الدرس الثالث

فضيلة الشيخ عبدالمحسن بن عبدالله الزامل

إحصائية السلسلة

11585 9
الدرس الثالث

نخبة الفكر

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله أعزاءنا المشاهدين، ونرحب بكم في برنامج (جادة المتعلم)، ونستأنف -إن شاء الله تعالى- المجلس الثالث من شرح متن (نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر) للحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- والذي يقوم بشرحه فضيلة الشيخ/ عبد المحسن بن عبد الله الزامل حفظه الله، حياكم الله شيخنا}.
حياكم الله، وبارك فيكم، ومرحبا بكم وبجميع إخواني.
{آمين، نستأذنكم في قراءة المتن.
أحسن الله إليكم.
(ثُمَّ الْغَرَابَةُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي أصل السَّنَدِ، أَوْ لَا.
فَالْأَوَّلُ: الْفَرْدُ الْمُطْلَقُ. وَالثَّانِي: الْفَرْدُ النِّسْبِيُّ، وَيَقِلُّ إِطْلَاقُ الْفَرْدِيَّةِ عَلَيْهِ)
}.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
تقدم أول الكلام على أول هذه الجملة في الغرابة، وذِكْر الفرد المطلق والفرد النسبي، ثم بَيَّنَ الحافظ -رحمه الله- أنه يَقِلُّ إطلاق الفردية على الفرد النسبي، أي لا يقال له: فرد، والفرد النسبي -كما تقدم- معناه أن ينفرد أحد الرواة بالنسبة لأحد المشايخ، ويكون الحديث مشهورًا معروفًا من غير طريقه، لكنَّه تَفَرَّدَ تفردًا خاصًّا، وفي الغالب أنَّ هذا يقل إطلاق الفرد عليه، ويقال: حديث غريب.
لكن هذا التفريق بين الفرد المطلق والفرد النسبي يكون من حيث الاصطلاح، لكن من حيث الفعل المشتق، هم يقولون: تَفَرَّدَ به فلان، وأغرب به فلان، فيطلق على الفرد النسبي وعلى الفرد المطلق، في إطلاق الفعل المشتق، ولكن من حيث اللقب والاسم؛ فإنهم يُفَرِّقون بين الفرد المطلق والفرد النسبي، لا يقولون فيه: فرد، بل يسمونه بالفرد المطلق والفرد النسبي، وأما من حيث استعمالهم الفعل المشتق فلا يُفرِّقون، فيقولون في المطلق والنسبي: تفرد به فلان، أو أغرب به فلان، وعلى هذا لا يُفرق بين المطلق والنسبي في إطلاق الفعل، مثل: مسألة المرسل والمنقطع.
الرسول "، والمنقطع هو أن لا يُدرك الراوي شيخه، ولكن في الاصطلاح من حيث إطلاق الفعل تقول مثلاً: "الحديث أرسله فلان" وتريد بأرسله أنه رواه عن شيخه ولم يُدركه، فيطلق "أرسله فلان" على المنقطع، ويطلق على المرسل الاصطلاحي، كما أنَّ الاشتقاق في الغرابة، تقول: تفرد به فلان، وأغرب به فلان على الفرد المطلق وعلى الفرد النسبي، وهذا هو التفريق -كما يقول الحافظ ابن دقيق: بينهما الذي يعني يلتئم على كلام أهل العلم.
{أحسن الله إليكم، لعله يتضح بالمثال، فلو ذكرنا حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه}.
حديث عمر بن الخطاب[1] هذا فرد مطلق، وكذلك حديث عبد الله بن عمر، وحديث أبي هريرة، وهذه الأحاديث تقدم الإشارة إليها في الحلقة السابقة، ففي حديث عمر التفرد حتى طبقة أبي سعيد، أي: الطبقة الرابعة، وحديث عبد الله بن عمرو تفرد أبو العباس الشاعر، وتفرد عنه دينار، وعنه سفيان بن عيينة، وكذلك حديث: «كَلِمَتانِ خَفِيفَتانِ علَى اللِّسانِ، ثَقِيلَتانِ في المِيزانِ، حَبِيبَتانِ إلى الرَّحْمَنِ: سُبْحانَ اللَّهِ العَظِيمِ، سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ» تفرد به أبو زُرعة -عمرو بن جرير- وتفرد عنه عمرو بن القعقاع، وتفرد عنه محمد بن فضيل، كل هذا تفرد مُطلق.
أمَّا التفرد النسبي: فهو أن يروي الحديث مثلا أنس -رضي الله عنه- ويرويه عن أنس قتادة وعبد العزيز بن صهيب، ورواه عن عبد العزيز بن صهيب جماعة، ورواه عن قتادة رجل واحد، يعني مثلا: هشام بن حسان، هذا يقال: فرد نسبي؛ لأنَّ الحديث معروف من رواية عبد العزيز بن صهيب، ورواه عنه جماعة.
وطبقة هشام بن حسان هو لم يتفرد تفردًا مُطلقًا، تفرد عن شيخه الذي هو قتادة.
وكذلك التفرد في أهل بلد، -وهذا يكون نسبي- مثل ما يقول أبو داود: تفرد به أهل مرو، وأهل مرو كثير فهل هذا يسمى تفردًا؟ نعم؛ لأنهم تفردوا به عن بقية البلدان.
{أحسن الله إليك.
(وَخَبَرُ الْآحَادِ بِنَقْلِ عَدْلٍ تَامِّ الضَّبْطِ، مُتَّصِلِ السَّنَدِ، غَيْرِ مُعَلَّلٍ وَلَا شَاذٍّ: هُوَ الصَّحِيحُ لِذَاتِهِ)}.
الحافظ -رحمه الله- يُريد أن يُبين خبر الآحاد؛ لأنَّه سبق تقسيم خبر الآحاد، فلهذا كان من الضرورة بيان خبر الآحاد، ولذا قال: (وَخَبَرُ الْآحَادِ)، وقال قبل ذلك: (الْخَبَرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ) والقسمة الثنائية هي: خبر متواتر وخبر آحاد، وخبر الآحاد الذي هو أحد القسمين للخبر.
والخبر كما تقدم يدخل فيه جميع ما يُروى عن النبي أو عمن بعده من الصحابة والتابعين، زما يقال في الخبر يقال كذلك في الأثر، فالأثر الصحيح هو كالخبر.
قوله: (الآحاد) والآحاد هو ما لم يتواتر بنقل عدل، والعدل هو من استوت أموره في دينه، وهو من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة.
وقيل أيضًا: هو المسلم البالغ العاقل، الذي لا يرتكب كبيرة ولا يُصِّرُّ على صغيرة، وقد وقع الخلاف في هذا.
حصل خلاف حول مسألة المروءة، وأنها تختلف، لكن هنالك شيء من المروءة يكاد يُتفق عليه مثل: صغائر الخسة أو الرذائل المباحة مثلا، هذه الرذائل المُباحة: لو أنَّ الإنسان يتجرأ، وهي أمور من الرذائل، وفي الغالب أنَّ من يقدم على مثل هذه الأمور؛ يقدم على ما هو أشد منها، فجعلوها من المروءة، لكن هنالك أمور قد تكون من المروءة عند قوم، ولا تكون من شروط المروءة عند قوم آخرين، مثل: حاسر الرأس، إذًا المروءة تختلف من بلد إلى بلد.
كذلك الأكل في الطريق، يعد من الأمور التي تختلف من بلد إلى بلد، ولهذا لا يجعل للمروءة ميزانًا واحدًا في كل بلد.
قوله: (بِنَقْلِ عَدْلٍ تَامِّ الضَّبْطِ).
استقامة السند تكون بالعدالة والضبط، والعدالة تتعلق بالدين، والضبط يتعلق بالحفظ، ولهذا قال: (بِنَقْلِ عَدْلٍ تَامِّ الضَّبْطِ) وهذا هو راوي الصحيح، وليس معنى تام الضبط أنه معصوم من الخطأ، وإنَّمَا المقصود أنَّ روايته في الغالب تكون موافقة لرواية الثقات ورواية الحفاظ، ولكنه قد يخطئ، والقصص كثيرة في هذا، من أئمة كبار -رحمة الله عليهم- وقعوا في أخطاء، وَخَطَّأ بعضهم بعضًا، مثل: القصة المشهورة ليحيى بن سعيد مع سفيان الثوري، لَمَّا قال سفيان الثوري لعبد الرحمن بن مهدي: أريد أن أقدم بغداد، وأريد أن تنظر لي رجلا من الحديث أدارسه، وكان عبدالرحمن بن مهدي رجلاً يعرف الرجال، ولَمَّا جاء سفيان الثوري على الميعاد قال أين ما وعدتني؟ قال: أبو الأعور، أي: يحيى بن سعيد القطان، وكان يكنَّى بهذا، وهو في طبقة تلاميذه، يعني يحيى بن سعيد -رحمه الله- فلمَّا جعل يدارسه، أي: يحيى بن سعيد يدارس سفيان الثوري، وسفيان الثوري حافظ كبير، وقد أجمع العلماء على تقديمه على شعبة الذي هو ميزان الأسانيد -كما حكاه البيهقي -رحمه الله- فجعل يناقشه، فمر حديث «الْجَرَسُ مَزامِيرُ الشَّيْطانِ»؛ فقال سفيان: حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي قال: «الْجَرَسُ مَزامِيرُ الشَّيْطانِ»، قال يحيى بن سعيد: "تعست أبا عبد الله! تعست أبا عبد الله!"؛ فأدرك سفيان -رحمه الله- وعرف  بفطنته أنه أخطأ في الإسناد.
قال: كيف هو؟ فقال له: عن نافع، عن سالم، عن أبي الجراح، عن أم حبيبة، هذا سند غريب، هذا سند خالف الجادة، لزم المجرة.
سفيان الثوري -رحمه الله- كما يقول الشافعي: سلك الجادة، لكن الذي يخالف الجادة، إن كان حافظًا فاتبعه، وإن كان ضعيفًا فدعه. فلو كنت في طريق مع غيرك مثلاً، وهي جادة معروفة، فلمَّا سرى بك انحرف إلى طريق آخر، وأنت تثق أنَّ من معك فاهم، ولذا فأنت تتبعه وتوافقه وإن ترك الجادة، لماذا؟ لأنَّه ما تركها إلا عن علمٍ وبصيرة، فهذه الجادة لابد وأن تكون أقرب، وترك الجادة لأيسر الأسباب.
{أمَّا إذا لم يكن فاهمًا؟}
إذا لم تكن فيه هذه الصفة ففي هذه الحالة لا تطمئن؛ لأنَّه قد يكون فيه الهلاك، وعليك أن تقول له: عليك بلزوم الجادة ولا تتبعه.
فلمَّا كان يحيى بن سعيد إمامًا حافظًا، خالف الجادة، فهذا يُقبل منه ويُؤخذ منه، ولهذا قال: كيف هو؟ لأنَّ الإسناد "سالم عن أبي الجراح" إسناد غريب، والحديث معروف أصلا، فالحديث صحيح عن أبي هريرة، وهو معروف في صحيح مسلم، لكنه بهذا الطريق غير معروف، وكثير مثل هذا، وعلى هذا فليس معنى الضابط أنَّه لا يخطئ، بل قد يخطئ، لكن تكون أخطاؤه معدودة ومعروفة، فلهذا يقولون: (بِنَقْلِ عَدْلٍ تَامِّ الضَّبْطِ).
ولَمَّا رجع قال له سفيان الثوري: "طلبت منك أن تأتيني بإنسان، ولكنك أحضرت لي شيطانًا"، وهذه العبارة تكون بحسب القرائن، فقد تُطلق ويُراد بها الذم، وقد تطلق ويراد بها المدح، وهنا بلا شك يُراك منها المدح، كما تقول: فلان شيطان، أي: عنده من الفطنة والفهم، وليس المراد المعنى السيء فيها؛ فالمقصود أنه اعترف بذلك، يعني: أنَّه صاحب حفظ ونباهة.
وكان الإمام أحمد -رحمه الله- من هيبة يحيى بن سعيد إذا حضر لم يكن يجلس، وذكر هذا الإمام أحمد -رحمه الله- هذا في بعض كلامه، أظن -فيما أذكر- أنه قال: "كنا نأتيه بعد العصر قيامًا يحدثنا، لا يقول: اجلسوا، ولا نجلس" يعني: يحدثهم -رحمه الله- إلى المغرب، هذا كلامه -رحمه الله.
(بِنَقْلِ عَدْلٍ تَامِّ الضَّبْطِ) إذًا العدالة هي الصفة الأولى، والثانية (تَامِّ الضَّبْطِ)، والصفة الثالثة: (مُتَّصِلِ السَّنَدِ)، وهذه الصفات الثلاث صفات وجودية، أي: لابد منها.
واتصال السند حتى يخرج به المنقطع، المعضل، المرسل، المعلق، والمعلق من بتر أوله، والمرسل من بُتِرَ من آخره، والمنقطع والمعضل في أثنائه.
وستأتي -أيضًا- علة أخرى، لكن هذه العلة "اتصال السند" في الانقطاع الظاهر.
(غَيْرِ مُعَلَّلٍ) يعني: ليس فيه علة، مع أنه قال: (مُتَّصِلِ السَّنَدِ)، فإذا كان الحديث (بِنَقْلِ عَدْلٍ تَامِّ الضَّبْطِ) ومتصل فهذا يكفي، لكنه قال: (غَيْرِ مُعَلَّلٍ) أي: بعلة خفية.
إذًا، لو قال: (مُتَّصِلِ السَّنَدِ) واكتفى، فهذا لا يكفي؛ لأنَّه قد يكون متصل السند في الظاهر ويكون فيه علة خفية، إمَّا بتدليس أو إرسال خفي، أو برواية تلميذ عن شيخه مثلاً، ولكن يتبين أنه لم يسمع منه هذا الحديث، قد يكون ظن أنه سمع منه، ولكن أهل الحديث بينوا أنه لم يسمع منه هذا مثلا.
{أو ربما أُسقط رجل ضعيف بين الثقتين}.
لا، هذا على تدليس التسوية، لأنَّها ليست علة خفية، إلا أن يكون هذا الراوي يروي عن شيخه كثيرًا؛ فيدخل في قوله: (غَيْرِ مُعَلَّلٍ) حين يروي على الجادة، فإن كان مُدلسًا فهذه علة، وتكون ظاهرة.
{مثل الأعمش عن أبي صالح، وأحيانًا في بعض الأسانيد يكون فيه واسطة}
نعم مع أنه اختُلِفَ فيه، لكن الذهبي وجماعة يقبلونها عنه -رحمه الله.
(غَيْرِ مُعَلَّلٍ) أي علة خفية، والعلة الخفية هي التي ليست ظاهرة، وهذا هو الموضع الذي يتبين به المبرزون في هذا العلم -علم العلل- وهذا له مفهوم أنَّ العلة غير خفية، هذا واضح، وهو من جهة الانقطاع الظاهر، وخفية قادحة، هم يقولون: (غَيْرِ مُعَلَّلٍ) المراد علة خفية قادحة، وقد تكون علة خفية غير قادحة.
لماذا ذكروا لفظة (قادحة)؟
لأنَّ بعض المتقدمين يعللون بالعلل التي لا تقدح، مثل: حديث يُروى تارة عن نافع عن ابن عمر، وتارة عن سالم عن ابن عمر مثلا، ويحصل اختلاف لكن حيث دار دار على ثقة، وبعضهم يُعِلُّ الخبر إذا اختلف الرواة في هذا، مجرد خلاف يُعِلُّونَ به، أي: يجعلونه إعلالاً، والإعلال عند المتقدمين واسع، حتى إنَّ الترمذي يجعل النسخ علة، مع أنَّ النسخ هو: "ثبوت الحكم المتأخر ونسخ الحكم المتقدم"، لكن علمهم جعلهم يتوسعون في باب العلة.
قوله: (وَلَا شَاذٍّ: هُوَ الصَّحِيحُ لِذَاتِهِ) الشاذ وهذا سيأتي على المشهور عند جمهور المتأخرين هو مخالفة الثقة لمن هو ما أوثق منه، أو للثقات.
(هُوَ الصَّحِيحُ) ويدخل من باب أولى المنكر في هذا، فإذا كان الشاذ خارج من العلة أيضًا، وهذان شرطان عدميان، وهما: (غَيْرِ مُعَلَّلٍ وَلَا شَاذٍّ).
ملحظ: تقدم أنَّ هناك ثلاثة شروط وجودية، وشرطان عدميان، وهما: (غَيْرِ مُعَلَّلٍ وَلَا شَاذٍّ)، ومن باب أولى: "ولا منكر"، وهذا عند من يُفَرِّقُ بين المنكر والشاذ، وهم جمهور المتأخرين من أهل الحديث.
(هُوَ الصَّحِيحُ لِذَاتِهِ) فالصحيح كما يقول العراقي: وأهل هذا الشأن، قَسَّموا السنن إلى صحيح وضعيف وحسن.

فَالأَوَّلُ الْمُتَّصِـــلُ الإسْنَــــــادِ ... بِنَقْلِ عَدْلٍ ضَابِطِ الْفُؤَادِ
عَنْ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَا شُـــذُوْذِ ... وَعِلَّةٍ قَادِحَـةٍ فَتُـــــوْذِي

انظر: (مِنْ غَيْرِ مَا شُذُوْذِ ... وَعِلَّةٍ قَادِحَـةٍ فَتُـوْذِي) هذا احتراز، وهذه يفهم منها أنَّ التي لا تؤذي ليس لها أثر، مثل ما تقدم؛ لأنَّ بعضهم يعلل بالعلل التي لا تؤذي، مبالغة في النظر في الأسانيد، لكن العمدة على صحة السند، والسند صحيح.
قوله: (هُوَ الصَّحِيحُ) هذا هو الخبر، وخبر آحاد هذا مبتدأ، وقوله: (هُوَ الصَّحِيحُ) خبر الآحاد.
(هُوَ الصَّحِيحُ لِذَاتِهِ) ولذاته، أي: لا لشيء آخر؛ لأنَّ هناك صحيح لغيره، وهذا سيأتينا -إن شاء الله- في مسألة المخالفة، و (هُوَ الصَّحِيحُ لِذَاتِهِ) هو الذي توفرت فيه الشروط، بخلاف ما كان صحيحًا لغيره.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (وَتَتَفَاوَتُ رُتَبُهُ بِتَفَاوُتِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَمِنْ ثَمَّ قُدِّمَ صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ، ثُمَّ مُسِلِمٍ، ثُمَّ شَرْطُهُمَ).
قوله: (وَتَتَفَاوَتُ رُتَبُهُ بِتَفَاوُتِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ) رتب الحديث الصحيح تتفاوت، وتقدم الصحيح لذاته، وسيأتي تقسيمه بعد ذلك -إن شاء الله- لكن الصحيح مراتب كثيرة، منها: أعلى رتب الصحيح وهو الحديث المتواتر الذي جمع أعلى رتب الحديث الصحيح، لكنه -رحمه الله- يريد هنا ترتيب الحديث على القسمة المشهورة التي ذكروها، وهي سبعة أقسام:
فما رواه البخاري ومسلم هذا في الرتبة العليا، أي: الرتبة الأولى.
{أحسن الله إليكم، هل هذا التقسيم خاص بأخبار الآحاد أم عام يدخل فيه المتواتر؟}
إذا أخذنا القسمة العامة فسنجد أنَّ المتواتر داخل فيها، فمثلاً حديث متواتر رواه البخاري ومسلم، يدخل فيه المتواتر بلفظه، والمتواتر المعنوي، أمَّا على القول الصحيح فهناك أحاديث متواترة غير ما ذكروه، بل هناك أحاديث متواترة بلفظها أيضًا، وهي كثيرة، وألَّف بعض العلماء في هذا كتب، وذَكَرَ أحاديث متواترة بلفظها.
{كم عدد –المتواتر بلفظه- التقريبي يا شيخ؟}.
لا يمكن -فيما يظهر- حصرها، ولكن السيوطي له رسالة في هذا، والكتاني له رسالة في هذا، مثل: الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة.
{أظن قد تكون أربعين أو خمسين}
هذا لا يعرفه إلا أهل الحديث، حيث يأتي رجل مطلع يتتبع روايات الصحيحين وغيرها، بل خارج الصحيحين أحاديث رويت بطرق كثيرة، مخارجها مختلفة وطرقها كثيرة، وقد رواها جمع من الصحابة، لكن الشأن والاختلاف لأنَّ الصحابي خرج -اجتاز القنطرة-، وحينما تكون الروايات الكثيرة والمخارج شرقًا وغربًا، والحديث يرويه مثلا أصحاب الكتب الستة وغير أصحاب الكتب الستة، والمسانيد، والمعاجم، في الشرق والغرب، يصير هذا الحديث في جميع هذه الكتب من طرق كثيرة ومختلفة، ويجتمعون على هذا الخبر، هذا يُقْطَعُ به، فإن كان لفظه واحدًا، ويراد به غالب اللفظ وليس متشابهًا في كل حروفه، كحديث مثلاً: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا للهِ كَمَفحَصِ قَطَاةٍ أَوْ أَصْغَرَ بَنَىَ اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ»[2]، ونحو ذلك من الأخبار الواردة في هذا الباب، ويمكن -كما تقدم- حديث «‏الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَده»[3] فتقول: إنه من المتواتر بلفظه.
رتب الحديث الصحيح:
إذًا الرتبة الأولى: هو ما رواه البخاري ومسلم.
والرتبة الثانية: هو ما رواه البخاري.
والرتبة الثالثة: ما رواه مسلم.
الرتبة الرابعة: ما كان على شرط البخاري ومسلم.
الرتبة الخامسة: ما كان على شرط البخاري.
الرتبة السادسة: ما كان على شرط مسلم.
الرتبة السابعة: ما كان صحيحًا على غير شرطهما.
هذه القسمة المشهورة في الأحاديث، وهي: القسمة السُباعية، لكن هنا حين قال: (ثُمَّ شَرْطُهُمَ) هذا مما نُزِعَ فيه، وكثير من الناس ينكر مثل هذه العبارة، ويقول من قال لك: إنَّ للبخاري شرط في هذا؟ البخاري لم يذكر شرطًا، وإنما أُخِذَ هذا من عَمله وطريقته.
والإمام مسلم -رحمه الله- له مُقدمة ذَكَرَ فيها مسألة اشتراط سماع الرَّاوي عمَن رَوىَ عنه، على الخلاف في مسألة المعاصرة وحكمها -كما سيأتي إن شاء الله- لكن هذه المسألة فيها خلاف كثير.
منهم من قال: لهما شرط، طيب ما هو شرطهما؟ قيل: شرطهما أن يُروى الحديث بإسناد رجاله رجالهما، ولكن هذا نُزِعَ فيه، فقيل: إنَّ البخاري له طريقة، هو يَروي تارة بهذا الاسناد، يعني: يروي مثلا هذا الراوي عن شيخه بطريقة معينة، كونك تجعل جميع روايات هذا الراوي عن شيخه على شرط البخاري ليس بصحيح؛ لأنَّ البخاري -رحمه الله- يأتي إلى الراوي بعضهم ينتقي روايته، إسماعيل بن أبي أويس أخذ صحيفته حتى أعلم له على ما سمع منه، فلا يأتي أحدٌ ويقول: إنَّ هذه الروايات كلها على شرط البخاري، وهكذا، وهناك شي واضح.
لكن يمكن -والله أعلم- أنَّ التراجم المشهورة المتكررة في الصحيحين تتكرر، وتطرقها الروايات الكثيرة، وهذه لا يَمتنع -فيما يظهر- أن يُقال على شرط البخاري، مثل: السلاسل.
{مثل: الإسناد عن الأعرج عن أبي هريرة مثلا؟}
هذه يعتريها من أول الإسناد شيء، لكن السلسلة من أول الإسناد مثل: "عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ" فالبخاري يروي عن عبد الرزاق عن معمر بن منبه عن أبي هريرة، هذا الإسناد رواه البخاري -رحمه الله – ورواه الإمام أحمد -رحمه الله- في مسنده روى بهذه الصحيفة نحو مائة وأربعين حديثًا بهذا الإسناد، هذه ممكن نسخة واحدة، ولهذا اعترى هذا التقسيم خلاف من جهات:
من جهة أولا مسألة شرط البخاري ومسلم، وأيضًا من جهة التفريق بين ما رواه البخاري من هذه السلاسل، وما رواه غيره.
مثال: حين يروي البخاري -رحمه الله- عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وإذا رواها الإمام أحمد -رحمه الله- أو غيره، فهل يُقال: إنَّ هذه كرواية البخاري تماما في القوة أو يقارنها لأنها مجرد على شرط البخاري؟
لا شك أنَّه قد يُقال: إنَّ تقبل الأمة لهذا الكتاب قرينة على قوة هذه السلسلة؛ لكونها في صحيح البخاري.
الإمام أحمد -رحمه الله - يروي بأسانيد ثلاثية كثيرة، أكثر من ثلاثمائة رواية ثلاثية، بل قرابة أربعمائة رواية -رحمه الله- والمقصود أنَّ هذه هي القسمة التي ذكروها.
ذكروا ما رواه البخاري وهكذا، لكن ذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ بعض التراجم التي تكون خارج الصحيح بسلاسل قوية، مثل: ما رواه الإمام أحمد -رحمه الله- قال: "حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس" وهذا إسناد ثلاثي عال جدًا، وهذه الثلاثيات عند الإمام أحمد -رحمه الله- قد تكون أقوى من بعض أسانيد البخاري التي رواها في صحيحه، خصوصًا إذا لم تكن من: "حفص بن غياث عن أبيه عن الأعمش"؛ لأنَّ هذه لم ترتق إلى درجة القوة، وإن كانت رواية صحيحة، لكنها لا ترتقي إلى درجة هذه السلسلة "عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر".
وبعضهم يجعل تلك الروايات خصوصًا في بعض السلاسل التي تُكُلِّمَ فيها والتي هي خارج الصحيح أقوى من هذه الرواية التي في صحيح البخاري.
الأسانيد التي تُروى في الصحيح درجات، كما قال -رحمه الله: (وَتَتَفَاوَتُ رُتَبُهُ بِتَفَاوُتِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ). هذه الرتب للصحيح عموما سواء في البخاري أو غيره، رتب أعلاها ما قيل فيه أصح الأسانيد، وكما ذكر العراقي -رحمه الله- لَمَّا قال: "وَأَهْلُ هَذَا الشَّأْنِ قَسَّمُوا السُّنَنْ إِلَى صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ وَحَسَنْ، فَالْأَوَّلُ الْمُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ، بِنَقْلِ عَدْلٍ ضَابِطِ الْفُؤَادِ، عَنْ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَا شُذُوذِ، وَعِلَّةٍ قَادِحَةٍ فَتُوذِي، وَبِالصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ قَصَدُوا، فِي ظَاهِرٍ لَا الْقَطْعَ وَالْمُعْتَمَدُ، إِمْسَاكُنَا عَنْ حُكْمِنَا عَلَى سَنَدْ، بِأَنَّهُ أَصَحُّ مُطْلَقًا، وَقَدْ خَاضَ بِهِ قَوْمٌ فَقِيلَ: مَالِكُ عَنْ نَافِعٍ بِمَا رَوَاهُ النَّاسِكُ، مَوْلَاهُ وَاخْتَرْ حَيْثُ عَنْهُ يُسْنِدُ، الشَّافِعِيُّ قُلْتُ وَعَنْهُ أَحْمَدُ، وَجَزَمَ ابْنُ حَنْبَلٍ بِالزُّهْرِي، عَنْ سَالِمٍ أَيْ عَنْ أَبِيهِ الْبَرِّ"
فمثلا هذه الأسانيد التي وقع فيها خلاف، المعتمد أنه لا يقال: إنَّ سلسلة أصح الأسانيد، بل المعتمد أن يقال: أصح أسانيد ابن عمر: "مالك عن نافع عن ابن عمر"، وأصح أسانيد علي -رضي الله عنه: "محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي"، وأصح أسانيد أبي هريرة: "أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة"، وأصح أسانيد ابن مسعود: "إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن ابن مسعود" وهكذا.
ولهذا قال الحافظ العراقي -رحمه الله- في آخر ذلك: (وَلُمْ مَنْ عَمَّمَه) أي: من عمم أصح لسانه لُمْهُ، بل الصواب أن تُقَيد وأن تقول: أصح الأسانيد عن ابن عمر، ولهذا ذكروا أنَّ الأسانيد هذه مراتب، أعلاها التي تروى كثيرًا في الصحيحين، وفي غيرهما، وفي السنن، والمسانيد، والمعاجم، مثل: "مالك عن نافع عن ابن عمر".
{لكن هل صح عن البخاري أنه قال: هذه هي السلسلة الذهبية؟}
هذا مشهور عن البخاري، وأنا لا أدري عن صحته، لكن هذا المشهور: "مالك عن نافع عن ابن عمر"، "الزهري عن سالم عن أبيه"، "محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي رضي الله عنه". وهكذا.
يلي هذه المرتبة: "بُريد بن أبي بُردة، عن أبيه أبي وردة، عن أبي موسى" هذه في الصحيحين، لكنها دون رتبة: "مالك عن نافع".
أيضًا مثلها: حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس" هذه أيضًا في رتبة رواية "بُريد بن أبي بُردة".
المرتبة الثالثة: "سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة"، و "الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب مولى الحرقة، عَنْ أَبِيهِ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ"
{أحسن الله إليكم.
هل "الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة" في أعلى الرتب بالنسبة لحديث أبي هريرة؟}
هو لا شك من الرتب العالية عن أبي هريرة، لكن هل جعلوه من أعلى الرتب عن أبي هريرة؟
الأعمش عن أبي صالح هو لا شك في الصحيحين، بل في كتب الجماعة، لكن لِمَا قِيل من تدليس الأعمش -رحمه الله-.
عندنا مثلا المرتبة الرابعة: "مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن علقمة بْن وقاص الليثي، عن أبيه، عن أبي هريرة".
المرتبة الخامسة: "محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة عن أبيه" وفي بعض النسخ: "عن جده" هذه مرتبة خامسة أضعف، فتتفاوت الرتب، لكن هذه رتب الصحيح، أمَّا هذه دون الصحيح إلى رتبة "يعقوب بن عبد الرحمن".
ما بعدها: "محمد بن عمرو" ولكن هل هي رتبة الصحيح أو رتبة الحسن؟
الأكثر على أنها من رتب الحسن، ومنهم من يجعل: "محمد بن عمرو عن أبي سلمة" رتبة جيدة، خصوصًا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أمَّا عن غيره، فلا؛ لأنَّ له أوهام -رحمه الله- ولهذا قال: (وَتَتَفَاوَتُ رُتَبُهُ).
{عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده}
هذه من رتب الحسن، وليست من رتب الصحيح، "عمر بن شعيب، وبهز بن حكيم، ونحو ذلك، هذه من رتب الحسن، ولهذا قال: (وَمِنْ ثَمَّ قُدِّمَ صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ، ثُمَّ مُسِلِمٍ، ثُمَّ شَرْطُهُمَ)
هو -رحمه الله- يريد أن يقول: والصحيح لذاته ليس رتبة واحدة، بل هو رتب كثيرة، متفاوتة في أعلى درجات الصحيح، وفي أدناها، الذي ربما يقرب من الحسن، وقد يُختلف في بعض الرواة، ولكن يجمعها كلها وصف الصحيح.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (فَإِنْ خَفَّ الضَّبْطُ: فَالْحَسَنُ لِذَاتِهِ، وَبِكَثْرَةِ طُرُقِهِ يُصَحَّحُ)}.
فإن خَفَّ ضبط الراوي، يعني: بالشروط المتقدمة، ولا نقول: خف ضبطه، وبعظهم يقول: خفيف الضبط، والأظهر أن لا يقال: خفيف الضبط لأنَّ عليها استدراك؛ لأنك إن قلت: حفيف الضبط، فهي وصف لضبطه بأنَّه خفيف، أي: قليل، وهذا يعني أنَّه أقرب إلى الضعيف، فلو قلت مثلا: قلَّ ماء الحوض، قل ماء البئر، أو قلت: الحوض قليل ماؤه!
قلَّ ماء البئر، يعني أن البئر قريب من الامتلاء، ولكن إن قلت: ماؤه قليل، في هذه الحالة صفة مشبهة لازمة لقلته، وأنَّ ماءه قليل.
(فَإِنْ خَفَّ الضَّبْطُ: فَالْحَسَنُ لِذَاتِهِ) الضبط نوعان: ضبط كتاب وضبط صدر، يعني: لا يُشترط في الضابط أن يكون حافظًا، ولكن إذا له القِمَطْرُ كتاب لا بأس، وان كان كما قال بعضهم:
فليسَ علماً ما حوى القِمَطْرُ ... ما العلمُ إلاَّ ما حواه الصدرُ
لكن إذا كان الانسان يعتمد على كتابه، فهذا يعتبر ضابط، بل جعلوا أحيانًا صاحب الكتاب أتقن؛ لأنَّ الحفظ خوان، ولكن من جمع بين الكتاب والضبط فهو في الدرجة العليا، وكان الإمام مالك وجماعة من أهل العلم يجمعون بين هذا وهذا.
(فَإِنْ خَفَّ الضَّبْطُ) والضبط، الصدر يستحضره متى ما أراد، وكأنه كالمنقوش في صدره، وضبط الكتاب أن يكون ضابط كتابة، يحفظ كتابه، يعني: لا يدخل فيه شي، ولا يعطه لمن لا يؤتمن فيدخل عليه شيء مثلا، فهو ضابط لكتابه.
(فَالْحَسَنُ لِذَاتِهِ) الحسن لذاته مثل: الصحيح ذاته، يعني: أنه نقص ضبطه عن ضبط الصحيح فهو في رتبة الحسن، والحسن كما يقول الذهبي: "أنا على إياس منه"، يعني: لكثرة تعاريفه والكلام فيه كثير، لكن الجمهور على هذا التعريف؛ لأنَّه لَمَّا نقص ضبطه حصل شيء من التعليل له عند بعض أهل العلم، لكن عند الجمهور هو الحسن لذاته.
قوله: (وَبِكَثْرَةِ طُرُقِهِ يُصَحَّحُ) هذه العبارة موضع نظر، وقد استدرك السخاوي وجماعة عليه، فقالوا: إن كان ورد كثرة الطرق، هي الطرق المنحطة، الطرق الناتجة فهذا صحيح، لكن كلامه -رحمه الله- (بِكَثْرَةِ طُرُقِهِ) يريد الحسن لذاته، والحسن لذاته لا يحتاج لكثرة طرق، ويكفي طريقان للحسن لذاته لأجل أن يُصحح، أو لأجل أن يكون صحيحًا لغيره.
فإذا جاء من طريق واحد فهو حسن لذاته، وإذا جاء من طريق حسن، وطريق ثان حسن كان في درجة الصحيح لغيره، لكن هذا عليه ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: أن تكون الطرق نازلة دون الحسن لذاته، يعني رواتها فيهم ضعف، هذا يحمل عليه كلام الحافظ، هو الذي تصححه، بأن يُروى من طرق عِدَّة فيها مقال، هذا يحمل عليه كلام الحافظ، لكن إذا روي بطرق، وهذه الطرق في درجة الحسن لذاته؛ يكفي طريقان، ومن باب أولى إذا كانت الطرق أكثر، فإن كانت أعلى فقد يكون بعض الطرق صحيحة، لكن هو يقول: (وَبِكَثْرَةِ طُرُقِهِ) يقصد الطرق الحسنة، فعلى هذا يدخل فيه مرتبتان، أن يكون الطرق ناجية وطرق مساوية للحسن، فاذا كانت من طريقين كليهما طريق حسن؛ يكفي طريقان لكي يكون من باب الصحيح لذاته، (فَإِنْ خَفَّ الضَّبْطُ: فَالْحَسَنُ لِذَاتِهِ، وَبِكَثْرَةِ طُرُقِهِ يُصَحَّحُ).
{أحسن الله إليكم.
(فَإِنْ جُمِعَا فَلِلتَّرَدُّدِ فِي النَّاقِلِ حَيْثُ التَّفَرُّدُ، وَإِلَّا فَبِاعْتِبَارِ إِسْنَادَيْنِ، وَزِيَادَةُ رَاوِيهِمَا مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ تَقَعْ مُنَافِيَةً لِمَنْ هُوَ أَوْثَقُ)}
قوله: (فَإِنْ جُمِعَ) أي الحُسن والصحة، قيل: حسن صحيح.

وإن تَجِد قولا لهم يَلوحُ ... هذا حديثٌ حسنٌ صحيحُ

هذا ذكره ناظم النخبة، وهذا يكثر في كلام الترمذي، وإن وقع لغيره لكنه للترمذي، فيقول: (فَإِنْ جُمِعَا فَلِلتَّرَدُّدِ فِي النَّاقِلِ) إذا قيل: حسن صحيح، ما معنى حسن صحيح؟
الحسن له تعريف، والصحيح له تعريف، وهذا يقع في كلام الترمذي كثيرًا، وهو جمع بين الوصفين، جمع بين الحسن والصحة، وقد وقع فيها خلاف كثير.
{هل أول من أشهره كان الترمذي -رحمه الله؟ أمَّ أنَّه قد استعمل قبل من بعض أهل العلم؟}
نعم، استعمل من قبل الترمذي، ولكن الترمذي -رحمه الله- استخدم المصطلح في مئات الأحاديث، فكثير من أحاديث الصحيحين: "حسن صحيح".
يقول الحافظ -رحمه الله-: (فَإِنْ جُمِعَا فَلِلتَّرَدُّدِ فِي النَّاقِلِ حَيْثُ التَّفَرُّدُ) يعني: إذا قال الترمذي: حسن صحيح؛ لأنَّ هذا (جُمِعَا فَلِلتَّرَدُّدِ فِي النَّاقِلِ) هذا للترمذي -رحمه الله؛ لأنَّه هو يستعمله كاليوم.
(حَيْثُ التَّفَرُّدُ) يعني: إذا كان الحديث له طريق واحد، وقال الترمذي: حسن صحيح، فما المراد؟ يقال هذا إذا كان له طريق واحد، ما المراد؟ يعني أنه حسن أو صحيح، والمعنى اختصر، يعني: أنه حسن عند قوم، وصحيح عند آخرين.
مثال: هذا الإسناد، قال أبو زُرعة في أحد رواته: إنه صدوق، وقال أبو حاتم: ثقة، والإمام أحمد، يكون حسن عند أبي زُرعة، وصحيح عند أحمد أو عند أبي حاتم.
(وَإِلَّا فَبِاعْتِبَارِ إِسْنَادَيْنِ) يعني: إذا كان له أكثر من طريق، حسن صحيح، يعني: هذا طريق حسن، وهذا طريق صحيح، لكن هذا فيه نظر، حتى في الأول قوله: (النَّاقِلِ حَيْثُ التَّفَرُّدُ) هذا كثيرًا ما يُطلقه الترمذي على أحاديث الصحيحين كثير، وهي أحاديث في أعلى درجات الصحة، "عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر" يقول: حسن صحيح، كيف يقال إنه يختلف فيه، وهذا في أعلى درجات ويطلقه أحيانا قد يكون له طريق واحد فلم يرده، ولهذا كلام الحافظ في النخبة في شرحه أحسن وهذا هو المعتمد، أن يقال: "حسن صحيح غير قوله: حسن" والترمذي -رحمه الله- عرف الحسن، فقال: "كل حديث يروى ولا يكون راويه متهمًا، ويروى من غير وجه، ولا يكون شاذا". بهذه الشروط.
وعليه فلا ندخل تعريف الترمذي للحسن، في قوله: حسن صحيح، فقوله: "حسن" هذا قاله في مصطلح، وقوله: "حسن صحيح" هذا مصطلح آخر، ولا نقول: إنَّ كلمة حسن عند الترمذي مع صحيح يريد به الحسن المستقل، هو عرَّف الحسن إذا قال حديث حسن، وإذا قال: حسن صحيح هذا مصطلح ثان. فلا ندخل قوله: حسن صحيح في قوله: حسن؛ لأنَّه يقول: حسن غريب، وهو يقول حسن له طريقان.
طيب إذا كان غريبًا كيف يقول الحسن؟ يقول هو قال: الحسن الغريب غير الحسن، ويقول: حسن صحيح غريب.
{إذًا كل مصطلح عند الترمذي له معنى خاص}.
نعم، هذا هو، ولا مشاحة في الاصطلاح، وهذا أسلم طريق حتى لا يحصل اختلاف بين تعريف الترمذي للحسن وبين أن يدخل الحسن كلمة أخرى، مثل: حسن صحيح، حسن صحيح غريب؛ لأنَّ له تقريبًا ست أو سبع اصطلاحات، مثل: حسن غريب، حسن صحيح، حسن صحيح غريب، حسن، صحيح، يعني: اصطلاحات كثيرة، فكل اصطلاح له الحد، ولعلنا نكمل -إن شاء الله- في الدرس التالي، أسأل الله -سبحانه وتعالى- لي ولنا ولكم التوفيق والسداد.
{عندنا سؤال أحسن الله إليكم.
بالنسبة لطالب العلم المبتدئ في علم الحديث، ويريد أن يقرأ في شيء من كتب السنة، هل تنصح له مباشرة أن يقرأ في البخاري -طبعا بعد دراسته للمصطلح- أم يقرأ في جامع الترمذي؟ مع العلم أنَّ بعضهم يقول: الترمذي أفضل له؛ لأنَّه أسهل في توضيح العلل، وفي الكلام على الرجال، والحكم على الأسانيد، وما شابه ذلك، بينما البخاري فالصنعة الحديثية فيه عالية}.
إذا كان طالب علم مبتدأ؛ فعليه أن يسلك طريق العلم المعتاد، ولا يأتي إلى الكتب الكبار المطولة، يعني: يسلك مع أهل العلم مع أناس يتعلم عليهم من المشايخ إلى آخره، والتعلم عن طريق الدراسة مثلا، لكن لا مانع أن يراجعوا فيما تيسر له ذلك، كتأسيس وتأصيل ما يبدأ من كتب الكبار، لكن لو كان عنده التأصيل وتأسيس في هذه الحالة لا شك أنه يعتني بالصحيحين عناية عظيمة، والعناية بالصحيحين من أهم ما يكون، إذا كان عنده التأصيل، فهما أصل في هذا الباب.
{أحسن الله إليكم، بارك الله فيكم، وشكر الله لكم شيخنا الفاضل، على هذا الشرح الطيب للناس، ونفعنا الله به، والشكر موصول للإخوة المشاهدين وإلى موعدنا -إن شاء الله- في الحلقة القادمة، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------------------
[1] يقصد حديث (إنما الأعمال بالنيات).
[2] أخرجه ابن ماجه (738).
[3] أخرجه البخاري (10)، ومسلم (40).
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ