الدرس السادس

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

9851 9
الدرس السادس

عمدة الأحكام 3

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله معاشر طلاب العلم، في (المستوى الرابع) من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نستكمل فيه شرح كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، حياكم الله فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، من طلاب وطالبات العلم.
{نستأذنكم في استكمال القراءة}.
نعم تفضل، بسم الله.
{قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عَنْ عُمَرَ -رضي الله عنه- قَالَ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ؛ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ فَقَالَ: «لَا تَشْتَرِهِ وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ؛ فَإِنَّ العَائِدَ فِي هِبَتِهِ كَالعَائِدِ فِي قَيْئِهِ»، وَفِي لَفْظٍ: «فَإِنَّ الَّذِي يَعُودُ فِي صَدَقَتِهِ كَالكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، فلما ذكر المصنف -رحمه الله- الحديث السابق، وهو حديث عمر -رضي الله عنه- في (باب الوقف) وذكرنا أنَّ المصنف الآن دلف إلى مسائل التبرعات، وهي ما يتعلق بالأوقاف والصدقات ونحوها، هذه ليست فيها معاوضات، ذكر المصنف -رحمه الله- حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهذا الحديث من الأحاديث الجليلة التي تدل على الآداب الشرعية التي أمر الله -عز وجل- وأمر رسوله بمراعاتها فيما بين المسلمين، فالأصل أنَّ من ترك شيئا لله فإنه لا يعود فيه البتة، هذه هي القاعدة الشرعية وأصل ذلك المعصية، فإن المعصية إذا تركتها لله لم يجز لك أن تعود فيها، وقد كان من شروط التوبة: الندم على ما فات، والعزم على ألا يعود، والإقلاع عن المعصية، ففي هذا دلالة على أنك ما دمت قد تركت المعصية لله فلا ترجع وتقع فيها.
وأيضا أمر آخر: فإنَّ النبي قد قال: «يُقِيمُ المُهَاجِرُ بمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا»[1]، المهاجرون الذين هاجروا من مكة إلى المدينة قد تركوا أرضهم لله، فكانوا كأنما تصدقوا بها، فلما فتح الله -عز وجل- عليهم مكة أراد بعضهم أن يجلس فيها ولا يرجع؛ لأنه لا أحسن من العودة إلى الوطن! قالوا: نرجع إلى مكة ونمكث بها، فبدؤوا ينشرون هذا الكلام بينهم، حتى ظن الأنصار أنَّ النبي سيرجع إلى بلده، وسيمكث في مكة، فقال النبي : «الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ»[2]، ثم أصدر أمره: «يُقِيمُ المُهَاجِرُ بمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا»، تخرجون إلى دار مهاجركم، ما ترجع إلى بلدك الأول؛ لأنك قد تركته لله فلا ترجع فيه، ولهذا قال : «لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ»[3]، يعني: يتحزَّن عليه أن مات في مكة، وهل أحسن من الموت في مكة؟ قالوا: لا؛ وإنما لأنه كان مهاجريًّا، وكان الأولى بالمهاجر ألا يموت في المكان الذي هاجر منه، فلما مات في المكان الذي هاجر منه؛ تأسَّى عليه النبي وكأنه قد وقعَ في مصيبة، دلالة على أن من ترك شيئًا لله لم يرجع فيه، فكان هذا هو أصل هذه المسألة.
قال: (حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، هذا نوع من الوقف، وعمر -رضي الله عنه- قد كان من رؤوس باب الوقف، ولهذا أصحاب الوقف هم أكثر الناس عقلًا؛ لأنه يعلم أن الصدقة المقطوعة تذهب، تأتي بعشرة ملايين أو عشرين أو مئة مليون ريال فتتصدق بها في يوم واحد، وتطعم بها مساكين قد تستوفيهم في يوم واحد، إفطار صائم في مكة في يوم واحد قد تستطيع أن تستوفي عشرين أو ثلاثين مليون ريال، أليس كذلك؟! وذهبت ما عاد بقي منها شيء، وإن شاء الله بقي أجرها، لكن أيضا الشرع يبحث عن أمر زائد على ذلك، يبحث عن بقاء المنفعة وجريانها، فتأتي أنت وتضعها وتقول: بدل ما أعطى عشرين مليون ريال، وتذهب في يوم واحد أو في يومين، أنا سأضعها في وقف مدر، أشتري هذا الأصل بعشرين مليون، يصبح يخرج كل سنة مليونين، فيصبح ريعًا دائمًا مستمرًّا، وكان عمر -رضي الله عنه- ممن بدأ بهذا الأمر، فهو من أوائل من أوقف كما في حديثه السابق.
قال: (حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، يعني أوقفته، قلت لصاحبه: هذا الفرس لك على أن تغزو به، فإذا غزوت به تملكته، فغزا به.
قال: (فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ)، يعني: استوجبه واستحقه بعد أن غزا فيه، وصار ملكًا له، وهذا الذي في هذه الصورة ليس وقفًا، وإنما هو نوع من الصدقة، أو نوع من الوقف المنقطع، لأنه تملكه، والوقف ما يُتملك وإنما ملكه لله.
قال: (فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ)، فرس جيد، والرجل الذي وهبته له وتصدقت به عليه ما قدره، وأضاعه وسيَّبه، فأردتُّ أن أشتريه منه وظننت أنه بائعه برخص، يعني بأقل من ثمنه، لأني أنا مالكه الأول، وهذا أحد المعاني في النهي عن شراء ما تصدقت به، أن المتصدق عليه سيبيعك هذه السلعة بثمن أقل منها، وهذا أمرٌ معيب وغير حسن، وكأنما هي معارضة مع الله -عز وجل-، تأتي تتصدق ثم ترجع تشتري.
قال: (فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ فَقَالَ: لَا تَشْتَرِهِ)، نهاه عن شرائه، ولهذا استنبط العلماء من هذا قاعدة عامة: أن كلَّ من تصدق بصدقة فإنه لا يجوز له أن يشتريها، لا يجوز له أن يرجع ويشتريها من صاحبها، وإذا اشتراها غيرك ما في بأس، تُباع في السوق ويشتريها غيرك ما هناك إشكالية، لكن تأتي أنت تشتريها؛ نقول: لا ممنوع.
قال: «لَا تَشْتَرِهِ وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ»، عدَّ الشراء رجوعًا في الصدقة، لأنها رجعت إليك، سواء بثمن المثل أو دون ذلك أو بأكثر من ذلك.
قال: «وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ»، يعني حتى لو باعه لك بأرخص ثمن لا تشترهِ، وفي المقابل أيضا حتى ولو أغلاه عليك، لأنه لو أغلى عليك لن تشتريه، إذا باعه بأكثر من ثمنه تقول ما هناك فائدة من شرائه، أنا تصدقت به أرجع اشتريه بأغلى من ثمنه!
قال: «فَإِنَّ العَائِدَ فِي هِبَتِهِ كَالعَائِدِ فِي قَيْئِهِ»، جعل ها هنا العود في الصدقة والعود في الهبة، كالكلب يقيئ ثم يعود في قيئه -أكرمكم الله- وهذا مثل قبيح! قالوا: إن الكلب أحيانًا يعرض له نوعٌ من المرض فيتقيأ، فإذا تقيأ ذهب إلى ما قاءه فأكله، وهذا من أقبح ما يكون من الأمثلة المنفِّرة، فمَن رجع في صدقته أو في هبته فإنه كالكلب، ولهذا قال النبي في الحديث الآخر: «ليسَ لنا مَثَلُ السَّوْءِ»[4]، هذا يشمل الصدقة، ويشمل أيضًا معنى آخر وهو الهبة، ويشمل أيضا الوقف، كلها لا يجوز العود فيها.
الهبة: أن تأتي فتهب هبة، فإذا قبضها الرجل -وهذا هو الشرط عند العلماء -رحمهم الله-، فإذا حازها فقلت: يا فلان، لعلك ترجع لي الهبة!
نقول: هذا عيب، ولا يجوز شرعًا، والعائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه، والأصل في هذا عند جماعة من العلماء: أنه على التحريم، ولهذا قال النبي : «لَا تَشْتَرِهِ وَلَا تَعُدْ»، والنهي الأصل فيه أنَّه نهي للتحريم، خاصة أنَّ النبي مثَّله بهذا المثل السيء الذي ينفر منه أصحاب الكمالات.
{أحسن الله إليكم.
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «العَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالعَائِدِ فِي قَيْئِهِ»)}.
حديث ابن عباس -رضي الله عنه- كحديث عمر -رضي الله عنه- في معناه، ولكن حديث عمر -رضي الله عنه- قد جاء على معنى الصدقة في المقام الأول، وها هنا جاء على معنى العود في الهبة، فأنت لَمَّا أخرجت هذا المال سواء كان في صدقة فأنت متخفف من الذنوب، أو في هبة، فأنت تريد أن تقدم معروفًا، فرجوعك عنه رجوعٌ عن أمرٍ حسنٍ وعن أمر جميل إلى ما هو أسوأ منه، يعني: لو لم تتصدق ابتداءً ولم تُهدِ ابتداء لكان أولى بك من أن تتصدق وتهدي ثم ترجع فتعود فيها، فلأجل ذلك نهي عنه.
قالوا: يستثنى من ذلك حالة واحدة، حالة رجوع الأب فيما وهبه لابنه؛ لأنه قد جاء في السنن: «إلَّا الوالِدَ فيما يُعطي وَلَدَه»[5]، وهذا الحديث أيضًا في إسناده نظر، وقال أهل العلم: إن الأولى عدم ذلك، وهو أن لا يرجع، إلا في الهدية التي لم تُقبض، فإنَّ الصديق -رضي الله عنه- كان قد نحلَ عائشة جذاذ عشرين وسقًا، كان يملك حائطًا أو حديقة أو بستانا فقال لعائشة: اذهبي إلى هذا البستان وجذي لك منه عشرين وسقًا، والوسق ستون صاعًا، والصاع اثنين كيلو، يعني هذا ثمن جيد تنتفعين به وتأكلينه، فلم تفعل عائشة حتى حضرت أبا بكر -رضي الله عنه- الوفاة، فقال لها: "يا بنية إني كنت قد نحلتك جذاذ عشرين وسقًا، ولو أنك احتذيتنه لكان لك، وإنما هو مال وارث".
فقال العلماء: الهبة إنما تثبت بالقبض، ولا تثبت بالوعد، فلو أني اتصلت عليك وقلت لك: وهبتك سيارة، وأنت ما قبضتها بعد؛ فيجوز لي أن أرجع فيها، ولو أني توفيت ما جازَ لك أن تطالب الورثة بها، لأنها لم تُقبض بعد، فإذا قبضتها وأخذت هذه السيارة -وكل قبض بحسبه كما مضى- أخذت هذه السيارة كتبتها باسمك مثلا، أو أتيت إلى البيت وأخذتها، فإذا قبضت هذه الهبة فلا يجوز لي الرجوع فيها.
قال: "فلو إنك قبضتيه لكان لكِ، وإنما هو الآن مال وارث، فاقتسميه بينك وبين إخوتك"، يعني يصبح الآن مال ورثه.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله-: (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي -عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ-: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ ، فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : «أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ، فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ»، وَفِي لَفْظٍ: قَالَ: «فَلَا تُشْهِدْنِي إِذَنْ؛ فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ»، وَفِي لَفْظٍ: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي»)}.
هذا حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- وهو أصل من أصول الأحاديث العُمَد الكبار في العطية أو الهبة للأولاد، والأصل أن للإنسان التَّصرف في ماله كيفما شاء فيما لا يخالف الشرع، فيجوز له أن يهب ماله كله إن أراد لبعض قرابته، ولكن قد جعل الشرع ثَمَّ حدود يُحد بها هذه الهبة، وخاصة فيما يتعلق بالهبة للأولاد، ونقصد بالأولاد: الذكور والإناث، فأوجب الشرع العدل بينهم والتسوية، ولم يجعل للأب الحرية في أن يعطي مَن شاء منهم ما شاء؛ لأن هذا مما يثير الحسد والبغضاء بينهم، والعداوة على الأب، ولهذا ما تجد رجلًا قد فضل أحد أبنائه على غيره إلا وله من أبنائه مَن يكرهه، يقول: على أي أساس يفضل أخي علي ويقدمه علي؟!
فإذا كان كذلك فإنَّ الشرع قد أمر بالعدل والتسوية بين الأولاد ذكورًا وإناثًا في العطية، فإذا أردتَّ أن تعطي عطية، فينبغي عليك أن تسوي بينهم في العطية، ولا تميز أحدهم، وقد كان من أمر بشير -رضي الله عنه- أنَّ النعمان كان من أحب أولاده إليه، وكان من زوجته عَمرة بنت رواحة، وعمرة بنت رواحة كانت من سروات النساء، أي النساء الطويلات.
قال قيس بن الخطيم في شعره يمدحها:
وعمرة من سروات النساء ... تنفخ بالمسك أردانها
وهي أخت عبد الله بن رواحة الصحابي الجليل، فرزق منها بشير بابنه النعمان، وكان النعمان نابغة وكان شأنه كذلك، فإنه كان من مشاهير الصحابة ومن ولاة الأمصار، فقالت له زوجته عَمرة: "لا أرضى حتى تنحل ابني نحلًا"، أي: تعطيه عطية، فما زالت به حتى نحله غلامًا له، قال: هذا غلام مملوك لك.
فقالت عَمرة: لا أرضى حتى تشهد على ذلك رسول الله ، حتى ما يرجع هو في عطيته، فإذا أشهدت النبي على هذه العطية فإنك لن تقدر أن ترجع فيها، وأصبح الأمر ماضيًا على الجميع، وما يأتي أحد إخوانه ينازعه، أو تأتي الزوجة الثانية تنازعه، تقول: هذا ميراث لنا.
فذهب بشير إلى النبي حتى يشهده على هذه العطية، فقال النبي : «أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ،»، وفي بعض الروايات: «فَلَا تُشْهِدْنِي إِذَنْ؛ فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ»، وفي بعض الروايات أنه قال: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي»، فدل على أن هذا ظلم، وفي بعض الروايات قال: «أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكونُوا إلَيْكَ في البِرِّ سَوَاءً؟ قالَ: بَلَى، قالَ: فلا إذًا»[6]، ما دام أنك تريد أن يكونوا لك في البر سواء، فما يصح أن تفاضل بينهم، ثم تقول: لماذا هذا أفضل من هذا في البر؟! سوِّ بينهم في العطية حتى يتساوون في البر لك؛ فدل ذلك على وجوب التسوية في العطية بين الأولاد، وهذا هو مذهب الحنابلة، وهو من إعمال النص، وهو من الأقوال الراجحة على قول مَن سواهم من العلماء -رحمهم الله- ممن لم يروا وجوب العدل، وقالوا: إنما هو على السنية.
نقول: لا، الأصل الوجوب؛ لأنه قال: «فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ»، وقال: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي»، وهذا ليس فيه دلالة على جوازه، وإنما هو إعراض.
لَمَّا يأتيك رجل فيقول لك: اشهد، فتقول: لا أشهد على هذا، أشهد عليه غيري؛ هذا يدل على الذم والإنكار، ولا يدل على الإباحة والتسويغ، فهذه من ألفاظ العرب التي تدل عندهم على الكراهة وعلى الإعراض، ولا تدل أنه سوَّغه وأنه ما فيه بأس أنه يشهد على هذا!
قال: (فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ)، هذا هو الشاهد، أنه لما رجع ردَّ تلك الصدقة، دل على أن هذه الصدقة صدقة منهي عنها شرعًا، لأنها لو كانت كذلك لَمَا شدد النبي فيها ولَمَا أقدم البشير -رضي الله عنه- على ردِّ هذه الصدقة من رسول الله .
قال: (فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ)، دل ذلك على أنه يجب العدل بين الأولاد، وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في معيار هذا العدل: هل العدل بينهم ها هنا أن يعدل بينهم بحسب الميراث فيعطي الذكر مثل حظ الأنثيين؟ أو العدل ها هنا المساواة بينهم مطلقًا فتعطي الذكر مثل ما تعطي الأنثى؟
هذه مسألة خلافية بين العلماء -رحمهم الله-، فمن العلماء من مال إلى هذا القول، ومنهم من مال إلى هذا القول، بعض العلماء قال: هذا ما له علاقة بالميراث، وهذا حال قبل الميراث، والميراث حال بعد الوفاة، هذا حال الحياة، فأي تعلق له بحال الحياة؟! والنبي قد أمر بالعدل، والعدل يقتضي التسوية بينهم، هذه مسألة مختلف فيها، لكن مَن أخذ بأي قول لم يُثرَّب عليه، لأن هذه المسألة من المسائل التي كَثُر النزاع فيها، وهي مسألة متجاذبة.
المسألة الثانية وهي مسألة لا تقل أهمية عن هذه المسألة، وهي: أنه قد يحتاج أحد هؤلاء الأولاد سواء ذكورًا أو إناثًا إلى شيء من المعونة، يعني أحد منهم مريض، فتعطيه نفقة يستعين بها على مرضه، يعني من ذوي الاحتياجات الخاصة مثلًا، فيُعطى سيارة مثلًا مخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة، أو أحد منهم قد وصل إلى المرحلة الجامعية ويحتاج إلى نفقة، أو أحدهم وصل إلى الزواج ويحتاج إلى مهر، أو أحد منهم تزوَّج وما عنده بيت يسكن فيه ويحتاج إلى بيت؛ فمثل هذه النفقات لا بأس بها على أن يفعل بأخيه إذا كان في مثل حاجته مثله، هذا هو الأصل، ما تأتي تزوج أحد أبنائك وتمهره وتشتري له سيارة وأنت قد أضمرت أن أخاه إذا بلغ مبلغه لن تصنع به ذلك، أو ترى أنَّ أخاه قد احتاج إلى أمر ما كدراسة، فتقول: لا ما أنفق عليك! نقول: لا، ما يجوز شرعًا، وهذا من الجور.
إذًا العدل ليس هو في مجرد المساواة فحسب، بل هو أيضًا في تلمس الاحتياجات، فإذا قضيت حاجة هذا فمن العدل أن تقضي أيضًا حاجة الآخر، هذا هو معنى العدل في حديث النعمان ابن بشير -رضي الله عنه وأرضاه.
{أحسن الله إليكم، (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ «عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ»)}.
هذا حديث جليل في البيوع، يتعلق بأبواب عند العلماء تسمى: (باب المزارعة والمساقاة)، وهو باب واسع وباب المسائل فيه كثيرة، وقد وقعت فيه خلافات كثيرة أيضًا بين العلماء -رحمهم الله- وأصلها حديث ابن عمر -رضي الله عنه.
وأصل المساقة والمزارعة: أنَّ النبي لَمَّا فتح خيبر، وكانت خيبر أرضًا زراعية وفيها مزارع كثيرة، واحتازها المسلمون، وقسمها النبي بين أصحابه -رضوان الله عز وجل عليهم- فأراد أن يجلي سكانها من اليهود؛ لأنَّ الأرض فتحت عنوة ولم تفتح صُلحًا، فقال اليهود للنبي : أبقنا فيها، فنحن أعلم بالأرض منكم، وعاملنا عليها، قالوا: نحن نعمل فيها ونكدح ونحرث، ونجزّ ونصرم، ولنا نصف ما يخرج منها من الثمرة ولكم النصف الآخر، فوافق ذلك رغبة النبي ورغبة أصحابه، لأنهم أصحاب جهاد، والمدينة بعيدة عنهم، وهذه الزروع والثمار إذا لم يَقم عليها أحد تلفت، وما كان عندهم عمال، فعاملهم النبي ، فكان بهذا الأصل والإطار الشرعي لمسألة المساقاة والمزارعة.
صورة الحال الواقع في خيبر: هو من نوع المساقاة، لأنه آجرهم على سقي الزرع القائم وجذِّه وخرافه.
إذًا المساقاة: أن تؤاجر رجلًا، يأتي عامل فيقول: أنا سأقوم بسقي هذا الزرع والعناية به وآخذ نصف ما يخرج منه، أو ربعه؛ الأهم ألا يتم تعيينه بكيلٍ محدد، فإذا قال: أنا سأعمل على أن يكون لي ألف صاع، فنقول: لا، هذا محرم ولا يجوز، لأنه قد ما تنتج هذه إلا ألف صاع، فما يكون لي أنا شيء! وقد تنتج هذه مئة ألف صاع، فما يكن لك أنت إلا واحد في المئة! لكن العدل أن يكون لك نسبة محددة، تقول: لي الربع، لي النصف، لي الثلث، أقل أو أكثر، بحيث إنها تقوم مقام المشاركة، أستفيد أنا وتستفيد أنت، هذا هو الأصل في باب المساقاة والمزارعة.
والمزارعة: هي المؤاجرة على الزرع، تأتي إلى أرض، فتقول: ازرعها بطيخ أو ورقيات أو شعير أو غيره، ولك نصف ما يخرج منها، فهو الآن زرعها، أمَّا الصورة الأولى سقاها. إذًا المساقاة أو المزارعة بجزء مما يخرج من الثمر جائزة.
المساقاة والمزارعة تنقسم إلى ثلاث صور بوجه عام:
الصورة الأولى: أن تسقي وتزارع بمالٍ ونقض، يأتيك الرجل، فيقول لك: أنا سأقوم على هذه المزرعة وعلى العمل فيها مقابل ألفين ريال شهريًّا، فهذا يجوز، وهذا هو واقع كثير من الناس في هذه الأزمنة، وهذه المسألة قد وقع عليها الإجماع بين العلماء -رحمهم الله.
الصورة الثانية: أن تزارع أو تساقي بجزء مما يخرج منها مشاع، تقول: أنا والله ما عندي مال، أو ما أرغب أن أعطيك مالًا حتى تعمل جيدًا، اعمل فيها ولك نصف ما يخرج منها، أو لك ربع ما يخرج منها، أو لك ثلثه، لك واحد في المئة أو خمسة في المئة أو عشرة في المئة، قل أو كثر؛ فهذا يجوز، على ألا يكون هذا القدر محددًا من مكان معين، أو أن تشرط عليه، تقول: لك النصف لكن لي أنا كل الإخلاص الذي في المزرعة، أو لي كل السكري الذي في المزرعة. نقول: لا، ما يجوز لا تحدد منها شيء، لأنها قد تهلك المزرعة كلها ويسلم الإخلاص، قد يهلك الإخلاص وتسلم المزرعة، فيقع بينكم النزاع.
الصورة الثالثة من صور المساقاة: هي الصور التي ذكرناها قبل قليل، وهي أن يأتي ويقول: أساقيكَ وأُزارعكَ بآصُع محددة، يعني: أساقي وأُزارع على أن يكون لي مئة صاع أو مائتي صاع مما يخرج منها. نقول: هذا محرم، لأنه قد ما يخرج إلا هذه.
أو يساقيه ويزارعه على جزء معين، يقول: هذا الجزء لي هذا لك، نقول: ما يجوز هذا، لأنه قد يهلك هذا ويسلم هذا فيقع فيه النزاع.
إذًا هذه هي المزارعة والمساقاة، وأصلها حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه.
وأوسع المذاهب في المساقاة والمزارعة وهو المذهب الحنبلي -ولله الحمد- هم الذين وسعوا في المساقاة والمزارعة ورخَّصوا فيها، والمذاهب الأخرى متشددة فيها، ولكن عمل الناس الآن على المذهب الحنبلي، لأنهم يحتاجونه في أمور كثيرة، والمساقاة والمزارعة الآن أصل لمسائل كثيرة متفرعة عنها، ومنها مثلا العمل في الليموزينات وغيرها بأجرة مما يخرج من الليموزين، يأتي يقول: اعمل ولي ثلاثين في المئة أو أربعين في المئة أو خمسين في المئة مما يخرج من العمل، هذه أصلها باب المساقاة والمزارعة.
فإن اشترط عليه مبلغًا معينًا كان محرمًا، إلا إذا كان على سبيل تأجير السيارة له، وإذا كان على سبيل تأجير السيارة له ينبغي أن يشترط في هذا المعنى شروط الإجارة: فيكون الضمان عليك والصيانة عليك أنت أيها المؤجر، وتكون السيارة مملوكة باسمك، هذه كلها من شروط الإجارة.
فإذا هذه من المسائل التي تقاس على مسائل المساقاة والمزارعة.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله-: (عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا أَكْثَرَ الأَنْصَارِ حَقْلاً؛ فَكُنَّا نُكْرِي الأَرْضَ عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ وَلَهُمْ هَذِهِ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ؛ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الوَرِقُ فَلَمْ يَنْهَنَا"، وَلِمُسْلِمٍ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: "سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ رضي الله عنه عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالوَرِقِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ؛ إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ بِمَا عَلَى المَاذِيَانَاتِ، وَأَقْبَالِ الجَدَاوِلِ، وَأَشْيَاءَ مِنَ الزَّرْعِ، فَيَهْلِكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَهْلِكُ هَذَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلَّا هَذَا، فَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ، فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ"، المَاذِيَانَاتُ: الأَنْهَارُ الكِبَارُ، وَالجَدْوَلُ: النَّهْرُ الصَّغِيرُ)}.
حديث رافع بن خديج -رضي الله عنه- هو أيضا من عُمد الأحاديث الدالة على المساقاة والمزارعة، حديث ابن عمر -رضي الله عنه- قد بيَّن لنا بوجه عام مشروعية المساقاة والمزارعة، وبين لنا الصورة الجائزة التي عمل بها النبي وأصحابه -رضي الله عنهم- حتى قال جعفر الصادق بن محمد -رحمه الله ورضي عنه: "كان آل أبي بكر وآل عمر وآل علي كلهم يؤاجرون أو يساقون على مزارعهم، وما ثَم بيت من المهاجرين إلا كان يؤاجر على مزارعه".
كيف يؤاجرون؟ يؤاجرون بالصورة التي أقرها النبي على أهل خيبر، خذ مزرعتي واعمل فيها وإذا ما أخرج الله -عز وجل- منها فلي النصف لك النصف، لكن جاء حديث رافع بن خديجة -رضي الله عنه- وقد كان ابن عمر -رضي الله عنه- أول الأمر يُكري بنحو هذا، حتى جاءه حديث رافع بن خديج -رضي الله عنه- فإن رافع بن خديج قال: (كُنَّا أَكْثَرَ الأَنْصَارِ حَقْلاً)، يعني عندهم مزارع، وإذا كثرت عندك الحقول وما عندك يد عاملة من العبيد والغلمان في ذلك الزمان الأول ما تستطيع أن تستعمرها فتهلك، فتلجأ إلى أنك تعمل فيها بمبدأ المساقاة والمزارعة، تقول للناس: تعال اشتغل فيها ولك النصف ولي النصف.
قال: (فَكُنَّا نُكْرِي الأَرْضَ عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ وَلَهُمْ هَذِهِ)، هذا هو المعنى المحرم، ولهذا كان رافع أحيانا يجمل وأحيانا يفسر، فيقول مرة من المرات: "نهى النبي عن كراء المزارع"، فيتلقف بعض الصحابة وينكرون ذلك، يقولون: كيف نهى عن كراء المزارع؟! قد توفي النبي وخيبر يُزارَع فيها، لأن هذا اللفظ لفظًا مجملًا، فينبغي في الألفاظ المجملة يُبحث عن تفسيرها وبيانها، يقال: ما هو التفسير لهذا اللفظ المجمل والبيان له؟ فيقال: إن حديث رافع بن خديج قد وقع على حالة بعينها، هي حالة إذا تفكر فيها البصير الفقيه العالم رأى أنها محرمة، قال: (فَكُنَّا نُكْرِي الأَرْضَ عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ وَلَهُمْ هَذِهِ)، وفي الأعم الأغلب يختارون الشيء الحسن لأنهم هم أهل الأرض وأبخص بها، فيختار الأرض التي لم تُجهَد ويعرف أن الزرع سيكون فيها أسمى وأحسن، أو يختار الأرض التي على الماذيانات -وهي الأنهار الكبار- وإقبال الجداول، يقول: الأرض هذه ما أخرجته فهو لي، وما أخرجت هذه فهو لك.
قال: (فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الوَرِقُ فَلَمْ يَنْهَنَا)، الورق: هو دراهم، يعني تأتي تقول: أنا سأكتري منك الأرض بعشرة آلاف أو بخمسة آلاف، وأعمل فيها وما أخرجت فهو لي؛ فهذا ما فيه بأس، وهو جائز شرعًا.
قال: (وَلِمُسْلِمٍ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: "سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ رضي الله عنه عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالوَرِقِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ).
كراء الأرض: هو إجارتها بالذهب والورق التي سبق أن ذكرناها، يأتي فيستأجر منك الأرض أو تستأجره أنت.
قوله: (بِالذَّهَبِ وَالوَرِقِ)، وهما النقدان.
قال: (لَا بَأْسَ بِهِ؛ إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ بِمَا عَلَى المَاذِيَانَاتِ، وَأَقْبَالِ الجَدَاوِلِ)، أقبال الجداول: هي أوجهها.
قال: (وَأَشْيَاءَ مِنَ الزَّرْعِ)، كأن يقول: لي الزرع الفلاني، نبت البرني فهو لي، وما سواه من النبت فهو لك، نقول: لا، لأنه ربما يهلك البرني ويبقى الباقي، وربما العكس.
قال: (فَيَهْلِكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَهْلِكُ هَذَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلَّا هَذَا، فَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ، فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ")، الشيء المعلوم المضمون إنما يكون بالذهب والفضة، أو يكون بالمشاركة القائمة على مبدأ الربح والخسارة، خسرنا نخسر سواء، ربحنا نربح سواء، هذا هو الذي يريده الشرع إذا دخلنا في باب المشاركة عندنا.
والأصل في المعاملات إما بيع أو مشاركة، بيع أو ما يقوم مقامه من الإجارة أو نحوها، أو المشاركة، والمشاركة الأصل فيها أنها قائمة على الربح والخسارة، وإذا وقع الربح والخسارة فيجب أن يشمل الجميع، كما أنَّ الربح يجب أن يشمل الجميع، هذا هو الأصل، فإذا بنيت هذه الصورة على هذا المعنى كانت جائزة، وإذا بُنيت على معنى آخر يخالفه كانت محرمة، وهذا يدخل في مسائل كثيرة في هذا العصر، من ذلك مثلا: الاستثمار، تأتي وتدفع لرجل مئة ألف ريال، ويقول: أنا سأستثمره لك في أي استثمار من الاستثمارات، وسأعطيك عشرين في المئة أرباح، نقول: لحظة! عشرين في المئة هذه أرباح متوقعة أو مجزومة؟ قال: لا، مجزومة. نقول: هذا محرم، قال: كيف؟ نقول: يمكن ما تربح إلا عشرين في المئة، ربحك كله ما يكون إلا عشرين في المئة ولا يصبح لك شيء أنت، يمكن أنك تربح مئة في المئة، ولا تعطني إلا عشرين في المئة!
والصواب أن يقول: الربح المتوقع هو عشرون في المئة، لكن الربح سآخذ منه خمسين في المئة وستأخذ منه أنت خمسون في المئة، أنا أتوقع أن يكون الخمسون في المئة نصيبك هذا يوازي عشرون في المئة من رأس المال. هذه هي الصورة الجائزة، أما تحديد النسبة والجزم بها فهذا بلا شك محرم؛ لأنه يوقع في أن يكون هناك غَبن على أحد الطرفين، يخرج أحد الطرفين إما غانم غنيمة عظيمة أو خاسر خسارة عظيمة، فنهى النبي عن ذلك، ومن أجل ذلك فقد كان بعض الصحابة -رضي الله عنهم- من حرصهم على الورع ومبالغتهم فيه كابن عمر -رضي الله عنه- لا يعمل بالحديث السابق الذي هو حديث ابن عمر الذي رواه، وإنما كان يؤاجر مزارعه بالذهب والفضة فحسب، لأنه يخشى أن يقع في المحظور، قال ابن عمر -رضي الله عنه: "لقد نهانا رافعٌ عن أمر كان بنا نافعًا"، الذي هو إجارة المزارع؛ لأنَّ ابن عمر -رضي الله عنه- فهم من ذلك التحريم، وأنه إنما يكون بالذهب والفضة فحسب، لكن الصحيح أنه يكون بالذهب والفضة ويكون بشيء مما يخرج منها.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله-: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: «قَضَى النَّبِيُّ بِالعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ»، وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيَهَا، لَا تَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا؛ لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ المَوَارِيثُ».
وَقَالَ جَابِرٌ -رضي الله عنه-: "إِنَّمَا العُمْرَى الَّتِي أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ : أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ؛ فَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ؛ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا"، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: "أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلَا تُفْسِدُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَهَا حَيّاً وَمَيِّتاً وَلِعَقِبِهِ")}.
هذه مسألة هي من المسائل التي كانت تقع في عهد النبي كثيرًا، كان العرب يصنعونها وهي في زماننا الآن من مسائل نادرة الوقوع، ولهذا كثير من الناس يجهل معناها، وهي مسألة العمرى والرقبى، قال النبي في بعض الأحاديث: «لَا تُرقِبوا وَلَا تُعْمِرُوا»[7].
العمرى أو الرقبى: أن يأتي الرجل فيقول: أنا قد وهبتك هذا الفرس أو هذا البغل أو غيره أو هذا الغلام لك ما حييت، هذا يسمى عمرى، أنا أعطيته لك عمرك كله، فسميت عمرى.
والرقبى: أن أقول: هذا لك، ثم هو للآخر منَّا، يعني إن توفيت أنا قبلك فهو لك، وإن توفيت أنت قبلي، وسميت رقبى لأن كل واحد منهما يرقب موت الآخر، حتى يعلم ما الذي تؤول إليه ملكية هذه الهبة، فنهى النبي عن هذا، وقال: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلَا تُفْسِدُوهَا»، وقال في الحديث: (قَضَى النَّبِيُّ بِالعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ)، وبناء عليه فإذا قال الرجل للرجل: هذه السيارة لك عمرك كله، نقول: هذه هبة منقطعة، وتكون هبة لازمة ودائمة، حتى لو توفيت فإنها إلى عقبك من بعدك، هذا قول، ولهذا فإن النبي : (قَضَى بِالعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ).
قال: «مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيَهَا، لَا تَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا؛ لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ المَوَارِيثُ».
العمرى عندهم على نوعين:
- إما أن يقول: هي لك -فقط- عمرك كله.
- أو أن يقول: هي لك ولعقبك، فإن قال: هي لك ولعقبك؛ فقولًا واحدًا إنها هدية منبتة، وأصبحت هدية لازمة، أصبحت لي ولعقبى من بعدي، أصبح تجري فيه المواريث ويتوارثونه.
وإن قال: هي لك فحسب، أو قال: هي لك عمرك -وما قال: لعقبك- فهذه مسألة قد وقع فيها الخلاف بين العلماء:
- من العلماء من قال: إنها عمرى دائمة، كما قاله الزهري.
- ومن العلماء من قال: لا، ما لم يقل: "هي لك ولعقبك" فإنها ترجع.
ولهذا فصل جابر -رضي الله عنه- فقال: (إِنَّمَا العُمْرَى الَّتِي أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ )، أجازها: يعني أمضاها، وليس معنى أنه أحلها.
قال: (إِنَّمَا العُمْرَى الَّتِي أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ : أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ)، هذه لا يرجع فيها.
قال: (فَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ؛ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا)، لأن النص هنا صريح، فقوله: (هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ)، معناها أنك إذا توفيت فإنها ترجع إليَّ، هذا التفصيل بن جابر -رضي الله عنه- هو الذي رضيه جماعة من العلماء، قالوا: إن هذا هو التفصيل الصحيح في مسألة العمرى، ولهذا قال النبي : «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلَا تُفْسِدُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَهَا حَيّاً وَمَيِّتاً وَلِعَقِبِهِ»، يعني إذا نص على العقب.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله-: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لَا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟ وَاللَّهِ! لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ)}.
هذا الحديث هو من الأحاديث التي جاءت بها الشريعة لتتميم مكارم الأخلاق، ولرعاية حسن الجوار، فإنه من الأحاديث الدالة على أنه ينبغي مراعاة الجوار، حتى في بعض الأمور التي قد يكون فيها من التَّدخل في الجار، فمن ذلك أن النبي قال: «لَا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ»، من المعلوم أن الجار قد يكون قد أقام أسوار بيته وأقام أعمدته، فإذا أراد جاره أن يبني سيحتاج إلى أعمدة جاره حتى يسقف عليها، وهذا يحصل حتى في هذا الزمان، قد يحتاج الجار إلى أن يسقف على أعمدة جاره، فأمر الجار بأن يسمح له، وأن يأذن له، قال: «لَا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ»، يعني ما في بأس أن يسقف ما دام أنه لا يضر بجدارك، لأن هذا نوع من المواساة، ونوع من الأمور التي لا تضر بك بوجه، ما الفائدة من أن تقول: لا تغرز خشبة في جداري وابنِ جدارًا آخر بجوار جداري؟! نقول: لا شك أنه عناد بجارك!
لو قال: لا، يا أخي الكريم أنت ستقيم سقف ضخم وثقيل وينوء به جداري فبناء عليه أنا لا أستطيع أن آذن لك!
نقول: ما في بأس إذا كان في ضرر عليك، فأما لم يكن ضررا فإنه ينبغي لك أن ترخِّص فيه، وهذا يدخل فيه من باب أولى المنافع المشتركة التي تنتفع بها أنت وجارك، ما يصح أن تحتكرها، المداخل المشتركة بينك وبين جارك مثلًا في الشقق، ما يصح أن تأتي لما تكون أنت سابق على جارك تقول: لا، ما تعبر! نقول: ما يجوز لك وليس من حقك، هذا منفعة مشتركة.
كذلك أيضا أنت عندك مزرعة -على سبيل المثال- والمزرعة يمر بها نهر، فقال جارك: يا أخي، دعني احفر في مزرعتك خليجًا أو نهرًا صغيرًا حتى تنتفع به مزرعتي، وما يضرك شيء، وفعلا ثبت أنه لا يضرك شيئًا، فقلت: لا، وقد جاء في حديث رواه الإمام مالك -رحمه الله- في الموطأ أنَّ الضحاك أراد أن يحفر في أرض محمد بن مسلمة خليجًا حتى يمر به على مزرعته فأبى محمد بن مسلمة، فقال له الضحاك: لِمَ تمنعني من أمر هو لي نافع وهو لك نافع أيضًا، تنتفع به وتحيا أرضك، فأبى عليه محمد بن مسلمة، فقال عمر -رضي الله عنه: "واللهِ ليمُرَّنَّ به ولو على بطنِكَ"[8]، يعني سيحفره حتى لو اضطر إلى أن يحفره فوق بطنه؛ لأنه نوع من الضرر، والنبي قال: «لا ضَررَ ولا ضِرارَ».
فإذًا ينبغي للجار أن ينظر إلى هذا المعنى، وليعلم أنه حتى وإن كان النظام أحيانًا قد لا يُرخِّص لجارك أو قد لا يعطي جارك بعض الصلاحيات، فالنظام يعطي أمورًا عامة، فإذا كنت ترى أنت أن في بعض هذه الأمور منفعة لجارك من غير مضرة عليك فينبغي لك أن تبادر، وتقول: ما هناك بأس، ما دام أن النظام ما يمنعني منها، صحيح أن النظام ما يخول صاحبي أنه يجبرني عليها، لكنه أيضا ما يمنعك منها.
فنقول في مثل هذه الصورة: ينبغي لك أن تبادر إلى هذه الأمور، وأن تسهل على جارك؛ لأن هذا من حسن الجوار، وربما استوجبَ العبد منزلةً عليَّة عند الله -عز وجل- بنزوله عن مثل هذه الأمور، لأنه من أعظم ما يكون من الشُّح ورداءة الحال والمشاحة أن يشاح الإنسان في مثل هذه الأمور التي تنفع غيره ولا تضره، وهذا ينعكس دائمًا على الإنسان العسر، والنبي قال: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إذا باعَ، وإذا اشْتَرَى، وإذا اقْتَضَى»[9]، إذا كان امرأً عسرًا عسَّر الله -عز وجل- عليه، تجد حياته نكدا، ما يطرق بابًا إلا ويكون بابًا عسيرًا، ونقول: نعوذ بالله أن يكون أيضا حسابه عند الله -عز وجل-.
وكذلك، إذا عسَّر على خلق الله -عز وجل- عسَّر الله عليه، ونحن نعلم قصة الرجل الذي لما وقف بين يدي الله -عز وجل- ولم يجد عملًا قدَّمه من الأعمال الصالحة، فقال له الله -عز وجل: «مَاذَا عَمِلْتَ في الدُّنْيَا؟ قالَ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، قالَ: يا رَبِّ آتَيْتَنِي مَالَكَ، فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، وَكانَ مِن خُلُقِي الجَوَازُ، فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ علَى المُوسِرِ، وَأُنْظِرُ المُعْسِرَ، فَقالَ اللَّهُ: أَنَا أَحَقُّ بذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عن عَبْدِي»[10]، فدلَّ على أن التيسير على عباد الله -عز وجل- من أعظم ما يحبه الله -عز وجل-، وكما أن النفقة عليهم مخلَفَة، فكذلك التيسير عليهم ييسر الله -عز وجل- به عليك.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله-: (وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ؛ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»، قِيدَ: طُولَ)}.
هذا الحديث وهو حديث عائشة -رضي الله عنها- حديث جليل عظيم وخطر، قالت عائشة -رضي الله عنها- عن النبي : «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ؛ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»، القيد: هو قدر من الأرض طول الشبر، ومن ظلم قيد طول شبر من الأرض فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أراضين.
كيف يطوقه من سبع أرضين؟
يعني يأتي هذا الشبر في عنقه إلى سبع أرضين، يعني كأنما هي سبعة أطواق قد طوقها، وهذا دلالة على تحريم الغصب، ولهذا في حديث علي -رضي الله عنه: «لعَنَ اللهُ مَن غيَّرَ منارَ الأرضِ»[11]، ذكره مع جملة من اللعن، قال: «لعَنَ اللهُ مَن ذَبِحَ لغيرِ اللهِ، ولعَنَ اللهُ مَن آوى مُحْدِثًا، ولعَنَ اللهُ مَن غيَّرَ منارَ الأرضِ»، وتغيير منار الأرض هي أعلامها، فإذا ذهب الإنسان يجد مخططات فيها أماكن للقِطَع، هذه تعرف عندهم بحدود الملكيات، فيأتي الرجل المحتال فيغيرها، وهذه تقع كثيرا في المزارع، تجد أن المزارع يقع فيها كثيرا تعدٍّ، يأتي الجار فيستغل غفلة جاره وغيابه عنه ويعلم أن جاره وقد اشترى هذه الأرض وما يعرف بها، فما يزال يحبي عليها ويتطاول عليها حتى يأخذ شيئًا منها، ويظن أنه يخفى على الله -عز وجل! ونقول: إن هذا من أعظم ما يكون من الغصب، «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ؛ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ».
وقد ثبت أن سعيد بن زيد -رضي الله عنه- حصل بينه وبين امرأة خصومة، فادَّعت أن سعيدًا -رضي الله عنه- قد ظلمها في أرضها، فقال سعيد -رضي الله عنه: "أنا أظلم! وقد سمعت النبي يقول: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ؛ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ». هي لكِ"، تنازل عن حقه، ثم قال: "اللَّهُمَّ، إنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَعَمِّ بَصَرَهَا، وَاقْتُلْهَا في أَرْضِهَا"[12]، فأعمى الله بصرها، ووجدت ميتة في بئر لها تردَّت في قليب، تمشي وهي عمياء فسقطت في هذا القليب وهلكت، فهذا عاجل عقوبتها في الدنيا، وما نعلم ما هي عقوبتها عند الله -عز وجل-، ولهذا ليس شيء أسرع في العقوبة من البغي، ومن أنواع البغي البغي في الأرض؛ لأنه بغيٌ عظيم، والأرض واضحة ومعالمها واضحة، وما يقع فيها الخلاف غالبًا، إلا إذا كان أحد الخصمين أو أحد الطرفين متعديًا متجاوزًا، وإلا فمعالم الأرض واضحة، وأعلامها واضحة وسُننها واضحة وحدودها وأطوالها واضحة، فكونك تأتي فتتعدى في هذه الأرض، فهذا يدل على أنك قد بغيت بغيًا عظيمًا، ولهذا كانت القاعدة: أن مَن تعدى في الأرض تعدى فيما سواها من باب أولى، لأنه إذا جرُأ على الأرض جرُأ على غيرها، الأرض حدودها واضحة وأعلامها واضحة فكونك تعديتَ فيها وسرقتها واغتصبتها فإنك فيما سواها من باب أولى.
إذًا هذا الحديث قد جاء في النهي عن الغصب، وهو أصل من أصل أبواب الغصب، سواء كان هذا بعلم الغير وأخذ المال رغما عن الغير أو بالخفية، يزحف على حدود جاره من غير أن يشعر، وجاره غافل عن ذلك! نقول: إن غفل عنك جارك فإن الله -عز وجل- ليس بغافل، وهذا كله لا يبيح لك أن تتعدى هذا التعدي.
{أحسن الله إليكم.
نستأذنكم في الوقوف على نهاية هذا الباب، شكر الله لكم فضيلة الشيخ، والشكر موصول إلى إخوتنا المشاهدين، ونلتقي بكم بإذن الله تعالى في حلقات قادمة وإلى ذلك نستودعكم الله -عز وجل- والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
------------------------------
[1] أخرجه البخاري (3933) بمعناه، ومسلم (1352).
[2] صحيح مسلم (1780).
[3] صحيح البخاري (1234).
[4] أخرجه البخاري (2622) واللفظ له، ومسلم (1622).
[5] أخرجه أبو داود (3539)، والترمذي (2132) واللفظ له، والنسائي (3690)، وابن ماجه (2337)، وأحمد (2119).
[6] صحيح مسلم (1623).
[7] أخرجه النسائي (3732)، وأحمد (4906) باختلاف يسير، وابن ماجه (2382) مختصراً.
[8] فتح الباري، و رواها مالك في الموطأ.
[9] صحيح البخاري (2076).
[10] صحيح مسلم (1560).
[11] صحيح النسائي (4434).
[12] رواه مسلم (1610).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك