الدرس الأول
فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمٰن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان.
مرحبا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم.
نرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) للمستوى الرابع الذي يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ.
حياكم الله شيخ إبراهيم}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا وإياهم العلم النافع، والعمل الصالح، آمين آمين.
{العود أحمد -بإذن الله تبارك وتعالى- ونستأنف القراءة من (كتاب البيوع) في هذا المستوى الجديد -بإذن الله تعالى.
شيخنا لو تتفضل علينا بمقدمة قبل أن نبدأ بشرح (كتاب البيوع) بمقدمة يسيرة عن (كتاب البيوع) في هذا الكتاب المبارك (عمدة الأحكام) للإمام المقدسي}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد، فلمَّا فرغنا -بحمد الله عز وجل- من كتاب العبادات؛ انتقلنا إلى القسم الثاني من أقسام الفقه في دين الله -عز وجل- والأصل معاشر الإخوة والأخوات أن جُلَّ الأدلة الشرعية إنما هي مُتعلقة بأبواب العبادات؛ لأنَّ الأصل في العبادات أنها توقيفية، ولذا فكل من قال في شيء من العبادات: إنه كذا وكذا، قيل له: أين دليلك؟
ولأجل ذلك سنرى أنَّ الأدلة في الطهارة وفي الصلاة وفي الزكاة وفي الصيام وفي الحج متكاثرة، وأنه لا تكاد تأتي مسألة إلا وتُعَقَّبُ بالدليل. لماذا؟ لأنَّ من حق السائل إذا قلت له في عبادته شيئًا أن يقول لك من أين؟ لأنَّ هذا من التعبد لله -عز وجل- بما شرع.
ومن المتقرر أنَّ العبادة بوجه عام لا تُقبل إلا بشرطين:
الشرط الأول: الإخلاص لله -عز وجل، وهذا شرط قلبي.
والشرط الثاني: المتابعة لرسول الله ﷺ، والمقصود بالمتابعة التأسي به ﷺ في هذه العبادة، سواء في وقتها، أو في زمانها، أو في كيفيتها، أو في عددها. ومن هنا نرى أن الأصل في كتاب العبادات في الفقه أنه من حيث القسمة يعد ربعًا من الأرباع؛ لأنهم يقسمون الفقه بوجه عام إلى أربعة أقسام، هي: قسم العبادات، وقسم المعاملات، وقسم الأنكحة، وقسم الأقضية. وبالتالي فهو ربع.
لكن لو نظرنا إليه من حيث ذكر الأدلة الواردة عليه من السنة، سنرى أنه يجاوز النصف لِمَا قررناه سابقًا من أنَّ الأصل في كل مسألة من المسائل أن تكون تعبدية، ولأنَّ دين الله -عز وجل- إنما نزل لتقرير العبادات.
أمَّا يتعلق بأبواب المعاملات فإنَّ الأصل فيها الحل، والأصل فيها أنها منوطة بعرف الناس، ولهذا نجد أن كثيرًا من مسائل البيوع إنما يرجع فيها إلى أعراف الناس، ولا يرجع فيها إلى الأدلة. لماذا؟ لأن الأدلة ليست متضافرة فيها.
ومن أجل ذلك فإنَّ الإنسان لو عمل عملاً في البيوع -باع أي بيع من البيوع- فجاء رجل وقال: لماذا بعت بهذه الطريقة؟ يقول: لا تسألني هذا السؤال. وإنما قل لي: لا يجوز لك أن تبيع بهذه الطريقة؛ لأجل الدليل الفلاني، وإلا فالأصل أني أبيع بأي طريقة حلال؛ لأنَّ الأصل فيها الحل حتى يأتي ما يخالفها، وما ينقل عن الحل.
هذا تقريرنا فيما يتعلق بكتاب البيوع أو كتاب المعاملات الذي سندخل فيه؛ لأن كتاب المعاملات لا يشمل البيع، فالمعاملات هو كل تعامل يجري بين الناس فيما يتعلق بالأموال، ويشمل ذلك: البيع، والإجارة والشفعة والوديعة والعارية وأبواب كثيرة من الأبواب التي سيذكرها المصنف -رحمه الله- وسيذكر بعضا منها في كتابه هذا.
هذا باب مهم، والباب الآخر أن الأصل في تعريف البيع أن يقال: إنَّ البيع هو مُبادلة مالٍ أو منفعةٍ بمثل أحدهما على التأبيد.
المال معروف، فالمال هو العين، سواء كان هذا المال الذي نقصده نقدًا أو كان عينًا، والعين مثل: السيارة، فالسيارة تعد مالاً.
أو منفعة: المنفعة يراد بها ما يقابل المال، على سبيل المثال: أن تبيع حقًا لك من الحقوق، والمنافع الآن في هذا الزمان قد تكاد تغلب أو تطغى على الأموال العينية أو النقدية. كيف؟
نحن نعلم الآن أنَّ أغلب الشركات لا تُقيم بناءً على موجوداتها، وإنما تُقيم بناءً على اسمها، والاسم ما هو موجود، وليس ذاتا. وهذا هو نوع من المنافع.
الحقوق المعنوية عند الناس كثيرة، كالتأليف مثلا ونحوه من حقوق المنافع.
حقوق الارتفاق، على سبيل المثال: لو كان للإنسان بيت مثلا وفيه ممر يمر به، فقال لرجل: أنا سأبيعك هذه المنفعة. هذه منفعة، يجوز بيعها.
إذًا "مُبادلة مال أو منفعة بمثل أحدهما على التأبيد"، هذا هو الشرط يكون فرقًا بين البيع وبين الإجارة. الأصل في الإجارة أنها على التوقيت وليست على التأبيد، لكن إذا كانت على التأبيد انتقلت من كونها إجارة إلى أن يكون بيعًا.
والأصل في البيع أنه مشروع بالكتاب وبالسنة والإجماع والقياس، وهو مقرر، قال الله -عز وجل- في كتابه: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ وهذه من أصلح الآيات في التحليل، وهي أصل شرعي، والنص فيها صريح جدا، ويدل على أن كل ما كان يسمى بيعًا فالأصل فيه الحل حتى ينقل عنه ناقل.
أنا أوجه الإخوان والأخوات بحكم أنَّ المعاملات الآن قد كثرت، والأصل كما ذكرنا هو الحل، لكن أيضا كثرت في هذا الزمان أنواع من الإشكاليات التي تدخل على البيع، فهذه الإشكاليات التي تدخل على البيع وتقلبه من كون الأصل فيه الحل إلى الحرمة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أولها وأساسها: الربا، قال تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ فالربا هو الذي يقابل البيع، ولهذا فهو لا يسمى بيعًا، ولا ينعقد شرعًا.
إذًا أولها الربا، وسيأتي -إن شاء الله عز وجل- بيانه وبيان أقسامه.
الأصل الثاني: الغرر أو الجهالة، كل مجهول العاقبة، يؤول إلى نزاع بين المتخاصمين، فانه يعد غررًا وجهالة.
الأصل الثالث: الغش، والغش هو التدليس وما يقوم مقامه، وهو إظهار الشيء على خلاف حقيقته التي هي عليه، هذه هي أصول مسائل.
إذًا في كل معاملة تتعامل بها، ما يحتاج أن تسأل عنها شيخًا ولا عالِمًا، بل عليك أن تعرضها فقط على هذه المسائل الثلاث، هل فيها ربا؟
إذا كانت الإجابة: لا، فالحمد لله قد جاوزت المرحلة الأولى.
تعال للمرحلة الثانية. هل فيها غرر وجهالة؟
إذا لم يكن فيها غرر ولا جهالة، فالحمد لله.
تعال للمرحلة الثالثة: هل فيها غش؟
إذا لم يكن فيها غش فالحمد لله، وبالتالي تكون حلالاً؛ لأنَّ الأصل فيها الحل.
ولهذا كل ما سنعرض له -إن شاء الله عز وجل- من البيوع المحرمة سنجد أن فيها شيئا من هذه الأمور الثلاثة.
إذًا ذكرنا أنَّ الأصل في الكتاب والسنة والإجماع والقياس وأن البيع من الأمور التي قد مارسها النبي عليه الصلاة والسلام، فإنَّ النبي ﷺ قد باع واشترى، وهذا يدل على مشروعيته، ويدل على أنه ليس مما يظنه بعض الناس امتهانًا. ولذا فكبار العلماء ومن قبلهم الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يمتهنون البيع؛ لأنَّ الأصل بوجه عام في التجارة أنها على ثلاثة أقسام:
الأمر الأول: الزراعة وما يتعلق بها.
الأمر الثاني: الصناعة وما يتعلق بها.
الأمر الثالث: التجارة وما يتعلق بها.
هذه هي أصول المبايعات وأصول الأعمال. إمَّا أن تكون مزارعًا وما يتعلق بهذا، أو تكون صانعًا وما يتعلق بذلك، أو تكون تاجرًا.
فأما المهاجرون فقد كانوا تجارا، وأما الأنصار فقد كانوا زراعًا، وأمَّا الموالي فقد كانوا صناعًا، ولهذا كان خباب بن الأرت، وهو أصيل من تميم، ولكنه كان مولى، يعني: أُسِرَ وَجَرَى عليه الرق، كان قينًا، والقين هو الذي يصنع الحديد.
وأبو طيبة كان مولى لبني بياضة، وقد كان حجامًا.
فإذًا التجارة كانت عمل المهاجرين، والحرث كان عمل الأنصار، والصناعة كانت عمل الموالي بوجه عام، ومن حيث المفاضلة بينها ما هو أفضلها؟ الظاهر -والله أعلم- أنَّ أفضلها هو التجارة لمن برَّ واتقى؛ لأنَّ فيها معايش الناس، ولهذا شدد الله -عز وجل- في ربا الفضل ومنعه، مع أن بعض الناس يشكل عليه الحكمة في ربا الديون أو ما يسمى عند بعض العلماء بربا النسيئة ظاهرة، وهي أنها تقود إلى تضخم الأموال، وتدخل العنت والضرر على المحتاجين.
لكن الإشكالية في بيوع الفضل، بعض الناس يقول: ما هي الإشكالية في أن أبيع صاع جيد بصاعين غير جيد أو رديء؟
فكان من الحكم التي ذكرها بعض العلماء أن هذا لا يؤدي إلى تدوير الأموال تدويرًا جيدًا، بخلاف ما إذا بعته بدراهم وأخذت دراهم ثم ذهبت واشتريت، وهذا يؤدي إلى تحرك السوق، وتحرك السوق فيه معايش الناس.
ثمَّ إنَّ التجارة تجمع ما سواها من الصناعة والحرث؛ لأنَّ مصيرك أنت أيها الزارع إلى أن تبيع زرعك، ومصيرك أنت أيها الصانع إلى أن تبيع صناعتك.
فاذًا هذه هي أصول الأعمال الثلاثة التي يتم بها البيع.
يبقى أيضًا أن نقول: إنَّ الأصل بوجه عام في البيع أنَّ شرطه الأساسي هو: الرضا، وركناه هما: الإيجاب والقبول، وهذا هو الذي سيقودنا -إن شاء الله عز وجل- إلى حديث الباب.
ركناه: الإيجاب والقبول، والإيجاب بمعنى أن يوجب فيقول: بعتك، والقبول أن يقول: قبلت. والحقيقة أنَّه ليس من شرط النطق بذلك صراحة؛ لأنه لو قيل: إنَّ النطق بذلك صراحة من شرطه لفسدت أغلب بيوع الناس؛ لأنَّ أغلب بيوع الناس الآن ليست قائمة على النطق، وإنما هي قائمة على ما يسمى عند العلماء بـ بَيْعِ المُعاطاةِ، والمُعاطاةِ أي لا تتكلم، بل تدخل البقالة، أو السوبر ماركت أو المطعم أو أي مكان آخر فلا تتكلم بحرف، بل تشتري ما شئت، ثم تضعها على الجهاز، ثم تدفع المبلغ بدون أن تنطق بكلمة، حتى وإن كانت المبالغ ضخمة، فإنَّك تحاسب أحيانًا بعشرة آلاف، وتشتري أحيانا ماركات فاخرة ولا تتكلم بحرف. هذا هو بيع المعاطاة، وبيع المعاطاة على الصحيح من أقوال أهل العلم جائز، ومن خالف فيه من الشافعية؛ فإنه قد لزمه الآن في العصر الأخير أن يتخلى عن قوله إلى قول الجمهور بجواز بيع المعاطاة.
الأهم أن يكون هناك إيجاب أو قبول أو ما يقوم مقامهما من القرينة الدالة على الرضا الذي هو شرط البيع؛ لأنَّه لا يحل بيع إلا عن تراض، إنما البيع عن تراض، لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه، وطيبة النفس إمَّا بالنطق أو بالفعل القائم مقام النطق.
هذه الماحة سريعة للبيع وما يأتي عليه، وسنتكلم -إن شاء الله عز وجل- بعد قليل عن أنواع الخيار التي ذكرها المصنف -رحمه الله.
{أحسن الله إليكم.
قبل أن نبدأ، ذكرنا أن المهاجرين كانوا يشتغلون بالتجارة، وأنها تجمع جميع الحرف، فهل صحيح ما ذكر من أن تسعة أعشار الرزق في التجارة؟}.
هذا الحديث لا يصح عن النبي ﷺ، ولكن معناه صحيح من جهة أنَّ التجارة تجمع هذه الصنائع كلها، وهذا أمر ملاحظ، ولهذا دائمًا يقولون: أعظم الناس بركة المزارعون، ولكنهم أبخسهم حظًا من حيث النقض، فتجد أن المزارع يعمل ويكدح العام كله، فإذا فرغ من محصوله باعه بكم؟ نتاج سنة كاملة قد يبيعه بألفي ريال مثلا، فيأتي التاجر ويشتريه ثم يجري عليه عملا يسيرًا بتعبئته وتغليفه ثم يبيعه بأضعاف مضاعفة. فما من شك أنَّ هذا المعنى صحيح، ولكن ليس من شرط كثرة الرزق البركة فيه، ومن عانى هذا الأمر في الحقيقة يتيقن أن الأمر ليس بكثرة الرزق، بل إنَّ كثرة الرزق قد تدفع الإنسان كثيرا إلى - كما نسميه نحن- رفع سقف طموحاته، مما يصيب الإنسان بالبذخ، وبالتالي يفقد البركة التي كان يريدها، ويتعجب لأنَّه قد يتكسب الكسب العظيم الكبير ولكنه لا يدري أين ذهب، ولكن البركة حقيقة بعد توفيق الله- عز وجل- إنما هي بحسن التدبير.
قد يأتي للإنسان الرزق اليسير جدًا، ولكن يبارك له فيه، ويرزقه الله -عز وجل- حسن التدبير، ولهذا قال الله -عز وجل- في كتابه: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء:5]، وقد ذكر بعض العلماء -رحمهم الله- أنَّ ممن يدخل في مثل هذه الآية المرأة السفيهة، والولد السفيه. فقد يأتي الرجل ويضع ماله في يد امرأته التي لا تحسن التدبير، فيضيع المال، وبالعكس قد يرزق الله -عز وجل- الرجل امرأة مُدبرة، فتدبر ماله أحسن تدبير، حتى إني أعلم كثيرًا من الأثرياء يقولون: نحن لا ندبر لأنفسنا بشيء؛ لأنَّ من يدبر أمر البيت عندي هي الزوجة، فهي التي أعطيها المال فتحسن إخراجه، وأجد في نهاية العام أن رصيدي ممتلئ، ولكن في المقابل قد يبتلي الله -عز وجل- الإنسان بأناس سفهاء يضيعون عليه ماله.
إذًا ما من شك أنَّ هذا المعنى ينبغي أن يلاحظ، وهو أنَّ كثرة المال ليست هي المقصد ولا هي المغزى، وكما ذكرنا قبل قليل أنَّ أهل الزروع يبارك لهم، فتجد أنه يأكل ويبيع ويُهدي ويبادل.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (كِتَابُ البيوع
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ -رَضىَ عنهما- عَنْ رسول الله ﷺ أنَّه قَالَ: «إذَا تَبَايَعَ الرجُلانِ فَكُلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ، مَا لَمْ يَتَفرقَا وَكَانا جَمِيعاً، أو يُخَيَر أحَدُهُمَا الآخر» قال: «فَإِن خَيّرَ أحَدُهُمَا الآخر فَتَبَايَعَا عَلَى ذلِكَ وَجَبَ البيع»)}.
هذا حديث ابن عمر -رضي الله عنه- وهذا الحديث جليل، وهو أصل في باب الخيار، وهذا الباب -أعني باب الخيار- هو من محاسن هذا الدين، وهو من المبادئ التي لا يفقهها الماديون، ولا أصحاب المنافع، ولا عباد الرأسمالية والمال، لأنَّ هذا المعنى من المعاني التي نسميها نحن المعاني التكافلية، ومعاني التيسير.
الأصل في البيع -كما ذكرنا- أنه ينعقد بالرضا، والرضا إنما يظهره الإيجاب والقبول، أو ما يقوم مقامهما، فإذا كان الإيجاب والقبول؛ فقد تم البيع، هذا هو الأصل، وقد أصبح المال أو النقد مُلكًا للبائع، وأصبحت السلعة ملكا للمشتري. هذا هو الأصل.
لكن الشرع علم أنَّ الإنسان ربما يقع أحيانًا في بعض العجلة، وهذا يقع كثيرًا في هذه الأزمنة، يقع في عجلة من أمره، فيبيع الشيء ثم يندم، أو يشتري الشيء ثم يندم، فجعل له رخصة في مراجعة نفسه تسمى عندهم بالخيار.
الخيار ما هو؟ الخيار هو أخذ خير الأمرين، إمَّا أن تستمر في الصفقة سواء كنت بائعًا أو مشتريًا، أو أن تنسحب منها. هذا هو الأصل في الخيار.
والخيار -بوجه عام- عند العلماء -رحمهم الله- يشمل مجموعة من المسائل منها مثلا: خيار المجلس الذي فيه هذا الحديث، وخيار المجلس هو الخيار الذي يكون للبائع والمشتري ما دام في مجلسهما ولم يتفرقا.
وهناك خيار يسمى عند العلماء -رحمهم الله- بخيار الغبن، وهناك خيار يسمى بخيار التدليس، وأنواع من الخيارات التي يعرفها أهل العلم -رحمهم الله.
خيار المجلس وهو أشهر هذه الخيارات، المعنى فيه أنه متى ما عقدت الصفقة، فإن لك الخيار في إمضائها أو فسخها ما دمت في مجلسك لم تتفرق منه، وعمدة هذا حديث ابن عمر -رضي الله عنه-: «إذَا تَبَايَعَ الرجُلانِ فَكُلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ، مَا لَمْ يَتَفرقَا وَكَانا جَمِيعاً»، وقوله: «فَكُلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ» يعني: في إمضاء الصفقة أو العدول عنها، بشرط: أن لا يتم التفرق، والتفرق ها هنا إنما هو تفرق الأبدان لا تفرق الأقوال، خلافًا للحنفية والمالكية -عفا الله عنهم- فإنَّ المالكية والحنفية قد خالفوا في هذه المسألة، وقالوا: إنَّ التفرق هنا ليس تفرق الأبدان وإنما تفرق الأقوال، وإذا كان المقصود بالتفرق هنا تفرق الأقوال لم يعد هناك فائدة من هذا الحديث أصلا؛ لأننا لا نعرف أنَّ البيع قد عُقِد، فإذًا التفرق هنا ليس تفرق الأقوال وإنما هو تفرق الأبدان؛ ولأنَّ النبي ﷺ قال هنا «مَا لَمْ يَتَفرقَا وَكَانا جَمِيعاً»، فدلَّ ذلك على أنَّ التفرق المراد به هنا تفرق البدن وليس تفرق القول.
إذًا متى ما وقع البيع، فاعلم أيها البائع أو المشتري أنَّ لك الخيار في إمضائه أو فسخه حتى تتفرقا، أي: تنصرفا من المجلس، فإذا كنتما في دار فتفرقكما يكون بالخروج منها، وإذا كنتما في سيارة فتفرقكما يكون بنزولكما منها، وإذا كنتما تتعاملان من خلال التطبيقات الإلكترونية أو غيرها، فالتفرق ها هنا يكون بإغلاق التطبيق والخروج منه.
{هل عدم القبول يعد من التفرق؟}.
لا، القبول ها هنا هو قبول من البائع وليس قبول العملية، وهذا لا يعني أنَّ الخيار قد انقطع، بل إنَّ الخيار يظل حتى يخرج الإنسان من التطبيق وينصرف؛ لأننا لا نستطيع أن نحكم على أنه قد خرج بأكثر من ذلك.
قوله: «أو يُخَيَر أحَدُهُمَا الآخر» هذا هو الأصل، ألا ترون أنَّ بعض التطبيقات تكتب: لا يمكنك الرجوع في طلبك في حال قبوله.
{أو يعطون مدة مثلا ويقولون: خلال ثمانية وأربعين ساعة إذا لم تحول المبلغ فطلبك لاغٍ}.
هذا أمر آخر، هذا جزاه الله كل خير، هذا يسمى خيار إضافي عند العلماء -رحمهم الله-، وهو نوع آخر سنتكلم عنه بعد قليل.
لكن خيار المجلس يقول لك: في حال أقدمت على هذه الخطوة الأخيرة -أنا لا أريد أن أسمي بعض التطبيقات بعينها لِما فيها من بعض المنكرات وما إلى ذلك- لكن بعض التطبيقات تقول: إذا قمت بالضغط على الزر، فإنك قد قمت بالخطوة الأخيرة، ولا يمكن الرجوع عنها. خلاص هو قد أبرأ من نفسه وأسقط حق الخيار لك. هل يجوز؟
نعم يجوز، وبناء على هذا يجوز لك إذا أردت أن تتبايع وكنت تعرف من حال المشتري أنَّه كثير التردد، أن تقول له: أبيعك بشرط ألا يبقى لك خيار، ولهذا قال: «أو يُخَيَر أحَدُهُمَا الآخر»، أي: يخير أحدهما الآخر على أنه لا خيار لأحدهما أو لهما جميعًا، وهذا جائز.
فإذا تبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وسقط حق الخيار، أي: خيار المجلس.
والأصل في خيار المجلس أنه خيار شرعي، وهو الذي كان عليه ابن عمر -رضي الله عنه-، فإنَّ ابن عمر -رضي الله عنه- كان يقول: "ابتعت من عثمان -رضي الله عنه- مالاً عظيمًا بالغابة، بأرض الله وبخيبر، فلما وجب البيع رجعت القهقري، خشية أن يراودني البيع، ورأيت أني غبنته، أنَّه قَرَّبني من المدينة مسيرة ثلاث، وقربته من أرض ثمود مسيرة ثلاث"، فابن عمر لو لم يفهم هذا الحديث -وهو راوي هذا الحديث- أن التفرق هنا إنما هو تفرق الأبدان لَمَّا رجع. لكن قد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده كما في سنن أبي داود، أنَّ النبي ﷺ قال: «ولا يحلُّ له أنْ يفارقَه خشيةَ أنْ يستقيلَهُ»[1].
وهذه جملة عندي فيها إشكال من جهة ثبوتها «ولا يحلُّ له أنْ يفارقَه خشيةَ أنْ يستقيلَهُ» يعني: أنت بعت وتم البيع، ولَمَّا تم قلت أنا فارقتك مباشرة حتى أسقط الخيار، فهل هذا يجوز؟ الإمام أحمد ذهب إلى عدم جواز الخروج بهدف إسقاط حق الخيار، وأما إذا انتهيا فخرج كلاهما أو أحدهما منصرفًا بدون نية إسقاط حق الخيار فلا بأس، وهذا قد جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، ولكن عمل ابن عمر -رضي الله عنه- كأنَّه على خلاف ذلك؛ لأنَّه قد ذكر فيه قصته مع عثمان -رضي الله عنه وأرضاه-.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» أَوْ قَالَ: «حَتَّى يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا»)}.
هذا أيضًا حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، وقد كان حكيم بن حزام -رضي الله عنه- رجلاً صاحب تجارة، وكان ثريًا من أثرياء الصحابة -رضي الله عنهم-، ولأجل ذلك أوصاه النبي ﷺ بهذه الوصية التي عمل بها حكيم -رضي الله عنه- فرأى أثرها وأثر بركتها في ماله. قال له النبي عليه ﷺ: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» أَوْ قَالَ: «حَتَّى يَتَفَرَّقَا»، وهو مثل حديث ابن عمر -رضي الله عنه- السابق. قال: «فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا»، الصدق والبيان يعني: أن تبين ما في السلعة من العيب، أو ما يعتريها من إشكالات، والصدق هنا يعني أن لا يكون أمر تضمره أو تخفيه قد تنتفع به أنت ويضر به صاحبك.
إذًا، قال النبي ﷺ: «فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا»، وأشد ما يكون من الكتمان هو الحلف على السلعة كاذبًا، كأن يحلف بالله العظيم ألا تجد أرخص من هذه السلعة، أو ألا تجد أفضل منها، بينما يكون السوق مليئًا بمثلها، أو أن يقول: بعتك إياها بأقل مما اشتريتها، ويكون كاذبا في ذلك، أو يكون مدلسًا، قد لا يكون كاذبًا، وإنما يكون مدلسًا، وهذا أيضا من قوله: «وَإِنْ كَتَمَا» كيف؟
بعض الناس يشتري السلعة بخمسين ريال مثلا، ثم يبيعك إياها بسبعين ريال، ثم يقسم بالله العظيم أن هذا السعر (70 ريال) هو السعر الذي اشتراها به، ويقصد بذلك أن يضع ما يسمونه عندهم بالتكاليف الإدارية والتكاليف التشغيلية وما شابه، فيقول: قيمة السلعة خمسين ريال، وتكاليفها الإدارية كذا وكذا.
نقول هنا: ما في بأس لكن بين ذلك، قل: اشتريتها بكذا وتكلفتها عليَّ كذا وكذا، وهذا من البيان الذي يجب على الإنسان أن يفصح عنه، ولهذا متى ما استصحب الإنسان هذا الأمر فيبارك الله -عز وجل- له في بيعه، وفي معاشه، ومتى ما كان عند الإنسان نوع من التدليس والتحايل فلا يظن أنه سيخفى على الله -عز وجل-، فإذا تحايل على خلق الله تعالى فليعلم أنَّ الله -عز وجل- سينتقم منه، وسيرى أثر ذلك في ماله.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (بَابُ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ البُيُوعِ.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنِ المُنَابَذَةِ، وَهِيَ: طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالبَيْعِ إِلَى الرَّجُلِ قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ، أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَنَهَى عَنِ المُلَامَسَةِ، وَالمُلَامَسَةُ: لَمْسُ الثَّوْبِ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ»)}.
قد ذكرنا في أول الكلام على أحكام البيوع، أن البيع قد يعتريه ثلاثة أمور:
الأمر الأول: الربا، والأمر الثاني: الغرر، والأمر الثالث: الغش، وحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أصل من أصول النهي عن البيع إذا كان فيه غررًا، والغرر ها هنا مجهول العاقبة، ومجهول العاقبة هو كل ما يؤول إلى النزاع والخصام، يعني: لا يمكن أن يُحسم أو يقضى فيه إلا بقاضٍ أو محكم، ويرجع فيه غالبًا إلى أجرة المسمى.
قال: (بَابُ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ البُيُوعِ) يعني: التي حرمها الله -عز وجل- وحرمها رسوله ﷺ، وذكرنا أنها ثلاثة.
إمَّا أن تكون ربا، وإمَّا أن تكون غشًا، وإمَّا أن تكون غررًا، وهذا الحديث -حديث أبي سعيد- أصل في باب الغرر، وفيه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «نَهَى عَنِ المُنَابَذَةِ، وَهِيَ: طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالبَيْعِ إِلَى الرَّجُلِ قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ، أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ»، و (المُنَابَذَةِ) هي إحدى البيوع التي كانت في السابق في الجاهلية، حيث كان الرجل يقول للرجل: أنت أغمض عينيك، أو أنا سأغمض عيني، ثم ألقي عليك أي ثوب، أو سأدخل يدي في حزمة من الثياب وأخرجها لك، فأي ثوب خرج لك بمائة ريال مثلا، ثم يدخل يديه، وقد يخرج بثوب قيمته عشرة آلاف، وقد يخرج بثوب قيمته عشر ريالات. وما من شك أنَّ هذا نوع من الغرر، وبناء عليه فكل البيوع التي تكون على مثل هذا فهي محرمة.
ومن صور ذلك: صور التأمين التجاري، كأن تؤمن تأمينًا تجاريًا على الحياة مثلا، وهذا من أعظم ما يكون من الغرر، تأتي لتؤمن على حياتك، أو تؤمن على عضو من أعضائك، كأن يكون الإنسان مثل خطاطًا، فيخشى أن يضيق عليه رزقه من خطه، أو صانع ورزقه من صنعته، أو لاعب كرة قدم رزقه من رجله، فيخشى على هذا العضو فيؤمن عليه. يؤمن عليه كيف؟
يسألونه كم دخلك أنت أيها الخطاط؟ أو كم راتبك أنت أيها المؤمن على الحياة؟ فيقول: كذا وكذا، فيقال له: نأخذ منك نسبة قدرها كذا كتأمين سنوي، بحيث إنه لو اعتراه شيء فإن شركة التأمين تدفع له قيمة متفق عليها، ولا شك أن هذا من أعظم ما يكون من الغرر؛ لأنه قد يحصل وقد لا يحصل، قد يحصل أن ينقطع عضوًا من أعضائه أو أن تذهب قدمه، ويعوض بمئات الملايين، فيستفيد الورثة بعد موته، أو يستفيد هو في حياته، وقد يحصل عكس ذلك وهو باق في دفع أقساط التأمين ولا يستفيد منه شيئًا، ولهذا فإن شركات التأمين لن ينخدعوا، فإذا أحسوا أن لأحدهم أعراض صحية، وأنه قد تقدم بكه العمر بدأوا في زيادة أقساط التأمين، وإذا وصل الإنسان إلى سن خمسة وخمسين أو الستين ما عادوا يؤمنون على حياته، ويقولون: إن الموت قد يخطفه في أي ساعة. فما من شك أن هذا من الأمور المحرمة. لماذا؟ لأنه من الغرر، ولهذا كانت كثير من البيوع ونحو ذلك محرمة.
البيوع والتي فيها ميسر، كالتي يأتي بها الأطفال ويعودون عليها، وهي نوع من التعويد على الباطل، مثل اللعبة التي تسمى: "حظ نصيب"، يأتي بعلبة فيضعها، ويقول: اسمع بخمس ريالات على كل فتحة فيها، أو تدخل إلى محالّ ألعاب الأطفال، هذه الألعاب التي يلعبون فيها ولا يشترونها، تجد أن هناك بعض الألعاب تلزم الطفل بدفع عشرة ريالات مثلا ثم يرم أو ينزل على شيء، فإن قبضه فهو له، وإن لم يقبضه فليس له، وهذا بلا شك من الغرر والميسر، فيدفع عشر ريالات ويخرج بلعبة قيمتها خمسين ريال، أو يدفع عشر ريالات ولا يخرج شيئًا، وهذا لا شك أنه من الأمور المحرمة، ولا يصح أن يقال: إن اللعب ووجود المغامرة يكفي، وها قاله بعض الناس وأجازوه، وقالوا: إن المقصد ليس هو الحصول على الجائزة، بل إن المقصد هو مجرد اللعب، وأن يعيش الإنسان روح المغامرة. فنقول: حتى وإن كان الأمر كذلك إلا أنها تقود إلى محرم، وبالتالي لا يشك من أنها محرمة، ولا يجوز الدخول فيها ابتداءً.
والميسر بابه واسع، كأن يشتري الإنسان السلعة لأجل أن يحصل منها على هدية ضخمة بداخلها، فهو ليس غرضه شراء السلعة، كما لو أعلنت شركة من الشركات عن وضعها قسيمة بعشرة آلاف ريال في علبة مناديل، فيأتي الرجل ليشتري له مائتي علبة أو أكثر، وهو لا يريد المناديل وإنما يريد الجائزة أو هذه القسيمة، فنقول: هذا فعل محرم.
{ماذا لو وضعت نفس الشركة القسيمة دون أن تقول للمشتركين أن جائزة وضعت في هذه السلعة؟}
هذه لا بأس فيها، وتعد من صور الهدايا؛ لأنهم لم يصرحوا بشيء وأنت لم تقبل على الشراء لأجلها، فأنت لم تقبل على ميسر أو غرر، بل أردت شراء سلعة فخرجت له هدية، وهذا كحال ما إذا دخلت لشراء شيء فأهداك البائع شيئًا منها.
قال: (المُنَابَذَة، وَهِيَ: طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالبَيْعِ إِلَى الرَّجُلِ قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ، أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، «وَنَهَى عَنِ المُلَامَسَةِ»، وَالمُلَامَسَةُ: لَمْسُ الثَّوْبِ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ)
الملامسة كأن يأتي ويقول: ضع يدك على أي ثوب، فاذا وضعته فهو عليك بكذا وكذا، فيلمسه ثم يرفع، فيكون الثوب له، والثوب قد يكون ثوبًا معيبًا، أو قد يكون ثوبًا غاليًا، أو قد يكون ثوبًا رخيصًا، فنقول: هذه كلها محرمة.
هل يفهم من ذلك أن بيعَ ما لم تره يكون باطلا؟
نقول: بيع ما لم تره، أو بيع ما لا يوصف لك وصفًا دقيقًا يكون بيعًا باطلاً، وأما إذا البيع قد وصف لك وصفًا دقيقًا لا يتغير بمثله الثمن تغيرًا كبيرا؛ فإنَّ هذا البيع يكون بيعًا صحيحًا، كيف؟
على سبيل المثال: أغلب البيع حاليًا إنما يكون عن طريق النموذج، فتجد السلعة أمامك أنت تراها في الصورة ولا تراها في الحقيقة، وتراهم يضعون مواصفاتها لك، سواء مساحاتها وأحجامها وخاماتها وأشياء كثيرة مؤثرة، فهل يجوز شراؤها؟
نقول: نعم يجوز شراؤها. لماذا؟ لأنَّ هذا من الوصف الدقيق الذي لا يكاد يختلف به الثمن، وهم يقولون: هو الوصف الذي ينضبط به السلم، والسلم هو تعجيل الثمن وتأخير المثمن؟ وينطبق الآن كثيرًا على ما يسمى عندهم بعقود الاستصناع، كعقود تصنيع الملابس، أو تصنيع السيارات، أو تصنيع الأثاث، فتأتي وتدفع مبلغًا على أن يتم تصنيع المنتج الفلاني لك بالمواصفات الدقيقة الواضحة والمنضبطة المتفق عليها، وهذه جائزة، ومع ذلك فإنَّ لك الخيار إذا أبصرته بعينيك فلم تجده مثل ما وصف لك، ولهذا صارت شركات كثيرة تلجأ إلى وزارة التجارة في أغلب الدول، سواء كانت هنا في المملكة أو في غيرها من الدول، في أغلب الدول تمنح المستهلك -الذي يغلب عليه أن يخدع- مدة محددة تلزم فيها الشركات لأجل إرجاع البضائع، فتقول له مثلا: لك أربع وعشرون ساعة أو أكثر أو أقل للاستبدال.
وإذا وصلك المنتج سواء كان بالصفات المتفق عليها أو لا؛ فإنه يحق لك إعادته.
{قال -رحمه الله-: (وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رَسولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «لا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ، ولَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ علَى بَيْعِ بَعْضٍ، ولَا تَنَاجَشُوا، ولَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، ولَا تُصَرُّوا الغَنَمَ، ومَنِ ابْتَاعَهَا فَهو بخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أنْ يَحْتَلِبَهَا، إنْ رَضِيَهَا أمْسَكَهَا، وإنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وصَاعًا مِن تَمْرٍ»[2]، وَفِي لَفْظٍ: «وَهُوَ بِالخِيَارِ» ثَلَاثًا)}.
حديث أبو هريرة هذا حديث جليل، ذكر فيه النبي ﷺ خمسة أنواع من البيوع المحرمة، وهي كالتالي:
البيع الأول: أشار إليه النبي ﷺ بقوله: «لا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ»، وتلقي الركبان هو تلقي الجلب، وذلك أن أي مدينة يكون لها سوق تجلب إليه البضائع، وهؤلاء الجالبون إمَّا أن يكونوا من داخل المدينة، وإمَّا أن يكونوا من خارجها، أو إمَّا أن يكونوا من أهل السوق، وإمَّا أن يكونوا من خارج السوق، فإن كانوا من خارج السوق فالأعم الأغلب عليهم أنهم يجهلون أسعار السوق، ولذا تجد أن بعض التجار يذهب ويتلقاه خارج السوق. ودعونا نمثل بأمثلة في العصر الحاضر.
على سبيل المثال: عندنا في الرياض سوق مشهور يسمى سوق الغنم، في العزيزية، فلو أنَّ إنسانًا من أهل البادية جلب غنمًا -على سبيل المثال- من بعض المناطق القريبة من الرياض، إمَّا مثلا من صحاري الدوادمي، أو صحاري القصيم أو غيرها، فإذا جلب ذاك الرجل بضاعة وجاء بها إلى سوق العزيزية في الرياض، للأسف ترى أنه قبل أن يدخل السوق متلقي الركبان على جنبات الطريق، أي قبل دخوله للسوق بمسافة قد تصل إلى الكيلو أو أكثر يجد أناسًا يتلقونه، هؤلاء هم متلقو الركبان الذين جاء نهى النبي ﷺ عن فعلهم. ويقع هذا في حرج السيارات، حيث قبل أن تدخل السوق أو تذهب إلى وسطه يتلقاك في أول الأسواق ليخدعك ويغلبك.
فقد يأخذها منك بمبلغ يبخسك فيه حقك، فقد يأخذها منك بعشرين ألف، وهي تساوي أكثر من ذلك، فإذًا هؤلاء هم متلقو الركبان أو الجلب.
فقد تأتي جالبًا بعض الأغنام وما إلى ذلك، فيتلقاك ويأخذها منك بسعر أقل من سعر السوق.
ما هو الحل مع متلقي الركبان؟ الآن أنت اشتريت وقد وقعت في نوع من أنواع البيع المحرم وهو بيع الغبن، وهو بيع فيه نوع من الغش؛ لأنَّ البائع قد غشك، وأحيانًا الغش يقع من البائع، وأحيانًا قد يقع من المشتري، فها هنا غبن وقع فيه، فإذا بالنبي ﷺ يقول: «فإذا أتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ، فَهو بالخِيارِ»[3]. «إنْ رَضِيَهَا أمْسَكَهَا، وإنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا»، يعني: حصل أنك بعت السيارة أو بعت الأغنام قبل أن تدخل السوق بسعر، فلما دخلت إلى السوق وجدت أنَّ هذا السعر ليس هو سعر السوق، وأن سعر السوق أعلى من ذلك. يقولون: لك الحق في أن تفسخ هذا البيع وترجع للمشتري وتقول له: لقد خدعتني، وهذا البيع غير شرعي، وهو محرم، وأنا أخبرك أني قد فسخت هذا البيع. هذا حكم شرعي من النبي ﷺ، ويقع هذا من دون القاضي، بمعنى أنه يحق لك أنك تمتنع أنت أيها المخدوع.
لماذا نقول من دون القاضي؟ لأنَّ الإنسان قد يتوهم، وقد تكون هناك أمور يكون له فيها مندوحة، ولكن ما يصح أن يأخذها إلا عند القاضي، بمعنى أنك لو أمسكت السلعة على سبيل المثال من دون حكم القاضي فتدخل في مسمى الغصب حتى لو كانت لك؛ لأنك بعتها، ولكن ها هنا لا، لكن الأهم من ذلك أن تشعره، وليس كما يفعل بعض الناس، تراه ينزل للسوق، فيتلقاه الركبان ويشترون منه، فيقول قد بعتك، ثم إذا توسط السوق تبين له أنه خُدِعَ، فيترك الأول ولا عاد يرد عليه. نقول: لا، يجب أن تشعره أنك قد فسخت البيع، وأنه لا بيع بينك وبينه لأنك مخدوع، وأنه لا مبايعة بنفسك لماذا؟ حتى ما تتعلق به ذمته.
إذًا هذا تفسير الجزء الأول مما نصَّ عليه النبي ﷺ في قوله: «لا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ».
ثم قال ﷺ: «ولَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ علَى بَيْعِ بَعْضٍ» وهذا من محاسن الشريعة؛ لأنَّ البيع بصورته المنهي عنها هو أحد أكبر أسباب التنازع بين التجار خاصة أو بين المسلمين عامة، فإنَّ من أكبر أسباب التنافس والحقد، هو أن يزايد الإنسان على سلعته، بمعنى أن تأتي أنت فتعرض سلعتك، وتقول للناس: هذه بضاعتي بعشرة ريالات، ويأتيك المشتري يريد أن يشتريها، وهذ مثل ما يصنع أحيانًا في محال الجوالات، وإن بدأوا الآن ينتبهون له لا تدينًا، وإنما بسبب ما يقع بينهم من النزاع. فبدأ يصبح الآن بينهم ما يسمى بالنقابات أو إدارة سوق لتضبط هذه الإشكاليات.
في السابق مثلا كنت تريد أن تشتري جوالا بخمسة آلاف مثلا، فتجد صاحب المحل المجاور ينظر إليك حتى يوهمك أنه سيعطيك أقل من خمسة آلاف، تقول له كم؟ قال: أعطيك بأربعة آلاف وتسعمائة وخمسين. نقول: هذا لا يجوز، وهذا من صور البيع على بيع أخيه، وهو من أكبر ما يثير الشقاق والقطيعة والنزاع.
قال: «ولَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ علَى بَيْعِ بَعْضٍ» ويدخل في ذلك أيضًا: الشراء على شراء أخيه، والخطبة على خطبة أخيه، والسوم على سوم أخيه.
الشراء على شراء أخيه، كأن يأتي رجل قد رغب في جوال مثلا بنسخة نادرة، بلون مميز أو بأشياء مميزة، وما عاد في السوق منه، فجئت أنا وأردت شراءه، فقلت: بكم هذا؟ قيل: بخمسة آلاف؟
جاء شخص آخر وقال: ما شاء الله هل هذا الجوال موجود؟ فقيل له: نعم، فقال: أنا أشتريه بخمسة آلاف وخمسمائة. نقول: هذا حرام؛ لأنه من باب شراء الرجل على شراء أخيه.
وأما السوم على سوم أخيه، أن لا يفتح السلعة على المزاد، وإنما يأتي فيقول: قد سومتها بخمسة آلاف، فيأتي آخر من الخارج ويقول: أنا أزيدك عليها خمسين ريال أو مائة ريال. نقول: هذا لا يجوز؛ لأنَّه من السوم على سوم أخيه، وأمَّا إذا ما فتح مزادًا أو قيل إن هذا البيع فيمن يزيد، هنا جاز السوم على سوم أخيه؛ لأنَّ هذا هو الأصل في المزادات، فالمزادات الموجودة وكل ما كان شعاره هو شعار المزاد يجوز السوم فيه على سوم أخيه بالإجماع عند العلماء، يعني: يسوم هو بعشرة، وتزيد أنت أكثر من عشرة، فلا بأس في ذلك.
{هل يحرم على الإنسان أن يبيع على بيع أخيه؟}
هذا هو الأصل، البيع على بيع الأخ محرم بكل الأحوال، ولا يجوز لك أن تبيع على بيع أخيك، لا يجوز لك إذا رأيت العميل قد قصد أخاك للشراء منه فتأتي لتنزعه منه، وكذلك أيضًا الشراء والسوم، ولكن ذكرنا أنَّ السوم يُستثنى منه إذا ما طُرحت السلعة للمزايدة.
{كنت أقصد هل هناك مدة محددة في البيع على بيع أخيه أم بشكل عام؟}.
المدة تكون ما لم يترك. كيف يترك؟
مثال: اتفق معه على البيع، فقال: بعتك بخمسة آلاف، قال الرجال: لي خيار والآن ما عندي رغبة. فإذا قال ما عندي رغبة انتهى، ويجوز لك أن تدخل، ولهذا قال النبي ﷺ في خطبة النساء، وهي من أكثر ما كان يقع فيه مزايدة بين الرجال في الزمان الأول، فيخطب الرجل، ويخطب الرجل الآخر، «ولا يَخطُبَ الرَّجلُ على خِطبَةِ أخيه، حتَّى يَترُكَ الخاطِبُ قَبلَه أو يَأذَنَ له الخاطِبُ»[4]، يأذن له يعني يقول له: تقدم للخطبة، لنرى هل تختارك أو تختارني! وهذا ليس فيه بأس، وهو جائز شرعًا، وللمرأة أن تختر بينهما في نفس الوقت. يعني: إذا كان الرجل واثقًا من نفسه -كما يقال- وخطب امرأة، وجاء شخص آخر وقال: أنا سأخطبها. قال الأول: تقدم لخطبتها ونرى من ستختار هي، هل تختارني أنا أو تختارك أنت. هل هذا يجوز؟
نقول: نعم يجوز.
{هل يفهم من الأول أنه تنازل؟}
لا، لا يفهم منه أنه تنازل، وإنما يفهم منه أنه تنازل عن حقه الحصري؛ لأنَّ الأصل أنه لَمَّا خطب وكان سابقًا فله حق إلا إذا تم رفضه، والخطبة ها هنا إنما يُراد بها أن ترك المرأة إليه، يعني: مجرد كلام؛ لأنه قد ثبت أن فاطمة بنت قيس جاءت إلى النبي ﷺ فأخبرته أن معاوية وأبا جهم قد خطباها، ولكن هذه خطبة عادية، يعني: يعني: لم تركن إليهم بعد. ما المراد بالركون هنا؟ الركون تبدأ فيها الإجراءات التي تلي الخطبة وتعقبها، فالناس الآن في العصر الحاضر، إذا خطب الخاطب تم البدء في الإجراءات التالية للخطبة، مثل: متى سيكون الزواج؟ متى سيكون عقد القران؟ المهر كم؟ وهكذا.
فانتقلنا الآن من موضوع التمحيص في الرجال، وانتقلنا إلى المرحلة الثانية، فهذه المرحلة مرحلة لا يجوز فيها الخطبة، فلا يجوز لك أن تخطب فتفسد على أخيك.
إذًا في المرحلة الأولى يجوز التقدم للخطبة، وإنما في المرحلة الثانية لا يجوز، والتفرقة هنا مهمة جدًا، لأن البنت قد يكون سوقها مفتوح -ما شاء الله- للخطاب، فإذا جاء واحد واثنين وثلاثة وأربعة ما في بأس، لأنهم ما ركنوا واتفقوا مع أحدهم، وقالوا سنبدأ معك الإجراءات وما إلى ذلك.
نقول: بعد هذه المرحلة لا يجوز التقدم فيها للخطبة ما لم يأذن الخاطب الأول، فإذا أذن له وقال: اخطب وأقدم على ذلك حتى تختار هي بيننا. أي حتى أن يترك الأول، فإذا ترك وانسحب من الخطبة فللثاني أن يتقدم، ولهذا لَمَّا ذكرت فاطمة بنت قيس للنبي ﷺ أنَّ معاوية وأبا جهم خطباها، قال لها النبي ﷺ: «أمَّا معاويةُ فرجُلٌ تربٌ لا مالَ لَهُ»[5]، وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن من العيوب التي يرد المرء بها هو أن لا يكون عنده مال، أي لا يأتي الإنسان ويقول: «إذا جاءَكُم من تَرضونَ خلقَهُ ودينَهُ فزوِّجوهُ فإلَّا تفعَلوا تَكُن فتنةٌ في الأرضِ وفَسادٌ عريضٌ»[6]؛ ويقول: هذا الحديث عام في كل شيء، فنقول: لا، عام يجب أن يكون مخصصًا ومقيدًا، فمن الأمور التي ينبغي أن تنظر في الرجل، أن ينظر إلى دخله المادي، هل عنده شيء؟ لا نبحث عن الدخل المادي العالي، ولكن على الأقل هل عنده شيء يقيم الأود؟
قال: «وأمَّا أبو الجَهمِ فلا يَضَعُ الْعَصا عَنْ عَاتِقِهِ» هذا مختلف فيه، هل المراد به أنه كان يضرب النساء؟ أو أنه كان كثير الأسفار؟
وهذا فيه دلالة أيضًا على أنَّ هذين العيبين، سواء عيب القسوة خاصة إذا كان الرجل معروفًا أنَّه من أسرة تمتهن المرأة، أو لو الرجل كثير الأسفار مع عدم الاستقرار، وهنا يجوز كذلك للمرأة ألا ترضى به.
قال النبي ﷺ: «ولا يَخطُبَ الرَّجلُ على خِطبَةِ أخيه، حتَّى يَترُكَ الخاطِبُ قَبلَه أو يَأذَنَ له الخاطِبُ»، فهذا هو المعيار فيما يتعلق ببيع الرجل على بيع أخيه.
ولو أنَّ البائع أتى ليبيع وأشار إليه الثاني وقال: اذهب لفلان فهو أرخص، فهذا ما فيه بأس، بل هو تنافس، وهو أسقط حقه، وهذا يفعله بعض البائعين المعروفين، يقول لك: أنا عندي سعر واضح ومحدد، بينما عند غيره ستجد أن السعر أرخص.
قال النبي ﷺ: «ولَا تَنَاجَشُوا» هذا هو القسم الثالث من أقسام الحديث، ولعلنا نتوقف هنا -إن شاء الله عز وجل- ونكمل بحول الله وقوته في المجلس القادم.
{شكر الله لكم شيخنا، وفتح الله لكم، وزادكم من فضله، والحديث ما زال فيه شجون في البيوع، وخاصة أنها تتعلق بأحوال الناس.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يفتح لكم، ويزيدكم من فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بإذن الله- في الحلقة القادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
------------------------------
[1] أخرجه أبو داود (3456) والترمذي (1247)، والنسائي (4483)، وأحمد (6721) واللفظ له.
[2] رواه البخاري (2151).
[3] رواه مسلم (1519).
[4] أخرجه البخاري (5142)..
[5] رواه أبو داود وابن ماجه.
[6] روى الترمذي (1084)، وابن ماجه (1967).