الدرس الثالث

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

5557 12
الدرس الثالث

العقيدة الطحاوية (2)

بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
نرحبُ بكم -أيُّها الإخوة الكرام- في هذا الدَّرس، ونسألُ الله -جلَّ وعَلا- أن يُفقِّهنا وإيَّاكم في الدِّينِ، وأن يرزقنا الثَّبات على منهجِ أهلِ السُّنَّة والجماعةِ، وأن يجعلنا وإيَّاكم ممَّن وفَّقهم الله للعِلمِ النَّافع والعملِ الصَالح.
نبدأ -أيُّها الإخوة الكرام- القراءة في متنِ العقيدة الطَّحاويَّة، ويقرأ أخونا الشَّيخ سعيد، فليتفضَّل.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبهِ وسلِّم.
اللهمَّ اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين وللمشاهدين ولجميع المسلمين.
قال أبو جعفر الورَّاق الطَّحاوي -رحمه الله تعالى: (وَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، إِيمَانًا، وَتَصْدِيقًا، وَتَسْلِيمً)}.
يقول -رحمه الله تعالى: (وَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، إِيمَانًا، وَتَصْدِيقًا، وَتَسْلِيمً).
قوله: (وَنَقُولُ)، أي: أهلُ السُّنَّة والجماعة السَّائرون على منهجِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- والسَّائرونَ على منهجِ الصَّحابَة -رضي الله عنهم- نقول: بألسنتنا مُعتقدين ذلك بقلوبنا.
ماذا نقول وماذا نعتقد؟
نعتقدُ مَا أخبر الله -عزَّ وجلَّ- به عَن نفسه في كتابِهِ، ومَا أخبرَ عنه رسولُه -صلى الله عليه وسلم.
ما الذي جاء في القرآن وما الذي جاء في السُّنَّة؟
جاء في القرآن أوصافٌ كثيرةٌ لربِّنا -سُبحَانَه وتَعالَى- وهكذا في السُّنَّة، فَمِنْ تِلكُم الأشياء الثَّابتة: أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- اتَّخذَ إبراهيمَ خليلًا، قال تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلً﴾ [النساء:125]. وكذلك في سنَّةِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِن حديثِ أبي سعيد الخدري عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ»[38]، «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى، قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلً»[39]، فجاء في القرآن وصفُ الله -عزَّ وجلَّ- بأنَّه اتَّخذَ إبراهيمَ خليلًا، وجاء في السُّنَّة ذلك، وأيضًا أنَّ النَّبيَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- شاركَ إبراهيمَ في هذه الصِّفة العظيمة، فإنَّ الله اتَّخذَ محمدًا خليلًا، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمد وعلى إبراهيم وعلى جميع الأنبياءِ والمرسلينَ.
ومعنى هذا: إثباتُ صِفةِ المحبَّة؛ بل والخُلَّة، وهي أعلَى درجاتِ المحبَّة، ولأنَّ المحبَّة درجات، وذكر العلماءُ أنَّها عشر درجاتٍ، والمحبَّة أصلُهَا في القلب وآثارُها على الجوارح، وتختلف وتتفاوت، فأعلاها الخُلَّة، وفوق الخُلَّةِ التَّعبُّدُ، فالخُلَّة هي أعلى درجات المحبَّة، ولا نحتاج إلى أن نذكرَ الدَّرجات كلَّها، وليس هذا من الضَّروري، ولكن نُعبِّر بالتَّعبيرات الشَّرعيَّة فيما يضاف إلى الله -عزَّ وجلَّ- لأنَّ من الدَّرجات العشق والصَّبابة، وهذا لا يُوصَف الله به، ومثل الغرام، وهذا أيضًا لا يجوز أن يوصَف الله به.
فأعلى درجات المحبَّة التَّتيُّم وهو التَّعبُّد، والذي وردَ في السُّنَّةِ وفي الكتابِ فيما وصفَ الله به نفسه أنَّه يُحبُّ بعضَ عباده، فالله يحبُّ المؤمنينَ، ويحبُّ الصَّالحين، ويحبُّ المتَّقين، ويحبُّ المحسنينَ، ويُحبُّ التَّوابين، ويُحبُّ المتطهرين، ونحو ذلك من النُّصوصِ نؤمن بها، ومن ذلك أنَّه يُحبُّ أنبياءَه ورسلَه وهم أعلى البشر، وقد اصطفاهم الله -عزَّ وجلَّ- فهم خلاصة البشرِ وأفضل البشرِ، وهؤلاء الرُّسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام- أعلاهم وأكملهم أولو العزم.
وأولو العزم مِن الرُّسُل خَمسَة: محمد -صلى الله عليه وسلم- وإبراهيم -عليه الصَّلاة والسَّلام- ونوح، وموسى، وعيسى -عليهم الصَّلاة والسَّلام.
وأعلاهم مَنزلة فِيما يَظهر مِن النُّصوص الشَّرعيَّة هو: محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم إبراهيم الخليل.
وهذه المسألة أنكرتها الجهميَّة، والجهميَّة من الفِرَقِ الضَّالة المُنحرفة انحرافًا شديدًا عن الإسلام، حتى حَكَمَ جمعٌ من كِبَار عُلماء السَّلف بأنَّ الجهميَّة ليسوا مِن أمَّة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وأصلهم يُنَسبُ إلى الجهمِ بن صفوان الذي نَشَرَ المَذهَب، وإلا فالأساس هو شيخه الجعدُ بن درهم، والجعد بن درهم اشتهرت عنه مقالةٌ خبيثة وهي نفي جميعِ الصِّفات والأسماء، حتى قال: "إنَّ اللهَ لم يتَّخِذ إبراهيم خليلًا، ولم يُكلِّم موسى تكليمًا".
ولهذا قال الطَّحاوي هنا: (وَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلً) ردًّا على هذه الطَّائفة الخبيثة، فإنَّهم أنكروا أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يوصَف بالمحبَّة، فأنكروا أنَّ الله يُحبُّ بعضَ عباده، وأنكروا أنَّ الله يُحَب -يعني أنَّ المؤمن يُحبُّ الله- فأنكروا المحبَّةَ مِنَ الطَّرفين، وهذا مِن الضَّلالِ العظيمِ والكفرِ المبينِ، والتَّكذيبِ لكلامِ اللهِ وكلامِ رسولِه -صلى الله عليه وسلم.
وكانَ هذا الكلام أوَّلُ بدعةٍ ظهرت مِن بِدَعِ الجهميَّة وانتشرت، ولهذا أجمعَ العلماءُ واتَّفقوا على أنَّ قائلها كافرٌ، ومستوجبٌ للقتلِ، فنفَّذَ الأميرُ المشهور خالد بن عبد الله القسري الحُكمَ الشَّرعيَّ الذي حكمَ به العلماء في كافَّة الأقطار، وأقام الحدَّ على هذا الشَّخص -الذي هو الجَعد بن درهم- عُقوبةً له، وكان خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بواسط، فأقام الحدَّ عُقوبةً لهذا وقطعًا لدابرِه في يومِ عيد الأضحى، وقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا"[40] ثمَّ نَزَلَ فَذَبَحَه.
وقال ابن قيم الجوزية -رحمه الله- على هذه الحادثة:
شَكَرَ الضحِيةَ كُلُّ صاحِبِ سُنة *** لله درُّك مــــن أخــــــي قُـــــربــــــانِ
وكان هذا بإجماع التَّابعين وعلماء أهل زمانه -رضي الله عنهم- وجزي الله خالد بن عبد الله القسري خير الجزاء على إراحة المُسلمين مِن هَذا الرَّجل وشرِّه.
لكن هذا الرَّجلَ أخذَ عَنه الجهم بن صفوان المذهبَ ونشره، واجتهد في نشره في المشرقِ عند الجَهَلة، فلهذا اشتُهرَ المذهبُ باسم مذهب الجهميَّة، نسبةً للتِّلميذ الضالِّ الجَهم بن صفوان السمرقندي.
والجهم بن صفوان أيضًا قال عنه البخاري -أبو عبد الله صاحب الصحيح- في كتابه خلق الله لأفعال العباد: "قتله سلم بن أحوز أمير الشُّرَط في بغداد سنة مائة وثمان وعشرين"[41].
فعلماء المسلمين وأمراؤهم مُتَّفقون على محاربةِ هذا المذهب الخبيث؛ وهو إنكار صفاتِ الله والتَّكذيبِ بآيات الله، والتَّكذيبِ بما أخبرَ اللهُ به عن نفسِه.
ننتقلُ إلى قوله: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمً) هنا أثبتَ صفةَ الكلامِ للهِ -عزَّ وجلَّ- وهذا ثابتٌ في آياتٍ كثيرةٍ، قالَ الله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمً﴾ [النساء: 164]، ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي﴾ [الأعراف: 143]، والنُّصوص في هذا كثيرةٌ جدًّا، فإثباتُ صِفةِ التَّكلِيم، وأنَّ الله يُكلِّم بعضَ عبادَه حقٌّ، حتى نبيَّنا -صلى الله عليه وسلم- شاركَ موسى -عليه الصَّلاة والسَّلام- في هذا، ولهذا لما عُرِجَ بنبيِّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى ما فوقَ السَّماءِ السَّابعة في ليلةِ الإسراءِ والمعراجِ؛ كلَّمه اللهُ -عزَّ وجلَّ، وفرضَ عليه الصَّلوات الخمس مِن غيرِ واسطةٍ، خلافًا لبقيَّة الفرائض فإنَّها نزلت عَن طريقِ جبريلَ -عليه الصَّلاة والسَّلام.
فهذا أيضًا أنكره الجهميَّة، وقالوا: إنَّ الله لا يتكلَّم، ولا يُكلِّم بعضَ عبادَه، وأنكرُوا أنَّ القرآن كلام الله، وقالوا: هذا ليسَ كلامُ الله -نسأل الله العافية والسَّلامة.
فهذه مقولات خبيثة، مقولات يريدون بها هدمَ الإسلامِ، ولكن اللهَ أحبطَ كيدَهم وقطعَ دابرَهم، وفضحهم منذُ بزوغِ بِدعَتِهم، فالأمير خالد القسري ثم أمير الشُّرطة سلم بن أحوز أراحا المسلمين من شرِّ هؤلاء.
وسبحان الله! المسلمون وعلماءُ أهلِ السُّنَّة على مرِّ الأزمان يشكرون هؤلاء على قتلِهم لأهلِ البدعِ وإراحة المسلمين مِن شرِّ هؤلاء، ومع ذلك يتباكى بعضُ المبتدعة المعاصرين في أزماننا المتأخِّرة على رؤوسِ الزندَقة ورؤوسِ الجهميَّة، فيوجدُ من بعضِ الزَّائغين مَن يترحَّم على الجهم بن صفوان والجعد بن درهم، ويتأسَّف على قتلهما، ويسبُّ مَن قتلهما، ويسبُّ العلماءَ، ويسبُّ أمراءَ المسلمين، وهذا يدلُّك على أنَّ المرءَ مع مَن أحبَّ، وأنَّ المرءَ على دينِ خليلِه، وأنَّ لكلِّ بدعةٍ وارثًا، فأنتَ يا صاحبَ السُّنَّة ويا صاحبَ التَّوحِيد مع النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- ومع الصَّحابَة ومع علماءِ السَّلفِ -علماء أهل السُّنَّة والجماعة- ولستَ مع علماءِ البدعةِ، ولا علماءِ الضَّلالةِ، بل تبرأ إلى اللهِ منهم سواءً كانوا موجودين في عصرنا هذا، أو كانوا مِن المتقدِّمين.
وينبغي التَّنبُّه إلى أنَّ المتأخرين ممَّن وقعَ في مذهبِ الأشاعرةِ والماتريدية وغيرهم؛ كثير منهم كان غَلَطُهُ في هذه المسائل بسببَ التَّأويلُ الفاسد، بخلاف المتقدِّمين فكان عندهم جُرأة على مصادمة النَّصِّ- نسألُ الله العافية والسَّلامة- وعلى ردِّ النُّصوص، ولذلك تُنقَل أقوال بشعة عن طغاتهم وزنادقتهم وأئمَّتِهم -أئمة الجهميَّة.
أمَّا هؤلاء الأشاعرة والماتريدية فلا شكَّ أنَّهم مُبتدعة ومخالفون لسنَّة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ولطريقةِ الصَّحابَة وأئمَّة السُّنَّة، ولكن ليسوا مثل أولئك في حكمِ التَّكفيرِ وحكمِ الزندقةِ؛ لأنَّ كثيرًا منهم غلِطَ غلطًا بيِّنًا ووقع في التَّأويلِ الفاسدِ، هذا هو الفرقُ بينَ الفريقين.
فالمنكِرُ الجاحدُ غير المخطئ، غير المفرِّط، المفرِّط والمقصِّر آثمان، ولكن لا يبلغ مرتبةَ الكفرِ إلا إذا كان متعمِّدًا لمعاندةِ الله، وتكذيبِ خبرِ الله، وخبرِ رسولِه -صلى الله عليه وسلم- ولهذا لم يُطلَق القولُ بتكفيرِهم عندَ جماهيرِ أهلِ السُّنَّة والجماعة.
وبإثباتِ صفةِ المحبَّة وصفة الكلام والتَّكلِيم لله -عزَّ وجلَّ- يقومُ في القلب الإيمان بجميع الصِّفاتِ، أمَّا إذا أنكر المحبَّة أو بعضَ تفاصيلِها، أو أنكرَ التَّكلِيمَ أو بعضَ تفاصيلِه؛ وقع في التَّحريفِ سواءً لكل الصِّفات أو بعضها، ولهذا مَن آمنَ بهذا على وجهِ الكلام تصديقًا وإيمانًا وتسليمًا صارَ مِن أهلِ السُّنَّة والجماعة وآمن ببقيَّة الأسماءِ والصِّفات، ومَن خالفَ في هذا أو في جزءٍ مِن أجزائِه وقعَ في التَّأويلِ أو في التَّحريفِ ولو في بعضِ المواضعِ.
المهم أنَّنا نعرف أن الله -عزَّ وجلَّ- قد اتَّخذَ إبراهيمَ خليلًا، فهذا يثبتُ صفة الخُلَّة لله -عزَّ وجلَّ- وأنَّه يحبُّ إبراهيم حبًّا عظيمًا، وهكذا شاركَ إبراهيمَ نبيُّنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- فإنَّ الله يحبُّه حبًّا عظيمًا، وهو المسمى بالخُلَّة، فاتخذه خليلًا، وهذا يدلُّ على عِظَمِ مَقامِ الأنبياء والرُّسل، وعِظَمِ مقامِ إبراهيمَ ومحمدٍ -عليهما الصَّلاة والسَّلام.
وَمِن هُنا شَرَعَ الله -عزَّ وجلَّ- لنا أن نقولَ في الصَّلاة: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ»[42].
هذا ما يتعلَّق بهذه المسألة، فنحنُ نؤمنُ ونصدِّق ونسلِّم، هذه طريقتنا معَ جميعِ الأسماءِ والصِّفات الواردة في كتابِ الله، وفي سنَّة رسولِه -صلى الله عليه وسلم.
{(وَنُؤْمِنُ بِالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّبيّينَ، وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ)}.
قال -رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّبيّينَ، وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ).
هذا الكلام العظيم يُبيِّن فيه الطَّحاوي -رحمه الله- ثلاثةً مِن أركانِ الإيمان، وهو قد ذكرَ بقيَّة أركانِ الإيمانِ في مواضعَ أخرى، فأركانُ الإيمانِ ستَّة، قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لما سأله جبريل عن الإيمان قال: «أن تُؤمِنَ باللهِ، وملائكتِه، وكُتبِه، ورُسلِه، واليومِ الآخِرِ، وتُؤمِنَ بالقدَرِ خَيرِه وشَرِّه»[43].
هنا ذكر الإيمانَ بالملائكةِ -وهو الرُّكنُ الثَّاني- والإيمانَ بالرُّسلِ -وهو الرُّكنُ الثالثُ- والإيمانَ بالكتبِ -وهو الرُّكنُ الرابعُ- فهذه ثلاثةُ أركانٍ.
دلَّ على الأركانِ السِّتَّةِ القرآنُ والسُّنَّةُ، قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285].
وانظر إلى قوله: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ ، أي: لا نؤمِنُ ببعضهم ونكفر ببعض، وسيأتي شرحها بعد قليل.
وكذلك قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبيّينَ﴾ [البقرة: 177].
والقدر، قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49]، وقال: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرً﴾ [الفرقان: 2].
ورتَّبَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- على إنكارِ هذه الأركان الكفرَ، قال تعالى: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدً﴾ [النساء: 136].
فإذا كفرَ بالله، أو بملائكتِه، أو كفرَ بالكتبِ، أو كفرَ بالرُّسلِ، أو كفرَ باليومِ الآخرِ؛ فقد ضلَّ ضلالًا بعيدًا، ولهذا لا يصحُّ الإسلامُ ولا يَثبتُ الإيمانُ إلا بالإيمانِ بهذه الأركانِ السِّتَّةِ؛ فلابدَّ على كلِّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ أن يُؤمنَ بهذه الأركان السِّتَّة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشرِّه، وهذا ما اتَّفق عليه جميعُ الأنبياءِ والرُّسلِ، واتفقت عليه جميعُ الرِّسالاتِ السَّماويَّة مِن لَدن آدم -عليه الصَّلاة والسَّلام- إلى محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء والرسل؛ فكلهم اتَّفقُوا على هذه الأصولِ السِّتَّة، وآمَنوا بها، ودَعوا إلى الإيمان بها، ولم يُكذِّب بهذه الأمور إلا أعداءُ الله، وأعداءُ رُسلِه من الكفاِر بجميعِ أنواعهم، المشركون، والملاحدة، والفلاسفة المكذِّبون للرُّسلِ، وأهلُ البدع كذَّبوا ببعضِ أجزاءِ هذه الأركان السِّتَّة، وعلى اختلافهم فمستقلٌّ ومستكثرٌ.
فالمقصود: أنَّ أركانَ الإيمانِ هذه يجبُ الإيمان بها، والإيمانُ هو التَّصديقُ والتَّسليمُ والإقرارُ والالتزامُ ما تضمنت عليه.
الإيمان بالله يتضَّمن الإيمان بتوحيد ألوهيَّته، فنعبده وحده لا شريك له، والإيمان بربوبيَّته، وبأسمائِه وصفاتِه.
الإيمانُ بالملائكة يتضَّمن الإيمانُ بأسمائهم وصفاتهم، وأعمالهم، ومَن سمَّى الله -عزَّ وجلَّ- ومَن لم يُسمِّ، وكل ما أخبر الله -عزَّ وجلَّ- عن الملائكة، أو أخبر رسوله -صلى الله عليه وسلم.
الإيمانُ بالرَّسلِ أن نؤمنَ بجميعِ الأنبياءِ والمرسلينَ، وأنَّهم على الحقِّ المبينِ، وأنَّهم أفضل خلقِ الله، وأنَّهم جاؤوا بالهُدَى والنُّورِ، وأنَّهم يدعون أقوامهم إلى الفلاحِ والسَّعادة في الدُّنيا والآخرةِ، وأنَّ مَن آمنَ بهم واتَّبعهم في زمَنهِم فهو المؤمن، ومَن كفرَ بهم في زمنهِم فهو الكافرُ، حتى خُتموا بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم.
والإيمانُ بالكتب يتضمَّن الإيمان بجميعِ مَا أنزلَ الله -عزَّ وجلَّ- مِن الوحيِ على ألْسِنَة رسلِه -عليهم الصَّلاة والسَّلام- فهناك كُتبٌ سمَّاها الله -عزَّ وجلَّ- مثل: التَّوارة، والإنجيل، والزَّبور.
فالتَّوارة أُنزلت على موسى -عليه السَّلام- والإنجيل أُنزل على عيسى -عليه السَّلام- والزَّبورُ أُنزل على داود، وهناك صُحفِ إبراهيم، وأعظمُ الكتبِ المنزَّلة القرآن العظيم، وبِه خُتمت الكتب، وهو المهيمن، فلا يجوز النَّظر في الكتبِ السَّابقة، ولا الاطلاع عليها والقراءة فيها، وطلبِ الهدى منها؛ فهذا لا يجوز؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رأى في يدِ عمر صحيفة مِن التوراة فقال: «أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟!» أي: مُتحيِّرُون! مُتَشَكِّكُون؟! «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي»[44]، وفي رواية: «لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى، ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ»[45].
ولهذا إذا نَزَلَ عِيسَى بن مريم في آخر الزَّمان -كما صحَّت بذلك الأحاديث- فإنَّه يحكم بشريعةِ النَّبيِّ محمد -صلى الله عليه وسلم- ولا يحكمُ بالإنجيلِ الذي أُنزلَ عليه؛ بل ويصلِّي خلفَ إمامِ المسلمين تكرمةً لهذه الأمَّة ولنبيِّها -صلى الله عليه وسلم- فيكون مُؤمنًا بالنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ الله قد أخذَ الميثاقَ على جميعِ الأنبياءِ والرُّسلِ لئن بُعث محمدٌ وهم أحياء ليؤمننَّ به وليتبعنَّه ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 81].
فهذا معناه: أنَّ كلَّ نبيٍّ أُخذَ عليه الميثاق أن يتبعَ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لو قُدِّرَ أن يُبعث وهو حي.
وقد قالَ الله في أكثرِ من موضعٍ عن الإيمان بالرسل: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ﴾ [آل عمران: 179]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا * أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّ﴾ [النساء150، 151]، وقال الله -عزَّ وجلَّ- في سورة الشعراء: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: 105]، مع أنَّهم ما كذبوا إلا نوحًا -عليه الصَّلاة والسَّلام- ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: 123]، وهكذا بقيَّة الأمم، فمن كذَّب رسولًا واحدًا فقد كذَّب جميعَ الرُّسلِ، ولهذا اليهود كفار لأنَّهم كذبوا بعيسى، وكذبوا بمحمدٍ -عليهم الصَّلاة والسَّلام- والنَّصارى كفَّار لأنَّهم كذَّبوا بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- حتى لو آمنوا بموسى وعيسى، فتكذيبهم بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- كفرٌ، وهو تفريقٌ بينَ الله ورسلِه، وهذا يبيِّن لنا أنَّ كلَّ من وُجد بعد مبعث النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فإنَّه لا يجوز له أن يدين بغير دينِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19]، وقال: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: 85]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعً﴾ [الأعراف: 158]، وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، وقال: ﴿لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]، فكل من بلغته دعوةُ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فيجب عليه الدُّخولَ في دين الإسلام، ولا يصحُّ منه ولا يقبلُ منه عندَ الله أن يبقى على دينِه السَّابق، لأنَّ الأديان السَّابقة حُرِّفت وبُدِّلَت ونُسخَت بمبعث النَّبيّ محمد -صلى الله عليه وسلم.
هذه الأركان السِّتَّة يجبُ الإيمانُ بها عن يقينٍ وتصديقٍ، الإيمانُ بها إجمالًا، وتفصيلًا لمَن علَّمه الله وفقَّهَهُ في الدِّينِ.
الإجمال: يكفي عمومَ أهلِ الإيمان -عوامهم- ومَن كان منه مشغول؛ فيؤمنون بها إجمالًا.
وتفصيلًا: مَن علمه الله -عزَّ وجلَّ- وتعلم وتفقَّه.
وكلَّما كان العامِّي مِن أهل الإسلامِ ومن عمومِ المؤمنين يتعلَّم ويتفقَّه؛ كلَّما زادَ إيمانُه وزادَ يقينُه، فالنَّظر في كلامِ الله وكلامِ رسوله يزيدُ الإيمانَ ويزيدُ اليقينَ.
ومن هنا نعرفُ الفرقَ بين طريقةِ أهل الإيمان والإسلام، وبين طريقةِ الكفَّار، فالكفَّارُ يُكذِّبون باللهِ، ويَكفرون باللهِ، ويَكفرون بالملائكةِ، ويَكفرون بالرُّسلِ، ويَكفرون بالكُتبِ المنزَّلةِ، ويُكفرون باليومِ الآخرِ، ويَكفرون بالقدرِ. ولهذا كانت طريقةُ أهلِ الإيمان تختلف عن طريقةِ أهلِ الكفرِ والجحودِ.
ومن هنا نعرفُ أنَّ العالَم اليوم يعجُّ بالمللِ والنِّحَل والأديانِ الفاسدةِ، والعقائدِ الباطلة، فالله -عزَّ وجلَّ- اختصَّ المسلم، ومنَّ عليه بهذا؛ وهو الإيمان.
ولهذا فإنَّ موضوعَ الإيمان هو مِنَّةٌ من الله -سُبحَانَه وتَعالَى- لا تظنَّ أنه بجهدك وكدِّكَ وعقلِك، فكم مِن عاقلٍ وعبقري لا زالَ كافرًا مُرتكسًا في كُفره، وأنت قد مَنَّ الله عليك بالإسلام، ولهذا فإنَّ أهلَ الجنَّة إذا دخلوا الجنة -جعلنا الله وإيَّاكم وجميع إخواننا منهم- قالوا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ [الأعراف: 43]، والصَّحاربة -رضوان الله عليهم- كانوا يقولون: "وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقْتَ، وَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا"[46]. هذه كانوا يرتجزونها وهم يحفرون الخندق مع النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب.
الشَّاهدُ: أنَّ هذا اعترافٌ مِن الصَّحابَة وإذعانٌ وذلٌّ لربِّهم -سُبحَانَه وتَعالَى- واعتراف بفضله.
ولهذا فإنَّ أصلَ الإيمانِ ليس هو العقل والتَّفكير، العقل وسيلة، لكن أصلَ الإيمانِ مِنَّة مِن الله على العبدِ، ولهذا نسأله في الصَّلاة ونقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6].
وقد حَرصَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على إيمانِ أبي طالب؛ فلم يُسلم مع أنه يعلم أنَّ هذا هو الدِّين الحق، قال الله -عزَّ وجلَّ- فيه وفي أمثاله: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء﴾ [القصص: 56]، فهذه منَّة من الله، وعلى المؤمن أن يسأل الله الهداية.
وأمَّا الكافر فيُدعى إلى الإسلام، وتُبيَّن له الدَّلائل، وتُبيَّن له الحُجَج، وتُبيَّن له المحاسن؛ لعلَّ الله أن يهديه «لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ»[47]، لكن ننتبه اليوم أنَّ أغلبَ أهلِ الأرضِ مِن الكفارِ على شتَّى أصنافِهم هم أعداءٌ ومكذِّبون بهذه الأركان، فبعضُ النَّاس يظنُّ أنَّ هؤلاء غافلون عنها، لا، هم في أصلِ عَقيدتهم مُكذِّبون بها أو ببعضها، أو بأغلبها، حتى ما أقرُّوا به من بعضِ الجوانبِ عندهم فيه مِن التَّحريف ومن التَّبديلِ ما الله به عليم، هذا فيمن زعم أنَّه باقٍ على بقايا اليهوديَّة أو بقايا النَّصرانيَّة؛ لكنَّهم حرَّفوا وبدَّلوا، فهم يصفون الله بالنَّقائص، ويصفون الله -عزَّ وجلَّ- بما يتنزَّه عنه -سُبحَانَه وتَعالَى- ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾ [الصافات 180، 181]، عرفت الفرق؟
طريقة المرسلين: قال الله فيهم: ﴿وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: 181]، لسلامة ما قالوه من النقص والعيب.
أمَّا هؤلاء، فقال الله فيهم: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: 180].
وأخطرُ مِن هؤلاء المحرِّفون للأديانِ من اليهودِ والنَّصارى: الفلاسفة المكذبون لجميعِ الأنبياءِ والرَّسلِ، والمنكرونَ لوجودِ الخالقِ.
وأخطرُ منهم: الملاحدة، كالعلمانيين، والليبراليين، والشُّيوعيين، والاشتراكيين، وجميعِ المذاهب الأرضيَّة هذه التي هي صناعةُ زُبالَة عقولِ البشرِ، زبالةَ عقولِ أرذلِ خلقِ الله، هذه الزبالة صارَ بعضُ النَّاس يطير بها ويُعجَ بها وينشرها بين المسلمين، ولا يدري أنَّ أصولَ هؤلاءِ هي إنكار هذه الأصولِ السِّتَّة!
ولهذا فمِن مهمِّتكَ أيُّها المسلم وطلاب العلم: نشرِ الإيمان، ونشرِ العلم، ونشرِ الوحي، وتثبيتِ الإيمانِ في قلوبِ المسلمينَ ببيانِ براهينِه، وأدلَّتِه مِن كتابِ اللهِ ومِن سُنَّة رسولِه -صلى الله عليه وسلم- ومِن كلامِ أهلِ العلمِ، وبيانِ الحُجَجِ الشَّرعيَّة، وبيانِ الحُججِ العقليَّة أيضًا؛ حتى تَردَّ على هؤلاءِ الملاحدة المكذِّبُون للرُّسل.
وكذلك أهلُ البدع -أشرنا إليهم قبل قليل- وقلنا: إنَّ عندهم نوعُ تكذيبٍ، وعندهم انحراف، فمثلًا الجهميَّة، تقدَّم أنَّهم ينكرون أسماءَ الله وصفاتِه، فهم لم يؤمنوا بالله كما أنزلَ وكما شرعَ، ولهذا قال بعضُ السَّلف عن الجهميَّة: "إنهم يدورون أنَّه ليسَ فوقَ السَّماءِ إلهٌ يُعبَد"[48]، أي: يدورون على التَّعطيل.
وكذلك الحلوليَّة الذين يقولون: إنَّ الله في كلِّ مكانٍ، فمذهبهم هو التَّعطيل وإنكار الخالق، وإن لم يصرحوا به. فهذه البدع الخبيثة فيها إنكار لهذه الأصول -أركان الإيمان السِّتَّة.
وكذلك القدريَّة الغلاة الذين يُنكرون عِلمَ الله، فيقولون: إنَّ الله لا يعلم؛ تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
فإذا عَرَفتَ الفَرقَ؛ عَرفتَ أهميَّة هذه الأركان، وتمسَّكتَ بها، وثبتَّ عليها، فكلُّ الطوائف المبتدعة عندهم مخالفة لهذه الأركان، إمَّا مخالفةٌ كليَّة، أو مخالفةٌ جُزئيَّة، ومنهم المعتزلة، وهكذا الجماعات الضَّالة والفِرَق والطَّوائف المنحرفة، ولهذا فإنَّ كلَّ طائفةٍ منحرفة وكلَّ جماعةٍ وكلَّ فرقةٍ تجعلُ لها أصولًا، وتدعو أتباعها إلى هذه الأصول التي ابتدعتها واخترعتها، أمَّا أهلُ السُّنَّة والجماعة فهم معتصمون بالكتابِ والسُّنَّةِ، وأصولهم هي الأصول التي أخبرَ عنها الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم.
ولهذا فإنَّ عقيدةَ أهلِ السُّنَّة والجماعةِ -كما تَرَون الآن- مَرجعها هذه الأركان السِّتَّة: الإيمان باللهِ، وملائكتِه، وكتبِه، ورسلِه، واليومِ الآخرِ، والإيمانِ بالقدرِ خيرِه وشرِّه.
مثلًا: الأصولُ الثَّلاثة للشَّيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- بناها على: مَن ربُّكَ؟ وما دينكَ؟ ومَن نبيُّكَ؟
وهذا الذي أخبر عنه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ العبد يُسأل عنه في قبره، ويُمتَحن هذا الامتحان، فأهل العلمِ طريقتهم ربطُ النَّاس بالأصولِ الشَّرعيَّة وبالوحيِ، وردُّ النَّاسِ إلى ما أنزلَ الله وما جاء به الرَّسولُ -عليه الصَّلاة والسَّلام- خلافًا لطريقةِ المبتدعة، وخلافًا للجماعات الضَّالَّة والفِرَق المنحرفة.
مثلًا: المعتزلة: عندهم أصولٌ خمسة، ولسنا بحاجة لتعدادها، ولكن كلَّ أصلٍ مِن أصولِ المعتزلة الخمسة فيه ردٌّ للنُّصوصِ الشَّرعيَّةِ، وفيه تحريفٌ لكتابِ الله وسنَّة رسولِه -صلى الله عليه وسلم- وفيه ضلالَة من ضلالاتِ المعتزلة، ويمكنكم الرجوع إلى شرحِ الطَّحاوية حتى تعرفونها.
فالمقصود: أنَّنا نثبت على أصولِ أهل السُّنَّة والجماعةِ، ونؤمنُ باللهِ، وملائكتِه، وكتبِه، ورسلِه، واليومِ الآخرِ، والقدرِ خيرِه وشرِّه.
ولهذا لمَّا كانت هذه الأصول مَذكورة في آخرِ آيتين من سورة البقرة؛ جاء فيها الفضل العظيم، قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «الآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ»[49]، يعني تكفيه من كل شرٍّ، حتى قال بعضهم: تكفيه عن قيام الليل. ولكن هذا فيه نظر، والأقرب أنَّها تكفيه كلَّ خطرٍ وكلَّ شرٍّ، والعلم عندَ الله -سُبحَانَه وتَعالَى.
وفي صحيحِ مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ، فُتِحَ الْيَوْمَ، لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ، لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: «أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ، فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ»[50] الله أكبر!
هذه بشارةٌ للمسلم، ونعمةٌ من الله على هذه الأمَّة، والحمدُ لله على هذا، وهذا يدلُّك على عظيمِ شأنِ أركانِ الإيمانِ السِّتَّة.
ودلَّت النُّصوصُ الشَّرعيَّة على ما يتعلَّق بالكتب، وقد سبق الإشارة إليها، ولكن نُنبِّه إلى أنَّ أعظمَ الكتب هو القرآن -كما تقدَّم- فالإيمان به على وجه خاصٍّ أنَّه كلامُ الله منزَّل غيرُ مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، وأنَّ الله تكلَّم به حقيقة، وأنَّه كلامُ الله لفظه ومعناه، ليس اللفظ دون المعنى، ولا المعنى دون الكلام، وأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- جعلَ فيه الهدى والنُّور، ويجب التَّحاكم إليه والرِّضا به، والعملِ بمحكمِه، والإيمان بمتشابهه، وأن نأخذَ به كلَّه، ولا نضربَ بعضَه ببعضٍ، كلُّ هذا داخلٌ في الإيمانِ بالقرآنِ العظيم.
ومن التَّحاكم بالقرآنِ والعملِ به: العملُ بسنَّة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- والتَّحاكم إليها، قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنهمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسهمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمً﴾ [النساء: 65].
والإيمان بالملائكة: إيمانٌ بأسمائهم، حيث سمَّى الله -عزَّ وجلَّ- جبريلَ وميكائيلَ، وجاء في السُّنَّة تسمية الملائكة مثل: إسرافيل، وجاء في السُّنَّة بيان أنَّ رضوان خازن الجنَّة[51]، وجاء في القرآن أن ( مَالِكَ ) هو خازن النَّار ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ [الزخرف: 77]، ومنهم الملائكة الموكَّلون بالرَّحم، ومنهم الملائكة الموكَّلون بحفظِ العباد، ومنهم حملةَ العرشِ وهم الكروبيون، ومنهم الملائكة الذين يجتمعون في صلاةِ الفجر وفي صلاة العصر، ومنهم ملائكةِ سيَّارون يبحثونَ عن حِلَقِ الذِّكرِ والعلمِ، وغيرِ ذلك مِن الملائكة المذكورة في الكتابِ وفي السُّنَّة.
والملائكةُ: جمع مَلَك، والملك هو الرَّسول، فالملائكة لفظهم يشعر بأنَّهم معهم رسالة، ولهذا كانَ جبريل يأتي بالوحي مِن عند الله -عزَّ وجلَّ- إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- كما قال تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء 193- 195]، وهم أفضل المخلوقات ﴿عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: 26]، لا يعصون الله طرفة عين.
وأفضل الملائكة ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل، دلَّ على هذا الحديثُ الذي أَخْبَرَت بِه عائشة -رضي الله عنها- عَن صَلاة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في الليل، أنَّه كانَ يَستفتح بهذا الدُّعاء، فكانَ إذا قَامَ يصلِّي في الليل يقول بعد التكبير: «اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»[52].
فيجب الإيمان بالملائكة، وهم خُلِقوا من نورٍ كما قال النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم، ولا نخوض فيما لم يخبرنا الله به، ولا نقول إنَّهم قوى روحانية، وأنَّها لا حقيقة لها، أو أنَّهم قوى الخير؛ كلُّ هذه التَّعبيرات والتَّأويلات التي لم ينزل الله بها من سلطان -وقالها بعض المتأوِّلين- غيرُ مقبولة، فنؤمن بما جاء في الكتابِ وفي السُّنَّة مِن أسمائِهم وصفاتِهم، ومِن أعمالِهم.
وقد تكلَّم العلماءُ في المفاضلة بينهم وبين المؤمنين، أيَّهم أفضل؛ والمسألة سهلةٌ ولا ينبغي أن يصيَر فيها نزاعٌ بينَ أهلِ العلم، وبالنَّظر في الآيات والنُّصوص نجد أنَّ صالحي البشر مِن الأنبياء والرُّسلِ قد يَفضلُونَ جميعَ الملائكة، فالنُّصوص الشَّرعيَّة دلَّت على هذا، لكن بقيَّة المؤمنين، هل هناك مَن يفضلهم جميعًا؟
هذا محلُّ تأمُّلٍ، ومحلُّ دراسةٍ، والأمرُ في هذا سهل، ولا ينبغي النِّزاع فيه، أو تحدثَ عداوة بين طلبةَ العلمِ في هذه المسألة، لأنَّها مسألة تقريبيَّة.
أيضًا تقدَّم الإيمان بالرَّسل: فالرُّسل أفضل خلقِ الله، ونؤمِن بهم إجمالًا وتفصيلًا.
فالإجمالُ: أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- أرسل الرُّسلَ لهداية البشر، والرُّسل والأنبياء هم خيرة البشرِ ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [الحج: 75]، فالله يصطفي من النَّاس بشرًا يوحي إليهم، هؤلاء البشر الذين اصطفاهم الله -عزَّ وجلَّ- هم الأنبياء والرُّسل، وأوَّلهم آدم وهو نبي مُكلَّم، وآخرهم محمد -صلى الله عليه وسلم- وأوَّلُ الرُّسلِ إلى أهلِ الأرض بعدَ حصولِ الشِّركِ هو نوحٌ ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبيّينَ مِن بَعْدِهِ﴾ [النساء: 163]، فهذا يدلُّ على أنَّ نوحًا هو أوَّلُ الرُّسل إلى أهلِ الأرضِ.
والرُّسلُ منهم مَن أخبر الله -عزَّ وجلَّ- بأسمائهم، ومنهم من لم يخبر بأسمائهم ﴿وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ [النساء: 164]، ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ [غافر: 78]، فنحن نُؤمن بأنَّهم بلَّغوا البلاغَ المبينَ، وأنَّهم قاموا بأمرِ الله كما ينبغي، وأنَّهم لم يُقصِّروا، وأنَّهم بيَّنوا بيانًا لا يسع أحدٌ جهله، وأنَّهم أفضلُ البشرِ، لا أحدَ أفضلَ منهم، ولا نقولُ كما يقول الصُّوفيَّة الضَّالُّون أنَّ الوليَّ -أو القطب- أفضل من النَّبيّ!
فالنَّبيّ والرَّسول أفضل مِن البشر، والأولياء تحتهم، والأولياء هم المؤمنون الصَّالحون وليس كما يزعم هؤلاء.
كذلك نؤمن بأنَّ أفضل هؤلاء الرُّسل أولي العزم، فأولو العزم هم: محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو أفضلهم، ثم إبراهيم، ونوح، وموسى، وعيسى، قال الله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13]، وفي سورة الأحزاب: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبيّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ [الأحزاب: 7]، فذكرهم اللهُ في موضعين مِن القرآن. وقال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35]، فهؤلاء الرُّسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام- نؤمنُ بهم إيمانًا مجملًا، ونؤمنُ بأنَّهم أفضل البشر، ولكن نؤمن إيمانًا تفصيليًّا بنينا محمد -صلى الله عليه وسلم- بتصديقِه، واتِّباعه، والإيمان به، ومحبته، والدِّفاع عن دِينِه، والدُّخول في دِينه، والثَّبات عليه، ونشرِ سنَّته، والشهادة بأنَّه محمد رسول الله، هو عبدُ اللهِ ورسولِه، فالشَّهادة له بالرِّسالة تتضمَّن طاعته فما أمرَ، وتصديقه فيما أخبرَ، واجتناب ما نهى عنه وزجرَ، وألا يُعبد الله إلا بما شرعَ -صلى الله عليه وسلم.
فهذا هو الإيمان بالنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وله حقوقٌ على أمِّته -كما تقدَّم: الإيمانُ به، وتصديقُ أخباره، والعملُ بما جاء به، وامتثالُ أمره، والانتهاء عن نهيه، ومحبته أعظم مِن محبة النَّفس، والأهلِ، والوالدين، والنَّاس أجمعين.
ومِن حقوق النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم: الصَّلاة والسَّلام عليه إذا ذكر اسمه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمً﴾ [الأحزاب: 56].
ومِن حقوقه على أمته -صلى الله عليه وسلم: أن ننشرَ سنَّته، ونُدافع عنها، وننصرَ دينه، ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 157]، نسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم منهم.
وكذلك التَّحاكم إلى سنَّتِه وإلى شرعِه والعمل به، ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: 65].
وتعليم أولاد المسلمين محبَّة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ومحبَّةَ سيرته، وبيانِ أخباره وأخلاقِه، وهديه، وسمتِه -صلى الله عليه وسلم- اللهمَّ اجعلنا ممَّن اتَّبعه حقًّا ظاهرًا وباطنًا.
وكذلكَ مِن حقِّه علينا ألا نبتدعَ في الدِّين، وألا نتَّبعَ البدع، لأنَّه حذَّرنا منها، قال: «إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ شَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ»[53].
أمَّا الغلوُّ في النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقد نهانا عنه، وهذا مِن طرائقِ أهلِ البدعِ والأهواءِ، فيجبُ الحذرَ مِن ذلك، نسألُ الله -جلَّ وعلا- أن يُفقِّهَنا في الدِّين.
هذا -أيُّها الإخوة- ما يتعلَّق بهذه المسائل العظيمة -أركان الإيمان- وهنا التَّعليق على هذه الأركان الثَّلاثة: (وَنُؤْمِنُ بِالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّبيّينَ، وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ)، يعني الرُّسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام.
هذا ما يتعلَّق بهذا الدَّرس، نسأل الله -جلَّ وعلا- أن يرزقنا وإيَّاكم العلمَ النَّافعَ والعملَ الصَّالحَ.
{أحسن الله إليك.
ذكرَ المؤلفُ هُنا صِفة المحبَّة وصفةَ التَّكلِيمَ لله، هل صفاتُ اللهِ -سُبحَانَه وتَعالَى- الأخرى مُثبتَة مِن حيث الأدلَّة بهذا الوضوح أم فيهِ تَفاواتٌ في الوضوحِ؟}.
كلُّ ما جاءَ في القرآنِ وفي السُّنَّةِ مِن صفاتِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- يجبُ الإيمان بها، ويجبُ إثباته، وكلُّ ما أخبرَ اللهُ به عن نفسِه وأخبرَ به رسوله -صلى الله عليه وسلم؛ يجبُ الإيمان به كما جاء مِن غير تحريفٍ، ومِن غيرِ تعطيلٍ، ومِن غيرِ تكييفٍ، ومِن غير تمثيلٍ، حتى إثباتُ أهلِّ السُّنَّة والجماعة لمحبَّةِ الله -عزَّ وجلَّ- والخُلَّة لإبراهيم ولمحمد، فإنَّهم يُثبتونها على وجهٍ لا يُشابه صفة المخلوقين، فمحبَّةُ الله ليست مثل محبَّةِ الخلقِ، محبَّةُ الله -عزَّ وجلَّ- صفةٌ قائمةٌ به، والله -عزَّ وجلَّ- ﴿لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمً﴾ [النساء: 95] ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 4]، ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ [النحل: 74]، فلا يجوز أن يُشبَّه اللهُ بخلقِه، لا في صفةِ المحبَّةِ، ولا في صِفةِ الخُلَّة، ولا في غيرها مِن الصِّفات، فكلُّ مَا جاء في القرآن ومَا جاءَ في السُّنَّة فيجبُ الإيمان به تمامًا، ولا يجوزُ تحريفه أبدًا ولا تعطيله، فهذه هي الطَّريقة السَّلفيَّة، حتى لو جاءَ في آيةٍ واحدةٍ أو حديثٍ واحدٍ؛ فهذا يكفي، كلَّ ما جاءَ عن الله فهو حقٌّ، وكلَّ ما جاء عن رسوله -صلى الله عليه وسلم- فهو حق.
{أحسن الله إليكم.
ذكرتم أنَّ الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- قال: «وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ»[54]، فكأن معناه أنه لم يتخذ خليلًا، ثم هناك حديث أبي هريرة يقول: " أَوْصَانِي خَلِيلِي"[55]، ويقصد به الرَّسول -صلى الله عليه وسلم}.
جزاكَ اللهُ خيرًا، هذا سؤالٌ طيِّبٌ.
النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إذا أرادَ أن يتَّخذَ خليلًا لا يمكن إلا إذا اتخذَ خليلًا واحدًا؛ لأنَّ القلبَ يمتلئ بمحبَّتِه، ولهذا فإنَّ الله -عزَّ وجلَّ- اتَّخذَه خليلًا، فلا يمكن للنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أن يتخذَ أبا بكرٍ خليلًا، وهو أحقُّ النَّاسِ بذلك، «وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ»[56]، إلا أنَّ الخُلَّةَ هي كمالُ المحبَّةِ ويمتلئ بها القلبُ، فلهذا اتّخذَ الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- خليلًا.
أمَّا الصَّحابَة -رضي الله عنهم- فيمكنُ لكلِّ واحدٍ منهم أن يتَّخذَ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خليلًا؛ لأنَّ قلبه يمتلئ بمحبَّة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وهذا لا يتعارضُ مع ما سبقَ، لكن مِن جهةِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فإنَّه لا يمكنُ أن يتَّخذَ خليلًا مِن البَشرِ، فاللهُ -عزَّ وجلَّ- اتَّخذه خليلًا، ومِن هذه النَّاحية انتَفَى مِن جهةِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- للصَّحابة، لكن لم يَنْتَفِ مِن جهةِ الصَّحابَةِ للنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أن يحبُّوه حبًّا عظيمًا محبَّةَ الخُلَّةِ، فهذا غير منفٍ. بارك الله فيكم.
وبهذا نختمُ هذا الدَّرسَ، ونسألُ الله -جلَّ وعلا- أن يوفِّقَنا ويعلِّمنا ما ينفَعَنا، وينفَعَنا بما عَلَّمنا، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ.
والسَّلام عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
-------------------------------
[38] صحيح البخاري (449).
[39] صحيح مسلم (832).
[40] صحيح البخاري/ كتاب التوحيد (6937).
[41] صحيح البخاري / كتاب التوحيد (ص 358).
[42] صحيح البخاري (3142).
[43] صحيح مسلم (8).
[44] مسند أحمد (14895).
[45] مسند أحمد (15550).
[46] صحيح مسلم (3370).
[47] صحيح البخاري (2738).
[48] ذكره ابن تيمية عن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور أنه قال : "ليس في أصحاب الأهواء شر من أصحاب جهم يدورون على أن يقولوا : ليس في السماء شيء" (مجموع الفتاوى ج 5 ص 53).
[49] صحيح البخاري (4008).
[50] صحيح مسلم (1345).
[51] " فينادي رب العزة رضوان وهو خازن الجنة" رواه العقيلي في الضعفاء الكبير، وابن حبان في المجروحين.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله عن الملائكة : "وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْجِنَانِ، وَإِعْدَادِ الْكَرَامَةِ لِأَهْلِهَا، وَتَهْيِئَةِ الضِّيَافَةِ لِسَاكِنِيهَا، مِنْ مَلَابِسَ وَمَصَاغٍ وَمَسَاكِنَ وَمَآكِلَ وَمَشَارِبَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. وَخَازِنُ الْجَنَّةِ مَلَكٌ يُقَالُ لَهُ (رِضْوَانُ)، جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ " انتهى من "البداية والنهاية" (1/53).
وقال الشيخ ابن عثيمين : " وأما "رضوان" فموكل بالجنة، واسمه هذا ليس ثابتا ثبوتا واضحا كثبوت مالك [يعني: خازن النار] لكنه مشهور عند أهل العلم بهذا الاسم " انتهى من "مجموع فتاوى العثيمين" (3/119).
[52] صحيح مسلم (770).
[53] صححه الألباني في أحاديث الآحاد (6).
[54] سبق تخريجه رقم (1)
[55] صحيح مسلم (721).
[56] سبق تخريجه رقم (1)

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك