مبدع- والخراج الذي تدفعه ليس بثقيل عليك. فقال: وَسِعَ الناس عدلك وضاق بي.
والشاهد أنَّ هذه طريقة من الطرق التي كانوا يعملونها في الزمان الأول.
طبعًا السيد قد يستطيع أن يستولي على مال عبده فيما بعد ولا يعطيه شيء.
قال: «وَمَنِ ابْتَاعَ عَبْداً فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ» الأصل أن المال يتبع العبد، كما أنَّ الثمر يتبع الأصل، «إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ»، ومن ذلك ما على العبد من الملابس ونحوها، وهذا يدخل فيه الآن بيع السيارات. مثال:
إنسان باع سيارة وفيها تظليله وحماية وإكسسوارات، نقول: هذه كلها تدخل ضمن البيع، حتى وإن كانت أشياء محدثة، فما دام أنك قد بعت السيارة وهي موجودة فهي كلها للمشتري بما فيها اللوحات، ولهذا تجد أنه إذا كانت اللوحة مميزة يقول لك: اللوحة خارج البيعة، وهذا دلالة على أن اللوحة تشمل البيع قي الأصل، وأني لما اشريت السيارة اشتريتها بحقيقتها.
إذًا من القواعد المعروفة أن كل ما كان في السلعة المبيعة فإنه يتبعها في البيع، إلا أن يشترط البائع على المشتري شيئًا من ذلك.
وبناءً عليه، فكل ما على العبد -كما ذكرنا- من الملابس ونحو ذلك؛ فإنه يكون داخلا ضمن هذه البيعة.
{قال -رحمه الله-: وَعَنْهُ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ». وَفِي لَفْظٍ: «حَتَّى يَقْبِضَهُ».
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: ولَا أحْسِبُ كُلَّ شيءٍ إلَّا مِثْلَهُ)}.
هذا حديث جليل، وهو من أعظم الأحاديث؛ لأنه حديث متعلق بالقبض، وثم فرق بين أمرين:
البيع بوجه عام إذا انعقد يكون قد أوجب الملك للمشتري؛ يعني: أصبح المشتري مالكا لهذه السلعة، ولكن ملكية المشتري لهذه السلعة ليست مسوغة له في أن يتصرف فيها بالبيع. كيف؟
اشترى لسان سيارة ودفع الثمن. نقول: السيارة أصبحت ملكك بالإيجاب والقبول ولو لم تدفع الثمن. أنت عندك سيارة يا شيخ معاذ فقلت لك: بكم تبيعها؟ قلت: أبيعها بخمسين ألف. قلت: توكلنا على الله، وأنت قبلت. فإذا قبلت فقد انعقد البيع، فإذا تفرقنا أنا وأنت ثبت البيع، وأصبحت السيارة ملكي والخمسين ألف ملكك، حتى ولو لم أؤدي لك، فإذا ما أديت لك فلك أن ترفع قضية، وأما أن السيارة تكون ملكك، فـ "لا".
هل يجوز لي أن أتصرف في السيارة بعد أن صارت في ملكي؟
نقول: الآن ثبت لي ملك السيارة، ولكن لا يجوز لي التصرف فيها حتى أقبضها، وقد قال النبي : «مَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ»، والاستيفاء هو معيار القبض في الطعام؛ لأنَّ القبض في كل شيء بحسبه، كما قال عطاء، وكل شيء بحسبه يعني: كل سلعة أو بضاعة لها قبضٌ خاص بها!
فقبض الطعام هو أن أكيله، فإذا كلته فإني قد قبضته.
وقبض العقار هو التخلية بيني وبينه.
وقبض الجواهر هو أن أضعها في يدي.
وقبض السيارة أن أقبض البطاقة الجمركية لها.
وقبض الأسهم أن تحول إلى محفظتي.
فكل شيء فيه قبض بحسبه، والقبض المرجع فيه إلى عرف الناس، لأنَّ الناس يعرفون ما الذي يتحقق به القبض. وإذا وقع الخلاف في القبض ما هو مثل: هل قبض السيارة بأن أخرجها من المعارض وأدخلها، ولا قبضها أن أقبض البطاقة الجمركية لها، ومتى ما أصبحت البطاقة الجمركية معي صرت متصرفًا فيها! نقول: يأخذ العبد في ذلك بالأحوط؛ لأن هذا بيع يتعلق به حل وحرمة، وما ينبغي للإنسان أن يتساهل فيه.
قَالَ: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ». وَفِي لَفْظٍ: «حَتَّى يَقْبِضَهُ»، فبين أن القبض هو الاستيفاء في الطعام.
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما) وهذا من قياس الصحابة -رضي الله عنهم- (ولَا أحْسِبُ كُلَّ شيءٍ إلَّا مِثْلَهُ)؛ لأن هذه مسألة قد اختلف فيها العلماء، فذهب بعضهم إلى أنَّ القبض إنما يجب في المطعومات، وأمَّا ما سوى ذلك فإنه يجوز بيعه قبل قبضه، وقال آخرون: إنما قيل ذلك في الطعام، ويقاس عليه غيره، كما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما-؛ فإنه لَمَّا ساق هذا الحديث قال: (ولَا أحْسِبُ كُلَّ شيءٍ إلَّا مِثْلَهُ).
قالوا: لماذا؟ قالوا: لِمَا يقع فيه من الخطر؛ لأنَّ السلعة مادام أن المشتري لم يقبضها فهي في ضمان البائع، فكيف أربح في شيء ما ضمنته! والقاعدة الشرعية: أن الغنم بالغرم، وبالتالي لا بد من المخاطرة حتى يحصل على الربح، أي لا يجوز عصم النفس من المخاطرة ويتكسب منها، فهذا ليس من باب البيع والشراء؛ لأنَّ باب البيع والشراء هو باب مخاطرة، ولهذا دائمًا عند الناس كلما عظمت المخاطرة كلما عظم الربح، وكلما قلت المخاطرة كلما قل الربح؛ فلأجل ذلك نهى الشارع عنه.
إذا قلنا بهذا المعنى، فهذا المعنى يدل على أن هذا الحكم عام خاص بالطعام أو عام للجميع؟ عام للجميع، فما الذي يجعلني أخص هذا الطعام؟ وما الذي يجعلني ألقى كل إنسان سيتحايل على هذه، آخذ مثلا سيارة وبدلا من أن أذهب وأخزنها وأدخل نفسي في تكاليف ومخاطر، أشتريها منك وأذهب فَأُسَوِّقُهَا، وهذا هو الذي جعل كثير من تجار المواقع الإلكترونية يثرون ثراءً غير شرعي. لماذا؟
لأنَّه يضع صور سلع ربما لم يشتر منها شيئًا ثم يبيعكها، فإذا تم البيع اشترى مثل السلعة التي في الصورة، وهذه إشكالية؛ لأنه باع شيئًا لا يملكه.
وتجد أنه قد يقع أحيانا خطر عظيم لأنه قد يقول لك: ما وجدت السلعة ويعطيك سلعة بديلة.
نقول: إذا لم تجد السلعة لمَ تعرضها؟ واضح أنه لم يكن يملك هذه السلعة، ثم إنه ربح فيها وهو لم يضمنها، أي أخذ الربح ولم يتحمل أي تبعه، وهذا ليس هو باب البيع والشراء، ولهذا كان ولابد أن تأخذ المخاطرة في باب البيع والشراء حتى تأخذ الربح.
إذًا الأصل في ذلك أن يقال فيه بوجوب القبض، وأنه لا يجوز أن تباع السلعة حتى تقبض.
{قال -رحمه الله-: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ عَامَ الفَتْحِ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ وَالمَيْتَةِ وَالخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ»، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ؛ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: «لَا، هُوَ حَرَامٌ»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ: «قَاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ؛ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ».
جَمَلُوهُ: أَذَابُوهُ)}.
حديث جابر -رضي الله عنه- حديث جليل، عظيم الخطر، كثير المسائل، وقد تناوله الأئمة -رحمهم الله- بالشرح والبيان، ووقفوا عنده وقفات كثيرة، وهو يدل على سد باب الحيل.
وهذا أصل عظيم من أصول الشريعة، وقد قررته الشريعة في غير ما موضع، وقد ذكر الله -عز وجل- قصة أصحاب السبت ﴿إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ﴾ [الأعراف:163]، وهذا أصل في سد باب الحيل، فإنهم قد احتالوا على ما حرَّم الله -عز وجل- بصورة يوهمون أنفسهم فيها أنها صورة الحل، وهذا أيضًا جاء في سنة النبي في حديث جابر هذا، فإنَّ رسول الله لَمَّا كان عام الفتح قام في الناس فقال: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ»، وهذا التحريم قطعي، أي: يحرم بيع الخمر بكل الأحوال، وقد جاء عن النبي أنه كان يقول: «يا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَرِّضُ بالخَمْرِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ سَيُنْزِلُ فِيهَا أَمْرًا، فمَن كانَ عِنْدَهُ منها شَيءٌ، فَلْيَبِعْهُ، وَلْيَنْتَفِعْ به»[6]، يعني: قبل التحريم.
ثم إنَّ الله -عز وجل- لَمَّا حرمها تلاها النبي على الصحابة -رضي الله عنهم- ثم أمر بزقاق الخمر فَشُقَّتْ، حتى جاءه أبو طلحة -رضي الله عنه- فأخبره أنَّ خمرًا لأيتام عنده. فهل يبيعها؟ فقال النبي : «لا»[7]، مع أنه لو رُخِّصَ في شيء لَرُخِّصَ للأيتام.
قال: «وَالمَيْتَةِ» أي: لا يجوز أن تباع الميتة بكل حال، فالميتة ميتة كاسمها، تُتْلَف أو يُنْتَفَعُ بها بغير البيع، وهذا ما سيؤكد عليه النبي بعد قليل.
قال: «وَالخِنْزِيرِ» الخنزير مجمع عليه، وهو من الأطعمة التي قد تتابعت الشرائع والرسل على تحريمها، وأكل هذا الكائن الخبيث مما يخالف الفطر، ولهذا لَمَّا استقر تحريمه في الشرائع كلها؛ دلَّ ذلك على تقرير أنه أمر فطري، أي أنَّ الفطر قد استقرت على تقذره وكراهته.
قال: «وَالأَصْنَامِ» الأصنام هي ما كان يُعبد من دون الله -عز وجل- أو المجسمات وغيرها -المصورات-.
(فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ؛ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: «لَا، هُوَ حَرَامٌ»)، وقوله «لَا، هُوَ حَرَامٌ» هل هو عائد إلى الانتفاع؟ أو عائد إلى البيع؟ يعني: هل قالوا أرأيت شحوم الميتة، هل يجوز لنا أن نبيعها لأجل أن (يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: «لَا، هُوَ حَرَامٌ») يعني: بيعها؟ أو أنَّ المراد هو تحريم الانتفاع بها؟
هذه مسألة من المسائل المشهورة عند العلماء -رحمهم الله- وهي مما وقع فيه الخلاف، والمذهب على أنَّ الانتفاع بها كله محرم، بينما ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وجماعة من العلماء المتأخرين إلى أنَّ قوله : «لَا، هُوَ حَرَامٌ» إنما هو في البيع فقط، وأمَّا الانتفاع بها فلا. لماذا؟ لأنَّ النبي قد رَخَّصَ في الانتفاع بجلد الميتة، فإنه قد مَرَّ بشاة ميتة، فقال: «هلَّا أخذتُم إهابَها -جِلدَها- فدَبغتُموه فانتفعتُم بهِ؟»[8]، فدل ذلك على جواز الانتفاع بشيء من أجزاء الميتة، وإنما كان المحرم ها هنا إنما هو بيعها.
وقالوا: إنَّ مما يدل على هذا القول بقية الحديث، فإنَّ النبي قال: «قَاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ؛ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» فذكر البيع ها هنا، وهذا يدل على أنَّ التحريم إنما هو لأجل البيع.
ولذا يقال: الميتة وشحومها ما يجوز أن تباع، ولكن يجوز للإنسان أن ينتفع بها. كيف؟ في الزمان الأول كانوا ينتفعون بالدهن فيستصبحون به، أو يدهن بها الجلود، أو تطلى بها السفن، وهذه كلها استخدامات جائزة.
من المغالطات التقعر عند التمسك بالنصوص، وهو مما يرد على الظاهرية، أي: من يتمسك بالنص ويقول: لن أجمد عقلي.
مثال: قول النبي في الحديث الصحيح: «لا يَبُولَنَّ أحَدُكُمْ في المَاءِ الدَّائِمِ الذي لا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ»[9]. قال بعضهم: لا يجوز التبول، ولكن يجوز التغوط فيه! وهذا -بلا شك- نوع من الجمود المنهي عنه والذي لا يقبل.
حرم الله -عز وجل- ها هنا على اليهود الشحوم، فقالوا: ما نبيع شحومًا، وإنما نبيع زيتًا، وهذا معنى: (جملوه) أي: أذابوه، وأكلوا ثمنه، فلعنهم الله -عز وجل- وعُدُّوا من كبار المحتالين.
ولهذا ينبغي أن يُتحرى في باب الحيل؛ لأنَّ باب الحيل عظيم جدًا، والبنوك تتفنن فيه تفننًا عظيمًا، فينبغي للإنسان أن يحتاط فيه، حتى لا يكون داخلاً في قول النبي : «قَاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ؛ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ».
وقد جاء في بعض الأحاديث أنَّ النبي قال: «لَا تَرتَكِبوا مَا ارتَكَبَتِ اليهودُ، فتستَحِلُّوا مَحارِمَ اللهِ بأدنى الحِيَلِ»[10]؛ لأنَّه ما في شيء محرم إلا وتستطيع أن تجد له بابًا لتحليله، فالزنا ستجد له باب المتعة، فتجد من يقول قبل أن يواقع المعصية بدقائق: تزوجتك، فتقول: قبلت! ويظن أنه بذلك صار حلالاً.
وتجده في الخمر يقول: سأشرب الخمر إذا لم يكن عنبًا، فما دام أنَّ الخمرة من غير العنب، ولم أسكر منه فيجوز شربه! ويفتح هذا الباب، فما يبقى معصية إلا وقد ارتكبها، ولهذا قال أيوب السختياني في المحتالين: "يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، فلو أتوا الأمر عيانًا كان أهون علىّ"، ماذا يعني؟ أي أنَّ من يقع في المعصية الصريحة يتب منها ويستغفر الله ولا يحتال، ولهذا فقد بوب الإمام ابن أبي شيبة -رحمه الله- بابًا جليلاً في مصنفه، سماه: "باب الحيل"، وردَّ فيه على كل مَنْ شَرَّعَ الحيل.
وكذلك بوب الإمام البخاري -رحمه الله- أيضًا "كتاب الحيل"، وذكر فيه جملة من أحاديث النبي في رَدِّ الحيل، ومن أوضحها قول النبي في الحديث الصحيح: «إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أوْ لِيَدَعْهَا»[11]، فأنت قد تحتال على القاضي، ولكن لا تظن أن احتيالك يُسَوِّق الحكم الشرعي لك.
{قال -رحمه الله-: (بَابُ السَّلَمِ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ المَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ: السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ:
«مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ؛ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»)}.
قال المصنف -رحمه الله-: (بَابُ السَّلَمِ)، و (السَّلَمِ) باب من الأبواب الجليلة عند العلماء -رحمهم الله-، وهو من الأبواب التي يكثرون الكلام عليه والبحث في مسائله.
(السَّلَمِ) هو بيع الموصوف في الذمة المؤجل بالثمن الحال المعجل، المقبوض في مجلس العقد. تأتي فتقول لصاحب البستان: سأشتري منك ألف صاع من التمر من النوع الفلاني والدرجة كذا وكذا، من نوع تمر الخلاص مثلا وحبة متوسطة، بكم؟
قال: أشتري منك بعشرة آلاف ريال، ستدفعها له في مجلس العقد ويقبضها.
ما الذي استفاده هو؟ وما الذي استفدته أنت؟
أنت تاجر تمر، وتريد أن تشتري التمر الذي سيخرج بعد سنة بثمن أقل، حتى تربح فيه ربحًا جيدًا، وهذا مزارع يزرع، ويريد أن يأخذ المال ليستعين به على الزرع، فهذا هو (السَّلَمِ).
قالوا: يُشترط فيه أن تكون السلعة موصوفة وصفا دقيقًا، وألا تكون مما يقع فيه المخاطرة والغرر. كيف؟ يعني لا تقل لي: سأبيعك مائة كيلو أو مائتي كيلو من مزرعتي؛ لأنَّه قد يهلك وما يضمنها. يعني عند البيع تحدد الكمية ووصف المبيع -حبة تمر الإخلاص- تصف النوع والحجم، ولا يجوز أن تحدد المزرعة، إلا إذا كان من مدينة لا يتصور انقطاعها، مثل القصيم أو الخرج أو غيرهما؛ لأنه لا يتصور أنها تنقطع من هذه الأماكن كلها، ولا يزال الناس يبتاعون ويبيعون تمر هجر، تمر المدينة، تمر كذا، فما في بأس. ولكن تأتي من مزرعة فلان، نقول: لا، لأنَّ مزرعة فلان قد يعتريها شيء، فيقع بينكما الخلاف.
قال: (قَدِمَ النَّبِيُّ المَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ: السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ؛ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»).
أي لَمَّا قَدِمَ النبي المدينة، وأهل المدينة أهل زرع، فكان أهل المدينة يسلفون، والسلف هو نفسه السلم، فبلغة أهل الحجاج يسمى: سلفًا، وبلغة أهل العراق يسمى: سلمًا.
وكان أهل المدينة يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاثة، يعني: ما يحددون، أي أن يقول: "خذ هذا المبلغ -عشرة آلاف أو خمسة عشر ألف- مقابل مائة صاع أو مائتي صاع- متى ما يحدد لك.
فقال النبي : «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ؛ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»، وهذه شروط السلم الثلاث.
الشرط الأول: «فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ» أي أن يكون السلم في كيل معلوم، يعني: تعده، تقول مثلا: في مائة صاع، أو مائتي صاع.
الشرط الثاني: «وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ»، يعني: تزنه، مائة كيلو أو نحو ذلك.
الشرط الثالث: «إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» أيضًا أن تحدد الأجل.
ومما يشترط له أيضًا -وهو شرط ظاهر- تحديد الثمن المقبوض في مجلس العقد.
تبقى مسألة أخرى، وهي من المسائل التي يتناولها بعض العلماء -رحمهم الله- وهي جعل السلم منوط بزمن. كيف؟
يقول: أُسلم إلى وقت الحصاد، أنا اشتريت منك الآن مائة صاع، أو مائتين صاع إلى وقت الحصاد. فنقول: الصحيح -والله أعلم- بما عمل الصحابة -رضي الله عنهم- الترخيص في ذلك؛ لأنَّ هذا الوقت وقت متقارب، وليس بوقت بعيد، ومما يشابه هذه المسألة أو هذه الصورة الآن، شراء مثلا الأجهزة والجوالات أو السيارات وغيرها، وتوقيت ذلك بزمن طرح، كما لو قيل: احجز هذه السلعة الآن، وادفع ثمنها بألف ريال ولا ألف وخمسمائة ريال، وستطرح في السوق في شهر ستة مثلا. هل يجوز شراؤها؟
نقول: نعم يجوز شراؤها، ما دام أنها موصوفة جيدًا. طيب هو لم يحدد لك اليوم، هو قال: في شهر ستة، ولكنه لم يحدد اليوم. نقول: يجوز هذا. لماذا؟ لأنَّ هذا الشيء مما لا يقع فيه الخلاف، ومما يتساهل فيه الناس غالبًا.
{قال -رحمه الله-: (بَابُ الشُّرُوطِ فِي البَيْعِ
عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي، فَقُلْتُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ، فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ، فَأَبَوْا عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللَّهِ جَالِسٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الوَلَاءُ، فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ ، فَقَالَ:
«خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلَاءَ، فَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»؛ فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِئَةَ شَرْطٍ؛ قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»)}.
قال المصنف -رحمه الله-: (بَابُ الشُّرُوطِ فِي البَيْعِ) الشرط في البيع هو ما يشترطه أحد المتعاقدين، ومن المعلوم أنَّ الشروط في بيوع الناس هي الأصل خاصة في العقود التي تكون بين الشركات، وهذه تكون دائمًا مُثقلة بشروط كثيرة، فما هو الأصل فيها؟
نقول: الأصل فيها الجواز، إلا إذا كانت مخالفة لكتاب الله وسنة نبيه ، المخالفة تعني أن تخالف مقتضى العقد، فمقتضى عقد البيع هو التملك، فتأتي وتشترط عليه شرطًا يخالف هذا! نقول: هذا لا يجوز، مثل أن تقول له: لا تنتفع بهذه السلعة! إذا لماذا اشتراها؟ وكيف يستفيد منها؟!
أو تأتي وتقول له مثلا: هذه السيارة أَجَّرْتُها عليك، ولكن ضمانها عليك.
نقول: ما يصح، كيف يكون الضمان عليه، والضمان إنما يكون على المالك؟!
فمثل هذه الشروط كلها مخالفة لمقتضى العقد، وهي شروط مخالفة للكتاب والسنة، فتكون باطلة، وما سوى ذلك من الشروط؛ فإنها شروط صحيحة، حتى وإن بغت ألف شرط، ما دام أنها ليست مخالفة للكتاب والسنة.
وأصل هذا حديث عائشة -رضي الله عنها- عن النبي أنه قال: «والمسلمونَ على شروطِهم إلَّا شرطًا حرَّم حلالًا أو أحلَّ حرامًا»[12]، وهذا الحديث فيه نظر؛ فإنه من رواية كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده، ولكن الأصل في هذا إنما هو حديث عائشة -رضي الله عنها- عن بريرة، قالت: قَالَتْ: (جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: كَاتَبْتُ أَهْلِي) وكان أهلها ناسًا من الأنصار، والمكاتبة هي أن يشتري المملوك نفسه من سيده، يأتي ويقول لسيده: لو جاءك رجل وقال: أريد أن اشتري فلانًا بمائة دينار، فهل تبيعني؟ قال السيد: نعم. يقول المملوك: أنا أشتري نفسي منك.
قالت: (كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ) والحقيقة أنَّ المكاتب على تسعة أواق ثقيل جدا، ومبلغ ضخم، ولكنهم كانوا ينفسون بريرة، يعني: يرون أن بريرة جارية جيدة وعاقلة، فما يرون أنها رخيصة، (فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ) أي: بقي لها تسعة أعوام حتى تعتق، ولو أنها عجزت في عام فإنه يجوز لسيدها أن يردها في عبوديتها.
إذًا بريرة اشترت نفسها بتسع أواق على تسعة أعوام، فجاءت بريرة إلى عائشة وقالت: (فَأَعِينِينِي)، فقالت عائشة -رضي الله عنها-: (إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ) وفي بعض الروايات أنها قالت مرة واحدة فعلت، أي أن عائشة تريد شراءها وعتقها، ولكن بشرط أن (يَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي). ما هو الولاء وما الفائدة؟
الولاء مثل النسب، قال النبي : «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كلُحْمَةِ النَّسَبِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ»[13]، أي كما أنَّ ابنك ينسب لك، فكذلك المولى يُنسب لك، لا ينسب نسب الأب، ولكن يقال: مولى فلان. ولو أنَّ الجارية أو المولى توفي ولم يكن له وارث، فإن ماله ينتقل إليك ينتقل إليك، ويكون هذا المولى نصيرًا لك، ولهذا كانت العرب تفتخر بكثرة الموالي. لماذا؟ لأنهم يحاربون معهم من حاربهم، ويسالمون من سالموا، ويكثرونهم.
ولَمَّا جَمع رَسولُ اللهِ الأنْصَارَ، فَقالَ: «أَفِيكُمْ أَحَدٌ مِن غيرِكُمْ؟» فَقالوا: لَا، إلَّا ابنُ أُخْتٍ لَنَا، فَقالَ رَسولُ اللهِ : «إنَّ ابْنَ أُخْتِ القَوْمِ منهمْ» فَقالَ: إنَّ قُرَيْشًا حَديثُ عَهْدٍ بجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ، وإنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَجْبُرَهُمْ وَأَتَأَلَّفَهُمْ، أَما تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بالدُّنْيَا، وَتَرْجِعُونَ برَسولِ اللهِ إلى بُيُوتِكُمْ؟ لو سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا، وَسَلَكَ الأنْصَارُ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأنْصَارِ.
وقد قال النبي لَمَّا جمع الأنصار يومًا، وقال: «لا يحضر إلا رجل من الأنصار»، فقال بعضهم: يا رسول الله معنا ابن أخت لنا، فقال: ابن أخت القوم منهم. فقالوا: يا رسول الله معنا مولى لنا. قال: «مَولَى الْقَومُ مِنْهُم». وقد قال النبي لأبي رافع: «إنَّ مَولَى الْقَومُ مِنْهُم»، وذلك لَمَّا نهاه عن أكل الصدقة. لماذا؟ لأنه هاشمي. فجعله من بني هاشم، «وإنها لا تحل لنا».
فإذًا الولاء كان عندهم أمرًا محمودًا، «فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ، فَأَبَوْا عَلَيْهَا»، أي: يريدون المال ويريدون الولاء. قالوا: لا. إن أحبت أن تعينك ويكون الولاء لنا، (فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللَّهِ جَالِسٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الوَلَاءُ. فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ ، فَقَالَ: «خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلَاءَ، فَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»)، هذا اللفظ من الألفاظ التي فيها خلاف بين العلماء، وقد استنكرها الإمام الشافعي -رحمه الله- مع كونها في البخاري ومسلم، فقال: إنها مما تفرد بها بعض الرواة. لماذا؟ لأنه قوله: «خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلَاءَ» أنت غررت، كأنهم قالوا: غرتها عائشة، ولكن الأصل أنَّ النبي قال: «خذيها ودعيهم يشترطون ما شاءوا» أنت يا عائشة لا تتدخلين، بل خذيها ولنا الولاء، «فَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» فأخذتها عائشة -رضي الله عنها- ودفعت الثمن، وأعتقت بريرة، وصعد النبي على المنبر، فقال: «أَمَّا بَعْدُ، مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ».
هل يدل هذا القول على أنَّ الأصل في الشروط أن تكون منصوصة في الكتاب؟
نقول: لا، ولهذا ابن حزم ممن تنطع في هذه المسألة تنطعًا عجيبًا -رحمه الله- فإنه أبطل كل الشروط، وجعل عقود الناس ومبايعاتهم الآن، منحلة وباطلة على مذهب ابن حزم؛ لأنه قال: لا يجوز فيها إلا تسعة شروط فقط، وهي الشروط التي جاءت في الكتاب والسنة، فذكر       منها مثلا: اشتراط الكفيل، واشتراط الثمرة على البائع، واشتراط ركوب الدابة مثلا كما في حديث جابر، والشروط الواردة في الأحاديث، وما سوى ذلك من الشروط فلا.
قيل له: وماذا عن شروط الناس الكبيرة؟ قال: كلها باطلة. لماذا؟ لأنها ليست في كتاب الله. ونقول: هذا من الفهم الأعوج. لماذا؟ لأنك يا ابن حزم -عفا الله عنك- أين تجد هذا في كتاب الله؟ أين تجد اشتراط الولاء في كتاب الله إذا كنت تزعم ذلك؟
بل إن المراد من قوله: «لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ» بمعنى أنها تخالف شرع الله، فإن الولاء في شرع الله -عز وجل- يكون لمن أعتق، وأن «الْوَلَاء لُحْمَة كلُحْمَةِ النَّسَبِ»، وأن الأصل في البيع هو التملك، وأن الأصل في الإيجار هو عدم التملك، وهذه قواعد شرعية لا يجوز مخالفتها، ولك أن تشترط أية شروط أخرى بحيث لا تتعارض مع الكتاب والسنة، ولكن أن تشترط شروطًا تعارض الكتاب والسنة، فهي من الشروط التي ليست في كتاب الله -عز وجل-، فـ «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ»، وباطل يعني: فاسدًا، وهذا مما يدل على أن ثمَّ من الشروط تبطل ولكن لا تفسد العقد، وهذا هو الأصل.
إذًا يقال: الأصل هو تصحيح العقود ما أمكن، يعني: تكون العقود ماضية مع إبطال الشروط التي تخالفها، إلا أن يكون للشرط أثر كبير يرجع بالضرر على أحد الطرفين.
فإذا كان كذلك، فإنه يخرج العقد من كونه عقدًا إلى كونه غبنًا، ولكن في مثل هذه الصورة أنت استوفيت الثمن كاملا وما خسرت شيئًا.
وبناء عليه نقول: الأصل هو تصحيح الشروط ما أمكن، وأن الشروط المخالفة لكتاب الله -عز وجل- تُبْطَلُ وَلا يُبطلُ عقدها.
ومما ينبغي أن ينتبه إليه الناس، أي لا يشترط شروطًا ويبنون عليها التزامات وما إلى ذلك، وتكون هذه الشروط مما تَفْسُد عند القضاء، فينبغي للإنسان أن يحتاط، وأن يأتي بشروط واضحة غير مخالفة للشرع، وألا يبني على الشروط الباطلة التزامات، أو أية عقود أخرى، ثم تكون هذه الشروط كلها باطلة، ثم يُثَبَّتُ العقد، يعني: قد لا يفسخ العقد، فيكون العقد ثابتًا والشرط لا قيمة له.
قال: «قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»، فقرر النبي هذه القاعدة الشرعية: أن الولاء إنما هو لمن أعتق، وأنه لحمة كلحمة النسب، لا يجوز بيعها ولا هبتها، كما جاء في حديث عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ النبي : «نَهَى رَسولُ اللَّهِ عن بَيْعِ الوَلاءِ، وعَنْ هِبَتِهِ»[14].
{أحسن الله إليكم.
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، وشكر الله لكم، ونفع الله بكم، وزادكم من فضله شيخنا المبارك.
والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بإذن الله تبارك وتعالى- في الحلقة القادمة، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------------------
[1] صحيح أبي داود (3359).
[2] رواه البخاري (1481).
[3] أخرجه أبو داود (3410) واللفظ له، وابن ماجه (1820).
[4] أخرجه أحمد (14996).
[5] رواه مسلم (2363).
[6] رواه مسلم (1578).
[7] رواه مسلم (1983)، عن أنس أن أبا طلحة سأل رسولُ اللهِ عن أيتامٍ ورثوا خمرا فقال: أهرقها. فقال: أفلا أُخللها؟ قال: لا
[8] أخرجه البخاري (1492) باختلاف يسير، ومسلم (363) واللفظ له.
[9] رواه البخاري (239).
[10] ابن تيمية – القواعد النورانية (174).
[11] رواه البخاري (7185).
[12] أخرجه الترمذي (1352) واللفظ له، وابن ماجه (2353) مختصراً.
[13] أخرجه الشافعي في الأم (5/268)، وابن حبان (4950)، والحاكم (7990).
[14] أخرجه البخاري (2535)، ومسلم (1506).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك