الدرس الحادي عشر
فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد
إحصائية السلسلة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ الأنبياءِ
والمرسلين، نبينا محمدٍ، وَعَلى آَلِه وصحبهِ أَجمعين، أمَّا بعد،،
فنرحب بكم أيُّها الإخوة الكرام في مطلع هَذا الدَّرس مِن دُرُوسِ "العَقيدةِ
الطَّحاوية"، وَنبدأ فِي قِراءة المتن.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى رَسولِ الله، وبعد.
اللهُمَّ اغفر لنا ولشيخنا وللمُشَاهِدين وللحاضرين.
قال المصنف -رحمه الله وإيَّانا: (وَنُحِبُّ أَهْلَ الْعَدْلِ وَالْأَمَانَةِ،
وَنَبْغُضُ أَهْلَ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ، وَنَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ؛ فِيمَا
اشْتَبَهَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ)}.
يقول الطحاوي -رحمه الله: (وَنُحِبُّ أَهْلَ الْعَدْلِ وَالْأَمَانَةِ، وَنَبْغُضُ
أَهْلَ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ).
أي: مِن عَقِيدَةِ أهل السُّنَّةِ والجمَاعَة: الحبُّ في اللهِ والبُّغضُ في اللهِ.
والحبُّ يَكونُ مِنه أمرٌ طبيعي، فالإنسان يُحبُّ والديه ويحبُّ أولاده، و يحبُّ
زوجته، ويحبُّ صديقه؛ هذا الحبُّ حبٌّ طبيعيٌّ، والكلامُ هُنا في الحبِّ الدِّيني
-حُبّ العِبادة- وأعظمه: حبُّ الله -عزَّ وجلَّ- وهذا غاية العبادة.
وعـبادةُ الرحمـن غَايَـةُ حُبِّـهِ ...
مـع ذُلِّ عـابـده همـا قُـطْبَـانِ
وعليهما فلكُ العبادةِ دائـــــرٌ ...
ما دارَ حتى قامت القُطبـــانِ
فقوله: (وعليهما فلكُ العبادةِ دائرٌ)، يعني: على الحبِّ في الله، وعلى الخوفِ مِن الله -عَزَّ وَجَلَّ- وعلى رجاء اللهِ -سبحانه وتعالى.
وعليهما فلكُ العبادةِ دائرٌ ... ما دارَ حتى قامت القُطبانِ
هذه من القصيدة النونيَّة لابن القيم -رحمه الله.
فمن لوازم الإيمان: أن يُحبَّ في الله، وأن يُبغَضَ فِي اللهِ، أمَّا لو كان يُحبُّ
أعداء الله، ويُبغض من يُحبهم الله؛ فهذا ليس بمؤمن، فإنَّ المؤمن يُحبُّ في الله
ويُبغضُ في اللهِ؛ لأنَّ هَذا مِن آثارِ الإيمانِ بالله -عَزَّ وَجَلَّ- فإذا آمنتَ
وأسلمتَ وقمتَ بأمور الإسلام، وقمتَ بأمور الإيمان؛ فكل مَن قام بهذه الأمور
أحببته؛ لأنَّ هذا ممَّا يحبه خالقنا ومعبودنا وربنا وإلهنا، وهو الله -سبحانه
وتعالى.
وكل مَن تَرَكَ الإسلام، وترك الطَّاعات، وقام بالفجور والعِصيانِ والكُفرِ
والفُسُوق؛ نبغضه لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يُبغِضُ هَؤلاء.
وهناك مَن يجمتع فيه الأمران: يُحَبُّ مِن وَجه ويُبغَضُ مِن وَجهٍ.
فصار النَّاسُ ثلاثة أقسام:
القسم الأول: مَن يُحَبُّ محبَّةً كاملةً: وهم الأنبياء والرُّسل وعباد الله
المؤمنون الصَّالحون من الصَّحابة والتَّابعين، وأشباه ذلك.
القسم الثاني: مَن يُبغض من كل وجه: وهم الشَّياطين، والكفَّار من اليهود
والنَّصارى والمجوس والمشركين، والملاحدة، والمنافقين؛ فهؤلاء يُبغَضُونَ مِن كُلِّ
وَجهٍ.
القسم الثالث: مَن يُحَبُّونَ مِن وَجهٍ ويُبغَضُونَ مِن وَجهٍ: وهو المسلم الذي
فَعَلَ المَعَاصِي، فيُحبُّ مِن جِهَةِ إسلامِه، ويُبغضُ مِن جِهة مَا فَعَلَه مِنَ
المعَاصِي.
فالحبُّ في اللهِ مِن علامةِ الإيمانِ ومن دليل الإيمان، فلابُدَّ منه، هذا مِن
عقيدةِ أَهلِ السُّنَّةِ والجماعة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّ﴾ [مريم: 96]، أي:
المحبَّة. وقال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222]، وأخبر أنَّه يُحبُّ المتَّقينَ، فنحن نُحِبُّ
مَن أحبَّه الله.
والله -عزَّ وجلَّ- لا يُحِبُّ الخائنين، ولا يُحب المفسدين، ولا المستكبرين، فنحن
لا نحبُّهم؛ لأنَّ الله لا يحبهم.
وفي الحديث قال -صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، وَجَدَ حَلَاوَةَ
الْإِيمَانِ؛ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا
سِوَاهُمَ»[175]، إذن حُبُّ اللهِ عِبَادةٌ، وَحُبُّ الرَّسولِ -صلى الله عليه
وسلم- كذلك؛ لأنه أعظم الخلق فضلا على الناس برسالته ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا
رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]، لكنَّ محبتنا للرسول -صلى الله عليه
وسلم- لا تقتدي أن نعبده، وإنَّما نعبدُ اللهَ، فنحب مَن أرسله الله، وهو أفضل خلق
الله -صلى الله وسلم وبارك عليه.
قال: «وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ»، هذا هو الحب في الله
-وهو القسم الثاني.
قال: «وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ
مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».
فإذا وُجِدَتْ هَذه الثَّلاث وَجَدَ العبدُ حلاوة الإيمان.
أيُّها الإخوة؛ حُبُّ المؤمنين والصَّالحين والمتَّقين إذا لم يُوجد في قَلبِ
المُسلمِ دَلَّ هَذا على ضعفِ إِسلامِه، وإذا وُجدَ في قلبه حُبُّ الفُسَّاقِ الذين
يَشربون الخُمُورَ ويزنون ويَسرقون ويأكلون الرِّبا ويعصون الله ورسوله؛ دَلَّ هَذا
على ضعفِ إيمانِه، فالحبُّ لَيسَ لأجلِ الدُّنيا كما يصنع كثيرٌ مِنَ النَّاس، إذا
حصَّل أمورًا دنيويَّة أحبَّ هذا الشَّخص، وإذا لم يُحَصِّل أَبغَضَه، كما قال عبد
الله بن عباس -رضي الله عنهما: "وَقَدْ صَارَتْ عَامَّةُ مُؤَاخَاةِ النَّاسِ عَلَى
أَمْرِ الدُّنْيَا وَذَلِكَ لَا يُجْدِي عَلَى أَهْلِهِ شَيْئًا"[176]، وقال ابن
مسعود: "مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ
لِلَّهِ؛ فَقَدْ تَوَسَّطَ الْإِيمَانَ"[177]
ولهذا فإنَّ أوثق عرى الإيمان: الحبُّ في اللهِ والبغضُ في الله؛ فيجب على أهل
الإيمان أن يكونوا هكذا.
أمَّا المشركون فإنَّهم يُحبون مُعبداتهم، يُحبُّون غيرَ الله -عزَّ وجلَّ- أعظم
مِن حُبِّ اللهِ، كما قال الله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن
يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ [البقرة:165]، فهؤلاء الكفار اتَّخذوا هذه الأصنام وهذه
المعبودات وأصحاب القبور، أو الجن، أو مَن يستغيثون بهم؛ اتَّخذونهم أندادًا مع
الله، ثمَّ أحبُّونهم كحبِّ الله، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ
اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ فهذا الحب حبٌّ شريكيٌّ؛
لأنَّهم عبدوهم، وصرفوا لهم خالص الحق الذي هو لله.
ماذا يحدث يوم القيامة؟
قصَّ الله علينا ماذا يحدث، وأخبرنا به، قال تعالى: ﴿وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ
كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الأحقاف:6]، الله
أكبر! هؤلاء أخسر الناس صقفةً، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن
دُونِ ٱللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن
دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً
وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الأحقاف:5-6]، وفي سورة العنكبوت قال الله
-عزَّ وجلَّ- فيما قصَّ من خبر إبراهيم مع محاججته لقومه: ﴿وَقَالَ إِنَّمَا
اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ
بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾
[العنكبوت:17]؛ لأنها محبَّة شركيَّة، فتذهب وتزول وتنقلب عداوات وحسرات -نسأل الله
العافية والسلامة.
وهكذا الذين يُحبُّون النَّاسَ لأجلِ الدُّنيا تَنقلب أُمورهم إلى عَداوة يَومَ
القِيامَة؛ لأنَّهم لا يأمرونهم بمعروف، ولا ينهونهم عَن مُنكرٍ، ولا ينصحونهم لأجل
الدُّنيا، يَخشَى أَن يَغضِبَ عَليه الْمَلِك أَو الأمير أو التَّاجر أو الغَنِّي
أو المدير أو الوزير؛ فينافقه ويكذب عليه ويتصنَّع له، ويتَّخذه صديقًا.
وبعض الناس يتَّخذ شخصًا صديقًا ولا يُريد أن يُكدِّر خَاطره فلا يقول له: قُم
صلِّ، أو زكِّ، أو اتقِ الله ولا تفعل هذه المعصية؛ بل يَسكتُ عَن الباطل حتى لا
تتكدَّر الخلَّة والصَّداقة بزعمه، فهؤلاء حالهم ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:67]، تنقلب تلك
الخُلَّة وتلك الصداقة إلى عداوة، يقول له: أنت تراني في الدُّنيا أَفعل كذا ولا
تنهاني؟!
فيتَّخذه عدوًا يوم القيامة!
فأهلُ السُّنة والجماعة مسلمون يُحبُّون أَهَلَ العَدلِ والأمانة.
العدل: هو القيام بالقِسطِ، الذي يَعدل في أهله وفي أولاده، وبين زوجاته، في
النفقة، وفي المبيت، وفي العشرة، فالعدل واجب بين الزوجات وبين الأولاد.
ولا يجوز الجَور والظُّلم، لا في بيتك، ولا في مدرستك، ولا في أي مكان، وإذا كنت
قاضيًا أو حاكمًا لا يجوز لك أن تظلم، ويجب أن تكون مِن أَهلِ الأَمانَةِ؛ فتحفظ
الأمانة ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَ﴾
[النساء:58]، فإذا قمت بالأمانات يُحبك المؤمنون، فتكون أهلاً لأن تُحَبَّ فِي
اللهِ، وإذا خُنتَ الأمانةَ سَقَطَتْ عَدَالَتُك، وَوَجَبَ بُغضك لوجود الخيانة
-نسأل الله العافية والسَّلامة- قال: (وَنَبْغُضُ أَهْلَ الْجَوْرِ
وَالْخِيَانَةِ)، والجور: عكس العدل.
فهذه المسألة مسألة عظيمة جدًّا، وهي: الحبُّ في اللهِ، والبُغضُ في الله -نسأل
الله أن يثبتنا وإيَّاكم على الإيمان الصَّادق.
قال: (وَنَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ؛ فِيمَا اشْتَبَهَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ).
هذه مَسألة أيضًا عظيمة جدًا؛ لأنَّ الواجب على المؤمن أن يَردَّ الأمرَ إلى اللهِ
-سبحانه وتعالى- وأَلَّا يَتَكَلَّمَ بغيرِ عِلمٍ، فَمِن أعظمِ المحرَّمات: القول
على الله بغير علم.
والقول على الله بغير علم يدخل فيه أُمور مُتعددة، مثل: الكلام في أسماء الله
وصفاته بالباطل، كالذي يُنكرها، أو يسمي الله بما لم يُسمِّ به نفسه، أو يحرفها، أو
غير ذلك.
ومن القول على الله بغير علم: الكلام في الغيب، بأن يُنكر بعض الغيبيات التي جاءت
في الكتاب والسنَّة.
ومن الكلام على الله بغير علم: الدخول فيما اشتبه وما أخفى الله علينا عِلمه، فالذي
أخفاه الله -عزَّ وجلَّ- علينا لا يجوز لنا أن نتكلم فيه بغير علم، وبغير دليل،
وبغير برهان، وبغير وحي؛ فيجب أن نسكت ونقول: الله أعلم.
إذا قال لك واحد: كيف يكون شكل الصراط يوم القيامة؟ كيف شكل الميزان؟ هل هو مثل
هذا؟
تقول: الله أعلم، هذا أمر أخفاه الله عنَّا، الكيفيَّات أخفاها الله عنَّا، أمَّا
ما وَرَدَ فنؤمن به.
إذا قال آخر: كيف فاكهة أهل الجنَّة؟ أهي مثل هذا؟ أهي كذا أو كذا؟ يتكلم عن
الكيفيَّات!
تقول: هي ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، هي خيرٌ من كل ما في
الدُّنيا، لكن كيفيتها، الله يعلمها، فلا ندخل في المشتبهات.
إذا قال واحد: متى الساعة؟ أي تاريخ؟ أي سنة؟
نقول: الله أعلم، أخفى الله عنَّا علم السَّاعة.
وهكذا إذا قال: كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟
نقول: الله أعلم، الكيفيات لا نعلمها.
كيف استوى على العرش؟
نقول: الله أعلم، لا يجو الكلام في الأمور التي أخفاها الله عنَّا.
أمَّا هل ربُّنا استوى على العرش؟
نقول: نعم ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:5]، فنقول مثلما قال الله
-عزَّ وجلَّ- في القرآن، لكنَّ الكيفيَّات مُخفاة عنَّا.
فلا يجوز الكلام فيما اشتبه علينا بغير علم.
هناك أمور بيِّنة في القرآن وواضحة في السُّنَّة، ولكن أحيانًا الإنسان لم يَدرسها
ولم يُتقنها، فما الواجب عليه؟
الواجب عليه أن يتعلمها، وإذا سُئلَ وهو لا يعلم يقول: "لا أدري، الله أعلم"؛ فلا
يجوز أن يتكلم بغير علم، ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا
لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:33]. وهذا من أعظم المحرمات.
وقال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ
وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُول﴾ [الإسراء:36].
ولهذا قال -عزَّ وجلَّ- لنبيه -صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص:86]، فلا تتكلَّف،
إذا قلت: هذا السَّائِلُ مسكين ويحتاج إلى جواب، وأنا رحمته فلابدَّ أن أُجيب!
فنقول: ارحم نفسك أولًا، ارحم نفسك أنت؛ لأنَّك إذا أجبتَ بغير عِلمٍ هَلَكتَ
وأهلَكتَه، واستحققتَ العقوبة الشَّديدة، فالذي يتكلم بغير عِلمٍ مُستحقٌّ للعقوبةِ
حَتَّى لَو أَصابَ، فالواجب على المؤمن أَلَّا يتكلمُ بِغَيرِ عِلمٍ، وأن يردَّ
الأمورَ إلى اللهِ -سبحانه وتعالى- ويقول: اللهُ أَعلم؛ لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ-
هُو أَعلَمُ بِكُلِّ شَيءٍ، وهو الذي شَرَّع الشَّرائع وخلق الخلائق.
في سورة الكهف قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ۖ لَهُ
غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن
دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدً﴾ [الكهف:19]، وقال: ﴿قُلْ
رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ﴾ [الكهف:22]، فلا
تتكلم بغير علم.
ولهذا كان السَّلف الصَّالح من الصَّحابة -رضي الله عنهم- لا يَستعجلون في الفتوى،
ولا يُفتون بغير عِلمٍ؛ بل كانوا يتدافعون الفتوى، كلٌّ يردَّها إلى غَيرهِ
لَعَلَّه أعلم ولَعَلَّه أتقن، وهذا الأمر العظيم يخفى على بعض النَّاسِ فيستعجلُ
ويُريد أن يُفتي ويتسابق إلى الفتوى، ما يَدري أنَّها خَطيرة جدًّا، ولهذا قال
بعضهم: "أجرأكم على الفتوى أجرأكم على النار"، فلا تتجرأ على الفتوى بغير علم،
فالإفتاء خطير.
ابن مسعود -رضي الله عنه- جاءه قوم يَستَفتُونَه في امرأة مَاتَ عَنها زوجُها قبل
الدُّخول. ماذا عليها وما حُكمُها؟
جلس ابن مَسعود شَهرًا كاملًا يقول: أنظروني حتى أنظر في المسألة!
ثم أفتى في هذه المسألة بأنَّ عليها العِدَّة ولها الميراث، ولها مَهر مثيلاتها من
النساء، ثم قال: "إن كنتُ أصبتُ فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان".
فَسَمِعَه أحدُ الصَّحابة وقال: "لقد حكم فيها النَّبي -صلى الله عليه وسلم-
بِمِثلِ مَا حَكَمتَ". فقال: "الحمد لله" رضي الله عن ابن مسعود.
فبعض الناس يَستعجل ولا يتأنَّى، وهذا خطير جدًّا.
ولهذا فإنَّ من الكلمات العظيمة عند العلماء أن يقول: "لا أدري".
جاء أناسٌ إلى الإمامِ مالكٍ بن أنسٍ -رحمة الله عليه- يسألونه عن مسائل، قيل:
أربعين مسألة، وقيل: أكثر من ذلك، فكان يقول: "لا أدري" فَسُئِلَ المسألة الثانية
فقال: "لا أدري"، فسُئل المسألة الثالثة فقال: "لا أدري"، قالوا: سبحان الله! نأتيك
من بعيد وتقول: "لا أدري"؟!
قال: "ارجع إليهم وقل لهم: مالك بن أنس لا يدري".
بعضُ علماءِ السَّلفِ يقول: "لا أدري؛ ما أبردها على قلبي"، يعني: باردةٌ وسهلةٌ،
ما فيها تَكلُّف، لكن إذا تقحَّمتَ المسألة وأنت لا تُتْقِنَها حقيقةً دخلتَ في
ورطات الأمور، أمَّا إذا كنتَ تَعلم ضابط العلم وضابط المسألة؛ فَتَكَلَّم بالعلمِ
وبالوحي من كتاب الله ومن سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم.
فالتَّكلُّف في الفتوى والتَّجرؤ على الفتوى خَطير جدًّا حتى في تفسير القرآن.
انتبهوا يا إخوان! بعضُ النَّاسِ يريد أن يُفسِّر القرآن برأيه ويقول: أنا أتوقع
أنَّ المعنى كذا، وأتوقع أن الآية كذا!
يا أخي هذا الأمر لا تتكلَّم به، إذا كانَ عندكَ علمٌ مِن كتابِ اللهِ وسنَّةِ
رسولهِ، ومِن كلامِ الصَّحابةِ والمفسِّرينَ؛ فتكلَّم، وإذا ما كان عندك علمٌ
فأمسك.
ولهذا تجدُ بعضَ النَّاسِ يتكلَّم في الحروفِ المقطَّعة، ويقول: إنَّ لها دلالات،
فإذ جُمعتَ الأرقامُ فإنَّه يخرج كذا، وإذا حَسبْتَ عددَ السُّورِ وعددَ الحروفِ
فيكون كذا، وإذا ضربتَ هذا على هذا، وقَسَمْتَ هذا على هذا يكونُ كذا!
سبحانَ الله! افتراءات يفترونها، وأشياء يدَّعونها، وكلُّها مخالِفة لِما عليه
سَلفُ الأمَّة -رحمة الله عليهم.
لو تَنظر في حالِ أبي بكر؛ كانَ يخاف مِنَ الفتوى ويتهيَّب مِنهَا، وعمر يقول:
"اتَّهموا الرأي في الدِّين، لو رأيتني يوم أبي جندل وأنا أجادل الرسول -صلى الله
عليه وسلم- وأبا بكر..."[178]، في قصَّة صلح الحديبيَّة، فهذه عبرة لنا، فإذا كانَ
عمر يحذِّرنا من هذا، فكيف بنا!
ويُنقل عن أبي بكر قوله: "أيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، أَوْ أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي
إِنْ أَنَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ؟"[179]، رضي الله عنهم
وأرضاهم، فهؤلاء هم قدوة المسلمين.
قال: (وَنَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ)، ولا ندخل في الأمورِ بغيرِ علمٍ، لا في تفسيرِ
القرآن، ولا فِيمَا اشْتَبَهَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ لقلَّة علمنا، ولا فيما أخفاهُ
الله -عزَّ وجلَّ- عنَّا، فنُمسِك، وهذا هو الواجبُ على أهلِ الإسلام، وهذه طريقة
أهلِ السُّنَّة والجماعة أنَّهم لا يتكلَّفون، ولهذا لمَّا تكلَّف المعتزلَة
والجهميَّة والأشَاعِرة وغيرهم في مسائل الأسماء والصَّفات ضلُّوا عن سواء
السَّبيل، فتكلَّموا بغيرِ علمٍ وقعَّدوا قواعدَ باطلة، فكل هذا من الغَلَطِ
العَظيمِ.
(وَنَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ كَمَا جَاءَ فِي
الْأَثَرِ.
وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ فَرْضَانِ مَاضِيَانِ مَعَ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ -بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ - إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ).
يقول: (وَنَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ كَمَا
جَاءَ فِي الْأَثَرِ)، هذه مسألة المسح على الخفين مُتواترة عن النَّبي -صلى الله
عليه وسلم- قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة:6] ﴿أَرْجُلَكُمْ﴾
منصوب عطفًا على ﴿أَيْدِيَكُمْ﴾ ، فتدخل في الغسل، وقُرئت قراءةٌ صحيحة
﴿وَأَرْجُلِكُمْ﴾ بالكسر، فيدخل في المسح ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ
وَأَرْجُلِكُمْ﴾ ، ولكن في السُّنَّة تَواترَ تواترٌ قطعيٌّ عن النَّبيِّ -صلى الله
عليه وسلم- ورواه الجمع الكثير مِن الصَّحابة أنَّه مَسَحَ على الخفَّين في السَّفر
وفي الحَضَرِ، ففي حديث الْمُغِيرَةِ بن شعبة، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ:
«دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ فَمَسَحَ عَلَيْهِمَ»[180]
-صلى الله عليه وسلم.
والخف: ما كان مِن جلدٍ.
والجورب: ما كان مِن قطنِ أو صوفِ ونحوه؛ وكلاهما حكمهما واحدٌ، فالمسح على الخفين
سنَّة ثابتة عن نبينا -صلى الله عليه وسلم.
لماذا أدخل الطحاوي هذه المسألة ضمن المتن مع أنَّها مسألة فقهيَّة؟
لأنَّه اشتهر عن المبتدعة -خصوصًا الرافضة- إنكار المسح على الخفين، ومخالفة سنَّة
النبي -صلى الله عليه وسلم- الثَّابتة، فلا يرون المسح على الخفين، ويقولون: المسح
على الرجلين.
وهذا لا شكَّ أنَّه مغالطة عظيمة وترك للحق، والعدول عنه إلى الباطل -نسأل الله
العافية والسلامة.
ولهذا نصَّ العلماء في العقيدة على هذه المسألة؛ لأنَّها من المسائل التي خالف فيها
الرافضة حتى صارت شعارًا لهم.
والمسح على الخفين يكون في السَّفر وفي الحضر، فلو رأينا شخصًا قال: أنا لا أريد
المسح على الخفين تورعًا!
نقول: تورُّعكَ هذا تورُّعٌ بارد لا خير فيه، عليك بسنَّة النبي -صلى الله عليه
وسلم.
(وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ فَرْضَانِ مَاضِيَانِ مَعَ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ -بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ - إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، لَا
يُبْطِلُهُمَا شَيْءٌ وَلَا يَنْقُضُهُمَ).
الحج ركنٌ مِن أركانِ الإسلامِ، وهو الرُّكن الخامس، ويجبُ في العُمر مرَّة واحدة،
وهكذا العُمرة تجبُ مرةً واحدةً، لكن وليَّ الأمرِ عليه أن يُقيمَ الحجَّ كلَّ سنةٍ
للنَّاس، يُنظِّم شؤون الحجِّ ويُرتِّب أمورَه، ويبعث أميرًا للحجِّ، ويتحرَّى متى
دخلَ الشَّهر، ومتى الوقوف بعرفة، ومتى يُدفعون من مِنى إلى عرفات، ومتى يُدفعون
مِن عَرفاتٍ إلى مُزدلفة ثم إلى مِنى، فأمورُ الحجِّ تحتاج إلى ترتيبٍ، فنحن نكونُ
مع أميرِ المسلمين في الحجِّ وأمراء الحجِّ، وأوَّل أميرٍ للحجِّ هو رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- تولَّى شؤون الحجِّ في حجَّةِ الوداعِ، ثمَّ أبو بكر، ثمَّ عمر،
ثمَّ عثمان، إلى يومنا هذا والحجُّ عليه أمير -والحمد لله.
ولا ينقطعُ الحجُّ إطلاقًا إلى قيامِ السَّاعة، لو قُدِّر أنَّ أميرًا ظالمًا
ضالًّا خبيثَ المعتقدِ قال: لا حجَّ عليكم أيُّها المسلمون، هل يُلتفت إلى كلامه؟
قال: (لَا يُبْطِلُهُمَا شَيْءٌ وَلَا يَنْقُضُهُمَ)، ولكن نحجُّ مع أميرِ الحجِّ
سواء كان برًّا أو فاجرًا؛ لأنَّ هذا الفجور لا يضر، ففجوره على نفسه، لكن تقوم هذه
الشَّعيرة مِن شعائرِ الإسلام وتثبت والحمد لله.
وهكذا الجهادُ، فالجهاد من أعظم شعائر الإسلام كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم:
«وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ»[181]، فالجهاد في سبيل الله -وهو قتال العدو في
سبيل الله- ينقسم إلى قسمين:
- جهاد دفع.
- جهاد طلب.
فالجهاد يكون مع أُمراء المسلمين وقوَّادهم؛ لأنَّه لا يجوز أن يُجاهد بدون إذن ولي
الأمر؛ لأنَّه إذا جاهد بدون إذن ولي الأمر صارت فوضى، فالجهاد إنَّما يكون مع ولاة
أمور المسلمين، ولهذا قال: (وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ فَرْضَانِ مَاضِيَانِ مَعَ
أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
أمَّا إذا قال قائل: أنا سأقاتل هنا، أو قال آخر: أنا سأقاتل هنا، أو سأتقدم هنا،
وقال آخر: أنا سأتأخر!
فما فيه شيء يضبطهم، فتصير فوضى عارمة، ويذهبون لُقْمَةً سَائغةً للعدوِّ، وتضعُفُ
شوكتهم، وتتفرَّق كلمتهم، ويُسلَّط عليهم العدو، فلا يجوزُ أن يغزوَ المسلمونَ إلا
بإذنِ وليِّ الأمرِ، وهذا دليله في القرآن قوله: ﴿إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ
ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة:246]، وقال:
﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ
رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلً﴾ [النساء:83]، وقال:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء:59]، فهذه كلُّها أدلَّة مِن القرآنِ.
أمَّا أدلَّة السُّنَّة: قوله -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ
يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ»[182].
وسنَّة الجهادِ بدأها النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وهي مُستمرَّة، ولم يُقاتِل
المسلمون مِن عهدِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وعهدِ الصَّحابةِ بدونِ إذنِ
وليِّ الأمرِ إطلاقًا.
قوله: (إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، لَا يُبْطِلُهُمَا شَيْءٌ وَلَا يَنْقُضُهُمَ).
يقال: إنَّ أصحابَ الفِرقة القاديانيَّة -التي تسمَّى الأَحمَدية- وهي فرقة كافرة
خارجة عن الإسلام؛ لأنَّه ادَّعى أنَّه المهدي، ثم ادَّعى النُّبُوة، وعندهم
عَقائِدَ كُفريَّة كثيرة، فمن الأشياء التي أتى بها "ميرزا القادياني": إسقاط شريعة
الجهاد.
هل الجهاد يسقط بإسقاط هؤلاء الطَّواغيت؟
لا، الجهادُ شَريعةٌ ماضية إلى قيام السَّاعة، لكن يكون مع ولاة أمور المسلمين،
وليس مع التَّنظيماتِ الظَّالمة والإرهابيَّة والعَصَاباتِ، فالجهادُ يكون مع
وُلاةِ أُمور المسلمين بَرِّهم وفَاجِرِهِم، فحتى لو كان عِندَه فُجُورٌ نصبرُ
عَليه؛ لأنَّ فُجُورَه عَلى نفسِه، أمَّا الجهادُ فيبقى.
طيب هل معنى قوله: (إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ) أنَّه في كل يوم لابد من الجهاد؟
الجواب: لا، قد يكون هناك جهادٌ وقتالٌ وقد يكون هناك صلحٌ، والدليل على هذا أنَّ
النَّبي -صلى الله عليه وسلم- صَالَحَ الكُفَّار في صُلحِ الحُدَيبيَة، وعاهد
اليهود في المدينة، وهذا التَّوقف عن القتال للكفار للأسباب، فيُصالحهم؛ بل قد
يعطيهم مالًا للضرورة لدفع شَرِّهم.
فالجهاد -أيُّها الإخوة- له ضوابطٌ شَرعيَّة، وله شُروطٌ، وله قواعدٌ مَعروفة عند
العلماء.
- شروطٌ في إقامةِ الجِهَادِ نَفسِه.
- وشروطٌ في المجاهِد الذي يُقاتِل وصفَتِه.
وقد تسقط بعض هذه الشُّروط في جِهَادِ الدَّفعِ، فإذا هَجَمَ العَدوُّ عليك ووصل
إلى بيتك، فتُدافع عَن حُرمَتِك، وتُدافع عن نَفسِك، وتُدافع عن عِرضِك، ولكن
لابدَّ أن يكون مع ولي أمر المسلمين حتى تترتَّب شؤون المسلمين.
أمَّا أن يظنَّ ظانٌّ أنه لابدَّ مِن القتالِ كل يوم؛ فهذا الظنُّ في غير مَحِلِّه؛
لأنه ثبت في السُّنَّة أنَّه قبل يوم القيامة إذا نزل عيسى بن مريم وخرج يأجوج
ومأجوج، فيقول الله لعيسى:
«إِذْ أَوْحَى اللهُ إِلَى عِيسَى: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لَا
يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ»[183]، فلا
يقاتلونهم، ويتحرَّزون منهم، وهذا دليل على أنَّه قد يكون في بعض الأوقات يكثر
الكفار، فيكون من المصلحة أن يتحرَّز المسلمون في حصنٍ، أو أن يُصالحوا الكفار على
مال أو على غير ذلك، وقد ذكر الفقهاء في كتب الجهاد التفاصيل في هذه المسائل
العظيمة، فيجب الرجوع إليها.
ولا يجوز لبعض الناس أن يقولوا: لا نطيع الأمراء، ولا نخرج مع الأمراء، ولا نقاتل
مع أمراء المسلمين، فهذا من الأغلاط العظيمة، ومن ضلالات الرافضة؛ لأن الرافضة
يقولون: كل شيء يسقط حتى يخرج المهدي المنتظر فنخرج معه ونقاتل، فيسقطون شريعة
الجهاد، أمَّا الإسلام فلا يقولون هذا.
فالإمام حتى لو كان فاجرًا أو فاسقًا أو ظالمًا أو ناقصًا؛ فالجهاد لا يكون إلا مع
ولي الأمر كما قرأنا هنا، وهذا معنى قوله: (وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ فَرْضَانِ
مَاضِيَانِ مَعَ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ -بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ -
إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، لَا يُبْطِلُهُمَا شَيْءٌ وَلَا يَنْقُضُهُمَ).
فلو جاء واحد وقال: نسقط الجهاد عن المسلمين ونلغيه. ما الحكم؟
كلامه باطلٌ ومردودٌ عليه، الجهادُ باقٍ إلى قيام الساعة.
لكن أيُّ جهاد هو الباقي إلى قيام الساعة؟
الجهادُ الشرعي الصحيح مع ولي أمر المسلمين بضوابطه الشرعية، فهذا فرض.
أما لو قيل: لا نسمع للأمير في إسقاط الجهاد، ونذهب نقاتل؛ فلا، لابد من سائس يسوس
الناس، ولابد من قائد.
لَا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم ... وَلا سَراةَ إِذا جُهّالُهُم سادوا
هذا شرح قوله:(وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ فَرْضَانِ مَاضِيَانِ مَعَ أُولِي الْأَمْرِ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ -بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ - إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، لَا
يُبْطِلُهُمَا شَيْءٌ وَلَا يَنْقُضُهُمَ).
{(وَنُؤْمِنُ بِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَهُمْ
عَلَيْنَا حَافِظِينَ.وَنُؤْمِنُ بِمَلَكِ الْمَوْتِ الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ
أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ. وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ لِمَنْ كَانَ لَهُ
أَهْلً)}.
يقول المصنف: (وَنُؤْمِنُ بِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ
جَعَلَهُمْ عَلَيْنَا حَافِظِينَ)، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ
(10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الإنفطار:10-12]،
وقال: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ
قَعِيدٌ (17) مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾
[ق:17-18]، وقال: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد:11]، وقال:﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا
نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾
[الزخرف:80].
والنَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ
بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ
وَصَلَاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ تَرَكْنَاهُمْ
وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّون»، فهؤلاء الكرام الكاتبين
يكتبون الأعمالَ التي يعملها العبد نُؤمِنُ بهم وإن لم نرَهُم بأعيننا، فنؤمنُ
بأنَّ كل ما نقوله ونتكلَّم به ونفعله فإنَّه يُكتب علينا، فيُكتَب الخيرِ
والشَّرِّ، وهذا يدعونا -يا إخوان- إلى الإكثارِ مِن العملِ الصَّالح، ومن
الذِّكرِ، ومِن الكلامِ الطَّيبِ، فإنَّنا نأنسُ بالملائكة، وإنَّ هذا ممَّا يُحفَظ
ولا يخفَى على الله -عزَّ وجلَّ- وهو ممَّا ينفعُ المؤمن ويُنجيه مِن عذابِ الله،
كما في نفسِ الوقتِ نخشَى من الذُّنوبِ، ونخشَى مِن الكلامِ السَّيء، ونخشَى مِن
المعاصي، فإنَّ الملائكة يكتبونَ، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ
(10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الإنفطار:10-12].
أسألُ الله -جلَّ وعَلا- أن يوفقنا لأن نجتهد في الأعمال الصالحة، ونبتعد عن
الأعمال السيئة، فكل منَّا موكَّل به ملائكة يكتبونَ أعمالَه، ويُحصُونَها عليه،
فهذه الأعمال تُكتَب، فإن تابَ مُحيَت الذُّنوب، وإن لم يتب بَقيَت صَحائفُ
أعمالِه، وتُعرض عليه يوم القيامة، قال تعالى: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ
بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبً﴾ [الإسراء:14]، فلا يُظلم أحد، أنت حسيب
نفسك، هذه أعمالك، وهذا الذي كنت تقوله، وهذا الذي كنت تعمله، وهذا الذي كنت تكتبه،
اللهم اغفر لنا وارحمنا يا رب العالمين.
قال: (وَنُؤْمِنُ بِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَهُمْ
عَلَيْنَا حَافِظِينَ)، والإيمان بالملائكة هذا ركنٌ من أركانِ الإيمان السِّتَّة
فنحن نؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ونؤمن بالقَدَرِ خَيرِه
وَشَرِّه.
فالإيمان بالملائكة هو الركنُ الثاني من أركان الإيمان، ومن أنواع الملائكة: الكرام
الكاتبين، وكذلك ملك الموت، وغير ذلك. فمن أنكر الملائكة وجحدهم فقد كفر وخرج من
الإسلام -نسأل الله العافية والسلامة.
قال: (وَنُؤْمِنُ بِمَلَكِ الْمَوْتِ الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ
الْعَالَمِينَ)، قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي
وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ [السجدة:11]، وقال
تعالى:﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً
حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا
يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام:61].
وقال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ
فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ
الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ [الزمر: 42].
ولهذا عند الموت تأتي ملائكةُ الرَّحمةِ أو ملائكةُ العذابِ، ثمَّ يأتي مَلكُ
الموتِ لقبضِ الرُّوحِ، فيقبض روحَ العبدِ، ثم لا تدع الملائكة الرُّوحَ في يده؛ بل
تضعها إمَّا في حنوطٍ وكفنٍ مِن الجنَّةِ، أو حنوطٍ وكفنٍ من النَّارِ -نسألُ الله
جلَّ وعَلا أن يُحسِنَ خاتمتنا.
والموتُ حقٌّ لابدَّ منه، الكلُّ سيموت، قال تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ
مَيِّتُونَ﴾ [الزمر:30]، لن يبقى أحدٌ في الدُّنيا، والموت صِفة وجوديَّة، وليس صفة
عدميَّة؛ لأنَّ الروح تنتقل مِن حَالٍ إِلى حال، ولا تُعدَم الرُّوح أَو تَفنَى، بل
تذهب إلى دارِ البرزخِ، والله أعلم كيف هي الروح.
قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا
أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيل﴾ [الإسراء:85]، هذه الروح التي في جنبك
بها تحيا، فإذا نام الإنسان خرجت منه.
قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ
فِي مَنَامِهَ﴾ هذه وفاة صغرى، فإذا أراد الله له أن يستيقظ ردَّ عليه روحه، وإذا
أراد الله الوفاة والموت الكامل أمسك روحه، قال: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ
حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ
عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ [الزمر: 42].
والروح خَلقٌ مِن خَلقِ الله -عزَّ وجلَّ- ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾
[الرعد:16]، ولكن كيف هذه الروح؟ وما صفتها؟ وما حقيقتها؟
نقول: الله أعلم، قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيل﴾ [الإسراء:85]،
فالأرواح هذه تُقبض عند الموت فتخرج، وقد جاء في سُنَّة النَّبيِّ -صلى الله عليه
وسلم- صفةُ خروجِ روح المؤمن، وصفةُ خروجِ روح الكافر والفاجر والمنافق، فالمؤمن
تخرجُ رُوحُه كالقطرةِ تنزلُ فِي فيءِ السِّقاءِ -بسهولة- والكافرُ تُنزَع روحَه
نزعًا كما يُنتزَع السَّفود مِن الصُّوفِ المبلولِ، يعني تُنزَعَ مِن كلِّ عرقٍ
ومِن كلِّ مكانٍ ليتألَّمَ أشدَّ الألمِ.
قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ
وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ
تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ [الأنعام: 93]، وأشد ما تكون العقوبة هي عقوبة الكافر
عند الموت عندما يرى الحقائق، ويُعاين ملائكة العذاب.
لا إله إلا الله، اللهم أحسن خاتمتنا يا رَبَّ العَالمين، وثبِّتنا على الإسلام
والسُّنَّة.
قال: (وَنُؤْمِنُ بِمَلَكِ الْمَوْتِ)، مَلكُ الموتَ هذا هو اسمه في القرآن، قال
تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ﴾ [السجدة: 11]، بعضهم يقول:
"عزرائيل" ولكن لا دليل على ذلك، فنقول مثلما جاء: "ملك الموت" ولا نسميه عزرائيل؛
لأنَّه ما جاءت في سُنَّة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- هذه التَّسمِيَة.
ومثلما تقدَّم فإنَّ الكفارَ يُعذَّبون عند الموتِ، ويرونَ الحقائقَ، أمَّا
المؤمنونَ فقال الله تعالى عنهم: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)
ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)
وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر:27 -30]، وفي آخر سورة الواقعة ذكر الله ثلاثة أحوال
للميتين: ﴿فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ
وَجَنَّتُ نَعِيم (89) وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَـبِ الْيَمِينِ (90)
فَسَلَـمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَـبِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ
الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيم (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيم
(94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ﴾ [الواقعة: 88- 96].
فَمِنَ الآن أيُّها المسلم، أيُّها المؤمن؛ استعد لهذه اللحظات بِحُسنِ الطاعة،
وقوة الإيمان، وقراءة القرآن، والعمل الصالح والتوبة، والابتعاد عمَّا يُغضب الله
-سبحانه وتعالى.
وممَّا جاء في السنة أيضًا: قال -عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ الرُّوحَ إِذَا
قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ»[184]، جسدك الآن فيه أعضاؤك المحسوسة، ومن ضمنها البصر،
فبصرك يتبع الرُّوح وهي تخرج من جسمك، الروح تخرج فالبصر يراها وهي تخرج في هذه
اللَّحظات، ولهذا فإن أكثر الموتى يفتح عينيه عند الموت، فينظر إلى الروح وهي تخرج،
ويُشرع لمن حضر المحتضر أن يغمِّض عينيه بعد خروج روحه، اللهم أحسن خاتمتنا يا
رَبَّ العالمين.
فهذا الأمر نؤمن به، وبكل ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- عن
الملائكة، فنؤمن بصفاتهم، ونؤمن بأعمالهم، وتقدَّم الإشارة إلى هذا في أركان
الإيمان، لكن هنا أكَّد على هذه المسألة فقال: (وَنُؤْمِنُ بِالْكِرَامِ
الْكَاتِبِينَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَهُمْ عَلَيْنَا حَافِظِينَ، وَنُؤْمِنُ
بِمَلَكِ الْمَوْتِ الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ).
نسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يُحسن لنا الخاتمة، وأن يثبتنا على الإسلام والسنة، وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله
وصحبه أجمعين.
-----------------------
[175] البخاري (16) ومسلم (43)
[176] خَرَّجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عن ابن عباس.
[177] خَرَّجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
[178] اتَّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَرُدُّ أَمْرَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْيِي اجْتِهَادًا،
وَوَاللَّهِ مَا آلُو عَنِ الْحَقِّ وَذَلِكَ يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَالْكُفَّارُ
بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ لله صلى الله عليه وسمل وأهل مكة فقال اكتبوا بسم الله
الرحمن الرحيم فقالوا إنا قد صدقناك بما تقول ولكن تكتب باسمك اللهم قال فرضي رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأبيت عليهم حتى قال يا عمر تراني قد رضيت وتأبى قال فرضيت
[179] (1) رواه ابن أبي شيبة (6/136) .
[180] البخاري: (203)
[181] واه أحمد : 5 / 231، والترمذي ( 2616 ) وصححه ؛ والنسائي في الكبرى ( 11394
)،وابن ماجة(3973)،والطبراني في الكبير:20/130،131 ( 266 )، والحاكم : 2 / 412،
413، وصححه على شرطيهما، ووافقه الذهبي .
[182] مسلم (1841).
[183] مسلم (2937)
[184] مسلم (920)
سلاسل أخرى للشيخ
-
12803 18
-
16750 9
-
34826 6
-
3050 13
-
3132 12
-
4154 11
-
5557 12