الدرس الأول

فضيلة الشيخ عبدالمحسن بن عبدالله الزامل

إحصائية السلسلة

11571 9
الدرس الأول

نخبة الفكر

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله وصلى الله وسلم نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله أعزائنا المشاهدين ونرحب بكم في برنامج "جادة المتعلم" الذي تنظمه جمعية هداة الخيرية لتعليم العلوم الشرعية، نسعد بكم في سلسلة من الحلقات بشرح متن "نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر" للحافظ ابن حجر -رحمة الله عليه- يقوم بشرح هذا المتن المبارك فضيلة الشيخ/ عبد المحسن بن عبد الله الزامل -حفظه الله تعالى.
حياكم الله فضيلة الشيخ وبارك الله فيكم}.
حياكم الله شيخ خالد ومرحبًا بجميع إخواني، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يبارك في هذا المجلس بمنِّه وكرمه، آمين.
{اللهم آمين، نستأذنكم فضيلة الشيخ في قراءة المتن}.
تفضل يا شيخ.
{أحسن الله إليكم، بسم الله، الحمد لله وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، قال الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه في متن نخبة الفكر: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلِيمًا قَدِيرًا، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَى النَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرً)}.
بارك الله فيك.
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، هذه النخبة للحافظ ابن حجر عَلى اسمها "نخبة الفكر" وهي نخبة مختصرة مُبتكرة، انتقاها الإمام الحافظ ابن حجر، ومعلوم أنَّ الغاية من هذا العلم -الذي اعتنى به علماء الإسلام، وخاصَّة مَن له عناية بالحديث وروايته وطرقه، ومن يعلِّلون الأخبار وينظرون فيها- هو النظر في الأسانيد، ومعرفة الطرق الضعيفة حتى تُميز من الطرق الصحيحة، وهذا له مراتب -كما سيأتي في كلام المصنف إن شاء الله.
والعلماء قد بسطوا هذه المسائل، وذكروا ألقابًا وأسماءً كثيرة لهذا المصطلح، فهذا مصطلح اتَّفق عليه علماء الحديث، وهو ميزانٌ للأخبار التي تُروى عن النبي ، وهذا من خصائص هذه الأمة وعلماء هذه الأمة، حيث إنهم اجتهدوا في النظر في الأخبار.
قال محمد بن محمد بن مُظفَّر -رَحِمَهُ اللهُ: "إنَّ هذه الأمة خصَّها الله -سبحانه وتعالى- وشرَّفها وأكرمها بالإسناد، فليس لأمة قبل هذه الأمة".
فإنهم ينظرون في الأخبار، وينظرون في الحديث من طرق كثيرة، من عشرين طريق أو من أكثر من عشرين طريق، ثم يدوِّنونه كلمة كلمة -يعني المتن- لأنَّ الأسانيد هي طُرق إلى المتون، والأسانيد هي حكاية طريق المتن، فيكتبونه كلمة كلمة، حرفًا حرفًا، ويقيدونه حتى يتبين حقيقة هذا الإسناد الذي يُوصل إلى هذا المتن.
والعلماء كلامهم كثير في الإسناد والنظر في الأسانيد، وأنَّ "الإسناد من الدين فانظروا عمَّن تأخذون دينكم" كما قال محمد بن سيرين -رَحِمَهُ اللهُ.
وكما يقول شعبة -رَحِمَهُ اللهُ: "الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه شيء، فبأي شيء يقاتل؟!".
وحدَّث الزهري -رَحِمَهُ اللهُ- يومًا من الأيام، وكان سفيان عيينة -رَحِمَهُ اللهُ- أنِسَ لهذه الأخبار، فأراد أن يستخرج ما عند الزهري في ذكر الأخبار بأسانيدها، فقال: حدثنا بلا إسناد. قال: هل ترقى السطح بلا سلم؟ فلا يمكن أن يُصعد إلى السطح إلا بسلمه.
وقال عبد الله بن المبارك -رَحِمَهُ اللهُ: "الخبر لا يَتبين ضعفه من صحته حتى تضرب بعضه ببعض"، يعني: تجمع الطرق وتنظر فيها وتجمعها، وهذا الذي سلكه علماء الأمة في باب تعليل الأحاديث كالدارقطني، وقبله ابن أبي حاتم، وهكذا أهل العلم في هذا.
وقال علي بن المديني -رَحِمَهُ اللهُ: "الباب إذا لم تُجمع طرقه لا يتبين خطأه".
هذه الكلمات أصول، ويبنى عليها هذه القواعد، ولهذا فإنَّ هذه الكلمات تُؤخذ من القواعد التي ذكروها في مخالفة مَن يكون ثقة لغيره من الثقات مثلًا أو لمن هو أوثق منه، أو الصدوق مثلًا حين يخالف الثقة، أو يكون أشد من ذلك كالضعيف مثلًا أو نحو ذلك، فبهذا يتبين الخطأ، فلهذا في كلمة ابن مظفر -رَحِمَهُ اللهُ- قال: "لم يكن لأمة قبل هذه الأمة"، فكان أهل الكتاب ليس لديهم إسناد، خلَطوا كتبهم بأخبارهم وسِيرهم؛ فلم تتبين! فهذا من رحمة الله، فنسأل الله -سبحانه وتعالى- المزيد من فضله، ونُثني عليه ونشكره على هذه النعمة العظيمة، التي منَّ بها على أهل الإسلام، فهذا العلم مفخرة من مفاخر أهل الإسلام.
والنخبة مُختصرة ومبتكرة، وقد نَظَمَهَا العلماء وشرحوها وَحَشَّو عليها، بل شُرحت في حياة المصنف، وأول شارح لها هو كمال الدين محمد بن محمد الشُّمنِّي القسنطيني، المتوفى سنة واحد وعشرين بعد الثمانمائة، وهذا أكبر من الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ-، وكان الحافظ طلب منه أن يشرحها، وأن يُبين مغاليقها -رَحِمَهُما اللهُ-، فشرحها في كتاب "نتيجة النظر"، وقال في مقدمة كتابه عن هذه النخبة: "وهو وإن صغر حجمًا -يعني هذه النخبة- فهو كُنَيْفٌ مُلئ علمًا".
الكُنَيْف: هو وعاء الراعي الذي يحفظ فيه نفيس المتاع.
وأصل الكِنف: من الكَنَف وهو الستر، ومنه قوله: يضع عليه كنفه، وهذا من لطف العرب، ولهذا تجد من لطف كلامهم أنهم يُسمون موضع الخلاء "كنيف"؛ لأنه يستر الإنسان.
قال: "كُنَيْفٌ" والتصغير هنا للتعظيم؛ لأنها كلمة مأثورة عن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كما رواه ابن أبي شيبة، قالها في ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لَمَّا سأله بمسألة وناقشه، فقال: "كُنَيْفٌ مُلئ علمًا".
فهذا الكتاب العظيم، منهم من شرحه كما تقدم وحشَّ عليه، ومنهم من نظمه، بل الشارح نفسه كمال الدين نظمه، وابنه تقي الدين أحمد بن محمد بن محمد بن كمال الدين شرحه في "العالي الرتبة في شرح نظم النخبة"، وأيضًا نظمها الصنعاني بعد ذلك، ومَن تتبَّع النَّظم يجد لها شروحًا كثيرة جدا، والحواشي عليها كثيرة.
والصنعاني يقول:

وبَعدُ فَالنُّخْبة في عِلْـــم الأثــرْ .... مُخْتصرٌ يَا حَبَّذَا مِــــن مخْتصَــرْ
ألفها الحافِظُ في حَـــال السّفر ْ.... وهو الشّهابُ بْنُ علِّي بْنُ حجـرْ
طالعَتُها يومًــــــــا مِن الأيَّام   ِ.... فاشْتقتُ أن أُودِعَهـا نِظَــــــامِـي
فتمَّ من بكرةِ ذاكُ اليـــــــــوم   ِ....  إِلى المسَا عِنْـد وُفـودَ النــــــومِ

نظمها من أول النهار وانتهى منها في العشية، وشرحها في "إسبال المطر على قصب السكر"، فهي ورقات يسيرة لكنها عظيمة.
افتتحها -رَحِمَهُ اللهُ- بقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَالِمًا قَدِيرً)، وفي بعض النسخ: (عليمًا قديرً) ولعلَّ هذا أنسب؛ لأنَّ لفظة "عالم" جاءت في كتاب الله مضافًة في قوله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الأنعام: 73]، بينما "عليم" فهذا من أسماء الله الحسنى بلا خلاف، وجاء كثيرًا في كتاب الله سبحانه، كما في قوله: ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الروم: 54]، وقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرً﴾ [فاطر: 44].
قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، أصل الحمد: هو الإخبار عن صفات المحمود مع حُبه وتعظيمه وإجلاله.
و (أل) في "الحمد" قيل: للاستغراق، يعني: جميع أنواع المحامد.
وقيل: للعهد، والمعنى: الحمد المعهود، وهو الذي حمد الله به نفسه؛ لأنه لا يُحصي أحد ثناء عليه إلا هو، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ)، "لم" هنا -كما لا يخفى- نافية، و"يزل" فعل مضارع مجزوم بـ "لم"، وأصل "يزل": يزال، لكن لَمَّا كان مع الجزم يلتقي ساكنان -الألف الساكنة وآخر الفعل المجزوم- حُذِف الألف.
فالقاعدة تقول:

إنْ سَاكِنَان التَقيَا اكْسِر مَا سَبقْ .... فَإِنْ يَكُن لينًا فَحَذْفُه اسْتَحَقّ

والألف حرف لين فحُذف.
قال: (عَلِيمًا قَدِيرً)، وصف الله -سبحانه وتعالى- بصفتين عظيمتين وهما: العلم والقدرة، ولعلَّ هذا من باب براعة الاستهلال -والله أعلم- ولعل أشار إليه بعض الشُّرَّاح، فيسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعلمه وأن يُلهمه، وأن يُقدره على صياغة العبارات، فلهذا قال: (لَمْ يَزَلْ عَلِيمًا قَدِيرً).
وهذه النخبة قد صاغها رحمه الله صياغة عظيمة، واختصرها وحبكها، وجمع في ألفاظها القصيرة المعاني الكثيرة.
قوله: (وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ)، الصلاة على المشهور من كلام جمهور العلماء هي: من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدميين الدعاء، واختار بعض العلماء -وهو ظاهر اختيار البخاري؛ لأنه صدَّر بقول أبي العالية على آية الأحزاب: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمً﴾ [الأحزاب: 56]؛ قال: "صلاة الله عليه ثناؤه عليه في الملأ الأعلى أو عند الملأ الأعلى". وقال ابن عباس: "الصلاة هي البركات"؛ فقدَّم كلام أبي العالية؛ لأنه أصرح وأوضح في الثناء.
وهذا القول أيضا اختاره جمع من أهل العلم المتأخرين كشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم -رحمة الله عليهم- ورجحه كثير من أهل العلم ممن يشرح هذه المختصرات.
من قال: "إنه ثناء الله على عبده في الملأ الأعلى" هل يدخل فيها ويلزم فيها الرحمة؟
هذه من لوازمها؛ لأنَّ التفسير لقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمً﴾ [الأحزاب: 56]، ولهذا عطف الرحمة على الصلاة، فدل على أنها مُغايرة، وأيضا العلماء مختلفون في جواز الدعاء له بالرحمة، واتفقوا في الصلاة عليه ، يعني: اختلفوا في الثناء عليه بالرحمة، إنما يُثنى عليه بالأعلى ، ولهذا في بعض «السَّلَامُ عَلَيْكَ أيُّها النبيُّ ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وعلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ»[1] لكن عند ذكره فإنه يُثنى عليه بما جاء بالصلاة عليه ، والصلاة غير الرحمة، ولهذا قال: «مَن صَلَّى عَلَيَّ واحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عليه عَشْرً»[2].
السيد: هو الذي جمع صفات الشَّرف والسُّؤدد والصِّفات العظيمة، ولهذا قال: (على سيدنا محمد).
من أهل العلم مَن يرى أنَّ لفظ "السيد" هنا يقتصر على قول: " محمد" بمعنى أنه بما جاء منه ، وأنه لم يذكر "السيد" في هذا الباب، لا في باب التشهد ولا في غيره.
وهل هذا المقام وهو مقام التصنيف يدخل في هذا؟ يعني حين يذكر تذكر لفظة "السيد" أو لا تذكر؟
من أهل العلم من يقول: ذكر السيادة له في هذا المقام لم يأتِ في رسائله شيء محدَّد في هذا، إنما كان يبتدأ برسائله بـ "بسم الله الرحمن الرحيم"، فكان هذا مما فيه سعة، فليس أمرًا توقيفيًّا، بخلاف الصلاة عليه ، فإنه لا يُزاد هذا وإن كان كما قال عند مسلم: «أنَا سَيدُ وَلَدِ آدمَ»، وقال في الصحيحين: «أَنَا سَيد النَّاسِ»، وعند الترمذي عن أبي سعيد: «أَنَا سَيدُ وَلَدِ آدَم وَلَا فَخْر»، فهذا هو السيد لكن هذه المواضع توقيفية.
وهذا الموطن محتمل، والذي يظهر أنَّ أهل العلم لم يكونوا يلتزمون الخطبة التي جاءت في حديث ابن مسعود في المصنفات والكتب، ولهذا لم يفتتح بها أحد من أهل العلم من أصحاب الكتب الستة وهم: الإمام البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وكذلك قبلهم الإمام أحمد، رحمهم الله تعالى، وافتتح الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ- كتابه بالصلاة عليه دون ذكر السلام.
وكذلك كثير ممَن صنَّف لم يبتدئ بتلك الخطبة، وجعلوا الأمر فيه سعة، فكان الواحد منهم يفتتح بما فتح الله عليه؛ وهذا مما يدل على أنَّ هذا الباب فيه سعة؛ لأنه لم يُنقل فيه شيء عن النبي ، فلهذا كان لا بأس بها في هذا المقام، بخلاف الصلاة؛ فإنه يقتصر على ما جاء؛ لأنَّ النبي هكذا علَّم.
(محمد)، الذي كثرت محامده بالثناء عليه، وهذه يُؤذِن بتكرارها وكثرتها، ويُظهر الله -سبحانه وتعالى- هذا في حال المقام المحمود، فيقوم مقامًا يحمده عليه الأولون والآخرون .
قال: (مُحَمَّدٍ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَى النَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرً)، رسالته خاتمة وعامة للناس.
وأصل كلمة "الناس" هنا: "أناس" فزيد عليها "أل" هنا فقيل: "الناس" وحذفت ألفها تخفيفًا، وأصل الكلمة كما يقولون: من "نَوَسَ"، وليس في الكلمات العربية الأصلية كلمة فيها ألف، ولهذا أصلها "نَوَسَ"، و "باعَ" أصلها "بَيَعَ"؛ فلما كان أصلها "نوَسَ وبَيَع" قالوا: إذا تحركت الواو أو الياء وانفتح ما قبلهما قُلبت الواو أو الياء ألفًا، وهذا على القاعدة الصرفيَّة المعروفة.
فـ "باعَ" أصلها "بَيَعَ"، و"الناس" أصلها "نَوَسَ" من "النَّوس" وهو التَّحرُّك"، وبعضهم قال: إن اشتقاقها من "الأُنس"، لكن هذا قد لا يساعده الاشتقاق.
قال: (بَشِيرًا وَنَذِيرً)، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرً﴾ [الفتح: 8] وقال: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ [النساء: 165] وقدَّم البشارة لأن البشارة تكون لأهل الطاعة، فهم مقدمون على غيرهم.
وسُميت "البشارة" بذلك؛ لأنها تظهر على البشرة، وأصلها عند الإطلاق فيما يكون في باب الخير، وفي باب الشر تقيَّد.
وقوله: (وَنَذِيرً)، يُنذر العاصي ويُنذر أهل الشرك والكفر فنذارته عامة -عليه الصلاة والسلام.
قال: (وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرً)، آل محمد اختلف فيهم:
- قيل آله هم أهل بيته وأزواجه.
- وقيل أتباعه.
- وقيل الأتقياء من أمته.
والأظهر -والله أعلم- أنَّ أحسن ما يفسر به قوله : «وإنَّها لا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ، ولا لِآلِ مُحَمَّدٍ»، كما في البخاري عن أبي هريرة وكان في صحيح مسلم من حديث المطلب لما قال: «وإنَّها لا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ، ولا لِآلِ مُحَمَّدٍ»[3].
وآله الذين لم تحل لهم صدقة، هم: أزواجه وبنو هاشم عند الجمهور، خلافًا للشافعي الذين قالوا: إنَّ بني المطلب في ذلك، والصواب أنهم ليسوا داخلين في باب تحريم الزكاة عليهم.
قال: (وَصَحْبِهِ)، الصحب هم من صحبه .
والصحب: جمع صاحب، مثل: "تَجْر" جمع "تاجر" ونحو ذلك، ويدخل في الصحبة كذلك كل من صحبه ، سواء كانت صحبة قليلة أو كثيرة، سواء قاتل معه أو لم يقاتل، جالسه ساعة أو رآه رؤية أو جلس معه مدة طويلة وكانت صحبته له كثيرة كأبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وسائر كبار الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- بل أدخل الكثير من أهل العلم في الصحبة الجن، قالوا: يدخل في الصحابة الجن، فمن ثبت وعُرف منهم يدخل في هذا، لكن الذي يحكى في هذا حكايات لا تكاد تثبت، وإن كان الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ- اعتمد ذلك في "الإصابة"، لكن لا شك أنَّ منهم من التقى بالنبي وذكروا قصة في هذا مما رواه الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- عن صفوان بن المعطل وهم سائرون إلى الحج، قال: كنا سائرين إلى الحج فبينما نحن في مكان إذ بحيَّة تضطرب، فبينما كذلك إذ ماتت، فقام إليها رجل منَّا فلفَّها، ثم أخذها ودفنها في مكان، فبينما نحن في الحرم -بعد ما وصلوا- وكنا مجتمعين وقف علينا رجل، فقال: أيكم صاحب عمر بن جابر؟ قلنا: لا نعرفه، قال: الحية التي كفنتموها، قلنا: هذا وأشرنا إلى الذي فعله، قال: وجزاك الله خيرًا، أما إنه آخر التسعة موتًا الذين لقوا النبي "، لكنها لا تصح، فالقصة في هذا لا تصح، لكن من جهة الحد فإنها تدخل.
قال: (وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرً)، فيه الدعاء له بالسلامة، وجاء التسليم أيضًا في حديث صحيح عن أبي طلحة عند النسائي: «ولاَ يسلِّمَ عليْكَ أحدٌ من أمَّتِكَ إلاَّ سلَّمتُ عليْهِ عشرً»[4]، وفي قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمً﴾ [الأحزاب: 56].
وأعظم السلامة هي سلامة شرعه ، فيدعو المسلم ويثني عليه بالصلاة والسلام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ التَّصَانِيفَ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَدْ كَثُرَتْ وَبُسِطَتْ وَاخْتُصِرَتْ فَسَأَلَنِي بَعْضُ الْإِخْوَانِ أَنْ أُلَخِّصَ لَهُمُ الْمُهِمَّ مِنْ ذَلِكَ فَأَجَبْتُهُ إِلَى سُؤَالِهِ؛ رَجَاءَ الِانْدِرَاجِ فِي تِلْكَ الْمَسَالِكِ)
}.
بارك الله فيك.
قوله: (أَمَّا بَعْدُ)، "أمَّا" حرف تفصيل يتضمَّن الشرط.
و"بعد" ظرف مبني على الضم لقطعه عن الإضافة.
وحُذف فعل الشرط وأداة الشرط، وأصله: مهما يكن من شيءٍ بعدُ فإنَّ التصانيف.
وجواب الشرط: (فَإِنَّ التَّصَانِيفَ).
والمصنف -رَحِمَهُ اللهُ- لَمَّا أثنى عليه سبحانه وتعالى، وصلى على النبي دخلَ في المراد.
وقول: (أَمَّا بَعْدُ) جاءت في أحاديث كثيرة عن النبي في الصحيحين، وبوَّب عليها البخاري -رَحِمَهُ اللهُ.
قوله: (فَإِنَّ التَّصَانِيفَ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَدْ كَثُرَتْ)، لَمَّا كان الكلام في اصطلاح الحديث، قال: إنها كثيرة.
(التَّصَانِيفَ): جمع صنف.
وسُميت (التَّصَانِيفَ) بهذا الاسم؛ لأنَّ المصنف يجعل كل قسمٍ على حدة، وكل صنف على حدة، حتى تترتب المعلومات، وحتى تترتب هذه الأسماء وهذه الألقاب، فيكون أيسر لفهمها ولحفظها، ولا شك أنَّ التصانيف كثرت، وفي كلام أهل العلم المتقدمين شيء كثير من ذلك، وأصل هذا العلم مأخوذ عن النبي ، وأيضًا مما تقدم من كلام السلف والصحابة عنايةٌ بذلك، ولعمر -رضي الله عنه- عناية بذلك في مسألة ضبط الرواية ومعرفة الحديث عن النبي .
ثم تتابع العلماء على التصنيف في الكتب الكثيرة، فتكلم الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ- ومسلم في مقدمة صحيحه والترمذي -رَحِمَهُ اللهُ- في آخر الجامع في العلل، وكذلك يؤخذ كلمات من كلام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ- وكلمات كثيرة من كلام السلف الذين تكلموا في هذا الباب المبارك: كعلي بن المديني، والبخاري، وأبو حاتم، وأبو زُرعة، والإمام أحمد، الأئمة الحفاظ -رحمة الله عليهم-، فأُخذ هذا المصطلح من أصل كلامهم -رحمة الله عليهم.
قال: (فِي اصْطِلَاحِ)، الاصطلاح أصله الاتفاق، وأن يتوافق أهل فنٍّ على أن يضعوا لهم اصطلاحًا في فنهم، ولكل أهل فن اصطلاح.
وأهل الاصطلاح وضعوا اصطلاحات كثيرة، وقد يحصل اختلاف أحيانًا، لكن أصلها متفق عليه.
وأحيانًا قد يحصل خلاف بين اصطلاح المتقدمين واصطلاح المتأخرين ويترتب عليه خلاف معنوي في بعض المسائل وخصوصًا التفريق بين الشاذ والمنكر، فالمتقدمون لا يُفرقون بين الشاذ والمنكر، والمتأخرون فرقوا بينهما، وهذا سيأتي -إن شاء الله.
قال: (أَهْلِ الْحَدِيثِ)، هم أهله، وهذا اسمٌ يشرفون به، وهو نسبتهم إلى الحديث والعناية بالحديث.
قال: (قَدْ كَثُرَتْ)، لا شك قد كثرت الكتب في هذا، ثم مع كثرتها بُسطت، فيدل على سعة هذا العلم، ثم اختُصرت فهي بُسطت لتُفهَم، واختُصرَت لتُحفَظ، مثل "نخبة الحافظ" رحمه الله.
قال: (فَسَأَلَنِي بَعْضُ الْإِخْوَانِ)، فيه أنَّ مفاتيح العلم السؤال، قال الزهري: "العلم خزائن، ومفاتيحها السؤال"، وقال الخليل بن أحمد: "العلم مغاليق، ومفاتيحها السؤال"، فلا شك أنَّ السؤال يفتح أبوابًا عظيمة من أبواب العلم، وكم من سؤال فتح الله به علمًا عظيمًا على المتكلم، فنفع الله بهذا الجواب بسبب هذا السؤال، وخصوصًا إذا كان السائل من أهل العلم، مثل ما وقع لهذا السائل للحافظ -رَحِمَهُ اللهُ.
قوله: (فَسَأَلَنِي بَعْضُ الْإِخْوَانِ)، لا شك أنَّ هذا من الصواب، ثم السؤال يكون لأهل الفن، ولأهل الاختصاص، فلا يتكلم فيه مَن هب ودب، بل مَن يعرفه.
قال: (أَنْ أُلَخِّصَ)، التلخيص يقع على البسط وعلى التبيين، وبعضهم يُشير إلى أن التلخيص قد يقع التبيين، لكنه قد يقع على الاختصار.
ولفظ "التخليص" في اللغة أبلغ؛ لأنَّ التخليص هو التنقية، وربما تكون العبارات فيه أقل، لأنه يخلصها ويأخذها عبارة لتدل على معانٍ كثيرة، ولكن الحافظ أشار إلى أنه يريد الاختصار بقوله: (أَنْ أُلَخِّصَ لَهُمُ الْمُهِمَّ مِنْ ذَلِكَ)، أي: من علم المصطلح، وهذا يُبين أنَّ السائل له فهم ومعرفة، ويعرف أنَّ هذا الفن واسع وكثير.
قال: (فَأَجَبْتُهُ إِلَى سُؤَالِهِ)، وهذا شأن أهل العلم، حين يتوجه السؤال له يتعين خاصة في هذا الباب، وإن كان قد أُلف في هذا وبسط واختُصر، لكن أحيانًا قد يُحتاج إلى جمع هذه العلوم في مختصر يكون أبلغ في حفظه ثم فهمه.
قال: (رَجَاءَ الِانْدِرَاجِ فِي تِلْكَ الْمَسَالِكِ)، حتى يندرج في تلك المسالك، وهو مسلك مَن صنف سواء كان أهل التصنيف على سبيل البسط أو على سبيل الاختصار، وهذا يُبين أن تصنيفه -رَحِمَهُ اللهُ- جارٍ على ما تقدمه، وذلك أن أهل العلم ذكروا هذه الكتب وهذه المصنفات على أصول متفق عليها من حيث الجملة، فلا يُمكن أن يأتي بمسلك جديد، لأنه مأخوذ من كلام أهل العلم، ولهذا ذكر شيئًا يندرج، واندراج الشيء فيه مناسبته له، يدخل فيه ويندرج فيه، ولا يخالفه، يرجع إلى تلك الأصول سواء من التصانيف هذه أو مما يحفظه ويفهمه، لأنه قد يزيد أمورًا وقواعد قد انتقاها من كلام أهل العلم ربما لا تكون موجودة في هذه المصنفات على سبيل النص، لكنه هو يتقنها ويعرفها.
ثم (الِانْدِرَاجِ) في تلك المسالك لمن صنَّف، «إذا مات ابنُ آدمَ انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، وعلمٍ ينتفعُ به، وولدٍ صالحٍ يدعو له»[5]، كما في الحديث، فهذا من العلم، وإن كان الصحيح في الحديث لفظ «الإنسان»، ولفظ «ابنُ آدمَ» لفظة مشهورة وهي عند ابن أبي الدنيا وفي ثبوتها نظر، مع أن اللفظ التي في مسلم «إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ»، ولهذا إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث، فرجاء أن يدخل في هذه المسالك ممن صنف، ثم بعد ذلك الناس بعده ممن يكتب هذا الكتاب، وممن يشرحه، وممن بنظمه؛ كلهم يدخلون في هذا الفضل، كما نبه عليه العلماء وقالوا: "إن مَن صنف تصنيفًا، ثم جاء مَن نقل هذا التصنيف أو أقرأه؛ فكلهم يُرجى أن يكونوا داخلون في هذا الفضل"، ومن دل على خير فله مثل أجر فاعله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَأَقُولُ: الْخَبَرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ: طُرُقٌ بِلَا عَدَدٍ مُعَيَّنٍ أَوْ مَعَ حَصْرِ بِمَا فَوْقَ الِاثْنَيْنِ، أَوْ بِهِمَا، أَوْ بِوَاحِدٍ)}.
ذكر الخبر مع أنه قال: (اصطلاح أهل الحديث)؛ لأنَّ الخبر -على ما يظهر من كلامه وهو الواقع- لأنه أوسع.
وقد اختُلف في الخبر والحديث:
- قيل: الخبر والحديث يقعان على مسمى واحد، الخبر هو الحديث، والحديث هو الخبر، فتكون النسبة بينهما التوافق.
- وقيل: الخبر لأقوال مَن سوى النبي من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، والحديث هو قول النبي ، فالنسبة على ذلك تكون التباين، الحديث ليس خبرًا، والخبر ليس حديثًا.
- وقيل: النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق، فكل حديث خبر، وليس كل خبر حديث، ولكن بعض الخبر حديث.
مثلًا: يدخل في مسمى الخبر أحاديث النبي ، ولا يدخل في مسمى الحديث أقوال والصحابة وأقوال التابعين، فلهذا كان بينهما العموم والخصوص المطلق.
أمَّا كتاب "منتقى الأخبار" فهو في الأحاديث المرفوعة، وقد يُقال: إنه يشير إلى مسألة انتقاها وانتقى من الأخبار الأحاديث؛ لأنَّ الأخبار عامة، ثم هو انتقى منها، فهذا محتمل -والله أعلم.
قال: (إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ: طُرُقٌ بِلَا عَدَدٍ مُعَيَّنٍ أَوْ مَعَ حَصْرِ بِمَا فَوْقَ الِاثْنَيْنِ، أَوْ بِهِمَا، أَوْ بِوَاحِدٍ)، سيأتي أنه المتواتر.
قال: (لَهُ طُرُقٌ)، لم يقل: "كثيرة"؛ لأنَّ قوله: "طرق" يُغني؛ ولأنَّ "طُرُق" جمع كثرة لـ "طريق"، وجمع القلة "أطرقة"، فلهذا قال: (لَهُ طُرُقٌ) فأغنى عن قوله: "كثيرة".
قال: (بِلَا عَدَدٍ مُعَيَّنٍ)، فالصحيح أنَّ الخبر المتواتر لا يُحد بعدد، لا بعشرة، ولا بأربعين، ولا بسبعين، ولا بثلاثمائة، والصواب أنه بلا عدد معين.
قال: (أَوْ مَعَ حَصْرِ بِمَا فَوْقَ الِاثْنَيْنِ)، وهذا هو المشهور.
قال: (أَوْ بِهِمَ)، وهذا هو العزيز.
قال: (أَوْ بِوَاحِدٍ)، وهذا هو الغريب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَالْأَوَّلُ: الْمُتَوَاتِرُ: الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ بِشُرُوطِهِ)}.
أصل التواتر: التتابع، قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى﴾ [المؤمنون: 44] وإدخال التواتر في علم المصطلح إدخالٌ غريب، ولهذا نصَّ أهل العلم على أنَّ علم المصطلح يتعلق بما يكون موضع الكلام في المقبول والمردود، أمَّا المتواتر فإنه مقبول يقيني.
والمتواتر لا يُشترط فيه العدالة؛ بل قالوا: لا يشترط فيه الإسلام، وعلى هذا ما المصلحة من إدخاله في هذا العلم؟ وما الحاجة إلى مثل هذا؟ لماذا يدخل؟
ثم يقال: إذا كان التواتر -على هذا الأصل- لا يشترط له العدالة، بل لا يشترط له الإسلام؛ فلا حاجة فيه إلى أخبار الشريعة؛ لأنَّ الأخبار المتواترة في الشريعة تكون من الطرق العظيمة، من الطرق التي رواها الأئمة الكبار الحفَّاظ، ولا يقال: لا يشترط فيها العدالة، لأنَّ أصله روي من طرق عظيمة في الأخبار المتواترة، الطرق العالية، إنما على هذا الأصل يقال: المتواتر في إخبار أمور الدنيا من اكتشافات، من أمور اقتصادية أو حينما سيتحدث الناس بأخبار اقتصادية أو علمية من العلوم التي علمونا وتتواتر عند الناس، وقد يكون الذي أخبر بها كفار، فتتواتر من الشرق ومن الغرب مما يُقطع بها، فلا يُشترط الإسلام لمن يخبر بها، لكن التواتر الذي في الشريعة، هذا لا يمكن أن يقال: إنه لا يشترط فيه العدالة؛ لأنه لا يمكن أن يتواتر خبر عند غير أهل الإسلام من أمور الشريعة، والمتواتر عند أهل الإسلام لا يكون إلا بالطرق التي رويت بالأسانيد العالية، كالأحاديث المتواترة، ومثل: نقل الأئمة العدول الثقات، ولهذا فإنَّ الصواب في المتواتر أنه لا يُحد أيضًا بعدد معين، لا من جهة العدد ولا من جهة المعدود وهو الأخبار، لأنَّ بعضهم قال: لا يوجد متواتر في النصوص، وقد غلا في ذلك! وبعضهم قال: المتواتر هو حديث «مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»[6]، مع أنَّ الصحيح أنَّ المتواتر كثير، يعني مَن نظر مثلا في الأحاديث عن النبي مثلًا أنه كبر في تكبير الصلاة، فتكبير الصلاة متواتر، فلفظ «رفع يديه وكبر» لفظ متواتر، أخبار كثيرة في الصحيحين من حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة ومن حديث أبي حميد عند البخاري والحديث أبي حميد أبي داود حديث علي بن أبي طالب، وكلها أحاديث صحيحة، وأحاديث كثيرة في هذا الباب، مثل قوله -عليه الصلاة والسلام: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ»[7]، هذا الحديث من الأحاديث المتواترة أيضًا.
أمَّا حديث المسح على الخفين فتواتره معنوي، وأمَّا أحاديث الشفاعة فيُنظَر فيها، ولكن هناك بعض الأحاديث ألفاظها وردت بهذا اللفظ، مثل قوله -: «لا صَلاةَ لِمَن لَمْ يَقْتَرِئْ بأُمِّ القُرْآنِ»[8]، وإن كان قد جاء بألفاظ، فالبخاري نصَّ على أنه متواتر في جزء القراءة -رَحِمَهُ اللهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَالْأَوَّلُ: الْمُتَوَاتِرُ: الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ بِشُرُوطِهِ)}.
وشروطه:
- أن يرويه جمعٌ كثيرٌ وأن يكون هذا في جميع الطبقات.
- وأن يكون مستنده الحس "سمعتُ، ورأيتُ".
قوله: (أَوْ مَعَ حَصْرِ بِمَا فَوْقَ الِاثْنَيْنِ)، ما فوق الاثنين؟ ثلاثة. إذًا المشهور: ما رواه ثلاثة.
ثم بدأ في الآحاد التي دون التواتر، فكل خبر يكون التواتر فهو مشهور، سواء رواه ثلاثة أو أربعة، لكن هذا ينازَع فيه في أخبار مشهورة، لكن ليس المشهور الذي هو مشهور عند الفقهاء، أو مشهور عند النحويين، أو مشهور عند الناس مثلا؛ لا، المشهور الاصطلاحي عند أهل العلم، فهذا عند النظر في طرقه قد ينازع فيه من ينازع، يقول: هذا المشهور عن القول الصحيح يجري في قسم المتواتر، مثل قوله: «المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ»[9]، هذا جاء من حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو، ومن حديث جابر بن عبد الله، ومن حديث أبي هريرة، ومن حديث عمرو بن عبسة عند الإمام أحمد بمخارج وطرق كثيرة، ومن نظر في مخارجه قال: إنَّ الحديث على قول بعض أهل العلم حكمه حكم المتواتر، لكن هم يقولون: إذا كان يُروى بثلاثٍ فأكثر ولم يصل حد التواتر فإنه يكون مشهورًا.
والمشهور من شهرته وهو المستفيض على رأي، يعني المراد به لبعض الفقهاء وبعض الأصوليين؛ لأنهم في الغالب يعبرون بقولهم: "المستفيض" هذا يقع كثيرًا في كلام الأصوليين.
وهنالك أحاديث كثيرة مشهورة لا أصل لها، وتجري في بين الناس في مجالسهم أو ربما في أسواقهم، والإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- ذكر أنَّها تشتهر في الأسواق ونحو ذلك؛ فهذا لا يدخل في المشهور الاصطلاحي، إنما يكون المراد المشهور الذي اشتهر عند غيرهم، بل عند الفقهاء اشتهر قولهم: «الشُّفعةُ كحَلِّ العِقالِ»[10]، و «لا صلاةَ لجارِ المسجدِ إلا في المسجدِ»[11]، كلها أحاديث لا تصح مع أنها من الأحاديث المشهورة، فكما تقدم أنَّ هذا هو المشهور وهو المستفيض، وكما قيل: لا مُشاحة للاصطلاح.
أسأله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق والسلامة. آمين.
{آمين شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما قدمتم وأجدتم وأفدتم حفظكم الله والشكر أيضًا موصول لأعزاءنا المشاهدين، ونلتقي بهم إن شاء الله في حلقات قادمة إلى ذلكم الحين نستودعكم الله -عَزَّ وَجَلَّ- الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------------------
[1] رواه البخاري (831).
[2] رواه مسلم (408).
[3] مسلم (1072).
[4] صحيح النسائي (1294).
[5] ابن أبي الدنيا في ((النفقة على العيال)) (430) واللفظ له.
[6] أخرجه البخاري (110) مطولًا، ومسلم (3).
[7] رواه البخاري (450) ومسلم (533).
[8] صحيح مسلم (394).
[9] صحيح البخاري (6484).
[10] أخرجه ابن ماجة (2500)، والبزار (5405)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (13/ 335) (14144).
[11] ابن حبان (2/67)، ضعيف.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ