الدرس السادس

فضيلة الشيخ عبدالمحسن بن عبدالله الزامل

إحصائية السلسلة

11585 9
الدرس السادس

نخبة الفكر

{الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بكم أعزاءنا المشاهدين، في برنامج (جادة المتعلم) الذي تنظمه جمعية هداة الخيرية، لتعليم العلوم الشرعية، يسرنا ويسعدنا أن نكمل هذه السلسلة في شرح (نخبة الفكر) في مصطلح أهل الأثر، للحافظ ابن حجر -رحمة الله عليه- يقوم بشرحه فضيلة شيخنا عبد المحسن بن عبد الله الزامل -حفظه الله تعالى- أهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
مرحبًا بكم شيخ خالد، ومرحبًا بجميع إخواني، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعل مجلسنا مجلس علم وخير وهدى.
{أحسن الله إليكم شيخنا، نستأذنكم في قراءة المتن.
قال الحافظ بن حجر رحمة الله عليه، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، في متن النخبة: (أَوْ بِزِيَادَةِ رَاوٍ: فَالْمَزِيدُ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ، أَوْ بِإِبْدَالِهِ وَلَا مُرَجِّحَ: فَالْمُضْطَّرِبُ) }.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
هذا كله تفريعٌ على ما تقدم من الطعن في الراوي، كما تقدم في أسباب الطعن وأنَّ الطعون عشرة، هذا الطعن هو في المخالفة، والمخالفة أنواع وتقدَّمت، وكذلك تقدم قوله: (أَوْ بِزِيَادَةِ رَاوٍ: فَالْمَزِيدُ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ) ، وأنَّ هذا فيه تقسيم، وتارة يُحكم بأن هذا من باب المزيد، وتارة يُحكم أن هذا ليس من باب المزيد؛ فهي زيادة ثابتة.
قال-رَحِمَهُ اللهُ: (أَوْ بِإِبْدَالِهِ) ، أي: إبدال الراوي، وهو أن يبدل التلميذ الراوي شيخه باسم آخر.
قوله: (وَلَا مُرَجِّحَ: فَالْمُضْطَّرِبُ) ، المضطرب: أن تستوي الوجوه، فلا يُدرى هل الراجح هذا الاسم أو هذا الاسم، مثلًا: يبدل الراوي الكنية مع الاسم، فيجعل الكنية اسمًا، كأن يبدأ ويقول: أبو محمد بن أحمد، ثم يقول: أبو عمرو بن حريث، أو يقول: عمرو أبو حريث، وهذا في حديث مشهور عن أبي عمرو بن محمد بن حريث في حديث السترة؛ جاء اسمه مضطربًا على أسماء كثيرة، جاء بذكر الكنية وجاء بذكر الاسم.
وقد يقع الاضطراب في المتن، وقد يقع الاضطراب في السند، والكثير أن يقع الاضطراب في السند، فلا يُدرى ما هذا الاسم؛ هل هو على هذا الوصف أو على هذا الوصف! وليس ثمَّ مرجح من أحد الطرق أنه أرجح من هذا، وذكروا حديث السترة «إذا صلَّى أحدُكم فليجعلْ تلقاءَ وجههِ شيئًا فإنْ لم يجدْ فلينصُبْ عصًا فإنْ لم يكنْ معه عصًا فليخُطَّ خطًّا ثمَّ لا يضرُّ ما مرَّ بين يديهِ» ، الحديث، وقالوا: إنه مضطرب. ومنهم من قال: إنَّ الصواب أنه لم يضطرب كما قال الحافظ: "ووهم من زعم أنه مضطرب، والصواب أنَّ إسناده حسن"، والأظهر -والله أعلم- أنَّ هذا الحديث لا يدخل في المضطرب، فهو وإن قيل إنه مضطرب لكن علَّته العليلة هي الجهالة، ومع الجهالة فيه اضطراب؛ لكن علة ضعف الحديث هي للجهالة.
{لو قلنا ليس بمضطرب، فتبقى علة الجهالة في الراوي}.
العلة موجودة لأنه مجهول، أبو عمرو محمد بن حريث، أو محمد بن أبي عمرو بن حريث، فتارة يُنسَب إلى أبيه، وتارة ينسب إلى جده، اضطرب في اسمه.
ومن الأحاديث المضطربة: حديث زيد بن أرقم: «إنَّ هذه الحُشوشَ مُحْتَضَرةٌ؛ فإذا أتى أحَدُكم الخَلاءَ فلْيَقُلْ: أَعوذُ باللهِ مِن الخُبُثِ والخَبائِثِ» ، هذا رُوي عن زيد بن أرقم، ورُوي من طريق قتادة عن زيد بن أرقم، وروي من طريق قتادة عن النضر بن أنس عن زيد بن أرقم، ورُوي عن قتادة عن النضر بن أنس عن أبيه أنس بن مالك، ورواه عن قتادة سعيد بن أبي عروبة وشعبة وهشام الدستوائي؛ وذكر كثير من الحفَّاظ أنه مضطرب.
وبعضهم قال: ليس بمضطرب، ومنهم البخاري، قال: "يمكن قتادة أن يكون سمع من الجميع"، ولا يكون فيه اضطراب.
وعلى هذا؛ تارة يكون الاضطراب متفق عليه، وتارة يُختلف فيه، فالشأن أن يُختلف في الاسم ولا يأتي ترجيح لأحد الوجوه أو الوجهين.
يقول الحافظ العراقي:

مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ مَا قَدْ وَرَدَا ... مُخْتَلِفًا مِنْ وَاحِــــــــــــدٍ فَأَزْيَدَا
فِي مَتْنٍ أَوْ فِي سَنَدٍ إِنِ اتَّضَحْ ... فِيهِ تَسَاوِي الْخُلْفِ أَمَّا إِنْ رَجَحْ
بَعْضُ الْوُجُوهِ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرِبَا ... وَالْحُكْمُ لِلرَّاجِـــــحِ مِنْهَا وَجَبَا

فيكون الاضطراب في متن أو في سند إن اتضح تساوي الوجوه، وإلا لم يكن مضطربًا.
قال:

........................... ... وَالْحُكْمُ لِلرَّاجِحِ مِنْهَا وَجَبَـــــا
كَالْخَطِّ لِلسُّتْرَةِ جَمُّ الْخُلْفِ ... وَالِاضْطِرَابُ مُوجِبٌ لِلضَّعْفِ

هو جعل حديث السترة من هذا الباب على هذا الوجه، فأنت إذا نظرت له من جهة الاضطراب وأنَّه اختلف فيه فممكن، لكن تجعل علة الضعف الاضطراب؛ فالأظهر -والله أعلم- أن العلة التي تعله هو الجهالة، مع الاضطراب فيه فهذا مما يزيده ضعفا.
{لكن هناك أحاديث علتها الاضطراب}.
نعم، كحديث «شَيَّبَتْنِي هودٌ وأخَوَاتُه» ، والبحث يطول في هذا، فجاء عن أبي بكر، وجاء بطرق كثيرة، وهو من رواية أبي إسحاق السبيعي، ووقع فيه خلاف كثير، وهو من أظهر الأحاديث في هذا، لأن أسانيده فيها قوة، وقيل إن الوجوه مستوية في هذا، فهو في حكم الحديث المضطرب.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ يَقَعُ الْإِبْدَالُ عَمْدًا امْتِحَانً) }.
وهذا مما يبين أن الإبدال تارة يكون غلطًا، وهذا لا مفر منه ما دام غلط ولا إثم على مَن فعله، ومَن وقع فيه؛ لأنه غير متعمَّد، وهو من باب النسيان أو من باب الغلط في رواية هذا الاسم، أو لأسباب أخرى، قد يكون من جهة تعادل الروايات ولا ترجيح في هذا، وقد يقع الإبدال عمدًا.
قوله: (امتحان) ، هذا كأنه مفهوم أنه إذا لم يكن امتحانًا فلا يجوز، فمعنى أنك تمتحن الشيخ بهذا الحديث وتغيِّر عليه الرواية حتى تنظر، فهو من باب الاختبار، وقد يكون من باب التَّلقين، وفي قصة المشهورة للإمام البخاري وقصة أيضًا لابن عدي-رَحِمَهُ اللهُ-، ولكن أشهر من ذلك قصة البخاري في امتحانه بمائة حديث التي أبدلوها على عشرة أوجه، عشرة رجال كل واحد معه عشرة أحاديث، فرد كلَّ متن لسنده وكل سند إلى متنه، فلم يتعجَّبوا من كونه أتى بالصواب،؛ لأنه إمام حافظ، لكن تعجبوا من كونه حفظ الخطأ في جلسة واحدة مع اضطراب الأسانيد والمتون واختلاف المخارج، قال: حديثك هذا الذي رويته من كذا صوابه كذا وكذا حتى عدَّ العشرة، ثم عشرة، ثم عشرة، عدَّ المئة كلها، وكل إسناد يذكر الخطأ فيه ثم يرده إلى الصواب.
إذَا؛ إذا كان الإبدال بقصد الامتحان لأجل الاختبار ومعرفة الراوي؛ فهذا لا بأس به، وبعض السلف كره هذا، ولا يختلفون أنه إذا أراد بذلك شخص أمرهم منبهم لا يُعلم؛ فيمتحنونه حتى ينفضح، فافتضح قوم بالكذب، والقصص كثيرة في هذا، منها قصص لا تصح، ومنها قصص ثابتة، ومن أشهرها: قصة أبي نعيم، واسمه الفضل بن دكين مع يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وأحمد بن منصور الرمادي في القصة التي اختبر فيها يحيى بن معين أبا نعيم، وكان أحمد يقول: لا تفعل، الرجل ثقة، فأبى يحيى بن معين وأصر أن يختبره، فأخذ ثلاثين حديثًا، عشرة عشرة عشرة، ووضع على رأس كل عشرة حديثًا ليس من حديثه، وكان قد خرج له في دكَّة، وكان الإمام أحمد عن يمينه ويحيى بن معين عن شماله وأحمد بن منصور رمادي أمامه وكان معه يخدمهم، فجعل يسأل يحيى بن معين عن عشرة من الأحاديث هذه؛ فلما جاء الحديث الحادي عشر قال أبو نعيم الفضل بن دكين: "هذا ليس من الحديث؛ اضرب عليه" لم يستغرب، ثم جاء بعشرة ثانية؛ فعرفها كلها فلما جاء الحديث الحادي عشر قال: اضرب عليه ليس من الحديث، ثم جاء بالعشرة الثالثة ليتم الثلاثين، فعرفها ثم جاء بالحديث الحادي عشر، فقال: ليس من حديثه، فتغيَّر وجهه واحمر وتغيرت عيناه، فأمسك بيد الإمام أحمد فقال: أمَّا هذا فأورع من أن يفعل هذا، وأمَّا هذا -يعني أحمد منصور الرمادي- فأقل من أن يفعل هذا، لكنه منك يا كذا يا كذا، فرفع رجله فرفسه ثم سقط من الدُّكان، فقال الإمام أحمد: قد قلت لك إنه ثقة حافظ. قال: والله لرفسته أحب الي من رحلة.
فقد يقع الإبدال عمدًا امتحانًا، وهذا كان يفعله الإمام يحيي بن معين كثيرًا -رَحِمَهُ اللهُ-، ويفعلونه أحيانًا حين يريدون أن يختبروا، ويفرحون كثيرًا إذا وجدوا الإنسان الذي يُعرَف بالحفظ، ثم يختبرنه فيكون ضابطًا، فيفرحون بذلك؛ لأنه عند ذلك تحلو الرواية عنه، ويطلبون سماع حديثه لأنه ضابط حافظ ثقة.
ويجب حال الامتحان عمدًا أن يُبيَّن الصواب، ما يجوز ترك الخطأ، لأنه قد يعلق الخطأ في الذهن فيحفظ ما ليس الصواب، فيجب البيان، لكن حين يكون على غير هذا الوجه فإنَّه من باب رواية الأحاديث الموضوعة والأحاديث التي لا تصح؛ فهذا هذا لا يجوز.
{أحسن الله إليك.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (أَوْ بِتَغْيِيرٍ مَعَ بَقَاءِ السِّيَاقِ: فَالْمُصَحَّفُ وَالْمُحَرَّفُ) }.
السياق ما يتغير، تقرأ أنت الكلام لا تستنكر منه شيء، لكنه فيه تصحيف، مثل ما يقع التصحيف في بعض الكلمات تقرأها ما فيها نكارة، وما أحد يستنكرها، لكن الحديث هذا فيه تحريف وتصحيف، ثم إن هذا التصحيف والتحريف ليس له شيء يدل عليه، لا سباق ولا لحاق، هذا السياق ليس له دلالة من سباق -شيء يسبقه- ولا من شيء يلحقه ولا من قياس، خاصة في باب الأسماء، لأن هذا مبناه الحفظ، ما في شيء يقاس عليه، ما في شيء يدلَّل عليه، يقال: سبقه هذا فهو هذا، لا، تُبنى على الحفظ.
وظاهر كلام الحافظ أن المصحَّف والمحرَّف شيئان، لأنه عطفهم على بعض، والعطف يقتضي المغايرة، والأكثر والذي عمل أهل الاصطلاح أنه لا فرق بينهما، ولهذا كلامه حتى في شرح النخبة ليس واضحًا في هذا التفريق، لكن على ما ذكرَ فإنَّ المصحف يكون النقط، مثلا: "بريد ويزيد، وأَسِيد وأُسَيْد"؛ الشكل واحد للكلمة لكن الخلاف في النقط "يزيد، بريد"، "حزام، حرام"، "شريح، سريج"، "حازم، وخازم"، فهذه الأسماء التي تشتهر كثيرًا "حرام" عند الأنصار و"حزام" عند قريش كثيرًا؛ فهذا يختلف في مسألة النقط وتختلف أيضًا الحركات.
المحرَّف على هذا يكون في شكل الكلمة، سواء في الأسماء أو في الكلمات، مثل حديث: «مَن صامَ رَمَضانَ ثُمَّ أتْبَعَهُ سِتًّا مِن شَوَّالٍ» يُذكر أن أبا بكر الصولي أحد الحفاظ لما جلس للتدريس -وهذا من الغرائب- لما قرأ الحديث قال: "من صام رمضان وأتبعه شيئا من شوال" بدل «سِتًّ» قال "شيئًا" فيه اختلاف لكنه قريب من جهة الشكل.
وكذلك في باب الأسماء: صحَّف شعبة بعض الأسماء-رَحِمَهُ اللهُ- مثل: "خالد بن علقمة" صحفه إلى "مالك بن عرفطة" أحيانًا يحصل لبس متقارب في السماع.
ومن هذا: أن بعضهم قد يقع منه تصحيف وقد يكون من الكبار، مثل ما يُروَى عن بعضهم، أن أحدًا جلس في مجلس الذهلي رجل يقال له: محمش محمد بن يزيد، فروى حديث: «يا أبَا عُمَيْرٍ، ما فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» ، فقال: "يا أبا عمير ما فعل البعير؟"، فهذا لا يُضبط بالنقط، وكما قال الحافظ ابن حجر-رَحِمَهُ اللهُ- في استدراكه عن الذهبي: "القلم لا يشفي من الألم".
إنَّما يشفي إذا قُيِّدَ بالحروف، فيُقال: السين: المهملة، الباء: المنقوطة من أسفل، أو المثناة من أعلى، الياء: آخر الحروف، وما أشبه ذلك، فهذا هو المصحَّف، لكن المعروف عند الأكثر وعند المتقدمين أنهم لا يفرِّقون بين المصحَّف والمحرَّف، والمصحَّف المحرَّف هذا شيء مهم، وهذا يدعو إلى الضبط، خاصة في الأسماء التي يقع فيها مثل هذا، وللدارقطني قصص في هذا مشهورة مع مَن كان يقرأ عنده، وربما صحَّح له وهو في الصلاة-رَحِمَهُ اللهُ.
{أفضل كتاب هذا هو كتاب العسكري؟}.
كتاب العسكري فيه التَّصحيف والتَّحريف، وكتب المشتبه أفضل، فالمشتبه النسبي أفضل ما يضبط في باب الأسماء، لأن هذا في الأسماء فيه مشتبه النسبة، أنت تأتي إلى مشتبه النسبة وتجده يضبطون كل هذه الأسماء ويبينونها، لكن أحيانًا يكون هناك قواعد، مثلا: "كل سُلَيم" يكون بالضَّم، مثل: سُليم بن منصور، ويحيى بن أبي سُليم، والليث بن أبي سُليم، وما أشبه ذلك، إلَّا "سليم" واحد بالفتح.
وهكذا مثلا: "بَشِير وبُشَيْر"، غالبها "بَشير" بالفتح، إلَّا اثنان بالضم: بُشير بن كعب العدوي،
وهناك بعض الأسماء ما تضبط إلا بالحفظ مثلا: "بُرَيْد ويَزيد"، و"أبو الحَوراء، أبو الجوزاء" أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي، أبو الحوراء ربيعة بن شيبان، والرسم واحد.
فإن قيل: "حدثنا أبو الحوراء..."، فيُصحَّف بـ "أبو الجوزاء"، لكن إذا ذُكِرَ اسمه بعده يتَّضح، مثلًا إذا قال: "حدثنا أبو الحوراء ربيعة بن شيبان"؛ إذا كنتَ تحفظ تقول: خطأ! هذا أوس بن عبد الله الربعي، وليس ربيع بن شيبان، لأن أبا الجوزاء هو أوس بن عبد الله الربعي، فإذا ذُكِرَ أوس بن عبد الله الربعي ومكتوب "أبو الحوراء"؛ تقول: لا، هذا أبو الجوزاء. وإذا قال: أبو الجوزاء ربيعة بين شيبان؛ تقول: لا، هذا أبو الحوراء.
{وإذا كانوا في الإسناد يُمكن يُميِّز الطالب الشيوخ والتلاميذ أيضًا}.
مَن يعرف الشيوخ والتلاميذ يعرف الرواة من باب أولى، بدل أن تضبط ثلاثة؛ اضبط واحدًا.
ولهذا كان شعبة -رَحِمَهُ اللهُ- لما كتب "أبو الحوارء" كتب فوقها "حور عين"، حتى يعرفه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا يَجُوزُ تَعَمُّدُ تَغْيِيرِ الْمَتْنِ بِالنَّقْصِ وَالْمُرَادِفِ إِلَّا لِعَالِمٍ بِمَا يُحِيلُ الْمَعَانِي، فَإِنْ خَفِيَ الْمَعْنَى احْتِيجَ إِلَى شَرْحِ الْغَرِيبِ، وَبَيَانِ الْمُشْكِلِ)}.
لا يجوز تعمُّد تغيير المتن بالنقص والمرادف إلا لعالم.
النقص: أن تنقص من الحديث، وأحيانًا قد يكون نقصًا يخل المعنى، يأتي إنسان يقول: قال رسول الله : "لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بالذَّهَبِ..."، نقول: هذا فيه نقص! يقول: الرسول قال هذا! نقول: الرسول قال: «إلَّا سَواءً بسَواءٍ» ، فهذا نقص لا يجوز.
لكن لو قال: قال رسول الله : «لَا تَحاسَدُوا، ولا تَباغَضُو»، فلو جاء بجملة واحدة فالمعنى تام وصحيح، فكل خصلة من هذه الخصال منهي عنها، لم تشترط خصلة في خصلة، لكن هذا استثناءٌ مقصودٌ لابد منه.
ولأنه لو قال "لا يجوز بيع الذهب بالذهب" يفهم منه أنه لا يجوز بيع الذهب بالذهب مطلقًا حتى ولو كان يدًا بيد، فقوله «إلَّا هَاءَ وهَاءَ» يفهم منه أنه يجوز يدًا بيد بدون مفاضلة.
مثلًا لو قال: يقول الرسول : «نَهَى عن بَيْعِ الثِّمَارِ...»، نقول: لا يجوز هذا النقص، لأن هذا النقص مخل؛ لأنَّ الرسول أتى بالغاية فقال: «حتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَ» ، هذا حديث متواتر عن جمع كثير من الصحابة جابر وابن عمر وأنس وأبي هريرة وابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- وأكثرها في الصحيحين، فلهذا لا يجوز النقص من الحديث.
لكن إذا أراد أن يغير المرادف، كأن يأتي بلفظ مترادف، فهذا الترادف فيه خلاف، فيأتي بلفظ فيه نفس المعنى، شرط أن يكون عالما بما يحيل المعني، لأن تغيير المعنى لا شك أنه نوع تحريف.
وقوله: (بِمَا يُحِيلُ الْمَعَانِي) ، يدل على أنه يجوز الرواية بالمعنى للعالم، لأن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- رووا الأحاديث، عن أنس وابن مسعود وقد روى ابن ماجه في المقدمة عن أنس وعن لبن مسعود وجماعة من الصحابة وعن واثلة بن الأسقع، حتى قال بعضهم: "إن كنا نحدثكم عن المعنى فإننا نكذب" وقاله هذا المعنى كثير من السلف.
وقال واثلة: "إن أحدكم يكون مصحفه معلق عنده في داره فيخطئ فيه"، فالمعنى: أن ما أحد يمكن يدعي أنه يحفظ ويضبط؛ بل لابد أن يرجع إلى أصله، لكن الرواية في حديث النبي يجوز بمعنى، ولهذا قال أنس وجماعة "مثله، شبهه، يقاربه"، نحو ذلك أو يُقال: "كما قال رسول الله ".
ثم أيضًا مما يدل عليه: أن الأحاديث كثيرة يرويها الصحابة ويذكرها المصنفون في الحديث بأسانيدهم، فيروون حديثًا واحدًا، ويكون عند هذا وهذا المجتمعون على المعنى مع اختلاف في اللفظ، وأجمعوا على جواز شرح الشريعة للعجم بغير لسان العرب، فإذا كان يجوز بغير لسان العرب فما كان بلسان العرب بالمعنى من باب أولى.
قال: (فَإِنْ خَفِيَ الْمَعْنَى احْتِيجَ إِلَى شَرْحِ الْغَرِيبِ) ، الغريب: يعني الألفاظ التي فيها غرابة، مثل: «لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ بَيْعَ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَ» ، وهذا يأتي في كتب الغريب كثيرًا، فيرجع إلى الكتب تفسِّر هذه الكلمات، مثل حديث: «أنَّ رَجُلًا ذَكَرَ للنَّبيِّ أنَّه يُخْدَعُ في البُيُوعِ، فَقالَ: إذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لا خِلَابَةَ» ، ومعناها: لا خديعة، من خلبه: إذا خدعه.
وكذلك أيضًا حديث: «نَهَى رَسولُ اللَّهِ عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ» ، إذا احتيج إلى شرح الغريب فلا يكتفى في شرح الغريب بالرجوع إلى كتب اللغة، ولا إلى الكتب التي تستند إليها في كتب الغريب؛ بل لا بد من الرجوع إلى الفقهاء، وإلا كما يقول أبو عبيدة القاسم بن سلام وشرح كلامه ابن رجب-رَحِمَهُ اللهُ: "حرَّف الكلم عن مواضعه"، كثيرًا ما تفسَّر بعض ألفاظ النبي وتحمل على اصطلاحات ليست مرادة منه ، ولهذا يقول ابن رجب-رَحِمَهُ اللهُ: "إن الصحابة تلقوا عن النبي وتلقى عنه التابعون وهكذا ثم تلقاها عنهم العلماء والفقهاء، فمن رام أن يأخذ تفسير الغريب من كتب اللغة فإنَّه يحرف الكلمة عن مواضعه"، هذا كلام ابن رجب -رَحِمَهُ اللهُ- وهو أصل كلام أبو عبيدة القاسم بن سلام، وذُكر هذا في فتح الباري، وذكر كلام أبي عبيدة القاسم بن سلام-رَحِمَهُ اللهُ.
{مثل تفسير القرآن لا يعتمد فقط على اللغة، ننظر إلى كلام الرسول وتفسير الرسول وتفسير الصحابة، لأن اللغة حمالة أوجه}.
تفسير القرآن -مثل ما ذكر العلماء-يكون بالترتيب، فإذا كان من رسول انتهى الأمر، فيفسر القرآن بالقرآن ثم بالسنة.
{أنا أقصد الذين يعتمدون فقط على اللغة ولا يرجعون إلى تفسير القرآن بالسنة وأثر الصحابة}.
كونه يرجع إلى اللغة وحدها وعنده ما يرجع إليه من تفسيره بالقرآن؛ فلا شك أن هذا إعراض عن التفسير الصحيح، لكن لا مانع حين يُحتاج إلى تفسير ولا يتبين له فيأخذ من كلام السلف -رحمة الله عليهم-، لأن تفسير القرآن في كلام السلف -رحمة الله عليهم- ما يغني عن هذا، والسلف أئمة في باب اللغة، والمفسرون المتقدِّمون هم في عصر الحجة في اللغة.
فالمقصود أنه أخذ كلام أبي عبيدة -رَحِمَهُ اللهُ- وقال هذا المعنى وأنَّ هذا هو الواجب، ومن ذلك تفسير "الصماء"، يقول أكثر الفقهاء: الصماء هو أن يلف الثوب على بدنه لفًّا ويكون كالشيء الأصم، كالصخرة الصماء، لا يجعل له فتحة وليس له منفذ من هنا أو من هنا، فلو أراد أن يتحرك انكشفت عورته، لكن ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه عليه قال: "وَهُوَ أَنْ يَلْتَحِفَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ يَرْفَعُ جَانِبَهُ عَلَى مَنْكِبِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ غَيْرُهُ"، واختلف هل هو من قول النبي أو هو من قول أبي سعيد؛ ومنهم من قال: إنه من كلام النبي .
وقد يكون من كلام أبي سعيد، فهذا يكون تفسير عظيم من أبي سعيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وأنَّ المراد الصماء: هو أن يضع ثوبه -وخاصَّة كانوا يلبسون ثوبًا واحدًا يكون كالإزار والرداء ويكون ثوبًا كبيرًا- ثم يضعه على أعلاه ثم يلفه على كتفه وينزل، فيبدو شقه الأيمن من جهة الفخذ فتنكشف فخذه، فهذا هو التفسير الصحيح لها.
ولهذا فإن الغريب لابد أن يكون تفسيره مأخوذ من كلام الفقهاء -رضي الله عنهم.
قال: (وَبَيَانِ الْمُشْكِلِ) ، المشكِل يكون فيه اللفظ واضح ليس غريبًا، لكن المعنى أو الدلالة غير واضحة، فبعض الألفاظ تأتي مشكلة وقد تحتاج إلى تفسير لها، وينبغي الحذر في مسألة المشكِل من كلام كثير ممن يفسر المشكل بأنها هي آيات الصفات وأحاديث الصفات، فيصرفونها عن ظاهرها ويحرفونها، فهؤلاء هم أهل البدع، فيجعلون أوضح الواضحات من المشكلات في آيات الصفات وأحاديث الصفات عن النبي ! وسيأتينا أيضًا أنهم يذكرون في باب البدعة لفظ "المجسِّمة" ويفسرون التَّجسيم بأنه إثبات الصفات الخبر لله -سبحانه وتعالى- كما سيأتي إن شاء الله- فهذا لا شك أنه أمر ينبغي الحذر منه، والتنبيه على مَن وقع في مثل هذا واغترَّ وغلط وأخطأ في هذا الباب.
{أحسن الله إليك.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ الْجَهَالَةُ: وَسَبَبُهَا أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ تَكْثُرُ نُعُوتُهُ فَيُذْكَرُ بِغَيْرِ مَا اشْتُهِرَ بِهِ لِغَرَضٍ، وَصَنَّفُوا فِيهِ الْمُوَضِّحَ) }.
لما فرغ -رَحِمَهُ اللهُ- من مخالفة قال: (ثُمَّ الْجَهَالَةُ) ، لأن هذه من باب الطعن في الراوي، وكما تقدم من أسباب الطعن العشرة، ولهذا قال: (أَوْ جَهَالَتِهِ) ، فالجهالة سبب من أسباب الرد الحديث، لكن الجهالة منقسمة، وسبب انقسامها أن الراوي قد تكثر نعوته، فيقال مثلًا: أبو فلان له كنية وله اسم وله نسبة، وله بلد ينتسب إليها، وله قبيلة ينتسب إليها، وله حرفة ينسب إليها، أو عمل، أو نحو ذلك، نِسب كثيرة مثلا، فيذكر بأحدها، ويكون هذا الذي ذكر به لا يعرف به، يكون اشتهر مثلا بحرفة أو اشتهر باسم لا يذكر به.
قال: (قَدْ تَكْثُرُ نُعُوتُهُ فَيُذْكَرُ بِغَيْرِ مَا اشْتُهِرَ بِهِ لِغَرَضٍ) ، لأنه إذا ذكر بما اشتهر به تبيَّن أمره، مثلًا: محمد بن السائب الكلبي مشهور باسمه هذا، هشام بن محمد هذا مترك كذاب، لكن كنَّاه أحد وقال: حدثنا أبو النضر.
وأبو عطية بن سعد العوفي كنَّى محمد بن السائب بأبي سعيد، وهذه كنية معروفة لأبي سعيد الخدري، وكان يأخذ عن أبي سعيد الخدري وعاصره وأدركه، وكان يكني محمد السائب بأبي سعيد؛ وهذا يدخل في باب التدليس، وهذا يريد أن يرفعه.
لكن إذا كان الراوي له أسماء كثيرة أو نعوت كثيرة، فيذكَر بغير ما اشتهر به لغرض، ثم قد يكون الراوي معروفًا لكنه يذكر بكنية، مثل الحارث بن أبي أسامة يروي عن ابن أبي الدنيا، وابن أبي دنيا مشهور، فيقول أحيانًا: حدثنا محمد القرشي، أو ينسبه إلى جده، مع أنه إمام ثقة، لكن لكثرة ما يروي عنه، أو لأنه أصغر منه في السن-رَحِمَهُ اللهُ- فقد لا يبيِّن اسمه، فيذكر اسمه أحيانًا ويذكره بالنسبة أحيانًا، ويذكره بالنسبة إلى جده؛ فقد يوهِم كثرة المشايخ لكنه شيخ واحد، لكن حين يُذكَر بكنية لا يُعرف بها أو نعت لا يعرف به فإنَّه يكون سبب في ألا يعرَف؛ فلهذا قال: (بِغَيْرِ مَا اشْتُهِرَ بِهِ لِغَرَضٍ) ، مثلا لإيهام كثرة المشايخ أو نحو ذلك، أو قد يكون صغيرًا لو ذكر اسمه لقيل له: كيف تأخذ عن هذا! أو يكون ضعيفًا فيكون هذا نوعٌ من التدليس، فالأغراض كثيرة، وقد تكون مباحة وقد تكون أغراضًا لا تجوز، خاصَّة إذا كان ترويجًا لإنسان متهم، مثل تدليس أسماء وكنى الضعفاء، وهذا يقع من كثير ممَّن يكني هؤلاء حتى يَدرجوا، لكن يبقى لها الجهابذة ينخلونها نخلًا.
قال: (وَصَنَّفُوا فِيهِ الْمُوَضِّحَ) ، كتاب "الموضح لأوهام الجمع والتفريق" للخطيب البغدادي، فبينوا بذلك مَن هذا الذي سُمي بغير ما اشتهر به.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ يَكُونُ مُقِلًّا فَلَا يَكْثُرُ الأَخْذُ عَنْهُ، وَصَنَّفُوا فِيهِ الوُحْدَانَ، أَوْ لَا يُسَمَّى اخْتِصارًا، وَفِيهِ المُبْهَمَاتُ، وَلَا يُقْبَلُ المُبْهَمُ وَلَوْ أُبْهِمَ بِلَفْظِ التَّعْدِيلِ عَلَى الْأَصَّحِ) }.
قوله: (وَقَدْ يَكُونُ مُقِلًّ) ، يعني ليس له رواية، ما روى عنه إلَّا الواحد أو الاثنان؛ فلهذا يكون مجهولًا لقلة الآخذ عنه، فهذا سببٌ للرد، لأننا لا نعرفه، قد يكون الذي أُبهِم معروفًا في الأصل، وقد يكون ثقةً لكن أبهمه؛ فلا يقبله، لأن شرط القبول ليس موجودًا وهو لعدالة، كيف نعرف أنه عدل وهو مجهول؟!
قال: (وَصَنَّفُوا فِيهِ الوُحْدَانَ) ، وهو للإمام مسلم.
قال: (أَوْ لَا يُسَمَّى اخْتِصارً) ، كأن يقول: حدثني فلان، أو شيخ..، ونحو ذلك؛ هو قال اختصارًا الحقيقة.
وهنا كلمة (اخْتِصارً) قد يقال فيها نظر! فحين يقول: "حدثني فلان" ولا يذكر اسمه، فهذا اختصار موهِم في الحقيقة، إنسان حدثك، فإمَّا أن يكون الذي حدثك ثقة معروف أو ضعيف، فإن أبهمته فهذا نوع كتمان لأمر يجب بيانه، أنت الآن لم تبين هذا الشخص حتى يُعرف، فيرد الحديث، أيضًا إن كان ثقة لماذا لم تبينه؛ لأن إبهامك شبه في رد الحديث؟!
فالذي يظهر أنه لو قيل: (أو لا يسمى لغرض) لكان أولى، أمَّا قوله: (اخْتِصارً) ، فهذا محتمل!
فلو قال إنسان: "حدثني فلان، أو حدثني شيخ" ما ندري من فلان ومَن الشيخ؛ ففي الغالب أنه لو كان شيخه ثقة لما أبهمه ولَصاحَ به وافتخر به كونه أخذ.
قوله: (وَفِيهِ المُبْهَمَاتُ) ، أُلِّفَ فيه كتب.
قله: (وَلَا يُقْبَلُ المُبْهَمُ وَلَوْ أُبْهِمَ بِلَفْظِ التَّعْدِيلِ عَلَى الْأَصَّحِ) ، لو قال: "حدثني فلان أو شيخ"، ولو قال: "حدثني الثقة"، ولو قال: "كل من أحدثكم عنه ثقة، أو كل من أبهمته ثقة"، كذلك، فقد يكون ثقة عندك وليس ثقة عند غيرك، فلا يقبل على الأصح. وبعضهم قال: يُقبل إذا كان لا يحدث إلَّا عن ثقة، لكن الأظهر أنه لا يُقبل، لأن شرط القبول غير موجود، وهو العدالة والضبط، لأنه ربما يكون ثقة عندك ولا يتبيَّن لك أنه ضعيف، ويكون ضعيفًا في نفس الأمر.
{مثل قول الشافعي: "حدثني الثقة"}.
وهو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، وهو متروك، وقيل فيه: " لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يكذب" -رَحِمَهُ اللهُ- وهو متروك، فهو اتُّهم لكن خفي على الشافعي، فقد وقع لمالك مثل هذا، ووقع للإمام أحمد ووقع للشافعي مع رواة معروفين.
{أحسن الله إليك.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ سُمِّيَ وَانْفَرَدَ وَاحِدٌ عَنْهُ: فمَجْهُولُ الْعَيْنِ، أَوِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا، وَلَمْ يُوَثَّقْ: فَمَجْهُولُ الحَالِ، وَهُوَ الْمَسْتُورُ) }.
قوله: (فَإِنْ سُمِّيَ وَانْفَرَدَ وَاحِدٌ عَنْهُ: فمَجْهُولُ الْعَيْنِ) ، يعني إذا كان هذا الذي أُبهم سُمِّي أو كان الراوي الذي لم يَروِ عنه إلا الواحد أو الاثنان قد سمي وقيل: فلان بن فلان وما روى عنه إلا واحد، فمجهول العين، هذا هو المشهور عند كثير من أهل العلم بالحديث، يقولون: إذا روى عنه واحد فهو مجهول عين، لا يعرف عينه، يمكن لا وجود له، فهذا لا يعرف.
قال: (أَوِ اثْنَانِ فَصَاعِدً) ، يعني روى عنه اثنان من أهل العلم فصحيح.
قوله: (فَصَاعِدً) ، كأن يكون روى عنه ثلاثة أو أربعة.
قال: (وَلَمْ يُوَثَّقْ: فَمَجْهُولُ الحَالِ، وَهُوَ الْمَسْتُورُ) .
إذًا؛ المجهول نوعان:
- مجهول عين.
- ومجهول الحال وهو المستور.
ومنهم مَن فرَّق بين مجهول الحال والمستور.
ومن أهل العلم من لم يجعل هذا التَّقسيم فرطا بين من روى عنه واحد ومن رواه أكثر، وقال: إنه لا فرق بين أن يروي واحد أو اثنان، قد يروي عنه واحد ويكون مجهول الحال، ويروي عنه اثنان ويكون مجهول العين، وهذا هو الذي ذكره ابن رجب وجماعة عن كثير من الحفَّاظ الكبار المتقدمين، وقالوا: إنه قد يروي مثل الحفاظ الكبار كعبد الرحمن بن مهدي وشعبة وسفيان ونحو ذلك يروون عن شخص وتكون هذه الرواية عنه ترفعه من جهالة العين إلى جهالة الحال، وقد يروي عنه اثنان ليسا مشهورين فلا يبقى على جهالة العين، وهذا هو الأظهر، لأن الذي ذكروه غير منضبط،.
وعلى كل حال؛ فإنَّ مجهول العين ومجهول الحال على الصَّحيح -وهو في مجهول الحال عند الجمهور- أنه لا تقبل روايته، لأن شرط قبول الرواية: الضبط والعدالة، وهي غير متوفرة لكونه لم يعرف.
ومن أهل العلم من قال: إذا كان قد روى عنه عدد ولم يُجرَح فإنَّه يقبل.
ومنهم من قال: إذا كان في عهد التابعين ونحو ذلك فيُقبَل.
وهذا كله فيه نظر والصواب: أن مدار القبول هو التوثيق، وأن يكون التوثيق من معتبر، فلو كان التوثيق ممن لا يُعتَبر توثيقه كابن حبان فإنه لا يُخرجه إلى حيز القبول.
{الراوي الذي يقولون عنه: سكت عنه البخاري ولم يذكر فيه جرح ولا تعديل، وكذلك سكوت أبي حاتم؛ فهل سكوت البخاري وأبي حاتم يُعد توثيقًا كما قال بعضهم؟}.
لا يُنسَبُ إلى ساكتٍ قول، وأحيانًا تأتي جملة "سكتوا عنه" وتدل على الجرح، لكن الصحيح أن "سكتوا عنه" يعني أنه لم يُؤثَر في ترجمته كلام، ففي هذه الحالة نقول: مدار القبول لم يثبت فلا يُقبَل، فلابد من طريقٍ يُقويه أو من دليلٍ آخر، فيبقى في حيز الجهالة، ولا شك أن الجهالة درجات، بعضها قد تكون جهالة قويَّة، قد يكون روى كثير ويُعرف اسمه وتُعرَف بلده لكنه لم يُوثَّق، فيبقى على الجهالة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ الْبِدْعَةُ: إِمَّا بِمُكَفِّرٍ، أَوْ بِمُفَسِّقٍ.
فَالْأَوَّلُ: لَا يَقْبَلُ صَاحِبَهَا الْجُمْهُورُ.
وَالثَّانِي: يُقْبَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً فِي الْأَصَّحِ، إلَّا أنْ يَرْوِيَ مَا يُقوِّي بِدْعَتَهُ فَيُرَدُّ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْجَوْزَجَانِيُّ شَيْخُ النَّسَائِيِّ)
}.
قوله: (ثُمَّ الْبِدْعَةُ: إِمَّا بِمُكَفِّرٍ، أَوْ بِمُفَسِّقٍ) ، كلمة "مكفر" يريد أن نفس الفعل كفر لا أنه كافر.
قوله: (فَالْأَوَّلُ: لَا يَقْبَلُ صَاحِبَهَا الْجُمْهُورُ) ، لو حكمنا بكفره فإن الإجماع عدم قبوله، لكن فيما يظهر أنهم لا يريدون بالمكفِّر نفس الشخص، ولكن يريدون أن فعله ومعتقده وبدعته التي خالفت أمرًا معلومًا من الدين ومع ذلك وقع فيها لكونه اشتبه عليه الأمر مثلًا أو لُبِّسَ عليه بعض أمور التوحيد والعقيدة فخالف فيها؛ فمَن وقع في هذه الأمور بعد العلم والفهم والإدراك فهو كفر.
إذًا؛ نقول: هذا الفعل كفر، أما نفس الشخص لا نكفر حتى تقوم عليه الحجة.
الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- كان يدعو للولاة الذين في زمانه ممن قالوا بخلق القرآن، والسلف مجمعون على أنه كفر، ومع ذلك الإمام أحمد كان يدعو لهم؛ فدل على أن المراد بالمكفر هو أن هذا الفعل في نفسه كفر.
ولهذا يقولون: فرقُ بين أن تقوم الحجة عليه أو لا تقوم الحجة عليه.
قوله: (فَالْأَوَّلُ: لَا يَقْبَلُ صَاحِبَهَا الْجُمْهُورُ) ، وهو الوقوع في هذا الشيء، وعلى هذا التأويل والتفسير يكون بدعة.
وقوله: (أَوْ بِمُفَسِّقٍ) ، يعني الوقوع فيها فسق، ولم يقل أحد بكفره.
قوله: (يُقْبَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً فِي الْأَصَّحِ) ، وذكر فيه تفصيل، وهذا سيأتي -إن شاء الله- بيانه، نسأله -سبحانه وتعالى- لي ولكم التوفيق والسداد، والعلم النافع والعمل الصالح بمنِّه وكرمه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{آمين، جزاكم الله خيرًا، وشكر الله لكم فضيلة الشيخ، والشكر موصول لكم أيها الإخوة المشاهدون، وإلى حلقةٍ جديدة، نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ