الدرس الرابع

فضيلة الشيخ عبدالمحسن بن عبدالله الزامل

إحصائية السلسلة

11571 9
الدرس الرابع

نخبة الفكر

{الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد؛ فحياكم الله أعزاءنا المشاهدين، ونرحب بكم في برنامج (جادة المتعلم) الذي تنظمه جمعية (هُداة) الخيرية، لتعليم العلوم الشرعية، نسعد بكم في تكملة سلسلة شرح (نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر) للحافظ ابن حجر -رحمه الله- يقوم بشرحه والتعليق عليه شيخنا الفاضل/ الشيخ عبد المحسن بن عبد الله الزامل -حفظه الله تعالى- حياكم الله فضيلة الشيخ ومرحبا بكم}.
حياكم الله ومرحبًا بكم وجميع إخواننا.
{أحسن الله إليك.
وقفنا عند قوله: (وَزِيَادَةُ).
بسم الله والحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، على آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد، فقد قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله، وغفر له، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء- في متن النخبة: (وَزِيَادَةُ رَاوِيهِمَا مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ تَقَعْ مُنَافِيَةً لِمَنْ هُوَ أَوْثَقُ، فَإِنْ خُولِفَ بِأَرْجَحَ فَالرَّاجِحُ الْمَحْفُوظُ، وَمُقَابِلُهُ الشَّاذُّ، وَمَعَ الضَّعْفِ فَالرَّاجِحُ الْمَعْرُوفُ، وَمُقَابِلُهُ الْمُنْكَرُ)}.
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، ففي هذا المجلس الذي أسأل الله -سبحانه وتعالى- أَن يجعله مجلسًا مباركًا، ومجلسَ علم وخير في دروس شرح (نخبة الفكر)، وهذا هو المجلس الرابع، وهذا البحث تتمة لِمَا تقدم في تعريف الحديث الصحيح والحسن، وذلك بعد قوله: (فَإِنْ خَفَّ الضَّبْطُ: فَالْحَسَنُ لِذَاتِهِ، وَبِكَثْرَةِ طُرُقِهِ يُصَحَّحُ) إلى قوله: (وَزِيَادَةُ رَاوِيهِمَا مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ تَقَعْ مُنَافِيَةً لِمَنْ هُوَ أَوْثَقُ)، وقوله: (وَزِيَادَةُ رَاوِيهِمَا) المراد: راوي الحسن والصحيح، ولأنه معلوم فلم يَذكر ذلك، وتقدَّم ذكر الصحيح والحسن.
قوله: (مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ تَقَعْ مُنَافِيَةً) يعني: بهذا الشرط، وهذا على قول كثير ممن صَنَّف في مصطلح الحديث، وعليه يجري عمل كثير من فقهاء المحدثين وأهل الحديث، أنهم يقبلون الزيادة مُطلقًا، إذا كان الذي زادها ثقة أو حسن الحديث، و (لَمْ تَقَعْ مُنَافِيَةً)؛ أي بهذين الشرطين، أَن يكون مقبول الرواية، حتى يدخل في ذلك بعض الصحيح والحسن، وألا (تَقَعْ مُنَافِيَةً). إذا توفر هذان الشرطان؛ فإنَّ الزيادة مقبولة.
قوله: (فَإِنْ خُولِفَ بِأَرْجَحَ فَالرَّاجِحُ الْمَحْفُوظُ، وَمُقَابِلُهُ الشَّاذُّ، وَمَعَ الضَّعْفِ فَالرَّاجِحُ الْمَعْرُوفُ، وَمُقَابِلُهُ الْمُنْكَرُ)، وهذا البحث فيه كلام كثير لأهل العلم، وهو مسألة قبول زيادة الثقة، والذي تقرَّر عند كثيرٍ من أهل العلم، بل وعند الحافظ -رحمه الله: أنَّه لا يُحكم لزيادة بحكم مُطلق، فهو وضع قاعدة هنا مع أنَّ الذي قرَّره -رحمه الله- وإن كان خلافَ ما يقرِّرونه أثناء متابعة الأحاديث والنَّظر فيها، لكن الذي عليه أهل التَّحقيق من أهل الحديث: أنَّ كل زيادة لها حكمها الخاص، فقد تكون الزيادة صحيحة مقبولة، وقد تكون حسنة مقبولة، وقد تكون مردودة، وقد تكون مترَّدداً فيها.
فالزيادة يعتريها خمسة أحكام، وهي:
- إمَّا أَن يجزم بقبولها.
- أو يغلب على الظن القبول.
- أو يجزم بردها.
- أو يغلب على الظن ردها.
- أو يُتردد فيها.
فَيُنظر فيه إلى أيهما؟ وهذا هو الذي قرره كثير من أهل العلم، وممن بسطَ هذا بالأدلة والأمثلة "الزيلعي"-رحمه الله- في "نصب الراية"، وعليه جرى عمل أهل العلم قديمًا وحديثًا، وهو الذي يقرِّره الحفَّاظ الكبار، مثل: يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ثم بعدهما: الإمام أحمد، وعلي بن المديني، ثم بعدهما البخاري ومسلم -رحمهما الله- ثم بعدهما: أبو زُرعة الرازي وأبو حاتم الرازي، ثم بعدهما: النسائي، وكذلك بعض حفَّاظ المتأخرين جروا أيضًا على مثل هذا، والدار قطني أيضًا على هذا المسلك، وإن كان له طريقة في قبول الحديث.
هذا هو الأظهر في هذه المسألة، ثم ما تقدَّم في تعريف الصحيح يشهد لذلك، وسيأتي إن شاء الله.
قال: (فَإِنْ خُولِفَ بِأَرْجَحَ فَالرَّاجِحُ الْمَحْفُوظُ، وَمُقَابِلُهُ الشَّاذُّ) الرُّجحان يكونُ بكثرة الرواة، يكون بكون الرَّاوي الذي خولف يكون الذي خالفه أوثق وأثبت منه، وإن كان هو ثقة لكن هذا أوثق، أو الذي روى هذه الزيادة من الرواة لا بأس به أو ثقة، والذي خالفه أكثر.
قوله: (فَالرَّاجِحُ الْمَحْفُوظُ، وَمُقَابِلُهُ الشَّاذُّ) هذا في حال الثقة.
قوله: (مَعَ الضَّعْفِ فَالرَّاجِحُ الْمَعْرُوفُ، وَمُقَابِلُهُ الْمُنْكَرُ)، وهذا له أمثلة كثيرة في رواية كثيرٍ من الثقات الذين يرون حديثًا، ثم يتبين أنَّ الرَّاجح خلاف ما رووا.
مثال: الحديث الذي رواه: "الترمذي، والنسائي، وأبو داود، وكذلك أحمد"، من حديث عوسجة مولى ابن عباس، وهو من رواية: "سُفْيَانُ بنُ عُيينة، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَوْسَجَةَ المكي، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَجُلًا مَاتَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلَّا عَبْدًا هُوَ أَعْتَقَهُ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيرَاثَهُ»[1]، هذا الحديث رواه سفيان بن عيينة موصولًا بذكر ابن عباس -رضي الله عنهما- ورواه أيضًا ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عوسجة المكي عن ابن عباس -رضي الله عنه- موصولًا بذكر ابن عباس، وكذلك حماد بن سلمة بن دينار الأسدي أيضًا رواه عن عمرو بن دينار عن عوسجه عن ابن عباس موصولًا.
إذًا من خالفهم؟ خالفهم الإمام الثقة حمَّاد بن زيد بن درهم -رحمه الله- وهو إمام كبير، فرواه عن: عمرو بن دينار عن عوسجة مُرسلًا، فحكم الحفاظ كأبي حاتم وغيره لابن عيينة وابن جريج وحماد بن سلمة، وحماد بن سلمة قويت روايته؛ لأنَّ معه هذان الحافظان الكبيران، وقالوا: إنَّ هذا هو المحفوظ ومقابله الشَّاذ.
وهذا الحديث فيه بحث، يعني مسألة كونه أعطاه ميراثه؛ لأنَّ أهل العلم لا يأخذون به، وهو كذلك على سبيل الميراث، قال: «وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلَّا عَبْدًا هُوَ أَعْتَقَهُ» يعني: خلف مولى هو أعتقه، وليس له وارث، والمولى يرث من أعلى لا من أسفل والذي مُعتِق لا المعتَق، لكنه أعطاه على سبيل العطية من بيت المال، وهذا واضح التَّوجيه.
وأيضًا من ذلك ما رواه أبو داود وغيره من رواية عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا أنَّ النبي ﷺ قال: «إذا صلَّى أحدكم ركعتيْ الفجرِ فليضطجعْ على يمينِهِ»[2]، وهذا الحديث المعروف من هديه ﷺ في الصحيحين هو من فِعْلِهِ لا مِنْ قَولِه، ولهذا قالوا: إن هذا الحديث برواية عبد الواحد بن زياد العبدي، وهو ثقة، بل قال بعضهم: إنه من أثبت الناس في الأعمش، وتكلَّم فيه علي بن المديني، فلهذا أعلُّوا الحديث، والكلام في هذا الحديث عند مَن أثبته لا يُشكِل، لكن إذا جرينا على هذه القاعدة وقلنا: الأكثر رووا والمعروف في الصحيحين وغيرهما أنَّه مِن فِعله لا مِن قَوله، ولهذا جزم بعض أهل العلم كشيخ الإسلام -رحمه الله- بأنه باطل، ومن أهل العلم مَن قال هو صحيح، وقالوا: إنَّ روايته عن الأعمش وإن كان هو يروي عن الأعمش في الصحيحين وهو ثَبتٌ في الأعمش، لكن علي بن المديني قال: إنه ليس بشيء في الأعمش أو شيء من هذا.
الجواب عن هذا: أنَّه -رَحِمَهُ اللهُ- ربما يذاكر بحديث الأعمش فلا يحفظه حفظًا، لكنه صاحب كتاب.
والضبط ضبطان: ضبط كتاب وضبط صدر. وما دام أنه يرجع إلى كتابه فهذا لا يضره.
هذا في مسألة ما يتعلق بالرَّاجح ومقابله الشاذ إذا كان ثقة، وإذا كان ضعيفًا فالراجح المعروف مقابله المنكر، والأوَّل له أمثلة كثيرة، منها مثلًا: حديث رواه الفضيل بن سليمان النميري، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: «كان النبي ﷺ يلتفِتُ في صلاتِه يمينًا وشمالًا ولا يَلْوي عُنُقَه خلْفَ ظَهْرِه»[3]، رواه الترمذي وغيره، هذا الحديث رواه الفضيل بن سليمان النميري، وهو له خطأ كثير، ومنهم من جزم بضعفه، والظَّاهر من ترجمته في التهذيب أنَّه ضعيف، وهو إن روى له البخاري لكن لم يعتمده، لكن انتقى من رواياته، وكان البخاري ينتقي من رواية الضعيف ما لم يخطئ فيه، كما أنَّه لم يروِ له رواية منفردة، إمَّا مُتابعة أو رواها غيره، فالبخاري قد يروي له لسببٍ ولقصدٍ في روايته لا اعتمادًا عليه وإنَّمَا اعتضاداً.
والفضيل هذا خالفه وكيع بن الجراح، فرواه عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن ثور بن زيد المدني، عن بعض أصحاب عكرمة، ولم يجعله مرويًا من قول ابن عباس، عن النبي ﷺ؛ فتبين بهذا أنَّ الحديث ضعيف من هذا الطريق، ومن صححه متأوَّل عندهم على وجه صحيح، لكن من جهة الرواية هو ضعيف.
ولهذا قالوا: هذا هو المعروف، أي: رواية وكيع، ومقابله: المنكر، وهي رواية الفضيل.
أُورد على قول الحافظ: (وَمُقَابِلُهُ الشَّاذُّ) كيف يقول: (وَمُقَابِلُهُ الشَّاذُّ) هنا ومن شرط الحديث الصحيح عدم الشذوذ؟
الحديث الصحيح من شرطه عدم الشذوذ، ولم يذكروا في الصَّحيح قيدَ المخالفة، يعني هم قالوا: (بِنَقْلِ عَدْلٍ تَامِّ الضَّبْطِ، مُتَّصِلِ السَّنَدِ، غَيْرِ مُعَلَّلٍ وَلَا شَاذٍّ)، فأطلقوا شرط عدم الشذوذ في الصحيح، وهذا يدل على أنَّ الحديث يكون شاذًا بغير قيد مخالفة، وهذا مما يَرد على قولهم في عدم اشتراط المخالفة، وأنَّ المخالفة هل هي شرط في الشاذ؟ الصحيح أن المخالفة ليست شرطًا في الشاذ، فقد يكون الحديث شاذًا ولو لم يكن مخالفًا، وهذا هو الصواب في هذا.
ولهذا يقال في مسألة مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه حين يروي شيئًا لم يروهِ من هو أوثق منه، فإنَّه إذا عُلم أنَّ من روى هذه الزيادة بلغَ رتبةً في التبريز في الحفظ والفهم والإدراك العظيم في باب الروايات، ثم زادَ راوٍ زيادةً بدون مخالفة -لا يُشترط أَن تكون مخالفة- هم قالوا: لابد أَن يكون مخالفًا، إمَّا أن يصل المرسل مثلا أو يرفع الموقوف ونحو ذلك؛ لكن الصحيح أنَّه ليس بشرط، فإذا حكمنا بالشذوذ مع عدم المخالفة، فحكمنا بالشذوذ مع المخالفة هذا من باب أولى، لكن ليست شرطًا في باب الشذوذ، ولهذا الذي جرى عليه عبارة الإمام أحمد والنسائي هو أنهم يجرون الشاذ بل المنكر على مجرد التَّفرد.
{كأن عندهم الشاذ والمنكر في المصطلح شيء واحد}
هذا بحث آخر ولا شك، ولكن ما يتعلق بمسألة الشذوذ: لا يشترط فيه المخالفة، هم قالوا في الحجة: الذي زاد على غيره، مثل حديث رواه ثلاثة من الرواة، أحدهم زاد على الاثنين الآخرين، وكلاهما حافظ، قالوا: ألستم تقبلون رواية هذا الذي زاد لو روى حديثًا مستقلًا؟
بلى؛ نقبل زيادته، فلماذا لا تقبلون زيادته إذا زاد في هذا الحديث؟ هذه أقوى حُجة، لكننا نقول: هذا قياس مع الفارق.
{هو خالف الحفاظ الكبار}
لا، هو لم يخالف الحفاظ الكبار، بل هو زاد، ولو خالف لكانت المسألة على ما ذكر الحافظ.
{ألا تتحقق المخالفة لمن روى شيئا في المتن يخالف المتن الأصلي الذي رواه الحفاظ؟}
قد تسمى اصطلاحًا: "مخالفة"، ولكننا نسميها هنا زيادة انفرد بها.
مثال: لو كنت في مجلس فيه ثلاثة أو أربعة، وكلكم تتحقق فيه صفة الضبط، ورويتم عن شخص قصة مثلا، وذكرتم فيها كذا وكذا، وقد ذكر أحدكم نفس القصة، وزاد زيادة مهمة في القصة، وأنتم لم تسمعوا به، فهذه الزيادة ليست من باب تغيير المعنى، ولكنها زيادة مهمة، فماذا تقولون؟
قد تشككون في هذه الزيادة وتقولون إنَّه وَهِمَ، وتقولون: لقد حضرنا المجلس ولم نسمع بهذه الزيادة.
كذلك حينما يحضر الطلاب عند شيخ في مجلس واحد، وجميع الطلاب من الأئمة الكبار الحفاظ، أمثال تلاميذ الزهري، عبيد الله، وابن جريج، ومالك بن أبي حمزة، ومعمر بن راشد، وعقيل بن خالد، ويونس بن يزيد الذي لم يجالسه إلا سنة واحدة ولكنه جيد؛ فإذا كان هؤلاء الرواة مثلا حفظوا وضبطوا حديثًا، ولم يذكر هذه زيادة إلا واحدٌ منهم، فهذا يُوقع التردد في هذه الزيادة.
ولهذا كما سبق وذكرنا: إنه لا يمكن أَن تُقاس الزيادة في الحديث على رواية حديث، الحديث في مجلس واحد والزيادة في مجلس واحد؛ فاتحد المجلس، أمَّا الحديث فقد استقل به ورواه، وهذا لا إشكال في أنه يقبل، ولهذا كان كلام أهل العلم ممن يسير على هذه الطريقة حينما يروون الخبر وشذَّ بزيادة؛ فإنهم يتوقفون في صحته.
{مثل زيادة محمد بن عوف الحمصي الطائي}.
يقال: إنه انفرد عن عشرة بزيادة.
ومنهم من يقول: محمد بن عوف الطائي ثقة ومن شيوخ أبي داود.
ومنهم من يقول: إنها زيادة، فتجري على هذا، يعني: كيف لم تُحفَظ؟
{أحسن الله إليك، (وَالْفَرْدُ النِّسْبِيُّ: إِنْ وَافَقَهُ غَيْرُهُ فَهُوَ الْمُتَابِعُ، وَإِنْ وُجِدَ مَتْنٌ يُشْبِهُهُ فَهُوَ الشَّاهِدُ، وَتَتَبُّعُ الطُّرُقِ لِذَلِكَ هُوَ الِاعْتِبَارُ)
قوله: (وَالْفَرْدُ النِّسْبِيُّ: إِنْ وَافَقَهُ غَيْرُهُ) قال: "الفرد النسبي"، ما قال: "الفرد المطلق"؛ لأنَّه إذا كان فردًا مُطلقًا فليس له متابع، إنَّمَا الفرد النسبي هو الذي تفرد به عن شيخ مُعين مثلًا، مثل: إذا جاء حديث من رواية حماد بن سلمة عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة -رضي الله عنه-؛ ففي هذه الحالة هو روى عن ابن سيرين، فننظر هل روى أحدٌ هذا الحديث عن أيوب؟ مثلا إذا تابعه أحدٌ عن أيوب، فتكون هذه متابعة تامة، وإذا لم نجد متابِعًا له عن أيوب ننظر متابعاً له عن محمد بن سيرين، أو ما فوق، إذًا هذه متابعة قاصرة.
مثلا حديث رواه الشافعي وذكره الحافظ -رحمه الله- من رواية الشافعي -رحمه الله- عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ النبي ﷺ قال: «إنَّما الشَّهرُ تسعٌ وعشرونَ فلا تصوموا حتَّى ترَوْه ولا تُفطِروا حتَّى ترَوْه فإنْ أُغمي عليكم فاقْدُروا له»[4]، هذا الحديث رواه الشافعي عن مالك، ورواه عبد الله القعنبي أيضًا عن مالك، كما رواه الشافعي؛ فما تكون هذه المتابعة؟
تكون مُتابعة تامة؛ لأنَّه روى عن نفس الشيخ الذي روى عنه الشافعي -رحمه الله.
وجاء عند مسلم من رواية عبيد الله بن عمر، وهذا فوق، ليس عن مالكٍ، وإنما شيخ شيخه؛ فهذه متابعة قاصرة عن ابن عمر.
ويقول: (وَإِنْ وُجِدَ مَتْنٌ يُشْبِهُهُ فَهُوَ الشَّاهِدُ)، يشبهه سواء كان باللفظ أو بالمعنى، وليس مثله يعني باللفظ، فقد يكون مثله بنفس اللفظ، وقد يكون بنفس المعنى، وهذا حديث له شواهد كثيرة من حديث أبي هريرة في صحيح البخاري، وهو حديث ابن عباس وحذيفة عند أهل السنن.
وهكذا على كل رواية تأتي على هذا الطريق؛ فينظر فيها، وتتبُّع الطُّرق لذلك هو الاعتبار، وبعض أهل العلم قبل ذلك لا يفرق بين الشاهد والمتابع، لكن اصطلاحًا فرقوا بين المتابِع والشاهد: فالمتابعة تكون عن نفس الصحابي، والشاهد يكون عن صحابي آخر، ولا يشترط في المتابِع أَن يكون بلفظه، والشاهد أيضًا من باب أولى لا يشترط أَن يكون بلفظه، بل بنفس المعنى.
وتتبع الطرق لذلك هو: الاعتبار، ليس الاعتبار قسيمًا للشواهد والمتابعات؛ لا، بل نفس التَّتبُّع هو الاعتبار، فأنت حينما تنظر في هذا الحديث مثلا وتتبَّع طرقه وتتبع هذا الراوي هل تابعه أحد؟ نفس هذا الفعل يسمى اعتبارًا، وهذا عندما تنظر في شواهد والمتابعات.
{أحسن الله إليكم، (ثُمَّ الْمَقْبُولُ: إِنْ سَلِمَ مِنَ الْمُعَارَضَةِ فَهُوَ الْمُحْكَمُ، وَإِنْ عُورِضَ بِمِثْلِهِ: فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ فَمُخْتَلِفُ الْحَدِيثِ، أَوْ لا، وثَبَتَ الْمُتَأَخِّرُ فَهُوَ النَّاسِخُ، وَالْآخَرُ الْمَنْسُوخُ، وَإِلَّا فَالتَّرْجِيحُ، ثُمَّ التَّوَقُّفُ)
لَمَّا ذكر -رحمه الله- ما يتعلق بالسَّند ذكرَ أيضًا ما يتعلق بالمتن.
قال: (ثُمَّ الْمَقْبُولُ: إِنْ سَلِمَ مِنَ الْمُعَارَضَةِ فَهُوَ الْمُحْكَمُ) المحكم: هو الواضح البيِّن السَّالم من المعارضة، وهذا هو الأصل في الأخبار، فهم حينما يطلقون لفظ "المعارضة"، فإنما يكون المراد في الظاهر، فينشأ في نظره وفي فكره شيءٌ من هذا ويكون متَّضحًا عند غيره، ثم هو بعد ذلك تبيَّن له ما سبب اختلاف الدلالة، فالمعارضة: هي اختلاف دلالة الأحاديث، فهذا يدل على شيء وهذا يدل على شي، قد يختلفان في نوع الدلالة.
قوله: (إِنْ سَلِمَ مِنَ الْمُعَارَضَةِ) يعني: معارضة خبر آخر (فَهُوَ الْمُحْكَمُ).
قوله: (وَإِنْ عُورِضَ بِمِثْلِهِ)، اشترط في المعارضة أن يكون مثله.
وظاهر هذا: أنه إذا لم يكن مثله فالمعارِض ساقط، وهذا من حيث التقرير، لكن في الحقيقة عمل أهل الحديث والفقهاء -رحمة الله عليهم- أنهم في الغالب ينظرون في الجمع.
{ما المراد بالمثلية هنا؟}.
يعني مثله في قوة الخبر، لأنَّه محكم، لكن قد يكون معارضُ المحكمِ حديثٌ ضعيف، فإذا كان حديثًا ضعيفًا فلا يلتفت إليه.
مثلا حديث: أن النبي ﷺ قال: «الْتَمِسْ ولو خاتَمًا مِن حَدِيدٍ»[5]، الصحيح أن الحديث عن سعد الساعدي، فروى أهل السنن "أبو داود الترمذي" وغيرهما من حديث بريدة -رضي الله عنه-، قال: «أنَّ رجلًا جاء إلى النبيِّ ﷺ، وعليه خاتَمٌ من شَبَهٍ، فقال له: ما لي أجِدُ مِنْكَ رِيحَ الأصنامِ؟  فطَرَحه، ثمَّ جاء وعليه خاتَمٌ من حديدٍ، فقال: ما لي أرى عليكَ حِليةَ أهلِ النارِ؟  فطرحَهَ»[6]، هذا الحديث ضعفه كثير من أهل العلم، ومن أهل العلم من قوَّاه حتى لم يضعِّفوه، وذكروا وجهًا للجمع؛ فالمقصود: أنه لا بد أَن يكون المعارض مثله.
كذلك حديث عبد الله عمرو بن العاص عند أبي داود وغيره أنَّ النبي ﷺ قال: «لا تَجوزُ لامْرأةٍ هِبَةٌ في مالِها إلَّا بإذنِ زوْجِها، إذا ملَكَ زوجُها عِصْمَتَه»[7]، قالوا: هذا الحديث معارَض ولا يثبت، بل ومعارَض بنصوص الكتاب والسنة، فنصوص القرآن تدل على أنَّ المرأة تصرفها تام، وكذلك قوله ﷺ في الصحيحين من حديث ميمونة: «أَشَعَرْتَ يا رَسولَ اللَّهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ ولِيدَتِي؟»، أي: أعتقت جارية كانت مملوكة لها، فتصرفت بدون أن تخبر النبي ﷺ، وما قال لها: " قال لماذا لم تستأذنيني؟!؛ بل قال ﷺ: «أَمَا إنَّكِ لو أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كانَ أَعْظَمَ لأجْرِكِ»[8]، وعند النسائي: «أَفَلَا تَفْدِينَ بِهَا بِنْتَ أَخِيكِ أَوْ بِنْتَ أُخْتِكِ مِنْ رِعَايَةِ الْغَنَمِ؟»[9]، وعن النبي ﷺ في الصحيحين كان يقول للنساء: «يا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ»[10]، فكانت النساء يتصدقن بالقُرط والخُرُص، وكان ذلك في مصلى العيد ولم يأمرهن بالاستئذان، ولم يكنَّ يستأذنَّ، فالحديث معارَض لهذا، لكن لو ثبت فهو محمول على طِيب العشرة وطِيب النفس حتى يكون أفضل، فقد يذكر لها أمرًا يكون في مصلحة لهم ونحو ذلك.
قال: (فَإِنْ أَمْكَنَ)، يعني: إذا عُورِض بمثله فإنَّ أمكن جمعه فهو مختلف الحديث، يعني: اختلاف الدلالة.
ومن أشهر ما في هذا: قول النبي ﷺ: «لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ»[11]، وقول النبي ﷺ: «وفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كما تَفِرُّ مِنَ الأسَدِ»[12]، وقوله ﷺ: «إنَّا قدْ بَايَعْنَاكَ، فَارْجِعْ»[13]، وهي أحاديث صحيحة، فهذا الحديث له توجيه، أشهرها: أنَّ نفس المجالسة قد تكون سببًا للعدوى، لكن ليس أنه يُعدي بنفسه لكنه سبب.
ومن أهل العلم مَن قال: المعنى أنه لا يعدي، ولذا قال: «فمَن أعْدَى الأوَّلَ؟»[14]، إذًا قد تكون عدوى بفعل الله -سبحانه وتعالى- يعني أن الله يقدر هذا؛ فسُدَّ الباب حتى لا يصل إلى النفوس شيءٌ من أمور الجاهلية.
فالمقصود: أن مثل هذه الأخبار الصحيحة الجمع بينها يكون على هذا الوجه.
قوله: (فَمُخْتَلِفُ الْحَدِيثِ)، يعني يكون مختلفًا حينما ينظر في بادئ الأمر، وإلا فليس في الشريعة شيء مخلتف، قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء/82]؛ لهذا قال: (فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ فَمُخْتَلِفُ الْحَدِيثِ).
قال: (وثَبَتَ الْمُتَأَخِّرُ)، يعني: إن لم يُمكن الجمع ففي هذه الحالة يُنظر في التَّاريخ، فإنَّ ثبت المتأخِّر فالمتأخر ناسخ وذاك منسوخ، وهذا كله عند ثبوت الخبرين، فلابد أَن يكون وجه من الوجوه التي يحصل بها الجمع.
وبالنظر في الأخبار نجد أن الوجه الأول: هو الجمع، ثم النسخ، ثم الترجيح، ولهذا قال: (فَهُوَ النَّاسِخُ، وَالْآخَرُ الْمَنْسُوخُ، وَإِلَّا فَالتَّرْجِيحُ)، فالترجيح هو الثالث.
إذًا؛ الأول: الجمع.
الثاني: النسخ.
والثالث: ترجيح.
فنرجح أحد الخبرين على الآخر، والترجيح يكون مثلا بكون الراجح هو أصح لكونه مخرجًا في الصحيحين، أو لكونه له شواهد كثيرة وهذا شواهد أقل، وقد يكون ترجيح لأسبابٍ كثيرة.
مثل أحاديث نقض الوضوء من مس الذكر، فأحاديثه كثيرة ترجح على أحاديث طلق بن علي والذي فيه «إنه بضعة منك»، وكلاهما راوه الخمسة، لكن حديث بُسرة له شواهد عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وزيد بن خالد، وعمرو بن شعيب، عن أبيه عبد الله بن عمرو بن العاص؛ فأحاديثه كثيرة، وحديث طلق صححه ابن المديني، وحديث بسرة صححه البخاري، وكلاهما إمامان، لكن أيضًا حديث طلق بن علي ليس فيه أي معارَضة؛ لأنَّ حديث بسرة ناقل، وحديث علي مبقٍ، والقاعدة التي اتُّفق عليها: أن النَّاقل مُقدم على المبقي، فالشريعة ناقلة، لأنَّ الأصل أنَّ أي شيء يمس الإنسان من بدنه لا ينقض به الوضوء، كما لو مسَّ رِجله أو فخذه أو مسَّ أي جزءٍ، فكذلك لا نقول: إنَّ هذا ناقض؛ ولابد من دليل، فحديث طلق بن علي كان في أول الأمر كما في رواية ابن حبان، ولهذا لا نقول: إنه منسوخ؛ بل نقول: إنَّ حديث بسرة ناقل عن الأصل، وهو أنه لا ينقض ثم جاء بالنقض، والأمثلة على هذا كثيرة.
وطريقة معرفة الناسخ والمنسوخ:
- إمَّا بخبر من النبي ﷺ كقوله: «نَهَيْتُكُمْ عن زِيارَةِ القُبُورِ، فَزُورُوها»[15].
- أو من الصحابي -على أحد الأقوال- كما في حديث جابر: «كانَ آخِرَ الأمْرِ مِن رَسولِ اللهِ ﷺ تَرْكُ الوُضوءِ ممَّا مَسَّتِ النَّارُ»[16]، وإن كان الصحيح أنَّ هذا الحديث مختصر من حديث طويل، وأنَّ قوله: «آخِرُ الأَمْرِ» في حادثة واحدة، مرة أكل من اللحم وتوضأ، ثم في نفس اليوم بعد ما استيقظ أكل العلالة -البقيَّة- ولم يتوضأ، فليس فيه نسخ، إنَّمَا هذا فيمن أكل من المطبوخ وما مسَّته النار؛ فالسنة الوضوء، والوضوء ليس الواجب إلَّا مما يجب منه الوضوء كلحم الإبل.
إذًا فالترجيح يكون بأحد وجوه التي ذكرها العلماء، ككثرة الرواة، أو بقوة الراوي كأن تكون الرواية عند البخاري ومسلم ونحو ذلك.
قوله: (ثُمَّ التَّوَقُّفُ)، بعضهم يعبر بقوله: "ثم التَّساقط"، ولكن هذه العبارة لا تحسُن.
والمراد بالتوقف: يعني يتوقف، والتَّوقُّف هذا توقُّف نسبي، يعني: إذا لم يظهر له الجمع، وإذا لم يظهر له النسخ، وإذا لم يظهر له الترجيح؛ فيتوقف، لا يحكم وإنما يتوقف، والتوقف هذا -كما تقدم- نسبي، ثم هو قد يتوقف وغيره يتبيَّن له ويجزم، لكن إذا لم يتبين له وجه من هذه الوجوه يتوقَّف حتى يظهر له الوجه الأظهر في هذا الحديث.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ الْمَرْدُودُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِسَقْطٍ أَوْ طَعْنٍ)}.
لَمَّا انتهى من المقبول جاء إلى المردود؛ لأنَّه تكلَّم عن الشيء المثبَت وهو: "المقبول" ثم جاء على الشيء المنفي وهو: "المردود".
والمردود: هو الذي وُجد فيه سبب من أسباب الطعن.
قوله: (إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِسَقْطٍ أَوْ طَعْنٍ)، هذه عبارة محكمة.
أمَّا السقط: فهذا يتعلق بالإسناد.
والطعن: يتعلق بالمسنِد -وهو الراوي.
إذًا؛ السقط يتعلق بنفس الإسناد، كأن يكون فيه انقطاع أو إعضال أو إرسال أو تعليق أو تدليس ونحو ذلك، بأنواع الانقطاع الخفية والظاهرة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَالسَّقْطُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مَبَادِئِ السَّنَدِ مِنْ مُصَنِّفٍ، أَوْ مِنْ آخِرِهِ بَعْدَ التَّابِعِيِّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ)}.
السقط إمَّا أَن يكون في بادئ السند، هذا هو المعلَّق.
وقوله: (مِنْ مُصَنِّفٍ)، التعليق لابد أَن يكون من مصنِّف مثل البخاري، مسلم، الترمذي، وغيره؛ يقول مثلا البخاري: "قال ابن عباس، قال مجاهد، أو قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، لا يذكر السند، أو لا يذكر جميع السند، أو يذكر السند إلَّا شيخه.
قال: (أَوْ مِنْ آخِرِهِ)، أي أنَّ السقط قد يكون من آخر السند.
وآخر السند بعد التابعي وهو الصحابي، وهنا لم يقل: "بعد الصحابي" ولكن قال: (بَعْدَ التَّابِعِيِّ)؛ لأنَّه قد يكون الذي سقط ما ندري هل هو صحابي أو لا، لو علمنا الصحابي ما كان مرسلًا! فالذي سقط بعد التابعي ما ندري من هو، فالتابعي قال: "قال رسول الله ﷺ"، والتابعي هو مَن رأى الصحابي أو اجتمع به، فلا ندري لو علمنا أن السَّاقط صحابي، لكان الإسناد صحيحًا.
قال: (أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ)، وهو المنقطع والمعضل -كما سيأتي.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَالْأَوَّلُ: الْمُعَلَّقُ. وَالثَّانِي: الْمُرْسَلُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ بِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مَعَ التَّوَالِي فَهُوَ الْمُعْضَلُ، وَإِلَّا فَالْمُنْقَطِعُ)}.
قوله: (فَالْأَوَّلُ: الْمُعَلَّقُ)، المعلق مأخوذٌ من تعليق الحبل على الجدار على الأظهر، لأنَّك أنت إذا علقت الثوب فهو متصل من أعلى، ولكنه من أسفل ليس بمتصل، فما بينه وبين الأرض منفصل، فكذلك ما بين مصنف -كالبخاري مثلًا- وإلى مَن علَّق عنه في انقطاع، هذا الانقطاع ما ندري هل سقط واحد أو اثنان، هذا بحسب مَن علق إليه، فهذا هو المعلَّق.
والمعلق بحثه كثير، والمعلق أكثر ما جاء في صحيح البخاري -رحمه الله- وجاءت معلَّقات في غيره، والمعلقات في صحيح البخاري ليست على شرط الصَّحيح من حيث الإطلاق، قد يكون بعضها في نفس الصَّحيح، فقد يكون معلقًا موصولًا، فننظر في المعلق هذا؛ هل هو موصول في الصحيح؟ قد يصله في مكان آخر، مثل قول النبي ﷺ: «إنَّما الأعْمالُ بالنِّيّاتِ»[17]، هذا الحديث رواه معلقًا، وقد رواه موصولًا، فالمعلقات التي رواها -رحمه الله- مما وصلها كثيرة، ومنها هذا الحديث.
ومثلًا: في مسلم قول عائشة -رضي الله عنها: «كانَ النبيُّ ﷺ يَذْكُرُ اللَّهَ علَى كُلِّ أحْيَانِهِ»[18]، ذكره في أكثر من موضع، فالبحث واسع في هذا.
ولهذا فإن المعلق قد يكون صحيحًا على شرطه، وقد يكون صحيحًا على غير شرطه، وقد يكون حسنًا، وقد يكون حسنًا منجبرًا، وليس فيه معلقٌ لا يُحتجُّ به في صحيح البخاري، فجميع المعلقات التي في البخاري كلها إمَّا تكون صحيحة، أو حسنة، أو منجبرة بطريق آخر، وما فيه مما لا يكون حجة ليس إلَّا معلقًا، كحديث: «إذا صلَّى فليتقدَّمْ أو يتأخَّرْ»[19] لا يصح، وحديث: «مَن أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ وعندَه قومٌ جُلُوسٌ، فهم شُرَكاؤُه فيه»[20]، قال: لا يصح.
ولهذا يقال: إنَّ كتابه أخلاه من كل ما يكون ضعيفًا، وما يكون ضعيفًا قد بيَّنه -رَحِمَهُ اللهُ.
والمعلق مع المنقطع، فهما بينهما العموم والخصوص الوجهي، يعني: يتَّفقان في مادَّة ويفترقان.
مثلًا: المعلق من أوله كما لو قال البخاري: "قال سفيان" فأسقط راوٍ وهو علي بن المديني؛ يكون هذا متفق مع المنقطع؛ لأنَّه أسقط علي بن المديني.
وقد يكون مُعضلًا: كأنه يقول: "قال مالك" ولا يذكر "عبد الله بن يوسف عن عبد الله القعنبي" فيكون بينه وبين مالك اثنان، وقد يكون أكثر من ذلك.
لو قال: "قال: يحيى بن سعيد الأنصاري" فيكون بينه وبين البخاري اثنان، فحديث يحيى بن سعيد الأنصاري من صغار الطبقة الخامسة، فيُسمَّى اصطلاحًا: "معلقًا"، ولهذا قال: (فَالْأَوَّلُ: الْمُعَلَّقُ)، لكن بعضهم يسميه: "معضلًا" إذا كان سقط اثنان، و "منقطعًا" إن سقط واحد، لكن هذا في الاصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح.
قال: (وَالثَّانِي: الْمُرْسَلُ)، المرسل: هو الإطلاق، أطلقه وأرسله كأنه استعجل فيه.
والمرسل: هو قول التابعي: "قال رسول الله ﷺ".
والمرسل ليس بحجة على الصحيح وهو ضعيف، وأحكامه كثيرة.
والمرسل أنواع:
الأول: مرسل الصحابي حجَّة بلا خلاف إلَّا شذوذ أبي إسحاق الإسفراييني -رَحِمَهُ اللهُ.
الثاني: مرسل الصحابي الذي لم يميِّز مثل محمد بن أبي بكر الصديق، وعبيد الله بن عدي بن الخيار، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف؛ هؤلاء من الصحابة غير مميزين.
{ومحمود بن ربيع؟}.
لا، محمود بن ربيع مميِّز، قال: "عَقَلْتُ مِنَ النبيِّ ﷺ مَجَّةً مَجَّها في وجْهِي وأنا ابنُ خَمْسِ سِنِينَ"[21].
إذًا غير المميز مرسله له حكم مرسل كبار التابعين؛ لأنَّه له رؤية، فهو في الشرف والفضل صحابي، وفي الرواية حكمه حكم مرسل كبار التابعين.
الثالث: مرسل المخضرمين، مثل: أبي عثمان النهدي، وأبو سعد الشيباني، وأبو إدريس الخولاني، ونحوهم.
{وعلقمة بن قيس؟}.
علقمة بن قيس توفي 61 والظاهر أنه مخضرم، وكذلك سعد بن إياس وسعد الشيباني؛ فهذه المراسيل عالية، ومع ذلك هذه ليست حجَّة.
الرابع: مَن يكون متقنًا في إرساله مثل سعيد المسيب، يليه مَن مراسيله أضعف كالحسن البصري، ويليه من هو أضعف كمراسيل صغار التابعين مثل النخعي ونحو ذلك.
{والزهري؟}.
الزهري متوسط -رحمه الله.
يقول أبو إسحاق الجوزجاني -رَحِمَهُ اللهُ: "المعضل أسوأ من المنقطع، والمنقطع أسوأ من المرسل، والمرسل ليس بحجة".
المعنى: أن المعضل أشدها ضعفًا، ثم يليه المنقطع، ثم يليه المرسل.
ثم المراد بالمنقطع: أي منقطع في موضع واحد، أمَّا لو كان منقطعًا موضعين فهو ربما يكون في حكم المعضل أو أشد.
قال: (وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ بِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا)، هذا هو المعضل، فالمعضل يُشترط أَن يكون باثنين فصاعدًا في وسط السند، فإذا سقط من الإسناد اثنان متواليان فهو فوق المعلق ودون المرسل، هذا المعضل.
قوله: (وَإِلَّا فَالْمُنْقَطِعُ)، يعني إذا كانا في موضع واحد.
والجميع ليس بحجَّة لكن تختلف رُتَبُه، تختلف رتبه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ قَدْ يَكُونُ وَاضِحًا أَوْ خَفِيًّا. فَالْأَوَّلُ: يُدْرَكُ بِعَدَمِ التَّلَاقِي، وَمِنْ ثَمَّ احْتِيجَ إِلَى التَّأْرِيخِ.
وَالثَّانِي: الْمُدَلَّسُ وَيَرِدُ بِصِيغَةِ تَحْتَمِلُ اللَّقْيَ: كَعَنْ، وَقَالَ، وَكَذَا الْمُرْسَلُ الْخَفِيُّ مِنْ مُعَاصِرٍ لَمْ يَلْقَ)
}.
قوله: (ثُمَّ قَدْ يَكُونُ وَاضِحً)، يعني هذا الانقطاع، والواضح: هو البيِّن مثل المعضل ومثل المنقطع، وما أشبه ذلك.
قوله: (أَوْ خَفِيًّ)، وهذا الخفي سيأتي أنه أقسام، وهذا لعله يحتاج إلى زيادة شرح، ونؤجله للقاء القادم، بارك الله فيكم.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما قدمتم، والشكر موصول لكم أعزاءنا المشاهدين، إلى أن نلقاكم في المجلس القادم، نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

--------------------------------
[1] أخرجه أبو داود (2905) باختلاف يسير، والترمذي (2106) واللفظ له، وأحمد في (المسند) (1/358).
[2] أخرجه أبو داود (1261)، والترمذي (420).
[3] أخرجه الترمذي (587)، والنسائي (1201)، وأحمد (2485).
[4] صحيح مسلم (1080).
[5] أخرجه البخاري (5871)، ومسلم (1425)
[6] سنن أبي داود (4223).
[7] أخرجه أبو داود (3546)، والنسائي (3756)، وابن ماجه (2388).
[8] صحيح البخاري (2592).
[9] السنن الكبرى للنسائي (٤٩١٢).
[10] صحيح البخاري (1462)، صحيح مسلم (885).
[11] أخرجه البخاري (5707)، مسلم (2225).
[12] أخرجه البخاري معلقًا (5707).
[13] صحيح مسلم (2231).
[14] صحيح البخاري (5717).
[15] أخرجه مسلم (1977)
[16] أخرجه أبو داود (192)، والنسائي (185).
[17] صحيح البخاري (1)
[18] صحيح مسلم (373).
[19] أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/340).
[20] ضعيف الجامع (5330).
[21] صحيح البخاري (77).
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ