الدرس التاسع

فضيلة الشيخ عبدالمحسن بن عبدالله الزامل

إحصائية السلسلة

11587 9
الدرس التاسع

نخبة الفكر

{الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد؛ فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. حياكم الله أعزاءنا المشاهدين، ونرحب بكم في حلقة جديدة من حلقات شرح متن (نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر) للحافظ ابن حجر -رحمة الله عليه- يقوم بشرحه فضيلة الشيخ/ عبد المحسن بن عبد الله الزامل -حفظه الله تعالى- حياكم الله فضيلة الشيخ وبارك فيكم}.
حياكم الله شيخ عادل ومرحبًا بجميع إخواني أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يبارك في هذا اللقاء.
{اللهم آمين، نستأذنكم في البدء.
بسم الله والحمد لله، اللهم صلِّ على محمد. قال الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه: (وَمِنَ الْمُهِمِّ: مَعْرِفَةُ طَبَقَاتِ الرُّوَاةِ وَمَوَالِيدِهِمْ، وَوَفَيَاتِهِمْ، وَبُلْدَانِهِمْ، وَأَحْوَالِهِمْ تَعْدِيلًا وَتَجْرِيحًا وَجَهَالَةً)}.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلي آله وأصحابه وأتباعه بإحسان يوم الدين، خَتَم الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ- بهذه الخاتمة المهمة، وجمع فيها علومًا من هذا الفن، وهي علوم عظيمة، فيقول: (وَمِنَ الْمُهِمِّ: مَعْرِفَةُ طَبَقَاتِ الرُّوَاةِ)، فلا بد لطالب العلم أن يعرف وأن يبحث في الأخبار وفي الرواة، وأن يعرف طبقات الرواة، هل هو من الطبقة الأولى أو من الطبقة الثانية أو من التي بعدها، وكذلك يعرف سَنة الولادة؛ لأن معرفة الطبقات يُعين على معرفة الرواة، ويعين على معرفة اتِّصال السند، ولأنه إذا عرف هذه الطبقة عرف أن الذي بعده يكون قريبًا منه في الطبقة التي تليه، فلو كان الذي بعده من طبقة أخرى لم يدرك هذا؛ تبيَّن له أنه فيه خطأ في الاسم الأول -اسم الشيخ الذي روى الحديث- أو مَن روى عنه.
قال: (وَوَفَيَاتِهِمْ)، معرفة وفياتهم أيضًا كذلك، فمهم أن يعرفوا وفيات المشايخ والرواة، لأن هذا يبين مَن أدرك من المشايخ ومَن أدركه من الطلاب إلى غير ذلك.
ولهذا يقول سفيان الثوري -رَحِمَهُ اللهُ: "لما استعمل الكذَّابون الكذب استعملنا لهم التَّاريخ"، فيقال لهم: متى لقيته؟ يقول: لقيه عام كذا وكذا، فنقول: قد كذبت، هذا العام الذي زعمت أنك لقيته فيه، قد مات منذ خمس سنين أو نحو ذلك.
قال: (وَبُلْدَانِهِمْ)، كذلك نسبته للبلد، فمثلًا قد يأتي منسوب فلا يعرف نسبته، هو يفهم أن الرواية عن فلان ابن فلان المكي، فيكون جاء مكة، وكذلك المدني يأتي منسوبٌ إلى المدينة، فلا يقول: ليس مدنيا.
قال: (وَأَحْوَالِهِمْ تَعْدِيلًا وَتَجْرِيحً)، كذلك يعرف أحوالهم تعديلًا، لأن التعديل يكون طريقًا إلى ثبوت السند إذا كان الراوي عدلًا ضابطًا.
المقصود بالتعديل هنا: العدالة في الدين.
والمراد بالتجريح: العدالة في الضبط.
فيعرف التعديل والتجريح، ما يكفي يعرف التعديل فقط، فيقول: فلان في دينه عدل! لكن لا بد من أن يعرفه في ضبطه، لأنه بهذا يعرف ثبوت السند من عدم ثبوته، وهذا هو مدار الرواية.
قال: (وَجَهَالَةً)، لأن الحكم بالتَّعديل والتَّجريح فرع المعرفة، فإذا كان لا يعرف كيف نحكم عليه بأنه عدل؟! كيف نجرحه وهو مجهول؟! نجرحه بالجهالة لكن ما نجرحه نقول: إنه مجهول؛ فالجهالة نوع من الجرح، فإذا كان لا يعرف فهذا أيضًا مما يدلل على عدم ثبوت الخبر لجهالة الراوي.
{أحسن الله إليكم.
قال: (وَمرَاتِبُ الْجَرْحِ: وَأَسْوَؤُهَا الْوَصْفُ بِأَفْعَلَ، كَأَكْذَبِ النَّاسِ، ثُمَّ دَجَّالٍ، أَوْ وَضَّاعٍ، أَوْ كَذَّابٍ.
وَأَسْهَلُهَا: لَيْنٌ، أَوْ سَيِّئُ الْحِفْظِ، أَوْ فِيهِ مَقَالٌ)
}.
هو -رَحِمَهُ اللهُ- ذكر مرتبتين من مراتب الجرح، فذكر المرتبة العليا في الوصف، وثم ذكر أسهلها وأليناها.
فأسوأ الأوصاف هو: "أكذب الناس، دجال، وضَّاع"؛ فهذا لا شك أنه أقبح الأوصاف في الجرح.
قال: (وَأَسْهَلُهَا: لَيْنٌ، أَوْ سَيِّئُ الْحِفْظِ، أَوْ فِيهِ مَقَالٌ)، كأن يُقال: فيه لين، فيه ضعف، فتنكر منه بعض الشيء، وكذلك اللفاظ التي تدل على أن فيه ضعف يسير.
وبينهما مراتب، كأن يُقال: مُنكر الحديث، متروك، ولفظ "متروك" هو قريب من الوصف الأول.
وكذلك أن يُقال: مختلط، شاذ، أو يشذ في الأخبار، ومضطرب الحديث. هذه دون تلك المرتبة.
{هل يُقال: لا يُتابَع على حديثه؟}.
قد لا يُتابع على حديثه لشدَّة شذوذه وأنه متروك، وقد لا يُتابَع عليه في رواية معينة، وقد يختلف اصطلاح من يقول: لا يُتابَع عليه.
إذًا؛ هما مرتبتان وبينهما مرتبة، وهي تارة تقرب من أسوأ الأوصاف "الكذاب، أكذب الناس، الدجال، الوضَّاع"، وتارة تقرب من أسهل اللفاظ "لين، سيء الحفظ".
وهذا مهم في معرفة هذه الأوصاف، فإذا عرفت أن فلانًا دجالًا وكذابًا؛ فتحكم على السند بأنه باطل وأن المتن باطل، لكن إذا عرفت أن السند فيه سيئ الحفظ أو لين؛ تقول: هذا إسناد فيه ضعف، فنبحث عن أدنى متابع يرفعه ويجعله من باب الحسن لغيره، بشرط أن يكون مثله أو أرفع منه، فإذا كان أرفع منه فلا إشكال، وإذا كان دونه فلا بد أن تتعدد الطرق.
{أحسن الله إليك.
قال: (وَمرَاتِبُ التَّعْدِيلِ: وَأَرْفَعُهَا الْوَصْفُ بَأَفْعَلَ: كَأَوْثَقِ النَّاسِ، ثُمَّ مَا تَأكَدَ بِصِفَةٍ أَوْ صِفَتَيْنِ كَثِقَةٍ ثِقَةٍ، أَوْ ثِقَةٍ حَافِظٍ وَأَدْنَاهَا مَا أَشْعَرَ بِالْقُرْبِ مِنْ أَسْهَلِ التَّجْرِيحِ: كَشَيْخٍ)}.
ذكر مراتب التعديل؛ لأنه سبق أنه قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمِنَ الْمُهِمِّ: مَعْرِفَةُ طَبَقَاتِ الرُّوَاةِ وَمَوَالِيدِهِمْ، وَوَفَيَاتِهِمْ، وَبُلْدَانِهِمْ، وَأَحْوَالِهِمْ تَعْدِيلًا وَتَجْرِيحً)، ثم فرَّع بين مراتب الجرح، ثم مراتب التعديل، فكما أن مراتب الجرح أعلاها "أكذب الناس، وصيفة (أفعل) كدجال ونحو ذلك"، كذلك مراتب التعديل، مثل: "أوثق الناس"، يعني أوثق الناس زمانه.
قال: (ثُمَّ مَا تَأكَدَ بِصِفَةٍ)، كقول: ثقة.
قال: (أَوْ صِفَتَيْنِ كَثِقَةٍ ثِقَةٍ)، يعني حين يقول: "ثقة ثقة، ثقة حجَّة، ثقة مأمون، ثقة حافظ".
قال: (وَأَدْنَاهَا مَا أَشْعَرَ بِالْقُرْبِ مِنْ أَسْهَلِ التَّجْرِيحِ: كَشَيْخٍ)، يعني إذا قيل عندهم "شيخ" فهذه قريبة من التجريح لكنه يمشونه، وكثيرًا ما يقع في كلامهم فيقولون: "فلان شيخ"، واستعملها كثيرا أبو حاتم.
وبين ذلك مراتب، مثل: "صدوق، لا بأس به، وليس به بأس".
ودون ذلك: "صدوق يَهِم، له أوهام".
ومثل ما يقع في الجرح فيقولون: "ليس بقوي، وليس بالقوي".
وفي التوثيق يقولون: "لا بأس به، ليس به بأس".
بعضهم يفرق بين "ليس به بأس" و "لا بأس به". فقول "لا بأس به" عند بعضهم أرفع من قول "ليس به بأس"، لأنه جزم وقال "لا بأس به"، وقول "ليس به بأس"، هذه دونها.
{قول: "ليس به بأس" قريب من "صدوق"؟}.
"لا بأس به" كــ "الصدوق"، و"ليس به بأس" كذلك، ولكن عند بعضهم هي دون "لا بأس به".
وكذلك قول: "ليس بقوي" و "ليس بالقوي"، فـ "ليس بقوي" هذا إثبات نفي القوة، فهي بمعنى الضعف، أم "ليس بالقوي" ليس فيه نفي أصل القوة، بل فيه إثبات أصل القوة دون تمامها، يعني: الثانية أخف.
فلهذا عندهم في نفس الجرح عبارات يزنونها بالميزان، ولهذا الحافظ ابن حجر سمى "ذهب الميزان" و"لسان الميزان" فلا بد أن يكون بميزان، فإذا قيل "ليس بقوي" هذه أبلغ من قوله "ليس بالقوي" يعني: أن عنده أصل القوة، لكن ليست هذه القوة التي ترفعه إلى الدرجة فيكون حجة، ومثل هذا بأدنى شيء يقوى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتُقْبَلُ التَّزْكِيَةُ مِنْ عَارِفٍ بَأَسْبَابِهَا، وَلَوْ مِنْ وَاحِدٍ عَلَى الْأَصَحِّ.
وَالْجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ إِنْ صَدَرَ مُبَيِنًا مِنْ عَارِفٍ بِأْسْبَابِهِ، فَإِنْ خَلَا عَنِ التَّعْدِيلِ: قُبِلَ مُجْمَلًا عَلَى الْمُخْتَارِ)
}.
التزكية تقبل من عارف بأسبابها، المزكِّي لا بد من أن يكون عارفًا بأسباب التزكية، ولا بد أن يكون أيضًا تزكيته معتبرة ولو من واحدٍ صح، فإذا زكاه الإمام أحمد أو يحيى بن معين أو علي بن مديني ونحوهم والبخاري وأمثالهم؛ فتقبل التزكية وترفعه وتجعله مقبولَ الرواية، إذا زكاه أبو حاتم فتزكيته عزيزة، وكذلك يحيى بن سعيد القطان، فتزكيتهم أرفع من جهة أن عندهم تشديدًا أشد.
في مقابل ذلك: الجرح، فينبغي أن تتأنى في الجرح في حقهم، لأنهم قد يَجرحون بشيء قد لا يَجرح به غيرهم.
إذًا؛ التَّزكية لا بد أن يكون عارفًا بأسبابها، فلا تزكي بما لا تزكية فيه ولا تجرح بما لا يُجرح به، وذُكر عند بعضهم -لعله أحمد بن عبد الله بن يونس وأظن أحمد رَحِمَهُ اللهُ كان يثني عليه يسميه شيخ الإسلام، وهو ينسب إلى جده كثيرا في الصحيح وغيره وإمام كبير- لكنه -رَحِمَهُ اللهُ- ذكر عنده عبد الله العمري، فقال: "لا يطعنُ فيه إلا رافضي مبغض له ولآبائه، لو رأيت طول لحيته وخضابه لعلمتَ أنه ثقة"، وهذا عجيب ومما يُستنكَر! فهذا ليس من أسباب التعديل، قد يكون إنسانًا ملتزمًا بالسنة في الظاهر ويكون ضعيفَ الرواية، ومعروف كلام أهل العلم فيمن ينشغل عن العلم ويكون له عناية بالسنة ظاهرًا، لكنه ليس من أهل الضبط وليس من هذا الباب وليس من أهل الطريق؛ فلا يؤخذ منه شيء، بل بعضهم لا تقبل شهادته أحيانًا لعدم ضبطه.
وضده: صالح بن بشير بن وادع المري؛ فجرى ذكره عند حماد بن سلمة فوافق أنَّ حمادًا امتخطَ؛ فقال بعضهم: ذُكر عند حماد فامتخط، ظنًّا منه أن هذا جرح وتهمة بما لا ثقة فيه ولا تثبت فيه، إنَّما يُجرح بالشيء الذي يكون فيه، مع أن صالح بن بشير بن وادع المري ضعيف، بل قال البخاري عنه: "منكر الحديث"، فهو ضعفه شديد -رَحِمَهُ اللهُ- وله أحاديث معروفة، لكن هنا جرحوه بما لا يُجرَح به، فلهذا يقول: (مِنْ عَارِفٍ بَأَسْبَابِهَا، وَلَوْ مِنْ وَاحِدٍ عَلَى الْأَصَحِّ).
ومن ألفاظ الجرح كما قال بعضهم: "رأيته يمشي على برذون، رأيته يبول قائمًا أو في الطريق"، قد يكون حصل له عذر مثلًا وبال في الطريق؛ قد يكون أعجله بوله ونحو ذلك، فلو لم يكن عندك يقين في الجرح فلا يجوز أن تجرح إلا بما يكون تثبت وبينة.
قال: (وَلَوْ مِنْ وَاحِدٍ عَلَى الْأَصَحِّ)، لكن لابد أيضًا أن يكون ممن يعتبر، فلهذا إذا كان متساهلًا فلا يُقبل، كابن حبان وابن شاهين، وذكر بعضهم العجلي والحاكم، وألحق بعضهم ابن خزيمة بهم.
{وأبو الفتح الأزدي؟}.
أبو الفتح الأزدي هو متشدد ومتساهل كابن حبان، وكذلك السليماني أيا وأمثاله، حتى قال الذهبي فيه: "حتى كأنه لا يدري ما يخرج من رأسه" يقصد السليماني في بعض كلامه -رَحِمَهُ اللهُ.
إذًا؛ لا بد أن يكون الموثق والمتكلم كما قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَارِفٍ بَأَسْبَابِهَ)، ولا يكون أيضًا مُتساهلا في هذا أو متشددًا، لكن المتشدد يقبل في باب التعديل، أما في باب الجرح قد يجرح أحيانًا بما لا جرح به، فيُنظر هل يوافقه غيره أو لم يوافقه؟
قال: (وَالْجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ إِنْ صَدَرَ مُبَيِنًا مِنْ عَارِفٍ بِأْسْبَابِهِ، فَإِنْ خَلَا عَنِ التَّعْدِيلِ: قُبِلَ مُجْمَلًا عَلَى الْمُخْتَارِ)، إذًا الجرح مقدم على التعديل، إذا وجدنا أحد الرواة قال فيه يحيى بن معين: "ثقة"، وقال أحمد جرحه وتكلم فيه؛ فهنا الحجر مقدَّم على التعديل.
قال: (إِنْ صَدَرَ مُبَيِنً)، يعني ما يقال مجرد "ضعيف"، وإنما يقول: "سيء الحفظ، مختلط، مضطرب الحديث"، لابد أن يبين سبب الضعف، حتى لا يجرح بما لا يكون جارحًا.
قال: (فَإِنْ خَلَا عَنِ التَّعْدِيلِ: قُبِلَ مُجْمَلًا عَلَى الْمُخْتَارِ)، هذه مستثناة.
مثلًا: أحد الرواة جُرح جرحًا مجملًا، لكن لم نرَ فيه تعديلًا ولم يعدله أحد؛ في هذه الحالة يقبل حتى لا يُهدر الجرح.
{حتى لو كان الجارح من المتشددين؟}.
نعم، حتى لو كان الجارح له من المتشددين، لأن أحسن أحواله أن يكون مجهولًا حتى لو لم يُجرح، لأنه لو لم يُجرح فهو مجهول، فكيف إذا جُرِح؟!
وقيل: لا يرد الجرح وليس له معارض.
وأيضًا يقال: إن هذا الجرح لم يقابله تعديل من معتبَر، فلهذا هو في الأصل إذا لم يُعدَّل ولم يذكر بشيء من التعديل مما يكون سببًا في رد حديثه، فلا يكفي مجرد أنه روى هذا الحديث وعرفناه باسمه وعرفناه بعينه ونحو ذلك حتى يُزكَّى، ولهذا تقدم قول المؤلف: (وَتُقْبَلُ التَّزْكِيَةُ مِنْ عَارِفٍ بَأَسْبَابِهَ).
قوله: (عَلَى الْمُخْتَارِ)، هذا إشارة إلى الخلاف في هذه المسألة.
{أحسن الله إليكم.
بالنسبة لمسألة الجرح والتعديل: إذا اختلف أئمة كبار في جرح راوٍ وتعديله، مثلًا: البخاري عدَّل، وابن معين عدَّل وجرَّح أحمد، وكان جرح أحمد مفسرًا فهل نأخذ بالحرج على القاعدة؟
وماذا إذا كان عند هؤلاء الأئمة ما يدل على ردِّ هذا الجرح المفسَّر}.
في الحقيقة هذا له أحوال:
الحال الأول: أحيانا يكون الراوي جُرِح جرحًا غير مفسر ولم يُعدَّل؛ فهذا مثل ما تقدم.
الحال الثاني: أن يختلف الجارحون والمعدِّلون، فإن كان الجارح من المتأخرين كابن حبان وابن خزيمة، والمعدلون هم الأئمة الكبار فعدلوه واتفقوا على ذلك، كالإمام أحمد ويحيى بن معين وعلي بن المديني؛ ففي هذه الحالة يقدَّم التعديل حتى ولو جرحه، لأن أولئك أقرب إلى عصر رواية وأقرب إلى الراوي، وربما بعضهم شافهه ورآه، فلهذا قولهم حق.
الحال الثالث: أن يختلفوا، فإذا اختلفوا في التعديل والجرح، فإن كان في الجرح تفسير فهو مقدَّم، ليس جرحًا مجملًا بل جرح مفسر؛ فنقول: إن المعدِّل غاية أمره أنه ينفي عدم الجرح، والجارح يثبت ويفسر، والمعدِّل ينفي؛ فيقدَّم الجرح على التعديل، لأن الجارِح المفسِّر يقول: أنا مطلع على ما ذكرتُ وأنا مقرٌّ بما ذكرت -ففيه زيادة علم-؛ فنقول: ما قلتَ صحيح، لكنه مثلًا "سيء الحفظ، أو اختلطَ، أو خفي عليه"، ومَن علم حُجَّة على مَن يعلم.
الحال الرابع: إذا عدَّله اثنان من الأئمة واثنان جرحاه، وكلاهما في نفس الرتبة في الإمامة، والجرح غير مفسَّر، فطريقة الحافظ ابن الحجر والذهبي في هذه الحالة: أنهم يعدِّلونه من وجه ويقولون: "هو صدوق له أوهام، صدوق يخطئ"، فلا يُهدرون التعديل ولا يهدرون التجريح، فيجعلونه محتملًا، أما في النظر في حديثه فهذا يخضع لأمور:
- إن كان قد تفرد: فهذا واضح أنه ضعيف.
- إن كان قد تُوبع: يكون من باب الحسن لغيره.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمِنَ الْمُهِمِّ مَعْرِفَةُ كُنَى الْمُسَمِّينَ، وَأَسْمَاءِ الْمُكَنَّيْنَ، وَمَنِ اسْمُهُ كُنْيَتُهُ، وَمَنِ اخْتُلِفَ فِي كُنْيَتِهِ، وَمَنْ كَثُرَتْ كُنَاهُ أَوْ نُعُوتُهُ، وَمَنْ وَافَقَتْ كُنْيَتُهُ اسْمَ أَبِيهِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ كُنْيتُهُ كُنْيَةُ زَوْجَتِهِ، وَمَنْ نُسِبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ إِلَى غَيْرِ مَا يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ)}.
قوله: (وَمِنَ الْمُهِمِّ مَعْرِفَةُ كُنَى الْمُسَمِّينَ)، المسمى الذي عرف باسمه وكنيته لم تشتهر، حين يكون الإنسان معروفًا باسمه وكنيته لم تشتهر؛ فمن المهم أن تعرِف الكنية، لأنه قد يأتي بالكنية وأنت تعرف الاسم المشهور به، مثلًا: قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف الثقفي أبو رجاء البغلاني؛ فلو قيل: "حدثنا أبو رجاء البغلاني" فأنت لا تعرفه، وإنما هو معروف باسمه "قتيبة" ولا يُعرف بكنيته، فتأتي وقتول: مجهول، فإذا عرفت كنيته عرفته.
ومثلً لو قيل: عن أبي محمد الهلالي عن عمرو بن دينار، من هو أبو محمد؟ هو سفيان بن عيينة؛ فسفيان بين عيينة مشهور باسمه، وكذلك سفيان بن سعيد الثوري مشهور باسمه، فلو قيل: أبو سعيد؛ ما عرفته!
وبعضهم يشتهر بهذا وهذا، فالأعمش يأتي تارة مسمَّى وتارة باللقب، كان شعبة كثيرًا ما يسميه ويقول: حدثنا أبو محمد سليمان بن مهران الكوفي.
ولهذا قال المؤلف: (كُنَى الْمُسَمِّينَ)، فكنية "الأعمش": أبو محمد، واسمه: سليمان، هو في الحقيقة لا يأتي بلقبه.
ولهذا أيضا يُزاد فيُقال: "ومعرفة كنى الملقبين"، فأبو إسحاق السبيعي كثيرًا ما يأتي مكنًى "أبو إسحاق"، هو عمرو بن عبد الله بن عبيد السبيعي، ولا يكاد يأتي مسمًّى، فمن المستحسن أن تعرف اسمه، حتى لو جاء مسمى عرفت أنه أبو إسحاق السبيعي.
{مثل لو قال: حدثنا عبد الرحمن بن عمرو، ما هو بمشهور في الأسانيد عبد الرحمن بن عمرو، وهو الأوزاعي}.
كثير منهم يأتي هكذا، يعني نسبته إلى الأوزاع، فقد ينسب إلى قبيلته، وقد ينسب إلى بلده، أو يكون باللقب؛ فهذا يقع كثيرًا في أسماء الرواة، وهم يتفنَّنون في هذا، لكن بعضهم ربما يبالغ في البيان فيذكره باسمه وكنيته.
قال: (وَمَنِ اسْمُهُ كُنْيَتُهُ)، ليس له اسم، فاسمه هو كنيته، فمن كان اسمه كنيته إذا أتى مكنًّى مثل أبي سلمة ابن عبد الرحمن، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث؛ بعضهم لا يُعرف له اسم، ومثل أبو بكر بن عياش على المشهور "أبو بكر" وقيل اسمه شعبة، واختلف باسمه كثيرًا، وسئل عن اسمه -رَحِمَهُ اللهُ- فقال: لما ولدتني أمي كانت الأسماء قد قسِّمت! يعني ما وجدوا له اسمًا! قال ذلك مداعبة لهم.
أبو سلمة مشهور بالكنية حتى قيل إن كنيته هي اسمه، وقيل: إن اسمه عبد الله يشبه. وكذلك أبو زُرعة، لم يُذكَر إلا بكنيته.
قال: (وَمَنْ كَثُرَتْ كُنَاهُ أَوْ نُعُوتُهُ)، بعضهم تكفر كناه ونعوته، مثل: سالم سبلان، وهو أحد الرواة، وله كنًى كثيرة، وكذلك ابن جريج له أكثر من كنية -رَحِمَهُ اللهُ-، لكن في الغالب أن هؤلاء لا يكاد يأتي منسوبًا إلى جده كعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج.
وأحيانًا تكثر نسبته إلى المهن، مثل: عيسى بن أبي عيسى؛ فيُقال تارة: الحنَّاط، وتارة: الخياط، وتارة: الخبَّاط؛ مع أنها في الشكل واحد لكن تختلف، وهذا أيضا من باب المؤتلف والمختلف، فهو مؤتلف من جهة "الحنَّاط، والخيَّاط، والخبَّاط"، وقيل: إنه زاول المهن الثلاث، فهو "حنَّاط" يحنِّط الموتى، و "خبَّاط" يخبط الشجر، و "خيَّاط" يُخيط الثياب، مع أنه ضعيف لكن قد يكون أطلقت على هذه النسب ليضيع ولا يُعرف، لكنه معروف بهذه النسب وهو ضعيف -رَحِمَهُ اللهُ- فكيفما جاء فحديثه مردود!
قال: (وَمَنْ وَافَقَتْ كُنْيَتُهُ اسْمَ أَبِيهِ، أَوْ بِالْعَكْسِ)، مثلًا وافقت كنية أحد الرواة: أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق، كنيته وافقت اسم أبيه، هو أبو إسحاق، وأبوه إسحاق؛ فقد يظن أنه غلط، فإذا سُمِّيَ فيكون واضحًا، إذا قيل: إبراهيم بن إسحاق فإنه واضح، لكن قد يلتبس "أبو إسحاق" و"ابن إسحاق"، قد يُظن إنه خطأ وأن المراد هو "إسحاق" والده.
وعكسه: أن يكون اسمه موافقًا لكنية أبيه، مثل: إسحاق بن أبي إسحاق، ليس "أبو إسحاق بن إسحاق" وإنما العكس، ولهذا قال: (بِالْعَكْسِ).
قال: (أَوْ كُنْيتُهُ كُنْيَةُ زَوْجَتِهِ)، مثل: أبو أيوب وأم أيوب، أبو سلمة وأم سلمة، أبو الدرداء أم الدرداء، وغالب من يكون له ابن ويشتهر بالرواية هو وزوجته، فيُكنَّى بولده الكبير سواء كان ابنًا أو بنتًا؛ فهو يكنَّى وكذلك زوجته.
قال: (وَمَنْ نُسِبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ)، مثل: المقداد ابن الأسود هو المقداد بن عمرو الكندي، وقصته في هذا ذكروها، لكن قد يأتي فيُقال: المقداد بن عمرو، والمقداد بن الأسود الكندي؛ فلا يُقال: خطأ! وإنما يُقال: إنه نُسب في هذا.
قال: (أَوْ إِلَى غَيْرِ مَا يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ)، مثل: أبو مسعود البدري؛ على المشهور أنه ليس بدريًّا، وقيل: إنه بدري، لكن المتبادر أنه بدري.
مما يدخل في هذا: مثل مَن يُنسب إلى قوم لأنه حالفهم نحو ذلك، ولعل هذا يأتي.
فالمقصود أنه يُنتبه إلى النِّسب حتى لا يظن أنه غلط ونحو ذلك، كأن يُقال: هذا ليس بدريًّا؛ كيف يقال بدري؟! فنقول: قيل "بدريًا" لا لأنه شهد بدرًا، وإنما لأنه نزل بدرا، على هذا القول وإلا قيل إنه بدري وأظنه رجح ذلك بعض أهل العلم، وذكر الحافظ الخلاف في هذا في فتح الباري، ونسب إلى بعض الحفاظ هذا، ويراجع كلامه -رَحِمَهُ اللهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنِ اتَّفَقَ اسْمُهُ وَاسْمُ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، أَوْ اسْمُ شَيْخِهِ وَشَيْخِ شَيْخِهِ فَصَاعِدًا، وَمَنِ اتَّفَقَ اسْمُ شَيْخِهِ وَالرَّاوِي عَنْهُ)}.
قوله: (وَمَنِ اتَّفَقَ اسْمُهُ وَاسْمُ أَبِيهِ وَجَدِّهِ)، الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وهذا يقع كثيرًا، مثل: محمد بن محمد بن محمد؛ أحيانا يتفق في أربعة أسماء وخمسة أسماء وهذا وقع في بعض الرواة، خاصة في بعض المسلسلات وقع كثيرًا، حتى يظن أنه تكرار وأنه غلط، فيُقال: لا، هو اسمه واسم أبيه واسم جده.
قال: (أَوْ اسْمُ شَيْخِهِ وَشَيْخِ شَيْخِهِ فَصَاعِدً)، مثلًا: ذكروا عمران القصير عن عمران بن ملحان عن عمران بن الحصين، عمران عن عمران عن عمران، ووقع هذا لبعض الرواة، مثل: سليمان عن سليمان عن سليمان، سليمان الطبراني عن شيخه سليمان عن شيخه سليمان -بهذا التكرار أيضًا- فيظن أن تكرر غلطًا وأن سليمان الأول والثاني هو سليمان الطبراني! وعمران الثاني وهو عمران القصير! ونحو ذلك، فبمعرفة طبقات الرواة والرواية تبين أنه صحيح.
قال: (وَمَنِ اتَّفَقَ اسْمُ شَيْخِهِ وَالرَّاوِي عَنْهُ)، مثلًا: ابن جريج روى عن هشام بن عروة، وروى عنه هشام بن يوسف الصنعاني، ويحيى بن أبي كثير روى عن هشام بن عروة أيضًا، روى عنه هشام الدستوائي، هم يقولون "صاحب الدستوائي" أحسن، لأنك إذا قلت "الدستوائي" يُفهم إنه من دستواء، لكنه يبيع الثياب الدستوائي، ولذلك كثيرًا ما يقولون "هشام صاحب الدستوائي" وهذا من تحرزهم حتى لا يظن أنه دستوائي وإنما هو يبيع الثياب الدستوائية.
{وإنما اشتهر بـ "الدستوائي" أكثر من "صاحب الدستوائي"}.
هو اشتهر هكذا، والصحيح أنه إذا اشتهر بهذا فلا بأس.
{لكن جميل تنبيهك يا شيخنا، فحتى لا يُظن أنه من بلاد دستواء}.
ابن عُليَّة -رَحِمَهُ اللهُ- كان يغضب من هذا النسب، وكان الإمام أحمد لا ينسبه إلى أمه، فكان يقول: إسماعيل بن إبراهيم، لأنه كان يغضب من "ابن عُليَّة"، لكنه اشتهر بها! والبحث في هذا معروف.
{أحسن الله إليكم.قال: (وَمَعْرِفَةُ الْأَسْمَاءِ الْمُجَرَّدَةِ، وَالْمُفْرَدَةِ، وَالْكُنَى، وَالْأَلْقَابِ، وَالْأَنْسَابِ، وَتَقَعُ إِلَى الْقَبَائِلَ وَالْأَوْطَانِ، بِلَادًا، أَوْ ضَيَاعًا أَوْ سِكَكًا، أَوْ مُجَاوِرَةً. وَإِلَى الصَّنائِعَ وَالْحِرَفِ، وَيَقَعُ فِيهَا الْاتِّفَاقُ وَالْاشْتَبَاهُ كَالْأَسْمَاءِ، وَقَدْ تَقَعُ أَلْقَابًا، وَمَعْرِفَةُ أَسْبَابِ ذَلِكَ)}.
قوله: (مَعْرِفَةُ الْأَسْمَاءِ الْمُجَرَّدَةِ)، مثل ما يُصنَّف في كتب الحديث والكتب مصنفة في أسماء الرجال؛ هذه مصنفة بالأسماء المجردة، لا ينظر إلى أنها ألقاب مشتهرة أو كُنًى مشتهرة، أو نسبة معينة مشتهرة؛ لا، المقصود بها الأسماء المجردة، والكتب مصنفة على أسماء الرجال.
قوله: (وَالْمُفْرَدَةِ)، يعني والأسماء المفردة، أي: اسم الفرد ما في غيره، اسم واحد، هم ذكروا أحد الصحابة اسمه: لُبَيّ بن لَبَا؛ هذا اسم فرد ليس له نظير، وهذا يكون بالتَّتبع.
إذًا؛ المقصود بالاسم الفرد: أي الذي ليس له نظير. وهذا يقع في أسماء كثيرة.
{مثل: ذي القتيبة؟}.
"قتيبة" فرد وهو ابن سعيد، وكثير من الأسماء تكون على هذا، وهذا ليس مفردًا، وإنما هو فرد في الكتب الستة فقط.
وكذا الكُنُى المفردة، قيل: "أبو معيد" وهذا من جهة التقريب، وهو أبو معيد حفص بن غيلان، قيل: إنها كنية مفردة.
وكذا في الألقاب المفردة: كـ "الأجلح" قيل: إنه لقب مفرد.
قال: (وَالْأَنْسَابِ)، يعني معرفة الأنساب حتى يميز.
قال: (وَتَقَعُ إِلَى الْقَبَائِلَ وَالْأَوْطَانِ)، سواء كان هذا الوطن بلادًا أو ضياعًا أو مزارعَ، فقد ينسب إلى مزارع معينة.
قال: (أَوْ سِكَكً)، يعني الطرق والأزقَّة، فيُنسب إلى هذا الطريق وهذه السِّكَّة، وقد لا يتميَّز إلا بالنسبة إليها.
{قد يُنسَب إلى حي من الأحياء مثل: أبو محمد الحجاج المصيصي}.
هذا نُسب إلى "مصيصة" في بغداد.
ويُفرَّق في نسبته، فقد يشتهر بنسبته إلى قبيلته أو إلى وطنه.
قال: (أَوْ مُجَاوِرَةً) يمكن أن يكون المراد به أنه لم ينزل بهذا البلد، إنما جاورَ فيه، مثل مجاورة البيت الحرام.
قال: (وَإِلَى الصَّنائِعَ وَالْحِرَفِ)، ثل ما تقدم كالخيَّاط والحنَّاط والخبَّاط والبزَّاز، ونحو ذلك؛ لأن بعضهم يكون له نسبة معينة من بلد لكن يشتهر بحرفة، أو يشتهر بصنعة؛ هذه كلها مبالغة في التَّمييز.
قال: (وَيَقَعُ فِيهَا الْاتِّفَاقُ وَالْاشْتَبَاهُ كَالْأَسْمَاءِ، وَقَدْ تَقَعُ أَلْقَابً)، يعني مثل "القطواني" لقب قبيلة، وهو خالد بن مخلد القطواني، هو يغضب منها كأنها لقب.
قال: (وَمَعْرِفَةُ أَسْبَابِ ذَلِكَ)، تعرف لماذا لقب بهذا ولماذا نُسب؛ حتى يتبين السبب، مثلًا: هو من البلد الفلاني ونُسب إلى بلد فلان، مثل "خوزي" نسب إلى وادي "خوز" بمكة.
ومثل: سليمان بن طرخان التيمي هو في الحقيقة ليس تيميًّا إنما نزل في بلاد "تيم" فسمي "التيمي" وهكذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَعْرِفَةُ الْمَوَالِي مِنْ أَعْلَى، وَمِنْ أَسْفَلِ، بِالرِّقِ، أَوْ بِالْحَلِفِ، وَمَعْرِفَةُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ)}.
معرفة الموالي من أعلى، لأن المولى يقع على ستة عشر معنى، فيقال: "مولاهم"، المولى قد يكون السيد الذي أعتقه، وقد يكون المولى العتيق، ولهذا لابد أن يُعرف حتى يُميَّز.
قوله: (مِنْ أَعْلَى)، يعني السيد المعتق.
قوله: (وَمِنْ أَسْفَلِ)، أي: المعتَق.
قوله: (أَوْ بِالْحَلِفِ)، قد يكون محالفًا لهؤلاء القوم أو لهذه القبيلة وليس منهم، إنما هو محالف، فيُعرف هذا حتى يعرف نسبته فيهم.
قال: (وَمَعْرِفَةُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ)، مثلًا أبناء سيرين نحو ثمانية أو تسعة فيعرفهم، وكذلك يعرف الإخوة من الصحابة، فمعرفة هذا مهم في باب الرواية.
{أحسن الله إليكم، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَعْرِفَةُ آَدَابِ الشَّيْخِ وَالطَّالِبِ، وَسِنِّ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ، وَصِفَةِ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ وَعَرْضِهِ، وَسَمَاعِهِ، وَإِسْمَاعِهِ، والرِّحْلَةِ فِيهِ، وَتَصْنِيفِهِ، إِمَّا عَلَى الْمَسَانِيدِ، أَوْ الْأَبْوَابِ، أَوْ الشُّيوخ أوْ الْعِلَلِ، أَوْ الْأَطْرَافِ.
وَمَعْرِفَةُ سَبَبِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ صَنَّفَ فِيِهِ بَعْضُ شُيُوخِ القَاضِي أبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ، وصَنَّفُوا فِي غَالِبِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، وَهِيَ نَقْلٌ مَحْضٌ، ظَاهِرةُ التَّعْرِيفِ، مُسْتَغْنِيَةٌ عَنِ التَّمْثِيلِ، وَحَصْرُهَا مُتَعَسِّرٌ، فَلْتُرَاجِعْ لَهَا مَبْسُوطَاتِهَا. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْهَادِي، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)
}.
هذه الخاتمة خاتمة مهمة وهي معرفة آداب الشيخ، في أدائه الدرس، آداب عظيمة ذكرها العلماء في آداب الشيخ وحضوره وتهيئه للدرس، وآداب الطالب أيضًا في حضوره الدرس، وآداب الطالب مع الشيخ والعناية بما حضر له.
قال: (وَسِنِّ التَّحَمُّلِ)، متى يكون سن التحمل؟
اختُلف فيه، فقيل: خمس سنين. وقيل أكثر، والصحيح: أن وقت سن التحمل يكون لمن فهم الخطاب ورد الجواب، ولو دون الخمس، بعضهم قد يكون نبيها، وذكروا مَن ميَّز وفَهِم وضبطَ وله أربع سنين، وهناك قصة لابن حيان مع أبي بكر بن المقضي -رَحِمَهُ اللهُ- وبعضهم أيضًا وقع له شيء من الإدراك وانظر وهو لم يجاوز خمس سنين وكان يناظر الفقهاء.
يقول: (وَالْأَدَاءِ)، أي: أداء ما تحمله.
قال: (وَصِفَةِ الضَّبط بالحِفْظِ)، بمعنى أن يكون حافظًا يستحضر ما حفظه.
قال: (وَصِفَةِ كِتَابَةِ)، أن يكون ضابطًا لكتابه.
والصحيح أن الأداء: أنه إذا عرف وميَّز وأدركَ، ولا يشترط في هذا البلوغ.
وصفة الضبط: بأن يكون مستحضرًا لما حفظه.
والكتاب: أن يكون ضابطًا لكتابه لا يضيعه، ويعرف كتابه، ولو أعاره فإنه يعتني به، ولو رجع إليه يكون كتابًا مضبوطًا لم يدخل عليه فيه خلل.
قال: (وَصِفَةِ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ وَعَرْضِهِ)، كتابة الحديث هو ضبط الكتابة والعناية بالكتابة، وعرضه على الشيخ بعد ذلك حتى يتبين لو كان هناك خطأ.
قال: (وَسَمَاعِهِ)، يكون أثناء السماع منتبهًا مستيقظًا لا ينعس.
قال: (وَإِسْمَاعِهِ)، حين يُسمع يكون إسماعه من كتاب مضبوط بعدما عرضه على شيخه.
قال: (والرِّحْلَةِ فِيهِ)، والرحلة تكون بعد ما ينتهي من أخذ العلم عن أهل بلده فيرحل، ورحلته ليس لأجل التَّكثُّر وإنما لأجل الرواية، لا لكثرة المشايخ وإنما لأجل كثرة الرواية في الحديث.
قال: (وَتَصْنِيفِهِ)، التصنيف يعين على الحفظ والضبط.
قال: (إِمَّا عَلَى الْمَسَانِيدِ)، تصنيفه على مسانيد الصحابة والخلفاء الراشدين، كما فعل الإمام أحمد.
قال: (أَوْ الْأَبْوَابِ)، كما فعل البخاري، أو الشيوخ، كمالك وشعبة، يأخذ حديث مالك ويأخذ حديث شعبة، والأئمة الذين يجمع حديثهم.
قال: (أَوْ الْعِلَلِ)، كما فعل الدارقطني، يأخذ الأحاديث المعللة ويضعها إما على الأبواب، كما فعل أبا حاتم -رَحِمَهُ اللهُ.
قال: (أَوْ الْأَطْرَافِ)، يجمع الأحاديث بطرفه الأول، فيذكر الطرف الأول، ثم يجمعه حتى يكون أسهل في الرجوع إليه.
قال: (وَمَعْرِفَةُ سَبَبِ الْحَدِيثِ)، يعني ما كان له سبب، لأن غالب الأحاديث ليس لها سبب، لكن قد يكون بعض الأحاديث لها سبب، ومعرفة السبب تعين على فهم الحديث؛ هل هو عام؟ هل هو خاص؟ فيعرف سبب ورود الحديث، وله أمثلة تبيِّن أن سبب الحديث مهم، وقد صنَّف بعض الشيوخ في أسباب الحديث -يعني أسباب ورود الحديث- مثل حديث «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ».
قال: (وَقَدْ صَنَّفَ فِيِهِ بَعْضُ شُيُوخِ القَاضِي أبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ)، وهو أبو حفص العكبري.
قال: (وصَنَّفُوا فِي غَالِبِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ)، فيما يظهر أنه يريد جميع ما ذكره -رَحِمَهُ اللهُ-، وهذه الأنواع قد تبلغ المائة.
قال: (وَهِيَ نَقْلٌ مَحْضٌ)، هذه في الخاتمة، وقد يدخل فيها أيضا ما تقدَّم في ذكر المتفِق والمفترِق والمؤتلِف المختلِف والمتشابِه.
قال: (ظَاهِرةُ التَّعْرِيفِ، مُسْتَغْنِيَةٌ عَنِ التَّمْثِيلِ، وَحَصْرُهَا مُتَعَسِّرٌ، فَلْتُرَاجِعْ لَهَا مَبْسُوطَاتِهَ)، في هذه الأشياء التي ذكرها -رَحِمَهُ اللهُ- فغفر الله له ورحمه، نسأل الله- سبحانه وتعالى- لنا ولكم العلم النافع بمنِّه وكرمه آمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{جزاكم الله خيرًا، وأحسن الله إليكم على هذا الشرح الطيب المبارك، وقد وصلنا إلى ختام هذا الشرح.
أيها الإخوة المشاهدين، نسأل الله- عز وجل- بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الحديث ومن أهل السنة، وممن يعتني بحديث النبي حفظًا وتفهمًا وعملًا ودعوة. هذا إلى درس قادم إن شاء الله تعالى نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ