الدرس السابع

فضيلة الشيخ عبدالمحسن بن عبدالله الزامل

إحصائية السلسلة

11587 9
الدرس السابع

نخبة الفكر

{الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛ فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلًا ومرحبًا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقة جديدة من حلقات شرح (نخبة الفكر) للحافظ الإمام ابن حجر رحمة الله عليه، يقوم بشرحه فضيلة شيخنا/ عبد المحسن بن عبد الله الزامل- حفظه الله تعالى- حياكم الله فضيلة الشيخ}.
الله يحييكم يا شيخ خالد، ومرحبًا بجميع إخواني، أسأل الله- سبحانه وتعالى- أن يبارك في هذا المجلس بمنِّه وكرمه.
{نستأذنكم في أن نبدأ.
قال الحافظ ابن حجر -رحمة الله عليه: (ثُمَّ الْبِدْعَةُ: إِمَّا بِمُكَفِّرٍ، أَوْ بِمُفَسِّقٍ.
فَالْأَوَّلُ: لَا يَقْبَلُ صَاحِبَهَا الْجُمْهُورُ. وَالثَّانِي: يُقْبَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً فِي الْأَصَّحِ، إلَّا أنْ يَرْوِيَ مَا يُقوِّي بِدْعَتَهُ فَيُرَدُّ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْجَوْزَجَانِيُّ شَيْخُ النَّسَائِيِّ)
}.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
تقدَّم الكلام على صدرِ هذه الكلمة، أي: مسألة البدعة، وأنَّ فيها خلاف في مسألة قبول الراوي، وكذلك قوله: (إِمَّا بِمُكَفِّرٍ)، وأنَّ الشيء قد يكون كفرًا ولا يَكفر صاحبه، ولهذا قوله: (إِمَّا بِمُكَفِّرٍ) يعني: نفس الفعل قد يكفر به، لكن نفس الشخص لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة، التي تقوم على أمثاله.
قال: (أَوْ بِمُفَسِّقٍ. فَالْأَوَّلُ: لَا يَقْبَلُ صَاحِبَهَا الْجُمْهُورُ. وَالثَّانِي: يُقْبَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً فِي الْأَصَّحِ)، هذا أحد المذاهب في هذه المسألة، وهو المبتدع الذي يَفسُق ببدعته، والفسق هنا من جهة الاعتقاد، فهذا أحد المذاهب فيمن لم يكن داعية إلى بدعته
- فمنهم من ردَّه مُطلقًا.
- ومنهم من قَبِلَه مُطلقًا.
- ومنهم فصَّل، فقال: يُقبل إذا روى ما يقوي بدعته.
قال: (إلَّا أنْ يَرْوِيَ مَا يُقوِّي بِدْعَتَهُ فَيُرَدُّ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْجَوْزَجَانِيُّ شَيْخُ النَّسَائِيِّ)، وهذا في الحقيقة بالنظر إليه، تجد أنه على خلاف العمل الذي جرى عليه كثير من أهل التصنيف من الأئمة في الحديث -رحمة الله عليهم.
ولهذا فإنَّ الصواب: أن المبتدع إذا كان صادق اللهجة، وعُرف ذلك منه؛ فإنَّ حديثه يقبل، سواء كان داعية إلى بدعته أو لم يكن داعية، وهذا الذي ينضبط، ومَن رأى تصرف أصحاب الصَّحيح عرف أنهم على هذا الباب، فهم رووا عن أناس ممن هم رأس البدعة في الخوارج، كالبخاري روى عن عمران بن حطان السدوسي، وكذلك الإمام مسلم روى عن عدي بن ثابت، وعن عبد الحميد، فرووا عن جماعة ممن رموا بالبدعة في الإرجاء وغيرها، وبعضهم قد يكونون دعاة في هذا.
إذًا؛ المدار على صدق اللهجة، وروى البخاري عن عباد بن يعقوب الرواجني، وحريز بن عثمان، وكان أيضًا يميل إلى النَّصبِ ونحو ذلك، وأشياء بعضها ثابت وبعضها لا يثبت، لكن الأصح أنَّ المدار على الصدق، وقد روى مسلم من حديث عدي بن ثابت حديثًا من رواية علي -رضي الله عنه- أنه قال: «إنَّه لَعَهْدُ النبيِّ الأُمِّيِّ إلَيَّ: أنْ لا يُحِبَّنِي إلَّا مُؤْمِنٌ، ولا يُبْغِضَنِي إلَّا مُنافِقٌ» ، وعدي بن ثابت هذا أيضًا من الشِّيعة، لكنه من الشيعة المتقدمين، والتشيع القديم هو الذي فيه تفضيل علي بن أبي طالب على عثمان، وقد يغلو بعضهم فيه كشيءٍ من التشيع، لكن من كان صادق اللهجة؛ فإنه يُقبل مثل: عباد بن يعقوب الرواجني، مع أنَّ هذا وأمثاله -ممن يكون فيه غلو- لا يروى عنه شيء استقل به، إمَّا أن يكون مقرونًا أو يكون في باب الشواهد، وهذا هو الذي جرى عليه عملهم، وهذا هو مذهب علي بن المديني، ومذهب أبي داود، في أنه لا فرق بين من كان داعية لبدعته، ومن لم يكن داعية.
{يعني: يشترط أن يكون صادقًا وضابطًا لِمَا يروي، فإذا تحقق هذان الشرطان تقبل روايته حتى لو كان داعية}.
نعم، كالشروط التي في غيره، والمقصود: صدق اللهجة، أمَّا الضبط فقد يختلف، قد يكون ضبط كتابة قد يكون ضبط صدر.
ولهذا كان ابن خزيم يقول: "حدثنا المتهم في دينه، الصادق في لهجته، عباد بن يعقوب الرواجني".
وقال على بن المديني: "إذا تركنا أهل البصرة لحال القدر، وتركنا الكوفة لحال التشيع القديم، وفلانًا للإرجاء؛ فعمَّن نروي؟!". وهكذا قال غيره نحوًا من هذا الكلام.
فلهذا كان الأظهر -والله أعلم: هو القبول مُطلقًا، ما دام أنه لا يجرب عليه الكذب، إذ هذا هو مدار قبول الرواية.
والْجَوْزَجَانِيُّ: هو إبراهيم بن يعقوب شيخ النسائي، توفي عام تسعة وخمسين ومئتين.
{أحسن الله إليك، عندما ننظر في تراجم الرواة، نجد جملة من الرواة، أي: ليس بالعدد القليل، وكثير منهم ثقات، يقولون: ثقة رُمي بالإرجاء، رمي بالقدر، رُميَ بالتشيع، أو كان يرى السيف}.
نعم، هذا يقع في كلام الحافظ، وكلمة "رُمي" بعضها يحتاج إلى تحقق وتثبت لأنَّ كثيرًا ممن قال رُمي: لا يثبت عنه، إذا ثبت عنه هذا الشيء؛ فيُنظر في طريقة الرواية.
والعلماء الحفاظ الأئمة تثبتوا في باب الرواية، ولهذا عند البحث ترى أنهم تثبتوا في روايته، أو أنَّ من رووا عنه لم يعتمدوا عليه، أو قارنوه إلى غير ذلك مما يكون أخذًا بالحزم في الرواية عنه.
{أحسن الله إليك، مثل الأئمة الكبار كالبخاري ومسلم عندما يروون عن أمثال هؤلاء الذين يُرمون ببعض البدع، فهل يقال: إنهم لا يلجئون إليهم إلا عندما لم يجدوا إلا الرواية التي توجد عندهم، فلو وجدوا ثقة مثله أو أوثق بها اكتفوا بالرواية عنه؟}.
لا، إذا قيل إنه روى له مقرون أو نحو ذلك أو روى متابعة وهذه طريقه؛ انتهى منه، لكن قد يكون لسبب من الأسباب، كأن يختار هذا السند لعلوه، أو لنكت إسناده ونحو ذلك، أو لتصريح في التحديث، وإن كان نفس السند ليس في التدليس لكن يُصرح بشيخ؛ فقد يكون من هذه الأسباب.
{أحسن الله إليك.
قال: (ثُمَّ سُوءُ الْحِفْظِ: إِنْ كَانَ لَازِمًا فَهُوَ الشَّاذُّ عَلَى رَأْيٍ، أَوْ طَارِئًا فَالْمُخْتَلِطُ)}.
المراد بسوء الحفظ: مَن كان يُحدِّثُ من حفظه، وليس المراد من يحدث من كتابه، قد يكون إنسانًا ليس بحافظ لكن يُحدِّث من كتابه، فهنا لا يؤثر سوء الحفظ، وما دام هو ضابط ويُحدث من كتابه فلا يضر.
أمَّا إذا كان يحدِّث من حفظه: (إِنْ كَانَ لَازِمً)، يعني: حفظه في الأصل فيه ضعف، وليس المراد بسوء الحفظ هنا أنَّ غلطه يغلب، لا؛ بل المراد أنه يغلط وصوابه أكثر، لكن سوء الحفظ يُطلق على مَن كان له غلط، وغلطه قليلٌ بالنسبة لصوابه.
قوله: (إِنْ كَانَ لَازِمًا فَهُوَ الشَّاذُّ عَلَى رَأْيٍ)، مثل ما تقدم، بعض أهل العلم قالوا: إنه شاذ، لكن على كل حال إذا كان سيئ الحفظ فلابد له من متابعٍ له؛ لأنه في هذه الحالة إذا تُوبع لا يكون شاذًّا، وهذا مما يضعف القول بأنه شاذ؛ لأن الشُّذوذ هو التَّفرد، وهم قالوا: يتابع؛ فإذا كان يتابع فلا يكون شاذًّا بهذا.
قال: (أَوْ طَارِئً)، يعني: هو ضابطٌ وحافظ ولكن طرأ عليه (فَالْمُخْتَلِطُ)، والمختلط له أحكام كثيرة:
- المختلط إذا مُيِّز حديثه الذي رواه قبل الاختلاط عن الذي رواه بعد الاختلاط فإنَّه يُقبل ما كان قبل الاختلاط.
- من روى عنه قبل الاختلاط وبعد الاختلاط وأشكل الأمر؛ فلا تقبل روايته.
وسيأتي ذكر من يتابَع مِن هؤلاء.
والاختلاط لها أسباب كثيرة:
* قد يكون كبار السن، ولا يكون بمجرد التغير، فالتغير اليسير هذا لا يؤثر، إنما اختلطَ، ومبادئ التَّغيُّر لا تُؤثر، فما من إنسان إلا قد يضعف حفظه.
* وقد يكون لأمرٍ، كأن حصلت له فاجعة سببت له اختلاطًا.
فلهذا قالوا: إنَّ روايته في عداد المردود.
{أحسن الله إليكم.
قال: (وَمَتَى تُوبِعَ سَيْئُّ الْحِفْظِ بِمُعْتَبَرٍ، وَكَذَا الْمَسْتُورُ، وَالْمُرْسَلُ، وَالْمُدلَّسُ: صَارَ حَدِيثُهُمْ حَسَنًا لَا لِذَاتِهِ، بَلْ بِالْمَجْمُوعِ)}.
هذا مما يُبين أنَّ هؤلاء مما يعتبر حديثهم، سيء الحفظ اعتبر بمعتبر، والمعتبر بأن يكون سيء الحفظ مثله أو فوقه، لكن إذا كان فوقه، وكان هذا الراوي ليس بسيء الحفظ، ويصل إلى درجة الحسن؛ ففي هذه الحال يكون الحديث حسنًا بهذا المتابِع، ويكون المتابِع حسنٌ لغيره، والمتابَع حسنًا لذاته، أما إذا كان كلاهما سيئ الحفظ فإن الحديث بمجموع الطريقين حسن لغيره، أي: قوَّى كل منهما الآخر.
قال: (وَكَذَا الْمَسْتُورُ)، وهو مخرج مسألة مجهول العين، والمستور -على الأكثر- أنه هو مجهول حال.
ومنهم من قال: مجهول الحال غير المستور، والمستور: هو الذي بُخِسَ شيئًا من أحواله وإن لم يوثَّق، كأنه أرفع من مجهول الحال، يعني: روى عنه إمام واحد، وعرفنا أحواله، عرفنا حرفته، عرفنا عمله، عرفنا عنه بعض الشيء؛ فهذا مستور، وإن لم يُعرف عنه شيء فهو مجهول الحال.
وهذا ما يبيِّن لك أن هذا التفريق في الحقيقة موضع نظر؛ لأنَّ المدار على التَّوثيق، وكونك عرفت عنه بعض الشيء لا يكفي، قد تعرف عنه بعض الشيء لكن يبقى المآل إلى أنه لم يأتِ مدار القبول وهو الثقة أو كونه معدَّل.
قال: (وَكَذَا الْمَسْتُورُ)، كذلك الحديث المرسل لابد له من متابِع، والمتابع قد يكون مرسلًا مخرجه آخر، أو جاء من طريق آخر.
واختُلف في أبواب المتابعات: هل يحصل الاعتبار بمجهول العين؟
هو قال: (الْمَسْتُورُ) ولم يذكر مجهول العين، فظاهر كلامه أنه لا يعتبر به، وكذلك المبهم ظاهر كلامه أنه لا يعتبر به، مع أن ظاهر فعل الحافظ وغيره من أهل الحديث أنهم يعتبرون بالمجهول، حتى مجهول العين، بل ما هو أعظم وهو المبهم، الحافظ أحيانًا في بعض الأخبار يذكر حديثًا مرسلًا، ويقول: "وجاء من وفيه مبهمٌ، أو اعتضد بطريق فلان وفيه مبهم"، كثيرًا ما يقع هذا في كلامه؛ لكن التقعيد غير التطبيق، وهذا جرى عليه عمل كثير، خاصة إذا كان الحديث رُوي من أكثر من طريق.
وبعضهم قال: المجهول هذا ما ندري ما هو، المجهول هذا لا يُعرف أصلًا ما هو؟ قد يكون هذا المجهول كذابًا، قد يكون كذا وكذا؛ فلهذا لا يُعتبر به.
لكن إن كثرت الطرق فهذا يُعطي طمأنينة أنَّ الحديث تقوَّى بهذه الطرق.
قال: (وَالْمُدلَّسُ)، أو "المُدلِّس" وهو مَن دلَّسه، فإذا توبع المدلَّس أو المدلِّس من طريق آخر مثله، أو من طريق في سيء حفظ؛ ففي هذه الحالة يدل على حديث محفوظ، غايةُ سيئ الحفظ أنه لم يَحفظ، نحن لسنا على يقين أنه حفظ، لكن جاء من طريق آخر نفس الحديث، فكونُ هذا رَوى مثلَ ما روى هذا؛ فهذا مما يدل على أن الحديث محفوظ، أنت لو حدثك إنسان وتعرف أنه ليس بضابط، يُخطئ ويغلط، لكنه أكثر أحاديثه يصيب فيها، لكن إذا حدثك ما تطمئن إليه، فإذا جاءك شخص آخر مثله ليس بينهما توافق ولا اتفاق ولا شيء، ثم حدَّثك بنفس الحادثة، ولا يعرف أحدهما الآخر، وحدثك بنفس الواقعة؛ فهنا تطمئن إلى أنَّ الخبر صحيح.
قال: (صَارَ حَدِيثُهُمْ حَسَنًا لَا لِذَاتِهِ، بَلْ بِالْمَجْمُوعِ)؛ لأنه ما يحتاج إلى متابع بل بمجموع الطريقين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ الْإِسْنَادُ: إِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسِلَّمَ-، تَصْرِيحًا، أَوْ حُكْمًا: مِنْ قَوْلِهِ، أَوْ فِعْلِهِ، أَوْ تَقْرِيرِهِ)}.
لَمَّا فرغ- رحمه الله- مما يتعلق بالمتن؛ شرع من جهة ما يتعلق بالإسناد.
قال: (ثُمَّ الْإِسْنَادُ: إِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسِلَّمَ-، تَصْرِيحً)، يعني: "قال رسول الله : «إنَّما الأعْمالُ بالنِّيّاتِ» "، هذا من قوله صريح، وكحديث: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أحَدِكُمْ إذا أحْدَثَ حتَّى يَتَوَضَّ» ، وقوله: «المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ» ، وقوله: «كُنْ في الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ» ، أحاديث فيها التصريح بقوله.
قوله: (أَوْ فِعْلِهِ)، يعني: التصريح من فعله، مثل قول جابر: «أنَّ رَسولَ اللهِ رَمَلَ الثَّلَاثَةَ أَطْوَافٍ، مِنَ الحَجَرِ إلى الحَجَرِ» ، فهذا من فعله .
قال: (أَوْ تَقْرِيرِهِ)، كقول أنس -رضي الله عنه: «كان عُمرُ يَضرِبُ الأيدي على صلاةٍ بعد العصرِ، وكنَّا نُصلِّي على عهد النبيِّ ركعتينِ بعد غروبِ الشمسِ، قبل صلاةِ المغربِ، فقلت له: أكان رسولُ اللهِ صلَّاهما؟ قال: كان يرانا نُصلِّيهما، فلم يَأمُرْنا ولم يَنهَن» أو كما قال -رضي الله عنه-، فهذا تقرير.
فهذا تصريح من قوله أو فعله وتقريره
قال: (أَوْ حُكْمً) كذلك من قوله، وهو قول الصحابي الذي لم يُعرف بالأخذ عن أهل الكتاب، فإذا قال الصحابي قولًا من أمور الغيب أو ثواب فيه عدد؛ نعلم أنَّ مثل هذا لا يقوله الصحابي من كيسه، ومثله قول سلمان -رضي الله عنه- قد يكون من هذا -والله أعلم فيما أظن- ولا أذكر النص عليه من هذا الباب؛ لكن فيما يظهر: قول سلمان -رضي الله عنه: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ بأَرْضٍ قيٍّ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ صَلاَةٍ، فَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلاَ إِقَامَةٍ، صَلَّى وَحْدَهُ، فَإِنْ صَلَّى بِإِقَامَةٍ، صَلَّى بِصَلاَتِهِ مَلَكَاهُ، وإنْ صَلَّى بِأَذَانٍ وإقَامَةٍ صَلَّى خَلْفَهُ صَفٌّ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، أَوَّلُهُمْ بِالْمَشْرِقِ وَآخِرُهُمْ بِالْمَغْرِبِ» ، هذا لا شك أنه أمرٌ من أمور الغيب، ولا يقال من جهة الرأي، وصحَّ الإسناد إلى سلمان بهذا، ورواه ابن مبارك، يقول: "حدثنا سليمان بن طرخان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان -رضي الله عنه" في كتاب الزهد، ورواه ابن أبي شيبة، قال: "حدثنا معتمر بن سليمان بن طرخان حدثني أبي عن أبي عثمان النهدي"، لكن عبد الرزاق فيما يظهر أنه وقع له وهم، فرواه عبد الرزاق عن معتمر بن سليمان، فقال- رحمه الله: "قال رسول الله ورفعه: «فَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلاَ إِقَامَةٍ، صَلَّى وَحْدَهُ، فَإِنْ صَلَّى بِإِقَامَةٍ، صَلَّى بِصَلاَتِهِ مَلَكَاهُ، وإنْ صَلَّى بِأَذَانٍ وإقَامَةٍ صَلَّى خَلْفَهُ صَفٌّ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، أَوَّلُهُمْ بِالْمَشْرِقِ وَآخِرُهُمْ بِالْمَغْرِبِ» "، فوقع له وهم فيما يظهر في رفعه، ووهمٌ في كونه جعل الإقامة وحدها والآذان وحده، والصواب: أن الحديث: «وإن أذَّن و أقام، صلَّى خلفَه من جنودِ اللهِ ما لا يُرى طرفاه»، وعبد الرزاق حصل له بعض التغير، وابن الشيبة أتقنُ منه، ورواه على غير ما روى، ويدل عليه أن ابن مبارك -وهو أرفع- رواه عن نفس سليمان بن طرخان موقوفًا على سلمان -رضي الله عنه. فهذا مما لا يكون بالرأي حكمًا.
وكذلك قول أبي سعيد الخدري: «مَن توضأَ فقال: سبحانك اللَّهمَّ وبحمدِك أشهدُ أن لا إلهَ إلا أنت أستغفرُك وأتوبُ إليك، كُتِبَ في رقٍّ ثم طُبِعَ بطابعٍ، فلم يُكْسَرْ إلى يومِ القيامةِ» ، رواه النسائي في "عمل يوم وليلة" بإسناد صحيح، جاء مرفوعًا موقوفًا، مرفوعًا صريحًا لكنه موقوفٌ عليه، فهو مرفوعٌ حكمًا.
أيضا قد يأتي الحديث حكمًا من فعله: بأن يفعل الصحابي شيئا مما يقال إنه يعمل بالرأي، وهذا ذكر فيه الشافعي- رحمه الله- أثرًا عن علي -رضي الله عنه: " أنه صلى الكسوف أو الخسوف بثلاث ركعات" ونحو ذلك، هذا ذكره الشافعي وقال: "هذا لا يفعله على من قِبَل رأيه"، مع أنه جاءت روايات في هذا، لكن الصواب فيها أنها وهمٌ وأن الصواب أنه صلى ركوعان في كل ركعة.
{مثل أيضًا حديث أبي سعيد الخدري: «مَنْ قَرَأَ سُورَة الكَافِرُونَ...»}.
هذا فيه خلاف، وإن كان صوَّبه بعض العلماء، وبعضهم تكلم فيه، لكن المعوَّل عليه هو أن لا يكون من قبل الرأي، وألا يكون الصحابي يأخذ عن أهله الكتاب.
{أحسن الله إليك، مَن أشهر الصحابة الذين أخذوا عن أهل الكتاب؟}.
عبد الله بن عمرو بن العاص، وهذا له كان له "الصادقة".
{أحسن الله إليك.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (أَوْ إِلَى الصَّحَابِيِّ كَذَلِكَ وَهُوَ: مَنْ لَقِيَ النَّبيَّ -صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- مُؤْمِنًا بِهِ، وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَوْ تَخَلَّلَتْ رِدَّةٌ فِي الْأَصَحِّ.
أَوْ إِلَى التَّاَّبِعِيِّ: وَهُوَ مَنْ لَقِيَ الصَّحَابِيَّ كَذَلِكَ)
}.
الإسناد إمَّا أن ينتهي إلى النبي أو إلى الصحابي.
وقوله: (كَذَلِكَ)، يعني على ما تقدَّم، ينتهي إلى الصحابي -رضي الله عنه- من قوله أو فعله أو تقريره، تصريحًا أو حكمًا كما تقدم، وتقدَّم التمثيل على قول الصحابي.
قال: (وَهُوَ: مَنْ لَقِيَ النَّبيَّ)، الصحابي من لقي النبي، ولهذا كلمة الحافظ فيها احتياط ما قال: "من رأى"، قال: (مَنْ لَقِيَ النَّبيَّ -صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ).
قوله: (مُؤْمِنًا بِهِ)، شرط ذلك أن يكون مؤمنًا به، فلو لقيه كافرًا ثم آمنَ بعد ذلك، فلا يدخل في الصحبة، ولو لقيه قبل بعثته ثم آمن بعد ذلك فكذلك أيضًا، وذكروا رجلًا يقال سعيد بن حوية لقيه في الجاهلية ثم أسلم بعد ذلك.
وذكروا أيضًا التَّنوخ -رسول النجاشي- لقي النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو كافر، وآمن بعد وفاة النبي ، وحديثه موجود في مسند أحمد مطول، ذكر قصته لما لقي النبي في تبوك والنبي دعاه إلى الإسلام، وأنه يعني لم يجب، وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: 56]، ثم آمن بعد ذلك وكان يُحدِّث بهذا عن النبي ، فقيل: إن هذا فيه إشكال! وإذا ثبتَ هذا فيقال: هو تابعي حديثه حكم حديث الصحابي، لكن الحديث فيه كلام، وهو في مسند أحمد.
قال: (مَنْ لَقِيَ النَّبيَّ -صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- مُؤْمِنًا بِهِ)، إذًا شرط لقيا النبي أن يكون مؤمنًا، فلو لقيه غير مؤمن ثم آمن -كما تقدم- فلا يكون صحابيًا.
قال: (وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ)، فلو لقيه مؤمن ثم -والعياذ بالله- ارتد، مثل: ابن خطل، وربيعة بن أمية بن خلف، وعبيد الله بن جحش، لكن الصحيح أنَّ عبيد الله بن جحش لا تصح قصته.
قال: (وَلَوْ تَخَلَّلَتْ رِدَّةٌ)، وهذا رُوي عن الأشعث بن قيس، وقصته رواها الطبراني، ويُنظَر في ثبوتها، ولكن جاء في قصته: أن أبا بكر -رضي الله عنه- زوَّجه أخته وحسُن إسلامه، وكان قد حصل ما حصل على ما روي، وعُدَّ في الصحابة وروايته في الصحيحين -رضي الله عنه.
{لكن هل ثبتت ردته؟}.
هذه تحتاج إلى مراجعة، فهي عند الطبراني وغيره، لكن في الحكاية ما يدل على أنها مشهورة.
قال: (وَلَوْ تَخَلَّلَتْ رِدَّةٌ فِي الْأَصَحِّ)، إشارة إلى الخلاف في هذا.
قال: (أَوْ إِلَى التَّاَّبِعِيِّ)، وهو: من لقي الصحابي كذلك، التابعي أيضًا يشترط فيه كذلك، وظاهر كلامه أنه لابد أن يلقى الصحابي مؤمنًا، والصحيح أنه لا يشترط في التابعي أن يكون لقي الصحابي مؤمنًا، فلو لقي نصراني صحابيًا، ثم بعد ذلك مات الصحابي ولم يلقَ ذلك النصراني أي صحابي، ثم أسلم؛ فالصحيح أنه له حكم التابعي، وإنما اشتُرط أن يلقى النبي مؤمنًا في الصحابي لشرف الصُّحبة، فشرف الصحبة ليس كشرف غيرها، أما التَّابعي فإنه يكون تابعيًا ولو لقيه غير مؤمن إذا أسلم بعد ذلك.
كذلك ولو لقي التابعيُّ الصحابيَّ وهو صغير فهو تابعي ولو غيرَ مميِّز، ويدخل فيه أيضًا لو لقي غيرُ مميز النبيَّ فهو صحابي، ولو كان صغيرًا كمحمد بن أبي بكر، وعبد الله بن أبي طلحة، وعبد الله بن حارث بن نوفل، وأبي إمامة بن سهل بن حنيف، عبيد الله بن عدي بن خيار؛ كل هؤلاء صغار، وأكثرهم دون التَّمييز، لَمَّا لقوا النبي عُدُّوا في الصُّحبة، لكن روايتهم تعتبر من باب رواية كبار مراسيل التابعين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَالْأَوَّلُ: الْمَرْفُوعُ، وَالثَّانِي: الْمَوْقُوفُ، وَالثَّالِثُ: الْمَقْطُوعُ، وَمَنْ دُونَ التَّابِعِيِّ فِيهِ مِثْلُهُ، وَيُقَالُ لِلأَخِيرَيْنِ: الْأَثَرُ)}.
قوله: (فَالْأَوَّلُ: الْمَرْفُوعُ)، وهو: ما ينتهي إلى النبي .
قال: (وَالثَّانِي: الْمَوْقُوفُ)، وهو الذي ينتهي إلى واحد من الصحابة -رضي الله عنهم.
قال: (وَالثَّالِثُ: الْمَقْطُوعُ)، وهو الذي ينتهي إلى التابعي.
ومن دون التابعي من أتباع الأتباع أيضًا يُقال له: مقطوع.
هذه الأسماء اصطلح عليها العلماء، فجعلوا المرفوع أعلى هذه الأقسام، وهو المرفوع للنبي ، فسمي مرفوعًا بهذا الاسم، ولا شك أنَّ هذه التسمية توحي بأن هذا الشيء أرفع من غيره، وهو ما كان مِن قول النبي أو فِعله أو تقريره.
الثاني: الموقوف هذا اصطلاحًا هو الموقوف على الصحابي.
فإذا قيل: "موقوف" فالمعنى أنه من قول الصحابي عند الإطلاق، لكن لا بأس عند التقييد أن يُقال: "موقوف على مجاهد، موقوف على سعيد، موقوف على قتادة، موقوف على الأوزاعي، موقوف على مالك، وهكذا..."، فإذا قُيِّد لا بأس.
الثالث: المقطوع، وهو الذي قُطِعَ دون الصحابي، وهو قول التابعي، وهو اصطلاح يتعلق بالمتن، وهذا بخلاف المنقطع، فالمنقطع: هو اصطلاح يتعلق بالسند.
المقطوع من أسماء الكلام المنقول عن التابعين، أو المنقطع فهو ما يكون فيه انقطاع بين الراوي وشيخه.
قوله: (وَمَنْ دُونَ التَّابِعِيِّ فِيهِ مِثْلُهُ)، يعني الكلام الذي يكون من التابعي يُقال له: "مقطوع".
قوله: (وَيُقَالُ لِلأَخِيرَيْنِ)، أي: الموقوف والمقطوع.
قوله: (الْأَثَرُ)، تقدمت الإشارة إلى مسألة الأثر والخبر والحديث وما بينهما من العموم والخصوص.
ثم ذكر اصطلاحات تتعلق بمسميات، فما يكون "مسندًا" فيجمع وصف يتعلق بالسند ووصف يتعلق بالمتن -كما سيأتي.
{أحسن الله إليكم.
قال: (وَالْمُسْنَدُ: مَرْفُوعُ صَحَابِيٍّ بِسَنَدٍ ظَاهِرُهُ الْاتِّصَالُ.
فَإِنْ قَلَّ عَدَدُهُ: فَإِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-، أَوْ إِلَى إِمَامٍ ذِي صِفَةٍ عَلِيَّةٍ كَشُعْبَةَ)
}.
قوله: (وَالْمُسْنَدُ)، المسند يجمع وصفين:
- أن يكون مرفوعًا: يعني إلى النبي ، هذا وصف يتعلق بالمتن.
- أن يكون متصلًا، وهذا وصف يتعلق بالسند.
إذًا المسند يجمع هذين الوصفين: بمعنى أنه مرفوع إلى النبي ، وأنه متصل.
فلو كان مرفوعًا إلى النبي وهو مرسل من قول التابعي، فلو كان مَرفوعًا إليه وفيه انقطاع كرواية نافع عن عمر عن النبي ؛ هذا لا يكون مُسندًا على الاصطلاح، يقال: "مرفوعًا" لكن لا يكون مسندًا؛ لأنه فقد وصفًا من أوصاف المسند وهو الاتصال.
قال: (وَالْمُسْنَدُ: مَرْفُوعُ صَحَابِيٍّ بِسَنَدٍ ظَاهِرُهُ الْاتِّصَالُ)، يعني: قد يكون فيه انقطاع خفي كتدليس، أو إرسال خفي، أو يكون الراوي عاصرَ الراوي وكان بلديه، وقد يكون قد التقى به لكن لم يسمع منه، وبين العلماء أن فيه علة، هذا يسمى "مسندًا" فهو ظاهر الاتصال لكن باطنه فيه علة، وهو على الاصطلاح يسمى "مسندًا".
ولهذا في تعريف الصحيح قالوا: "متَّصل الإسناد غيرَ شاذٍّ ولا معلَّل" ما اكتفوا باتصال الإسناد، فاتصال إسناد لا يلزم منه صحته، قد يكون فيه علة، ظاهره متصلٌ فيه علة، فلهذا قال: (ظَاهِرُهُ الْاتِّصَالُ).
قال: (فَإِنْ قَلَّ عَدَدُهُ)، الآن أراد أن يتكلم عن مُلحٍ من مُلَحِ الإسناد، فإن قلَّ عدد الإسناد صار الإسناد رجاله قليلين.
قال: (فَإِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ)، أي: إسناد عالٍ إلى النبي .
قال: (أَوْ إِلَى إِمَامٍ ذِي صِفَةٍ عَلِيَّةٍ كَشُعْبَةَ).
والعلو نوعان:
- علو إلى النبي .
- وعلو إلى إمام، كشعبة ومالك وسفيان، وكذلك علو إلى إمام من المصنفين كالبخاري ومسلم؛ فهذه كلها أنواع من العلو، لكن يختلف العلو.
قد يكون العلو إلى النبي ، وهذا هو العلو المطلق؛ لأنه أرفع أنواع العلو، وقد يكون العلو إلى غير النبي ، أي إلى أحد من الأئمة الكبار، كشعبة.
{أحسن الله إليكم.
قال: (فَالْأَوَّلُ: الْعُلُوُّ الْمُطْلَقُ. وَالثَّانِي: النِّسْبِيُّ)}.
العلو المطلق: ليس فوقه علو في الإسناد؛ لأنه عُزِي إلى لنبي ، وأرفع الأسانيد: حين يروي الصحابي عن النبي ، فإذا روى التابعي لا يكون بينه وبين النبي إلا الصحابي، ثم لَمَّا صُنِّفت الكتب في بداياتها كان العلو إلى النبي -من مالك فما بعد ذلك- باثنين، يعني: يكون بين المصنِّف والنبي اثنان، فأرفع الإسناد: الاثنان، كمالك، بينه وبين النبي اثنان.
ثم بعد ذلك: إذا كان بين مالك والنبي ثلاثة؛ فيكون نزولًا بالنسبة له.
بعد ذلك كان العلو إلى النبي بثلاثة، وكان ذلك في عهد الإمام أحمد، ومنه ثلاثية الإمام أحمد وثلاثية الدارمي وثلاثية البخاري، وثلاثيات الإمام أحمد كثيرة، وهي أكثر من ثلاثمائة ثلاثي، وتقرب من أربعمائة ثلاثي.
والبخاري له اثنان وعشرون ثلاثيًا:
- عن سلمة سبعة عشر.
- وعن أنس أربعة.
- وعن عبد الله بن بسر واحد.
لكنها بالتكرار، وبدون تكرار سبعة عشر من الأحاديث العالية، وأكثرها من رواية "المكي بن إبراهيم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكواع"، وعن سلمة سبعة عشر، وعن أنس أربعة، وعن عبد الله بن بسر واحد، فهذه اثنان وعشرون.
الدارمي أيضا له مجموعة من الأسانيد الثلاثية.
وبعد ذلك من أصحاب الكتب الستة ليس لأحد منهم إسناد ثلاثي، ومسلم ليس له، وأرفع إسنادٍ له رباعي، وكذلك أبو داود، وذُكر إسنادٌ قيل صورته صورة الثلاثي، لكن عند النظر فيه تبيَّن أنه رباعي، ولعله في أحاديث الحوض.
الترمذي له إسناد ثلاثي ضعيف من طريق كثير بن سليم، وهو «الصَّابرُ فيهم على دينِه كالقابضِ على الجمرِ» .
ابن ماجه عنده خمسة أحاديث ثلاثية كلها ضعيفة، وفيها متروك، وفي جميعها جبارة بن المغلس وهو شيخه.
النسائي ليس له ثلاثي، وكذلك ابن ماجه -كما تقدم- والترمذي.
ضدُّ ذلك: النزول، فالعلو مطلوب، لأن العلو يكون سببًا من أسباب اتِّصال السند، لأنه إذا كثُر السَّند ربما تكثر العلل، وإذا قلَّ السند ففي الغالب يكون البحث يسيرًا، وهذه الأسانيد العالية في الغالب تكون الصحيحة، لكن لو كان الإسناد عاليًا وفيه متروكٌ فهذا لا قيمة له، فهو إن كان عاليًا حسًّا فهو نازل معنى. ولهذا قال: (فَالْأَوَّلُ: الْعُلُوُّ الْمُطْلَقُ. وَالثَّانِي: النِّسْبِيُّ).
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَفِيهِ الْمُوَافَقَةُ: وَهِيَ الْوُصُولُ إِلَى شَيْخِ أَحَدِ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ)}.
يعني: العلو النسبي فيه الموافقة، الوصول إلى شيخ أحد المصنفين، مثل: البخاري، يقول الحافظ بن حجر: "نروي حديثًا في البخاري" البخاري رواه "عن قتيبة عن مالك"، فلو رويناه من طريق البخاري رويناه بثمانية رواة -يكون بينه وبينها ثمانية- وإذا رويناه من غير طريق البخاري نرويه بسبعه، فمثلًا يقول: "لو رويناه من طريق أبي العباس السراج -أحد تلاميذ البخاري وهو أدرك قتيبة- فإننا نصل إلى قتيبة ويكون بينه وبينه سبعة، فكأننا وافقنا البخاري"، أبو عباس السراج هو تلميذ له، وأخذ هو وهو عن قتيبة، وهو عُمِّر- رحمه الله- فلعله بلغ المائة أو جاوزها -رحمه الله.
فهذه تسمى "الموافقة"، أي: وافقه في شيخه، فوافق شيخ البخاري- رحمه الله- فاتفقا في الرواية عن قتيبة، وهذا يأتي كثيرًا في "سير أعلام النبلاء" فقد وقعت الموافقة، وكذلك في "تهذيب الكمال" وقعت الموافقة.
وهذه أنواع مِن مُلَحِ العلم ومُلَحِ الأسانيد وليست من متينة وصلبه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَفِيهِ الْبَدَلُ: وَهُوَ الْوُصُولُ إِلَى شَيْخِ شَيْخِهِ كَذَلِكَ)}.
شيخ البخاري مثلا هنا قتيبة عن مالك، فشيخ شيخه هو مالك، فلا يروي من طريق أبي العباس، وإنما يروي من طريق القعنبي عن مالك، فيَصِل إلى شيخ شيخه، فيقع القعنبي بدلًا من قتيبة، قتيبة رواه عن مالك، والقعنبي رواه عن مالك، فبدل أن نروي من طريق أبي العباس السراج عن قتيبة؛ نروي عن القعنبي عن مالك، فيكون القعنبي بدلًا من قتيبة، فهذا يسمى "بدلًا".
وهذا قد يقع بعلو وقد يقع بغير علو، لكن إنما يريدون به إذا وقع فيه علو، فلو روى من طريق البخاري لكان نازلًا، ول رُوي من طريق القعنبي لكان عاليًا بدلًا، عاليا موافقة.
{أحسن الله إليكم.
قال: (وَفِيهِ الْمُسَاوَاةُ: وَهِيَ اسْتِوَاءُ عَدَدِ الْإِسْنَادِ مِنَ الرَّاوِي إِلَى آَخِرِهِ، مَعَ إِسْنَادِ أَحَدِ الْمُصنِّفِينَ)}.
المساواة في الحقيقة هي مساواة في العلو النسبي، بعضهم جعلها من العلو المطلق، لأنَّ هذه المساواة إلى النبي وليست إلى إمام. لكن هذه في الحقيقة مساواة إلى النبي ، يقول: (وَهِيَ اسْتِوَاءُ عَدَدِ الْإِسْنَادِ مِنَ الرَّاوِي إِلَى آَخِرِهِ)، يعني: إلى النبي .
ذكروا أنَّ أطول إسناد للنسائي: عشرة رجال، النسائي- رحمه الله- توفي عام ثلاث وثلاثمائة وولادته كانت في مائتين وخمسة عشر؛ فأطول إسنادٍ له عشرة رجال، روى به حديث: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» ، ثم قال: "حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن المهدي، عن زائدة بن قدامة، عن هلال بن يسار، عن ربيع بن خثيم، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن امرأة أبي أيوب، عن أبي أيوب، أنَّ النبي قال: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ»، قال النسائي: "هذا أطول إسنادٍ أعرفه"، يعني في زمنه، فبينه وبين الرسول عشرة، هؤلاء العشرة فيهم ستة من التابعين، ففيه: منصور، وهلال بن يسار، وربيع بن خثيم، وعمرو بن ميمون، وابن أبي ليلى، وامرأة أبي أيوب؛ ستة من التابعين، وهذا يُبيِّن لك ما استدركوه على البيقوني من قوله:

وَمُرْسلٌ مِنهُ الصَّحَابُّي سَقَطْ *** ...........................................

فقالوا: إن هذا ليس بلازم، قد يكون سقط من تابعي آخر، وقد يكون التابع نقل عن تابعي.
ويقولون: وأكثر ما وقفنا عليه من تابعي بينه وبين النبي ستة، وذكروا في هذا حديثًا.
فهذا الحديث فيه ستة من التابعين وبعضهم روى عن بعض.
ووقع أيضًا شيء من هذا، الزهري عن عروة عن حبيبة بنت أبي سلمة حبيبة عن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن زينب بنت جحش، هنا ثلاثة من التابعين وصحَّ به هذا الحديث.
إذًا؛ أطول إسناد عند البخاري تُساعي، وهذا في حديث: «ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ» ، فرواه بأسانيد عالية بالنسبة إلى هذا، ورواه بإسناد تساعي، قال: "حدثني أخي أبو بكر عبد الحميد بن أبي أويس، عن سليمان بن ليلى، عن ابن أبي عتيق، عن الزهري، عن عروة، عن حبيبة بنت أبي سلمة، عن أم حبيبة بنت أبي سفيان، عن زينب بنت جحش".
وله ثماني أيضًا في حديث توبة كعب -رضي الله عنه-، وثماني آخر في قوله : «مَن أعتَق رَقَبةً مُسلِمةً، أعتَق اللهُ بكُلِّ عَضوٍ منه عَضوًا مِن النَّارِ، حتَّى فَرْجَه بفَرْجِه» ، هذا أيضًا رواه بإسناد ثُماني.
فأنزل إسناد عند البخاري تساعي، وأعلى إسناد عنده -رحمه الله- كان ثلاثيًا.
قال: (وَفِيهِ الْمُسَاوَاةُ: وَهِيَ اسْتِوَاءُ عَدَدِ الْإِسْنَادِ مِنَ الرَّاوِي إِلَى آَخِرِهِ، مَعَ إِسْنَادِ أَحَدِ الْمُصنِّفِينَ)، مثل النسائي.
{أحسن الله إليكم.
قال: (وَفِيهِ الْمُصَافَحَةُ: وَهِيَ الْاسْتِوَاءُ مَعَ تِلْمِيذِ ذَلِكَ الْمُصنِّفِ، وَيُُقَابِلُ الْعُلُوَّ بَأَقسامِهِ: النُّزُولُ)}.
مثلًا: النسائي تلميذه ابن السني، والمعنى: أنه يستوي إسنادك إلى النبي مع إسناد تلميذ النسائي إلى النبي ، وتسمى "المصافحة" وكأنك التقيت بتلميذ النسائي، والعادة أنه حين يلتقي التلميذان مع الشيخ يصافحه، فكأنه صافح النسائي، فهذه اصطلاحات.
{لكن المصافح روى الحديث الذي رواه النسائي عن شيخه ابن السني، يعني: التقى مع ابن السني}.
هو استوى إسناده، إذا كان عند النسائي عشرة، فيكون ابن السني أحد عشر؛ فيكون إسناده أحد عشر رجلًا مثل ابن السني، لو أن ابن السني في إسناده أحد عشرة رجل وأنتَ رويتَ هذا الحديث بأحد عشر رجل؛ فكأنَّك أنت لقيت النسائي؛ لأنَّك ساويتَ التلميذ، كأنه اشترك مع ابن السني في الرواية عن النسائي.
ويُقابل العلو بأقسامه: النزول، مثلا العلو المطلق يُقابل النزول المطلق، العلو النسبي يقابله النزول النسبي، ومثل الأسانيد التي تكون نازلة، مثل أسانيد البخاري العالية وأسانيده النازلة إلى النبي .
العلو النسبي: هو العلو إلى إمام، فحين يعلو إنسان إلى إمام من الأئمة بإسناد، فيكون هذا أعلى إسنادًا، لكن لو عنده إسناد نازل فيكون نزول نسبيًّا، لكن هذا النزول النسبي يمكن أن يكون أعلى من العلو، لأنه قد يكون السند عالٍ من جهة الحس، لكن في إسناده متروك أو كذاب، والنازل يكون رجاله ثقات، فيكون من جهة المعنى عاليًا وإن كان حسًّا نازلًا.
{أحسن الله إليك.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ تَشَارَكَ الرَّاوِي وَمَنْ رَوَى عَنْهُ فِي السِّنِّ وَاللُّقِيِّ فَهُوَ الْأَقْرَانُ. وَإِنْ رَوَى كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ الْآَخَرِ: فَالْمُدْبَجُ)}.
من ألقاب هذا الفن: إذا تشارك الراوي ومن روى عنه، راويان عندهم اصطلاح إذا تشاركا في السن وكانا في السن متقاربين أو كانا في لقيا الشيخ متقاربين، وكثير من الرواة يقول: فلان وفلان متقاربين في السن، أو متقاربين في مشايخهم، هذا أخذ عن المشايخ، نفس المشايخ الذي أخذها عنه قرينه، فهذا يُسمى: "الأقران" وهو التساوي في السن واللقي.
وهذا على الغالب، وظاهر كلامه أنه إذا اختلفا في السن فلا يكون كذلك، وإلا قد يتساويا في اللقي ويختلفا في السن، فيكونا قرينان في لقاء المشايخ.
قال: (وَإِنْ رَوَى كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ الْآَخَرِ: فَالْمُدْبَجُ)، الأقران إذا كانا قرينين اجتمعا عند المشايخ، وهذا روى عن هذا، وهذا روى عن هذا؛ في الصحابة -رضي الله عنهم- كأبي بكر وعمر، أبو هريرة وعائشة، ابن عمر وابن عمرو، وسائر الصحابة -رضي الله عنهم- يروي بعضهم عن بعض، مثلًا: أبو سعيد وابن عباس، وابن عباس يروي أكثر عنهم، فهذا يسمى: "المدبَّج"؛ لأنَّ كل منهما روى عن الآخر، ومثل: مالك عن الأوزاعي، والأوزاعي روى عن مالك، هما أقران وروى كل منهما عن الآخر، ومثل أبي الزبير المكي ومحمد بن مسلم بن تدرس الأسدي، وعطاء بن أبي رباح روى عن أبي الزبير، وأبو الزبير روى عنه، وكذلك شعبة وإن كان شعبة أكبر رحمه الله-، ومثل السفيانان وإن كان الثوري أكبر، وكذلك الحمادان وإن كان حماد بن سلمة أكبر.
فإذًا؛ إذا علمنا أنَّ فلانًا وفلانًا كل منهما روى عن الآخر فهذا المدبَّج، وهكذا سماه الدارقطني.
والمدبَّج: من ديباجتي الوجه؛ لأنهما تقابلتا.
وقيلت: ديباجة من الشيء الحسن، يعني كأن هذا أمر حسن، أن يروي عن زميله وزميله يروي عنه، ففيه إشارة للتواضع، وأن الإنسان يأخذ العلم عن زميله وزميله يأخذ عنه.
فهذا من مُلَحِ هذا العلم -كما يقولون- وهذا واقع السلف.
وكذلك التذاكر بين العلماء، كيحيى معين والإمام أحمد -رحمهما الله-، وأبو عبيد القاسم بن سلام وقتيبة؛ يجتمعون وكل منهم يأخذ عن الآخر؛ وهذا كله من باب المدبج.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ رَوَى عَمَّنْ دُونَهُ: فَالْأَكَابِرُ عَنِ الْأَصَاغِرِ، وَمِنْهُ الْآَبَاءُ عَنِ الْأَبْنَاءِ، وَفِي عَكْسِهِ كَثْرَةٌ، وَمِنْهُ مَنْ رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.)}.
قوله: (وَإِنْ رَوَى عَمَّنْ دُونَهُ: فَالْأَكَابِرُ عَنِ الْأَصَاغِرِ)، إذا روى الكبير عن الصغير، والأصل في هذا هو رواية النبي عن تميم، فقد روى عنه حديث الجساسة، وأخبرهم بذلك في صحيح مسلم، وهكذا بعد ذلك العلماء صار يروي بعضهم عن بعض، وكثيرًا ما يروي الكبير عن الصغير، ووقع في هذا قصص كثيرة، الدارقطني روى عن عبد الغني بن سعيد، وعبد الغني بن سعيد روى عن محمد بن علي السوري، وعبد الغني تلميذ الدارقطني، ومحمد بن علي السوري تلميذ عبد الغني بن سعيد، والترمذي روى عنه البخاري، وذكر وقال: "روى عني البخاري هذا الحديث".
قال: (وَمِنْهُ الْآَبَاءُ عَنِ الْأَبْنَاءِ)، العادة أن الابن هو الذي يروي عن أبيه، لكن قد يروي الأب عن ابنه، ومنه رواية العباس عن الفضل في الجمع بين الصلاتين في مزدلفة.
قال: (وَفِي عَكْسِهِ كَثْرَةٌ)، أي رواية الابن عن أبيه هذا كثير، ومن هذا مَن روى عن أبيه عن جده؛ وهذا كثير من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ورواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وسالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده؛ وقد صنف خليل بن كيكلدي العلائي في هذا -رحمة الله عليه.
أسأله -سبحانه وتعالى- لي ولكم التوفيق والسداد والعلم النافع بمنَّه وكرمه، آمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{اللهم آمين، شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما قدمتم، والشكر موصول للإخوة المشاهدين، وعلى أمل اللقاء بكم إن شاء في حلقة جديدة، نستودعكم الله -عز وجل- والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ