الدرس الخامس

فضيلة الشيخ عبدالمحسن بن عبدالله الزامل

إحصائية السلسلة

11542 9
الدرس الخامس

نخبة الفكر

{الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد؛ فحياكم الله أعزاءنا المشاهدين، ونرحب بكم في برنامج (جادة المتعلم) الذي تنظمه جمعية هداة الخيرية لتعليم العلوم الشرعية، نسعد بكم في مجلس من مجالس العلم، في المجلس الخامس من شرح (نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر) للحافظ ابن حجر -رَحْمَةُ اللهُ عَلَيْهِ- يقوم بشرحه شيخنا الفاضل الشيخ/ عبد المحسن بن عبد الله الزامل -حفظه الله تعالى- حياكم الله فضيلة الشيخ ومرحبًا بكم}.
حياكم الله وبارك الله فيكم، وأسأل الله -سبحانه وتعالى- وجميع إخواني أن يبارك في هذا اللقاء.
{آمين، نستأذنكم فضيلة الشيخ في قراءة المتن.
قال الحافظ ابن حجر -رَحْمَةُ اللهُ عَلَيْهِ: (ثُمَّ قَدْ يَكُونُ وَاضِحًا أَوْ خَفِيًّا. فَالْأَوَّلُ: يُدْرَكُ بِعَدَمِ التَّلَاقِي، وَمِنْ ثَمَّ احْتِيجَ إِلَى التَّأْرِيخِ.
وَالثَّانِي: الْمُدَلَّسُ وَيَرِدُ بِصِيغَةِ تَحْتَمِلُ اللَّقْيَ: كَعَنْ، وَقَالَ، وَكَذَا الْمُرْسَلُ الْخَفِيُّ مِنْ مُعَاصِرٍ لَمْ يَلْقَ)
}.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فيقول الحافظ ابن حجر -رحمة الله علينا وعليه: (ثُمَّ قَدْ يَكُونُ وَاضِحً)، أي: الانقطاع، الوضوح معناه أنَّه يتبين بأدنى نظر إلى السند أن فيه انقطاعًا، هذا لم يروِ عن هذا ولم يلتقِ به، أو يكون فيه إعضال، أو يكون فيه إرسال واضح، فهذا واضح يدرك بالتأريخ ومعرفة وفاة الراوي الذي روى عنه، ومعرفة ولادة الراوي الذي روى، أو إدراكه مثلًا المشايخ الذين أدركهم، فإذا روى مثلًا وقال: حدثنا خالد بن معدان، قيل له: متى رويت عن خالد بن معدان؟ قال: رويت عنه سنة ثلاثة عشر ومائة، قيل: هذا يروي عن خالد بن معدان بعد وفاته بسبع سنين! كما قاله إسماعيل بن عياش لمَّا قيل له: ها هنا إنسان يحدث عن خالد بن معدان، قال أين هو؟ قالوا: ها هنا، فذهب إليه فقال: متى لقيت خالد بن معدان؟ قال: لقيته سنة ثلاثة عشرة ومائة. فقال لأصحابه وطلابه: إن هذا يحدثكم عن خادم معدان بعد موته بسبع سنين، لأنه توفي بعد المائة بست سنين.
ولهذا يقول سفيان الثوري -رَحِمَهُ اللهُ: "لمَّا استعمل الكذابون الرواية؛ اتخذنا لهم التأريخ"، فالتأريخ يبين حالهم، يعني حين يقول مثلا: رويت عن فلان وعن فلان، يُقال له: متى رويت عنه؟
قال سفيان: "استعملوا الرواة فاستعملنا التاريخ"، فالتاريخ يفضحهم، ولهذا تجد الأئمة -رَحْمَةُ اللهُ عَلَيْهِم- يعرفون هذا الراوي ومَن روى عنه وكيف روايته ويدركون ذلك، فيأتي إنسان ممن يتبسَّط في الرواية فيفتضح أمره، وهذا من رحمة الله حتى يظهر الكذابون.
{أو ربما يقول: رويت عنه في البلد الفلاني، وهو من تاريخه لا يعرف أنَّه دخل البلد الفلاني، كذلك}
كذلك، يقول: رويت عنه في البلد الفلاني أو لقيته في الحج، وهو لم يحج مثلًا هذا العام، أو لم يحج أصلًا، خاصة في البلاد البعيدة، لأنَّ الرحلة والرواية في الغالب تكون في الحج كثيرًا لأنه يلتقي بالحفَّاظ.
قال: (فَالْأَوَّلُ: يُدْرَكُ بِعَدَمِ التَّلَاقِي، وَمِنْ ثَمَّ احْتِيجَ إِلَى التَّأْرِيخِ)، ولهذا تجد في كثير من الروايات والتراجم يعتنون بتاريخ وفاة الراوي، والإمام الكبير وفاته ظاهرة، ومَن روى عنه ومَن أدركه ومِن تلاميذه المتقدمون ومَن تلاميذه المتوسطون ومَن تلاميذه الصغار، كل هذا يتبين بالتأريخ.
قال: (وَالثَّانِي: الْمُدَلَّسُ)، المدلس: هو الخفي، مِن الدُّلسة والدَّلس وهو اختلاط الظلمة بالضياء فلا يتبين، يعني يصير فيه غبش ما يظهر، وهذا يحتاج إلى بصيرة.
قال: (وَيَرِدُ بِصِيغَةِ تَحْتَمِلُ اللَّقْيَ كَعَنْ، وَقَالَ)، يقول: "عن"، فـ "عن" تحتمل السماع وعدم السماع، وقول: "قال" كذلك يحتمل.
والتدليس أنواعه كثيرة، لكن أظهرها نوعان:
- تدليس الشيوخ.
- تدليس الإسناد.
وتدليس التسوية جعله بعضهم قسمًا ثالثًا، والصواب: أن تدليس التسوية ليس قسيمًا لهذين؛ بل هو وصف لهذين، فتدليس التسوية يُمكن أن يقع على تدليس الشيوخ، ويُمكن أن يوصَف به تدليس الإسناد.
وتدليس التسوية: من تسوية الشيء وتحسينه، ولهذا تجد الحفاظ يقولون: فلانٌ سوَّاه -أي: جعله مستوٍ- يعني: أزال الضعيف فبقي الإسناد برواة كالشمس، ولكن الجهابذة ينخلونها نخلًا ويعرفون هذه الرواية.
مثلا: يقول أحد الرواة وهو أدرك بعض الصحابة: "حدثني أبو سعيد" وهو قد أدرك أبا سعيد؛ وهو قد روى عن محمد بن السائب الكلبي، وكان عطية العوفي قد كنَّاه بأبي سعيد، فيظن السامع أنَّه يقصد "أبا سعيد الخدري"؛ لأنَّ الإطلاق يذهب إلى المعروف من الصحابة، ثم هذا أيضًا لم يعرف بذلك وهو الذي كناه، يعني شيء في نفسه أضمره، فإذا قال: حدثني "أبو سعيد" يعني: أبو سعيد الخدري، وهو ويقصد محمد بن السائب المتهم الكذاب، وابنه هشام أيضًا كذلك مثله، فهو سوَّاه -جعله مستوٍ.
أمَّا تدليس الإسناد فهو إسقاط ضعيف بين ثقتين، يروي عن شيخ ثقة عن ضعيف عن ثقة، يسقط الضعيف ويكون ثقة عن ثقة، فهنا أيضًا سوَّاه، وفي عبارات بعض الأئمة يقولون: جوَّده فلان، يعني جعله جيدًا وهو فيه علة باطنة.
{هل هذه العبارة محتملة المدح ومحتملة القدح؟}.
قولهم: "جوده" في الغالب أنَّهم يريدون بذلك أنه جود الإسناد، وما تتبعت الحقيقة كلامه في هذا، لكن يمكن أن يَرد مثلًا في بعض الروايات حين يروي الإسناد رواية جيدة، فيقال: جوده، لكن بالقرائن إذا كان هذا رجلاً ضعيفًا ومعروفًا بالتدليس أو نحوه بالقرائن، فالقرائن لها أثر في الحكم على هذا وبيان العبارة.
ثم إنَّ العبارة معناها يتبين بمتابعة كلام هذا الإمام، ويتبين قصده؛ لأنَّ السِّبَاق واللحاق يُبينُ المراد، فهذا وصف لهما.
إذًا؛ هذا هو المدلَّس، ولهذا فهو خفي، وذلك أنَّه روى عن فلان بصيغة تحتمل اللقي، ولهذا أهل العلم حكموا بأن رواية المدلس بصيغة "عن" ليست بحجة وهي ضعيفة، هذا هو قول المتقدمين، وهو الذي نص عليه الإمام مسلم، خلافًا لمن قال: إن الخوف لا من تدليسه لا من نفس التدليس، وهذا التفريق لم يأتِ بكلامهم -رَحْمَةُ اللهُ عَلَيْهِم-، وإنما يأتي في كلام المتقدمين أنهم يتوقعون المدلس، ومنه: قصة الليث مع ابن الزبير وقصص كثيرة، حين قال: "أعلم لي على ما سمعت"، وهذا هو واقع في كلام الحفاظ -رَحْمَةُ اللهُ عَلَيْهِم.
قال: (وَكَذَا الْمُرْسَلُ الْخَفِيُّ مِنْ مُعَاصِرٍ لَمْ يَلْقَ)، هذا هو الصواب، بعضهم لم يفرق وجعلهما واحدًا فيها، لكن عندنا التدليس وعندنا المرسل الخفي:
التدليس: هو أن يروي عمن سمع ما لم يسمع منه.
المرسل الخفي: أن يروي عمَّن عاصره ولم يلقه بصيغة "عن".
وهذا كله مع احتمال اللقي، لكن إذا كان مع عدم احتمال اللقي فهذا لا يَرد، وبعضهم أدخل فيه المرسل الخفي: مَن لقيه ولم يروِ عنه بصيغة تحتمل اللقي، لكن هذا في الغالب يتبين مثل: رواية الأعمش عن أنس، وقيل: إنَّه لقيه لكنه لم يسمع منه.
والمشهور أنَّ المرسل الخفي: هو رواية معاصر عمن عاصره ولم يلقَه، وهو الذي حرره الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ الطَّعْنُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِكَذِبِ الرَّاوِي، أَوْ تُهْمَتِهِ بِذَلِكَ، أَوْ فُحْشِ غَلَطِهِ، أَوْ غَفْلَتِهِ، أَوْ فِسْقِهِ، أَوْ وَهْمِهِ، أَوْ مُخَالَفَتِهِ، أَوْ جَهَالَتِهِ، أَوْ بِدْعَتِهِ، أَوْ سُوءِ حِفْظِهِ.
فَالْأَوَّلُ: الْمَوْضُوعُ، وَالثَّانِي: الْمَتْرُوكُ، وَالثَّالِثُ: الْمُنْكَرُ عَلَى رَأْيٍ، وَكَذَا الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ)
}.
سبق أنَّه -رَحِمَهُ اللهُ- قال: (إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِسَقْطٍ أَوْ طَعْنٍ)، السقط يكون في الإسناد، الطعن يكون في الراوي، والطَّعن رتب، والحافظ -رَحِمَهُ اللهُ- ذكر عشرة أسباب من أسباب الطعن، يقول: (لِكَذِبِ الرَّاوِي، أَوْ تُهْمَتِهِ بِذَلِكَ، أَوْ فُحْشِ غَلَطِهِ، أَوْ غَفْلَتِهِ، أَوْ فِسْقِهِ، أَوْ وَهْمِهِ، أَوْ مُخَالَفَتِهِ، أَوْ جَهَالَتِهِ، أَوْ بِدْعَتِهِ، أَوْ سُوءِ حِفْظِهِ)، هذه عشرة أسباب.
الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ- خالف بين هذه، فأدخل ما هو طعن في دينه وما هو في ضبطه، فالطعن في العدالة إمَّا أن يرجع الطعن إلى الدين أو يرجع إلى الضبط، وكلاهما يُطعن به، الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ- لم يجعل للطعن في الدين أسباب مستقلة، وللطعن في الضبط أسباب مستقلة؛ بل أدخل بعضها في بعض.
الخمسة أسباب الأولى: الكذب، والتهمة، وفحش الغلط، والغفلة، والفسق؛ هذه الخمسة منها ثلاثة ترجع إلى الطَّعن في الدين واثنان إلى الطعن في الضبط، والخمسة هذه كلها هؤلاء الرواة لا يحتج بهم، ولا يستشهد بهم، ولا يعتبر بهم، فالراوي فيها ساقط، ولهذا الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ- رتَّبها هذا الترتيب بناء على قوَّة الطعن، فلهذا دخل في هذه الأسباب طعنٌ يتعلق بالدين وطعنٌ يتعلق بالضبط، وبدأ بأشدها وهو الكذب.
ثم ذكر بعد ذلك قال (أَوْ وَهْمِهِ، أَوْ مُخَالَفَتِهِ، أَوْ جَهَالَتِهِ، أَوْ بِدْعَتِهِ، أَوْ سُوءِ حِفْظِهِ)، هذه الخمسة أخف منها، وظاهر الكلام أن هذه الخمسة هي موضع الاستشهاد والمتابعة، المقصود: أنها لا يرد صاحبها مطلقًا، فالخمسة الأولى يرد مطلقًا، وليست محل استشهاد ولا الاعتبار.
ثم بدأ يفصلها:
قال: (فَالْأَوَّلُ: الْمَوْضُوعُ)، وهو لكذب الراوي.
والموضوع: قيل إنَّه بمعنى المطَّرح، ضَعْ هذا الشيء أي: اطرحه، فهو مطَّرحٌ لا قيمة له وساقط.
أو الموضوع: بمعنى الملصق، مثل وضع الشيء على الشيء، مثل وضع اللَّصوق على الجلد، فاللصوق ليس من الجلد، فكأنه فإذا وضع اللصوق على الجلد لأجل العلاج، لكنه ليس منه، كذلك الواضع ألصق في الشريعة شيئًا ليس منها.
والمعنيان ليسا متنافيين، قد يقال: معناه المطَّرح والملصق، يعني أنَّه ألصق بالدين والشريعة شيئا ليس منه.
والوضَّاعون هم شرُّ الرواة، ولهذا الوضَّاع الذي يثبت عنه أنَّه وضعَ حديثًا هذا روايته مطرحة ولا قيمة لها، والوضَّاع هو الكذَّاب.
والوضَّاعون على قسمين:
- وضَّاع يتعمد الكذب.
- ومن لا يتعمد الكذب.
الذي لا يتعمد الكذب هو في القسم الثالث والرابع، وهو: فحش الغلط والغفلة.
قد يكون إنسانًا ينطلي عليه أحاديث، وهذا لعله يأتينا بعد ذلك حين يذكر "فحش الغلط والغفلة" ولكن قد يكون الواضع في الحقيقة من جهة الحكم وضَّاع، لكنه ليس وضَّاعًا، والذي كذب حديثه موضوع وهو وضاع، والذي يجري الكذب على لسانه حديثه موضوع لكنه ليس بوضَّاع؛ لأنه قد يكون من عباد الله الصالحين، كما قال يحي بن سعيد: "ها هنا قوم صلحاء يجري الكذب على ألسنتهم، وهنا قوم نستغيث الله بهم لا نشهدهم ولا على صرة بقل" أو نحوٍ مما قال -رَحِمَهُ اللهُ- لأنهم ليسوا بضابطين.
ثابت بن موسى الزاهد دخل على شريك وهو يقول: "حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سفيان عن جابر -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله قال: ..."؛ عند هذه الكلمة دخل ثابت بن موسى الزاهد؛ وكان ثابت رجلًا عابدًا، فقال شريك: "مَن كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار" كان يقصدُ ثابتًا بهذا الكلام، فثابت بن موسى لعدم فهمه وضبطه -رَحِمَهُ اللهُ- وليس الحديث من شأنه؛ ذهب يحدِّث، يقول: "حدثنا شريك بن عبد الله القاضي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سفيان عن طلحة بن نافع عن جابر أنَّ رسول الله قال: "مَن كثُرَتْ صلاتُهُ باللَّيلِ حسُنَ وجهُهُ بالنَّهارِ" ، وهذا الحديث رواه ابن ماجه، لكن بينوا أن الحديث في حكم الموضوع، ولكن ثابت لغفلته وعدم ضبطه لم يميزه وكثير هذا يقع، فربما يحضر إنسان مثلًا ليس من شأن أهل العلم ولا من الحديث درسًا في موعظة، يكون المدرس أو الشيخ يتكلم، عن مسألة من المسائل ويحث الناس على التقلُّل من الدنيا أو التقلل من الطعام ونحو ذلك، يقول: قال رسول الله : «حسْبُ ابنِ آدمَ أُكلاتٌ يُقمْنَ صلبَه» ، وقال الحارث بن كلدة: "المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء"؛ هذا الذي حضر يذهب يقول: قال الحارث بن كلدة: «حسْبُ ابنِ آدمَ أُكلاتٌ يُقمْنَ صلبَه»، ويقول: قال رسول الله : "المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء"؛ لا يُميِّز بين ما سمعه عن رسول الله وما سمعه عن فلان أو فلان.
قال بعضهم: "احترسوا من الحديث عن رسول الله ، فإنا نحضر مجلس كعب بن الأحبار وغيره فيحدثنا عن رسول الله ويحدثنا عن بني إسرائيل، فيقوم قوم فيبينون فسادها

فَقَيَّضَ اللهُ لَهَا نُقَّادَهَا .... فَبَيَّنُوا بِنَقْدِهِمْ فَسَادَهَا

يعني: ميزوا الصحيح من الضعيف ونخلوها نخلًا.
أحد رواته سمع حديثًا لفضائل القرآن: "من قرأ سورة البقرة فله كذا ومن قرأ سورة عمران فله كذا ومن قرأ سورة النساء...، إلى سورة الناس"، وهذا حديث موضوع عن أبي بن كعب، وحديث آخر عن ابن عباس، فحدثه إنسان فقال: من حدثك بهذا؟ قال: رجل بالمدائن، فذهب إليه، فقال: من حدثك؟ فقال: رجل في البصرة، فذهب إليه فقال: من حدثك؟ قال: رجل بواسط، فذهب إليه؛ انظر! يمشي يتتبع هذا الحديث، كل ذلك لأجل أن يستبرئ، فلمَّا ذهب إليه قال: من حدثك؟ قال: رجل بعبادان، فذهب إليه، فدخل عليه فإذا هو في دير أو في مكان هو رجل له من العبادة ونحو ذلك، فقال له: من حدثك بهذا الحديث؟ قال: لم يحدثني به أحد، إنَّما رأيت الناس إلى فقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق فاتخذت ذلك حسبة، مثل ما قال نوح ابن أبي مريم أبو عصمة المروزي، الذي كان يسمى بـ "الجامع" الذي جمع كل شيء إلا العلم! كما يقول ابن حبان.
المرتبة الثالثة: يضعها لجهله أنَّه محسن، وهذا طعنه في الشريعة، كأن الشريعة ليست تامة، فهو يتممها بهذه الأحاديث الموضوعة.
فهذا هو الموضوع، والموضوع لا يحل روايته إلا مع البيان، ولهذا لا يجوز للإنسان أن يذكر حديثًا عن رسولنا عن رسول الله وهو لا يدري، قال : «ومَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ، والحديث متواتر، لكن في بعض رواية الصحيحين: «مَن حَدَّثَ بحديثٍ، وهو يَرى أنَّه كَذِبٌ؛ فهو أحَدُ الكاذِبَيْنِ أو الكذَّابين» .
قال: (وَالثَّانِي: الْمَتْرُوكُ)، وهو المتهم أو صاحب التهمة، فهذا أيضًا كذلك مطرح الرواية.
والمتروك: هو الذي ينفرد برواية تخالف المعقول والمنقول وينفرد بها من الروايات المستنكرة، التي أهل العلم حينما يسمعونها ويرونها يدركون بفهمهم أنها ليست من حديث النبي ، كما قال الربيع بن خثيم: "إنَّ للحديث نورًا كنور النهار فيعرف به، وللكذب ظلمة كظلمة الليل ينكره"، فهذا هو المتروك.
قال: (وَالثَّالِثُ: الْمُنْكَرُ عَلَى رَأْيٍ)، وهو مَن فحش غلطه.
والرابع: من فحشت غفلته، والخامس: من به فسق.
قال عبد الرحمن بن مهدي -رَحِمَهُ اللهُ: "الرجال ثلاثة -يعني الرواة- فرجلٌ حديثه مردودٌ ولا يُختلف في ذلك"، وهو الذي لا يبالي بما روى، أو روايته منكرة ونحو ذلك.
قال: "ورجل غلب خطأه على صوابه"، وهذا أيضًا لا يقبل وليس بحجة. والأول لا يختلف في رده.
قال: "ورجل ثقة له خطأ" فهذا لا يرد حديثه"، يعني: حديثه يُقبَل ولكن يُنظَر فيما أخطأ فيه.
وهؤلاء الرواة الخمسة بهذه المرتبة، وترتيبهم بحسب شدة رد الرواية، ولهذا فإن الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ- فصَل هؤلاء الخمسة عمَّن بعدَ ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ الْوَهْمُ: إِنِ اطُّلِعَ عَلَيْهِ بِالْقَرَائِنِ، وَجَمْعِ الطُّرُقِ: فَالْمُعَلَّلُ)}.
الوهم: هو ذهابه إلى شيءٍ آخر، فهذا (إِنِ اطُّلِعَ عَلَيْهِ بِالْقَرَائِنِ، وَجَمْعِ الطُّرُقِ: فَالْمُعَلَّلُ)؛ هذا هو علم فنِّ الحديث الذي لا يُدركه إلا الذين غاصوا على هذه الأخبار وتتبعوا طرقها، ولهم طريقة في معرفة الأخبار، من الأئمة الكبار -رحمة الله عليهم- ممن سبق ذكرهم: الإمام أحمد، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني؛ إلى غير هؤلاء من الأئمة الكبار، ومَن يرى كتب العلل كيف يسوقون الأخبار ويقولون: روى فلان وفلان ثم بعد ذلك يبينون علته.
قال ابن مبارك -رَحِمَهُ اللهُ: "الخبر إذا لم تجمع طرقه لا يتبين خطأه"، وقال علي بن المديني: "اضرب حديث بعضه بعض -أي: بالطرق- حتى يتبين الغلط"، وهذا واضح.
الآن العلماء -رَحْمَةُ اللهُ عَلَيْهِم- كالدارقطني أنت حينما ترى كتابه في العلل، وابن أبي حاتم حينما يذكر عن أبيه وعن أبي زرعة؛ كيف يسوق الخبر، يقول: وسئل عن كذا...، ثم يسوقه، يقول: رواه فلان وفلان، يضع هذه الأخبار، والترمذي -رَحِمَهُ اللهُ- كذلك؛ فهذه طريقتهم، وكذلك البخاري وعبد الله عبد الرحمن الدارمي، حينما يسألهم فيذكر ويقول: رواه فلان وفلان، أحيانًا يحكم بضعفه، وأحيانًا يقول البخاري مثلًا: لعل قتادة روى عنهما جميعًا، وأحيانًا يضعف الخبر، ولهذا فإن مثل هذه العلل أهل العلم إمَّا أن يتفقوا على التعليل فهذا لا يُختلف في رده، ولا يأتي إنسان متأخر يقبله لأنه إجماع منهم، كل ألف لهم إجماع، فهم إذا أجمعوا على هذا الخبر وجب التسليم لهم، كما لو أجمع على اللغة وأهل الأصول وغيرهم على هذا، فأهل حديث كذلك، إذا اختلفوا في هذه الحالة فالبخاري قد يكون له قول، وأبو حاتم أبو زرعة كذلك.
ولهذا لَمَّا جاء رجل من خراسان وسمع أن أبا حاتم وأبو زرعة ومحمد بن مسلم بن عثمان بن وارة -رَحِمَهُم اللهُ- وكلهم حفاظ كبار، يقولون: هذا الحديث مكذوب، وهذا الحديث لا أصل له، وهذا الحديث باطل؛ فجاء إليهم وهو ليس له بصيرة بالحديث، فسأل أبا حاتم أو أبا زرعة -أحدهما- عن هذا الخبر، فقال: هذا الخبر لا يصح وهذا باطل وهذا موضوع وكذا، قال: لا من أدراك أنَّه موضوع ومن أدراك من وضعه؟ قال: لا أدري لكن تسألني أنا، ثم تسأل أبا زرعة، فإنَّ اتفقنا علمتَ أنَّا تكلمنا علم، وإنَّ اختلفنا علمت أنَّ لكل رأيه كما قال، فذهب بهذه الأحاديث إلى أبي زرعة، فقال في الحديث الذي قال فيه أبو حاتم: باطل؛ قال أبو زرعة: لا أصل له، والذي قال عنه باطل، قال أبو زرعة: لا يصح، وهكذا، والمعنى واحد، عند ذلك استسلمَ، فجاء إلى أبي حاتم، قال: أشهد أنَّ هذا العلم إلهام.
ولهذا يقول عبد الرحمن المهدي -رَحِمَهُ اللهُ: "علمنا عند الجهال كهانة"، حين يراه كيف يحكم على هذه الأخبار؛ لكن لميراسهم في الأخبار وتتبع الطرق يكون لهم نَفَس في مثل هذا، وليس المعنى أنَّهم مجرد يتكلمون كلامًا بدون نظر؛ لكن عن خبرة ومعرفة يدرك بمجرد ما يسمع الخبر أن الخبر لا يصح، أرأيت لو ذهبت إلى الصيرفي الذي يعرف البهرج من الصحيح والمغشوش من غير المغشوش؛ هذا إنسان له دربة ويعرف ما هو مغشوش وما هو صحيح ويعرف الذهب من الصفر، تأتيه وتسأله، فيأخذه بطريقة خاصة يقول: هذا صحيح، وهذا مغشوش، ما تسأله كيف ذلك؛ بل تسلم له.
ولهذا فإنَّ الأئمة هؤلاء -رَحْمَةُ اللهُ عَلَيْهِم- حين يسمعون الخبر ينكرون على مَن يقوله مباشرة، ويقول: اتق الله، هذا خبر لا يصح ذلك ويجزم بذلك، ويكون الأمر كذلك -رَحْمَةُ اللهُ عَلَيْهِم- فلهذا قيَّد الله -سبحانه وتعالى- لحفظ السنة هؤلاء الأئمة، وهذا العلم العظيم علم المصطلح، رأيتَ لو لم يؤخذ هذا العلم من كلام أهل العلم المتقدمين -رَحْمَةُ اللهُ عَلَيْهِم- ولم تدون كلماتهم وعباراتهم والتي هي كقواعد أخذها أهل العلم المتأخرون فدونوها، لو لم تدوَّن كيف يفعل الناس! كيف لو لم تُدوَّن مثل هذه العبارات! لكان فيه ضياع لشيء كثير من حفظ الأخبار في هذا، لكن الله -سبحانه وتعالى- بحكمته ورحمته قيد هؤلاء الأئمة بحفظ السنة، فوضعت هذه القواعد، ثم نرى طريقة أهل العلم في اختبار الأخبار وفي معرفة الرجال، والكلام يطول في هذا، يأتون إلى الرجل ويختبرونه اختبارًا تامًا حتى يعرفوا صحته، والقصص في هذا كثيرة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (إِنِ اطُّلِعَ عَلَيْهِ بِالْقَرَائِنِ، وَجَمْعِ الطُّرُقِ: فَالْمُعَلَّلُ)، المعلل جعلوه غير العلل الأخرى، هناك قال: (مُتَّصِلِ السَّنَدِ، غَيْرِ مُعَلَّلٍ وَلَا شَاذٍّ)، إذًا هناك علل أخرى مع الاتصال الظاهر ومع ذلك يكون في علة فيكون في انقطاع خفي، يكون فيه شذوذ، يكون إسنادًا ظاهر الصحة، لكن يتبين أنَّ فيه شذوذ في المتن أو السند، وهذا يتبين بتتبع الطرق.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ الْمُخَالَفَةُ: إِنْ كَانَتْ بِتَغْيِيرِ السِّيَاقِ: فَمُدْرَجُ الْإِسْنَادِ، أَوْ بِدَمْجِ مَوْقُوفٍ بِمَرْفُوعٍ: فَمُدْرَجُ الْمَتْنِ)، مثل ما تقدم، فالتعليل يميزه العلم حين يختلف الحديث هل هو موقوف؟ أو مرفوع؟ هل هو مرسل أو متصل؟ فبتتبع الطرق ومعرفته تتبين علته الحقيقية هل هو متصل أو منقطع؟ هل هو مرفوع أو موقوف؟
{العلة أحيانًا تكون في الإسناد وتكون في المتن}.
إذا كانت في الإسناد فهذا واضح، وتكون العلة أيضًا في نفس المتن من جهة ضعفه.
قال: (ثُمَّ الْمُخَالَفَةُ: إِنْ كَانَتْ بِتَغْيِيرِ السِّيَاقِ: فَمُدْرَجُ الْإِسْنَادِ)، أي: تغيير سياق الإسناد، الإسناد حين تراه لا يتبين لكنه متغير، أُدرج هذا الإسناد وفي الباطن علة، وهذا في الحقيقة يدخل في باب المعلَّل، ثم المخالفة، مثلًا: لو حديث روي بإسنادين، أو حديث روي بعضه بإسناد وآخره بإسناد، فيأتي الراوي مثلًا فيروي الحديث كله بإسناد واحد، وقد يكون المتن الثاني بإسناد ضعيف وأوله بإسناد صحيح، فيأتي الراوي فيرويه بالإسناد الصحيح ويذكر الروايتين؛ فأنت حين تراه تقول: إسناده جيد.
مثلًا: حديث عاصم بن كليب عن أبيه -وهو كليب بن منفعة- عن وائل بن حُجر في حديث طويل وفي آخره قال: "ثم جئت بعد ذلك في أيام الشتاء عليهم جل الثياب يحركون أيديهم من تحت الثياب في التكبير"، يعني وضعوا الثياب فكانوا يحرِّكون أيديهم من تحت الثياب، هذا الإسناد جيد، لكن تبين أن هذا المتن ليس بهذا السياق، وإنما فيه إدراج السند، أُدرِجَ إسناد في بإسناد، وإلا فإسناد هذه الزيادة هي من رواية عبد الجبار بن وائل عن بعض أهله عن وائل، وعبد الجبار لم يسمع، ثم عن بعض أهله، وكما عند أحمد وغيره برواية الثقات: أنَّه أُدرج إسناد في إسناد.
وقد يكون الإسنادُ صحيحًا، لكن حصل فيه إدراجٌ، مثلًا: إسماعيل بن جعفر روى عن حميد بن أبي حميد عن أنس بن مالك في قصة «فأمَرَهُمْ أنْ يَأْتُوا إبِلَ الصَّدَقَةِ، فَيَشْرَبُوا مِن أبْوَالِهَا وأَلْبَانِهَ» ، حُميد روى عن أنس «اشْرَبُوا ألْبَانَهَ» ، ولم يروِ عن أنس زيادة "الأبوال" إنما روى زيادة "الأبوال" عن قتادة عن أنس، إسماعيل بن جعفر -وهو ثقة- روى هذه الزيادة "الأبوال" عن حميد عن أنس -بدون ذكر قتادة- فأُدرِجَ إسنادٌ في إسناد، فأهل العلم تتبعوا هذا وبينوا أنَّ الصواب في رواية إسماعيل بن جعفر عن حميد بدون ذكر "الأبوال" بل هو "ألبانها"، أما زيادة "الأبوال" فمن رواية حميد عن قتادة عن أنس.
وقد يكون الإسناد المُغيَّر صحيحًا وقد يكون الإسنادُ المغيَّر ضعيفًا، لكن الشاهد أن الإدراج يشمل المُدرَج الذي يكون فيه ضعف، كأن يكون انقطاع أو إبهام، ويشمل المُدرَج الذي يكون له إسنادٌ آخر وهو إسنادٌ صحيحٌ مثلما تقدَّم "حميد عن قتادة عن أنس".
قال: (أَوْ بِدَمْجِ مَوْقُوفٍ بِمَرْفُوعٍ: فَمُدْرَجُ الْمَتْنِ)، الإدراجُ نوعان:
- إدراجُ إسناد.
- إدراج متن: يتعلق بمتن الحديث، ويكون:
* إدراج في أول الحديث.
* أو وسط الحديث.
* أو آخر الحديث وهو الأكثر.
أما الإدراج في أوله: مثل ما جاء في حديث أنَّه قال: «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» ، هذا في الصحيحين عن أبي هريرة وعن عبد الله بن عمرو، وعن عائشة عند مسلم.
في الحديث عن أبي هريرة: "أسْبِغُوا الوُضُوءَ، فإنَّ أبَا القَاسِمِ قالَ: «ويْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ»" ، في رواية الخطيب البغدادي جعل «أسْبِغُوا الوُضُوءَ» من قول النبي ، وهي في الصحيح: "أسْبِغُوا الوُضُوءَ، فإنَّ أبَا القَاسِمِ قالَ: «ويْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ»"، فهذا إدراج في المتن، مع أن كلمة «أسْبِغُو» ثابتة عن النبي في عدة أخبار، في حديث أبي هريرة، ولعله في حديث عبد الله بن عمرو، ولكن في خصوص هذا الخبر هي مدرجة.
ويكون الإدراج في الوسط: مثل ما رواه الدارقطني «مَنْ مَسَّ ذكرهُ فليتوضّ» ، وزاد الدارقطني «رفغَيه» ذكر "الأنثيين" مدرج من قول عروة، والحديث «مَنْ مَسَّ ذكرهُ» بدون ذكر "الأنثيين"، فتبين بالرواية الأخرى أنَّه من قول عروة وأُدرج.
أيضًا الإدراج يكون في آخر الحديث: كالحديث المشهور عند أبي داود وغيره «إِذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ قَضَيْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلاَتَكَ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ» ، وهذا مروي عن ابن مسعود مع أنَّه في ثبوته نظر، لكنه في آخر الحديث.
كذلك الحديث الذي ذكر فيه التَّحجيل، قوله : «إنَّ أُمَّتي يُدْعَوْنَ يَومَ القِيامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِن آثارِ الوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطاعَ مِنكُم أنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» هذا لكن هذا فيه خلاف في إدراجه، وإنَّ كان أكثر الحفاظ كالمنذري والحافظ ابن حجر وشيخ الإسلام على أنه مدرج، هو الصواب.
قال ابن القيم:
وإطالة الغرات لَيْسَ بممكن ... أبدا وَذَا فِي غَايَة التِّبْيَان
يعني إطالة الغرة في الوجه ليس ممكن أصلًا من جهات الإمكان، لأنه إذا أعطاه الغرة في الوجه غسل رأسه، لكن ف الرجلين هذا ممكن.
قال ابن القيم:

فَأَبُو هُرَيْرَة قَالَ ذَا من كيسه ... ..............

المقصود: أن الإدراج يكون في أول الخبر أو وسطه أو آخره، وأُلِّفَ في هذا عدة مصنفات للخطيب البغدادي، ثم بعد ذلك للحافظ ابن حجر، وجماعة من أهل العلم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (أَوْ بِتَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ: فَالْمَقْلُوبُ)، هذا يكون في المتن ويكون في الإسناد، وفي بعضها قد يقعُ فيه خلاف، بعضهم قال: مرة بن كعب، وبعضهم قال: كعب بن مرة؛ والأظهر أن هذا ليس من المقلوب، وإنما هذا مما وقع فيه الخلاف، هل اسمه كعب بن مرة أو مرة بن كعب.
أما المقلوب إذا كان قد عُلم اسمه وقُلِبَ.
ومما يُمثَّل له: مسلم بن الوليد، والوليد بن مسلم.
الوليد بن مسلم هذا معروف، ومسلم بن الوليد كذلك، وذكروا أن البخاري قال: الوليد بن مسلم، جعله مثل الوليد بن مسلم الشامي -رَحِمَهُ اللهُ-، واستدرك عليه ذلك أبو حاتم -رَحِمَهُ اللهُ-، فقد يقع القلب لأن هذا معروف اسمه، فقلبه البخاري -رَحِمَهُ اللهُ.
أما القلب في المتن: مثل الحديث المشهور لَمَّا قال: «حتَّى لا تَعْلَمَ يَمِينُهُ ما تُنْفِقُ شِمالُهُ» ، وهذا قلب، والحديث في الصحيحين: «حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ» .
وكذلك حديث: «وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ، فَيُلْقَوْنَ فِيهَ» ، والصواب: «وأَمَّا الجَنَّةُ فإنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُنْشِئُ لها خَلْقً» ، وهذا يتبين من جهة الروايات، ومن جهة القواعد والأدلة الأخرى في هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (أَوْ بِزِيَادَةِ رَاوٍ: فَالْمَزِيدُ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ، أَوْ بِإِبْدَالِهِ وَلَا مُرَجِّحَ: فَالْمُضْطَّرِبُ.
وَقَدْ يَقَعُ الْإِبْدَالُ عَمْدًا امْتِحَانً)
}.
قوله: (أَوْ بِزِيَادَةِ رَاوٍ: فَالْمَزِيدُ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ)، هو -رَحِمَهُ اللهُ- جمع المخالفة وقسمها، لأنه ذكر أن المخالفة من أسباب الطعن.
ومتصل الأسانيد هذا الحقيقة وقع فيه خلاف في تعريفه، لكن الذي يتبين منه أنَّه لابد أن يكون هناك برهان على أن هذا من المزيد المتصل الأسانيد، وإلا قد يكون كلا الروايتين صحيح، سمع الحديث مرة بواسطة، ثم بعد ذلك أدرك شيخ شيخه فسمع منه.
من أشهر الأخبار في هذا الباب: ما رواه عبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن بسر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني عن واثلة بن الأسقع، قال: حدثني أبو مرثد الغنوي -وهو كناز بن الحصين- أن رسول الله قال: «لا تَجْلِسُوا علَى القُبُورِ، ولا تُصَلُّوا إلَيْه» ، والحديث في صحيح مسلم، هذا قيل فيه زيادتان في موضعين، والصواب سقوط الزيادة.
- قيل فيه زيادة بين ابن مبارك وعبد الرحمن بن يزيد، وهو سفيان الثوري.
- وزيادة بين بسر بن عبيد الله وواثلة بن الأسقع، وهو أبو إدريس الخولاني.
أمَّا الزيادة الأولى: فقيل إنها خطأ ممن دون ابن المبارك، فالحديث روي من طرق وقد أخرجه مسلم وجماعة برواية ابن المبارك عن عبد الرحمن بن يزيد، دون واسطة سفيان الثوري، وقد صرَّح بالسماع في هذا. فلهذا قالوا: إنَّ زيادة "سفيان" هنا خطأ.
كذلك زيادة أبي إدريس بين بسر بن عبيد الله وواثلة بن الأسقع؛ لأنَّ بُسر بن عبيد الله روى عن واثلة، وأبو إدريس قد يروي عن واثلة لكن صرح بسر بن عبيد الله بسماعه من واثلة، وتبيَّن بالرواية الأخرى أن زيادة "أبي إدريس" أنها خطأ، وقد جاء عند مسلم وغيره أيضًا برواية بسر بن عبيد الله عن واثلة عن أبي مرثد الغنوي، فهم يشترطون في هذا شرطين:
الشرط الأول: أن يصرح بالسماع في موضع الزيادة، مثل: الزيادة بين ابن المبارك وعبد الرحمن بن يزيد، لا بد أن يصرح ابن المبارك بالسماع من عبد الرحمن بن يزيد.
الشرط الثاني: أن يكون الذين أسقطوا الزيادة أكثر وأوثق ممن زادها مع التصريح.
وهذا متوفر في كلتا الزيادتين في هذا الخبر: في الزيادة الأولى بزيادة سفيان الثوري، وفي زيادة الثانية بزيادة أبي إدريس الخولاني أيضًا، فبهذا يحكم بأنها زيادة في الإسناد.
لكن إذا لم يصرح بالسماع بين هذين الراويين، مثلًا: لم يصرح بالسماع ما بين سفيان الثوري وعبد الرحمن بن يزيد، قال: عن عبد الرحمن بن يزيد؛ إذا لم يصرح بالسماع فالزيادة يحكم بها.
أو كان الذي زادها ثقة مثلًا أو أوثق أو أكثر؛ فيقال: لا يمتنع أن يكون بسر بن عبيد الله سمع الحديث من أبي إدريس أولًا، ثم أدرك واثلة فسمع منه.
وكذلك ابن المبارك سمع الحديث من الثوري، ثم بعد ذلك سمعه من عبد الرحمن بن يزيد، وعلى هذا يكون التفصيل في مسألة المزيد في متصل الأسانيد.
قال: (أَوْ بِإِبْدَالِهِ وَلَا مُرَجِّحَ: فَالْمُضْطَّرِبُ)، هذا إبدال الراوي الشيخَ، وهذا من باب إضافة المصدر إلى فاعله، فالضمير هنا الذي في موضع الجر هو في الحقيقة فاعل، فالمصدر قد يضاف أحيانًا إلى الفعل وقد يضاف إلى الفاعل وقد يضاف إلى المفعول.
فقوله: (إبداله)، أي: الراوي الشيخ.
قوله: (وَقَدْ يَقَعُ الْإِبْدَالُ عَمْدًا امْتِحَانً)، وهذا لعله يأتي إن شاء الله في درس آتٍ، أسأله سبحانه وتعالى لي ولكم التوفيق سداد والعلم النافع بمنِّه وكرمه. آمين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما قدمتم، والشكر موصول لكم أعزاءنا المشاهدين، إلى أن نلتقي في مجلس قادم، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ