الدرس الأول
فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد
إحصائية السلسلة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى
آلهِ وأصحابِه وأتباعِه بإحسانٍ إلى يوم الدِّينِ، أمَّا بعدُ:
فنرحبُ بكم أيُّها الإخوة الكرام في مَطلع هذه الدُّروس، وفي بداية المستوى
الثَّاني مِن المرحلة الثَّانية في برنامج البناء العلمي، نسأل الله -جلَّ وعلا- أن
يرزقنا العلمَ النَّافع، والعملَ الصَّالح.
وهذه الدُّروسُ -بحولِ الله تعالى- تكملةٌ لِما تقدَّم شَرحُه في العقيدة
الطَّحاويَّة، والعقيدةُ الطَّحاويَّة عقيدةٌ مفيدةٌ، كتبها أبو جعفر الطَّحاوي
-رحمه الله- أحمد بن محمد بن سلامة الطَّحاوي، المتوفى سنة ثلاثمائة وواحد وعشرين
للهجرةِ، وكتبَ عليها ابن أبي العزّ الحنفي شرحًا قيِّمًا نفيسًا، وشرحها كثيرٌ من
علماءِ أهلِ السُّنَّة والجماعة، وهي عقيدة طيِّبة ونافعة، ونسأل الله -جلَّ وعلا-
أن يُوفقنا جميعًا، وأن يرزقنا التمسُّكَ بسُنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم وبما
دَرج عليه الصَّحابة والتَّابعون لهم بإحسان رضي الله عنهم وأرضاهم.
أيضًا نُرحِّبُ بإخواننا الكرام، ونُذكِّر دائمًا أنَّ المؤمنَ يجبُ عليه أن يَلزم
طريقةَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وطريقةَ الصَّحابة ويتبعها بإحسانٍ، وبهذا
ينجو، قال ربُّنا -سبحانه وتعالى ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا
الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة:
100].
فبيَّن أنَّ اتِّباع هذا المنهج بإحسانٍ، واتِّباعَ السَّابقين الأولين مِن
المهاجرين والأنصار؛ هو سببُ الفوزِ بجنَّات النَّعيم -نسأل الله الكريم من فضله.
وهذا ما بيَّنه الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم عندما حذَّر مِن الافتراق في الدِّين،
ومفارقةِ السُّنَّة والوقوعِ في البدعةِ، وحذَّر مِن الفِرَق المخالفة، وأخبر أنَّ
مَن فَارقَ وخَرجَ عن سنَّته أنَّه مُتوَعَّد، فقال: «تَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ
عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةً،
قَالُوا: وَمَا تِلْكَ الْفِرْقَةُ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ
وَأَصْحَابِي»[1].
فالمؤمنُ والمسلمُ في شرقِ الأرضِ وغربِها يَعقدُ العزمَ الجادَّ على اتِّباع
النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ولزومِ سنَّته -صلى الله عليه وسلم- وعلى اتِّباع
طريقة ِالصَّحابة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، والعَشْرة، وأهلِ بدرٍ، وأهلِ أُحدٍ،
وأهلِ بيعةِ الرضوان، والمهاجرين والأنصارِ، فيعقدُ العزمَ على أن يسلكَ منهجهم رضي
الله عنهم وأرضاهم- نسأل الله -جلَّ وعلا- أن يجعلنا وإيَّاكم ممَّن سارَ على هذا
المنهجِ وجميعِ إخواننا المسلمين.
نبدأ أيُّها الإخوة الكرام بالقراءةِ في هذه العقيدة المباركة -العقيدة
الطَّحاويَّة- ويقرأ أخونا سعيد -حفظه الله- فليتفضل.
{(بسم الله الرحمن الرحيم. الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على
نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبِه وسلَّم، اللهمَّ اغفر لنا ولشيخنا، وللمستمعين،
وللمشاهدين، ولجميع المسلمين.
قال أبو جعفر الورَّاق الطَّحاوي المتوفَّى سنةَ واحدٍ وعشرين وثلاثمائة:
(وَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ
حَقٌّ. وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَمْ يَزَلْ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ، وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ جُمْلَةً وَاحِدَةً؛ فَلَا يُزَادُ
فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ))}.
أحسنتَ. باركَ الله فيكَ.
يقولُ -رحمهُ الله: (وَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ
وَذُرِّيَّتِهِ حَقٌّ).
الميثاق: مِن جملةِ الأمورِ التي أخبرنا الله -عزَّ وجلَّ- عنها في القرآن، وجاء في
السُّنَّة الإخبار عنه.
والميثاق المراد به: العهدُ، وقد أخذه الله على آدمَ وذريَّته، يعني: أخذَ عليهم
العهودَ والمواثيقَ على أنفسِهم، وأقرُّوا على أنفسِهم وشهدوا بذلك، والتزموا به،
وهذا مذكور في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا
بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَ﴾ [البقرة: 189].
﴿قَالُو﴾ : هذا قول حقيقي.
ثم قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ
هَٰذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 172]، يعني: لئلا تقولوا، يُحذِّرهم الله -عزَّ
وجلَّ- من ذلك.
وجاء أيضًا في سنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم ما يشهد بوقوعِه وثبوتِه، وهذا في
صحيح البخاري ومسلم، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَقُولُ اللَّهُ
تَعَالَى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ أَنَّ
لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ» يعني مِن الأموالِ
والغنى والجاه، «فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ
هَذَا، وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ، أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، فَأَبَيْتَ
إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي»[2].
وفي اللفظ الآخر: «قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي
شَيْئًا، فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي»[3].
وجاءت أحاديثُ أخرى تدلُّ على هذا المعنى، وفيها ما يتضمَّن مسألة الإيمان
بالقَدَرِ السَّابقِ، منها ما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ
فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا
مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلَاءِ؟
قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ، فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا
بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ
آخِرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ: دَاوُدُ، فَقَالَ: رَبِّ كَمْ
جَعَلْتَ عُمْرَهُ ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً، قَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْهُ مِنْ
عُمْرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا قُضِيَ عُمْرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ
الْمَوْتِ، فَقَالَ: أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ:
أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ، قَالَ: فَجَحَدَ آدَمُ، فَجَحَدَتْ
ذُرِّيَّتُهُ، وَنُسِّيَ آدَمُ فَنُسِّيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطِئَ آدَمُ
فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ»[4].
وفيه أخبارٌ أخرى مثل حديثِ رواه الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية، فقال: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ
آدَمَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ، وَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً،
فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ
يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ:
خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ»، فَقَالَ
رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ
لِلْجَنَّةِ، اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى
عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِذَا
خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى
يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ، فَيُدْخِلَهُ بِهِ
النَّارَ». هذا الحديث رواه الإمام مالك في الموطأ أيضًا، والإمام أحمد، وأبو داود،
والترمذي، والنسائي، وابن حبان وصححه.
وفي هذا الحديث كلامٌ في السَّندِ، لكن ذكرتُ في أوَّلِ الأحاديثِ الحديثَ
المُخرَّج في الصَّحيحين مِن حديثِ أنس بن مالك رضي الله عنه فهو في صحيحِ البخاري
وفي صحيحِ مسلم.
وهذا يدلُّ على أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يُذكِّر العبادَ يوم القيامة بهذا الميثاق،
فهم في الدُّنيا قد نسوه، فكلُّ النَّاسِ في هذه الدُّنيا إذا وُلِدوا وخَرجوا
وبَلغوا لا يَذكرون هذا الشَّيءَ، ولكنَّ الله -عزَّ وجلَّ- لم يجعل هذا الميثاق
وحده هو الحُجَّة التي بها تنقطِع المعاذِير، وإنَّما جعلَ اللهُ -عزَّ وجلَّ-
الحُجَّة إرسالِ الرُّسل وإنزالِ الكتبِ، قال تعالى: ﴿رُسُلا مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾
[النساء: 165].
ومِن رحمةِ الله بعبادِه أن جعلَ لهم الدَّلائلَ ونصبَها وأظهرَها، دلائلٌ على
ربوبيَّته، وأنَّه هو الذي يستحقُّ العبادة -سبحانه وتعالى- ولا يستحقُّ العبادَةَ
غيره، والدَّلائل على صحَّة نبوَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم وصدقه -صلوات الله
وسلامه عليه- فهذه دلائلها كثيرةٌ جدًّا لا يمكن أن تُحصى، دلائلٌ شرعيَّةٌ،
ودلائلُ الإجماع مِن الأمم، ودلائلُ شهاداتِ الأمم السَّابقة، ودلائلُ عقليَّة،
ودلالةُ الفطرةِ، وإرسالِ الرُّسل، وإنزالِ الكتبِ، وقبل ذلك مِن جملة الأمور التي
يُذكَّر بها العباد: المواثيق التي أُخذت عليهم قبل أن يُخلّقوا، ولهذا قال:
(وَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ
حَقٌّ)، وإن كنَّا لا نذكره، ولكن الله -عزَّ وجلَّ- لما أخبرنا به علمنا أنَّه
حقٌّ، فهذا مِن الغيب، كما أنَّ ما سيقع للعبادِ في البرزخِ بعد موتهم حقٌّ وإن
كنَّا لم نشهده، فهذه أمور غيبيَّة، فنحنُ نؤمِن بما أخبرنا الله -عزَّ وجلَّ- به،
وبما بيَّن في كتابه، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا معنى "الميثاق": العهود والمواثيق.
ما مضمونها؟
ألَّا يُشركوا بالله شيئًا ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَ﴾
[الأعراف: 172]، الاعتراف بأنَّ الله ربَّهم وخالقهم، وهو الذي يستحقُّ العبادة،
ولا يستحقُّ العبادة غيره -سبحانه وتعالى.
فالمراد بهذا: الإقرارُ على أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- هو المعبود بحقٍّ، الإقرار
بالرُّبوبيَّة والألوهيَّة، فقوله في الحديث: «أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئً»
دليلٌ على إبطالِ جميعِ أوجه وصور الشِّرك، وتحريمها، وهذا يدلُّ على أنَّ معنى
قوله: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ يعني معبودكم الذي أستحقُّ العبادة؛ لأنَّ
الرُّبوبيَّة دليلٌ على الألوهيَّة، والعبادُ يقرِّون بهذا، ولا يُنازَع في هذا إلا
الشُّذَّاذ، ومنازعتهم مكابَرةٌ كما فعلَ فرعون وقومه، قال الله عنهم: ﴿وَجَحَدُوا
بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّ﴾ [النمل: 14]، فالأنفس
مُستيقنةٌ، ومُدرِكةٌ أنَّ هذا الكون له خالق، هو الذي خلقَ كلَّ شيء، وأنَّ فرعون
لا يملكُ نفعًا ولا ضرًّا، وأنَّه مخلوقٌ، وأنَّه سوفَ يموتُ، يعلمون هذا، حتى
فرعون يعلم هذا، وهو أكفرُ مُلحدٍ، فمَن دونه من الملاحدة مثله.
فالله -سبحانه وتعالى- إذا حاسب الخلائقَ يوم القيامة يَعذر مَن لم تبلغه الرِّسالة
والدَّعوة، ويُمتحَن يوم القيامة، هذا أصحُّ الأقوالِ فيهم -أنَّهم يُمتحنون يومَ
القيامة- ولا يؤاخذهم الله -عزَّ وجلَّ- بقيامِ الميثاق، لأنَّهم لا يذكرونه، لكن
مَن كفرَ في الدُّنيا وماتَ على الكفرِ وقد بلغته الدَّعوة والرِّسالة، فإنَّه
يُحاسب على هذا وعلى هذا، فالدَّلائل التي قامت ونصبها الله على أنَّه يستحق
العبادة وأنَّه رب العالمين لا تُحصَى كثرة، ولكن الله مِن رحمتِه بعبادِه أن جعل
العقوبة مرتَّبة على إرسالِ الرُّسل، قال تعالى: ﴿رُسُلا مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾
[النساء: 165]، ومثله قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ
رَسُولً﴾ [الإسراء: 15]، وليس معنى هذا أنَّ الكافر إذا لم تبلغه الدَّعوة أنَّه
ليس بكافرٍ، إنَّما يُعامل بحسب مَا أظهر، فإذا أظهر أنَّه كافرٌ كأن يكون مِن
النَّصارى أو مِن المجوسِ أو مِن اليهودِ، أو مِن غيرهم مِن الأمم الكافرةِ؛ فإنَّه
يُضاف إلى ما أظهره، لكن إذا مات وهو لم تبلغه الدَّعوة فهذا يُمتحن يوم القيامة في
أصحِّ الأقوال، ويُلحق بأهلِ الفترة.
فالميثاق المراد به: العهد -كما تقدم.
وهل هو الفطرة فقط؟
الذي يظهر -والله أعلم: أنَّ الميثاقَ شيئًا آخرًا فوقَ الفطرةِ، وأنَّ العباد
يُذكَّرون به، وفي المسألة خلاف بين أهلِ العلم، لكن المشهور عند جماهير أهلِ
التَّفسير مِن أهلِ السُّنَّة والجماعة المتقدِّمين منهم والمتأخِّرينَ أنَّ
الميثاقَ شيءٌ آخرٌ غيرَ الفطرةِ.
المقصود والمهم في هذا: ألَّا يُجعل مجرد الميثاق هو الذي تقوم به الحُجَّة فقط،
ولا حتى الفطرة يؤاخذ بها العبد، بل جعل الله الحجَّة قائمةٌ في إرسالِ الرُّسل،
ومِن ذلك قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ،
لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ،
ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ
أَصْحَابِ النَّارِ». وهذا الحديث في صحيح مسلم.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَسْمَعُ بِي» علَّقَ الأمرَ على السَّماعِ بدعوتِه
صلى الله عليه وسلم والسَّماع باسمِه، وأنَّه رسولٌ، فالواجب على كلِّ نصرانٍّي،
وعلى كلِّ مَن هو مِن غيرِ المسلمين إذا سمع بأنَّ هناك رسولٌ وأنَّ اسمه محمد؛
يطلب الحقَّ ويبحث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم وعن دينِه، وعن سنَّته، وعما جاء
به؛ حتى يعبد الله -عزَّ وجلَّ- على شرعه صلى الله عليه وسلم.
هذا ما يتعلق بالتعليق على هذه الجمله، قوله: (وَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ
اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ حَقٌّ).
وننتقل بعدها إلى الجملة الأخرى، إلا إذا كان عندكم سؤال أيُّها الإخوة الكرام حول
هذا المعنى.
عرفنا أنَّ معنى الميثاق، هو: العهد.
متى أخذ الله هذا الميثاق؟
أخذه على آدم وذريَّته قبل أن يُوجدوا ويُخلقوا، استخرجهم مِن ظهرِ آدمَ، وأخذَ
عليهم وهم في ظهرِ أبيهم آدم ألا يشركوا بالله شيئًا.
قوله: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ﴾ [الأعراف: 172]، هذا إقرار.
﴿قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَ﴾ وهذا قول حقيقي. كيف تكلموا وهم لم يُخلقوا؟
نقول: الله أعلم! هذا أمر غيبيٌّ، لا نخوضُ فيما لم يكلِّفُنا به الله -عزَّ وجلَّ.
{أحسن الله إليكم. هناك قول في هذه المسألة، فبعض العلماء يَرون أنَّ هذا الإشهاد
هو مجاز بما أكَّد الله -سبحانه وتعالى- ونصبَ الأدلَّة، وبما بيَّن لهم، فهذا
الإشهاد ليس بالمقال، وإنَّما بالحال}.
نعم هذا صحيح، وقد ذكره الشَّارح في الطَّحاويَّة -ابن أبي العز رحمه الله- وذكره
غيره مِن أهلِ العلم، والحقيقة أنَّ جُمهور العلماء على خِلاف هذا، والأمر في هذا
سهل لو قيل بهذا، لكن الجمهور على خلافه. لماذا؟
لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا...﴾ [الأعراف: 172]،
القول هنا قول مجازي أو قول حقيقي. كيف هو؟
الله أعلم! أليس يوم القيامة تنطق الأيدي والأرجل؟ والجلود تشهد؟ كيف تتكلم الجلود؟
الله أعلم! لا نخوض فيما لا علم لنا به.
نأخذ الجملة الثَّانية من كلام الطَّحاوي.
{قال أبو جعفر الوراق الطَّحاوي: (وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا لَمْ
يَزَلْ - عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ
جُمْلَةً وَاحِدَةً؛ فَلَا يُزَادُ فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ،
وَكَذَلِكَ أَفْعَالَهُمْ فِيمَا عَلِمَ مِنْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ. وَكُلٌّ
مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ. وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ. وَالسَّعِيدُ: مَنْ
سَعِدَ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّقِيُّ: مَنْ شَقِيَ بِقَضَاءِ اللهِ
تَعَالَى)}.
هذا موضوعٌ جديدٌ؛ موضوعُ الإيمانِ بالقضاءِ والقدرِ، والإيمانُ بالقضاءِ والقدرِ
أحدُ أركانِ الإيمانِ السِّتَّة المذكورة في حديث جبريل لَمَّا سأل النَّبي صلى
الله عليه وسلم عن الإيمان، قال: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ،
وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ
وَشَرِّهِ»[5].
الإيمان بالقدر يتضمَّن أربع مراتب:
المرتبةُ الأولى: الإيمانُ بعلمِ الله القديم: عَلِمَ الله كلَّ شيءٍ، عَلِمَ ما
كانَ وما سيكونُ، وما لم يكنْ لو كانَ كيفَ كانَ يكونُ.
المرتبةُ الثَّانيةُ: الكتابةُ: كَتَبَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- مقاديرَ الخلائقِ في
اللَّوح المحفوظِ.
المرتبةُ الثَّالثةُ: المشيئةُ: فمَا شاءَ اللهُ كانَ وما لم يشأ لم يكن.
المرتبةُ الرَّابعةُ: الخلقُ، فالله خالقُ كلِّ شيءٍ، لا خالقَ غيرَه، ولا ربَّ
سواه.
هذه المراتبُ الأربع تجمعُ معنى قولك: "الإيمان بالقدر".
لو قال لك قائل: أخي الكريم، اشرح لي كيف أؤمن بالقدر؟
تقول: تؤمنُ بعلمِ اللهِ الشَّامل المحيط بكلِّ شيءٍ، وبالعلم السَّابق، فهو علم
كلَّ شيء قبلَ أن يخلق المخلوقات، وتُؤمنُ بأنَّ اللهَ كتبَ مقاديرَ الخلائقِ في
اللَّوحِ المحفوظِ، فلا يقع شيءٌ إلا وهو مكتوبٌ، وتُؤمنُ بمشيئةِ الله النَّافذة،
فما شاءَ الله كان، وما لم يشأْ لم يكنْ، وتُؤمنُ بأنَّ الله خالق كلِّ شيء، لا
خالقَ غيرَه، ولا ربَّ سواه؛ إذا آمنتَ بهذا آمنتَ بالقضاءِ والقدرِ، وهناك تفاصيل
ستأتي تباعًا.
فهذه المسألةُ مسألةٌ عظيمةٌ جدًّا، وأبو جعفر الطَّحاوي -رحمة الله عليه- بسطها،
وذكر في جملٍ كثيرةٍ ستأتي هذا الموضوع، وكرَّرها في عدَّةِ مواضع مِن العقيدة
الطَّحاويَّة، فمِن ذلك قال: (وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَمْ يَزَلْ
عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ جُمْلَةً
وَاحِدَةً؛ فَلَا يُزَادُ فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ)، هذا قبل
أن يخلقَ الخلقَ، علمَ الله جميعَ ما يقع مِن العباد، علمَ السُّعداء منهم الذين
يدخلون الجنَّة، وعلمَ الله الأشقياءَ منهم الذين يدخلون النَّار -نسأل الله جلَّ
وعلا أن يجعلنا وإياكم وسائل إخواننا المسلمين من السعداء، وأن يُعيذنا من طريق
الأشقياء.
ولكن لا أحدَ مِن الخلقِ يعلم ماذا كتب الله، لا أحدَ يعلم الغيبَ إلا الله -سبحانه
وتعالى- وهذا يدعو المؤمن إلى الثَّبات، وإلى الصَّبر على الحقِّ وعلى طريقِه،
والحقُّ هو الإسلامُ، وهو الإيمانُ، وهو الإحسانُ؛ فيثبتَ عليه، ويدعو العاصي
والفاجرَ والمنافقَ، والكافرَ إلى الرُّجوع عمَّا هم عليه قبل أن يفجأهم الموت، لا
أحد يقول: أنا مكتوب عليَّ كذا أو كذا...، ما أحد يعلم الغيب، ولكن الله -عزَّ
وجلَّ- هو وحدَه الذي يعلمُ كلَّ شيءٍ -سبحانه وتعالى.
فعِلمُ الله شاملٌ، وهو محيطٌ بكلِّ شيءٍ، في عددهم، وفي أفعالِهم وأعمالِهم،
وتفاصيل أمورهم، قال: (وَكَذَلِكَ أَفْعَالَهُمْ فِيمَا عَلِمَ مِنْهُمْ أَنْ
يَفْعَلُوهُ)، كلُّ أفعالِ العبادِ مقدَّرةٌ، الله -عزَّ وجلَّ- علم أنَّ هذا يُطيع
قبل أن يُطيع، والله -عزَّ وجلَّ- علم أنَّ هذا يعصي قبل أن يعصي، والله -عزَّ
وجلَّ- علم أنَّ هذا يبني، وأن هذا يركض، وأن هذا يمرض؛ كلُّ هذه الأمور والأفعال
التي تقع لهم قد علمها الله قبلَ أن يخلقَ الخلقَ.
وأهمُّ ما نحن بصدده هو موضوع السَّعادة والشَّقاوة، موضوع الطَّاعة والمعصية،
موضوع الإيمان والكفر، موضوع السُّنَّة والبدعة، فالمؤمن يَلزم الطَّريق الذي به
نجاته ويجتهد فيه ويتحرَّاه ويعمل به حتى ينجو، ولا يقول: مكتوب كذا..، ما أحد
يدري! مَن ادَّعى شيئًا فهو كاذب، حتى العاصي أو الفاجر لو قال: أنا مكتوب عليَّ
أنني كذا أو كذا.. نقول: تدَّعي شيئًا، وتعرف أنَّك تكذب! أنت لا تعلم ما كُتب
عليك، فتُب إلى الله وغيِّر عملك.
ولا يُحتجُّ بالكتابة السَّابقة على فعل المعاصي، ولا يُحتَجُّ بالقدرِ على فعل
المعاصي، مَن فعل هذا فهو من الزَّائغين.
قال: (وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)، هذا كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم
وقد ورد في الحديث: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»[6]، فلا تدع
العملَ الصَّالح والإيمان، فهذا نجاتك، هذه سعادتك، هذا فلاحك في الدُّنيا وفي
الآخرة، «اعْمَلُو» هذا كلامُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم جوابًا على كلام
الصَّحابة رضي الله عنهم: "أفلا ندع العمل ونتَّكلُ على الكتاب؟!" إذا كنَّا من
السُّعداء فنحن في الجنَّة، وإذا كنَّا من الأشقياء فما الفائدة من أعمالنا؟!
قال صلى الله عليه وسلم: «ل» فلا تعصِ النَّبي صلى الله عليه وسلم يا مسلم، لا
تقول: أنا أتَّكلُ على الكتاب، تُعاند النَّبي صلى الله عليه وسلم اتقِ الله،
النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «اعْمَلُو» حافظ على توحيدِك، حافظ على إسلامِك،
حافظ على اتِّباعِك للنبي صلى الله عليه وسلم حافظ على الصَّلوات الخمس في أوقاتها،
حافِظ على أداءِ الزَّكاة المفروضة عليك، وصيامِ رمضان، وحجِّ بيت الله الحرام،
حافظ على برِّك بوالديك، كلُّ هذه الأعمال الصَّالحة قم بها حتى تنجو.
وأنا أقرأ الآن حديث علي رضي الله عنه المخرَّج في الصحيحين وهو حديث عظيم، وهو
الذي وردت فيه هذه الجملة، وقد وردت في أحاديثَ أخرى، فعن علي رضي الله عنه قال: "
كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَعَدَ , وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ
فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ
وَالنَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً»، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ
كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ
السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ
إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، قَالَ: «أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ
فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ
فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ»، ثُمَّ قَرَأَ رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذه الآيات: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ
بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل 5-10]، وهذا الحديث في
الصحيحين، وهو من أصح الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقوله -جلَّ وعلا- الذي ذكره النَّبي صلى الله عليه وسلم بعد قوله «اعْمَلُو»:
﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى﴾ عَمِلَ أم لمْ يعمل؟! أعطى الزَّكاة، أعطى النَّفقات
الواجبة.
﴿وَاتَّقَى﴾ التَّقوى: هي تركُ كلِّ محرَّمٍ، وتركُ كلِّ تقصيرٍ في الواجباتِ، اتقى
عقابَ الله بفعلِ الأوامر واجتنابِ النَّواهي.
﴿وَصَدَّقَ﴾ ، تشمل العقائد.
﴿بِالْحُسْنَى﴾ هي الجنَّة.
﴿فَسَنُيَسِّرُهُ﴾ ، هذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا
خُلِقَ لَهُ» فقوله موافق للفظ القرآن.
﴿لِلْيُسْرَى﴾ هي الجنَّة.
﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ﴾ ، أي منعَ النَّفقات، ومنعّ الزَّكاة، ومنع زكاة نفسِه
بالإسلامِ والتَّوحيدِ.
﴿وَاسْتَغْنَى﴾ ، استغنى عن الله -عزَّ وجلَّ- في ظنِّه، وأعرض عن ربِّه، وأعرض عن
دينِ الله.
﴿وَكَذَّبَ﴾ هذا في باطنه، ولهذا فالظَّاهر والباطن متلازمان، فالتَّصديقُ
الصَّادقُ يتبعه عملٌ صالحٌ، والتَّكذيب يتبعه عملٌ فاجرٌ.
﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ وهي النَّار -نعوذ بالله.
إذن هذا قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»،
فأهلُ السَّعادة يُيسَّرُون لعملِ أهلِ السَّعادة، وأمَّا أهلُ الشَّقاوة
فيُيَسَّرُون لعملِ أهلِ الشَّقاوةِ، فإذا رأيتَ نفسكَ مُقبلة على الطَّاعة،
وثابتًا على الإسلام؛ هذا عملُ أهلِ الشَّقاوة أو أهلِ السَّعادة؟
هذا عملُ أهلِ السَّعادة، فاحمدِ الله على هذا ولا تغترَّ بنفسك، واحذر من
الزَّيغِ، ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَ﴾ [آل عمران: 8].
وإذا رأى الإنسانُ نفسَه على الفجورِ أو ما أشد مِن الفجورِ؛ فهذا عملُ أهلِ
الشَّقاوةِ؛ فيحذر ويتقي، ويتوب، ويسارع إلى الإقلاع عن الذَّنبِ، وعن الضَّلالِ،
وعن الكفرِ حتى يعملَ بعملِ أهلِ السَّعادة وينجو، هذا هو الواجب على كلِّ مسلمٍ،
وهو أن يعملَ ويجتهدَ، ويسعى لفكاكِ نفسِه مِن عقوبةِ اللهِ، ولا يكونُ هذا إلا
بالطَّاعةِ والتَّقوى والعملِ الصَّالحِ، والإيمان.
كثيرٌ من النَّاس يقولون: هل الإنسان مُسيَّرٌ أم مُخيَّرٌ؟
وهذه العبارة يكثر تداولها بينَ النَّاس ويقعون في بعضِ الإطلاقاتِ التي فيها
أخطاءٌ وهم لا يشعرون.
إن قال: إنَّ الإنسانَ مخيرٌ؛ فهو يريد معانٍ ربَّما صحيحة، لكن لا ينتبه إلى معانٍ
أخرى غيرِ صحيحةٍ، وهو أن يظنَّ أنَّه مستقلٌّ عن مشيئةِ الله وعن قدرِه.
وإذا قال: إنَّه مسيرٌ؛ فقد يريد معانٍ صحيحة وهو أنَّ كلَّ شيءٍ بقضاءِ اللهِ
وأنَّ ما يقع له من مصائبَ فهذا بِتسييرِ اللهِ وبقدرِه، ويغفلُ عن معانٍ يريدها
الجبريَّة وأهلُ البدعِ.
فلهذا نقول لإخواننا: لا تقل هذا ولا تقل هذا، كلا اللَّفظين فيه خطأ، وقل مثلما
قال النَّبي صلى الله عليه وسلم تَسلَم، ولهذا فالتَّعبير بالألفاظ الشَّرعيَّة
خيرٌ للمؤمن، وخيرٌ لطالب العلم، ولأنَّ في إطلاقِ لفظ "مسير ومخير" بعضُ
التَّجاوزات، ولكن قل: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ».
فإذا أنت عملت عملَ أهل السَّعادة يسَّرك الله لعملِ أهلِ السَّعادة وتدخل الجنَّة،
وإذا قمتَ بعملِ أهلِ النَّار يُسِّرتَ لعملِ أهلِ النَّار وتدخل النَّارَ -نعوذ
بالله- نسأل الله أن يدخلنا الجنَّة ويجيرنا من النَّار.
فالأفضل للمؤمن أن يُعبِّر بالتَّعبيرات الشَّرعيَّة، ويلتزم بالألفاظ الواردة في
الكتابِ والسُّنَّة؛ فهذا أسلمٌ له، لأنَّ الإطلاق في قولك "مسيَّر" فيه بعض
التَّجاوز، فهل الإنسان مجبرٌ في كلِّ شيءٍ؟ لا، قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا
سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا
* وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَ﴾ [الشمس: 7-10]، أنت الآن تقدرُ أن تقومَ، وتقدرُ أن
تجلسَ، تقدرُ تأخذَ القلمَ، وتقدرُ أن تتركه، تقدرُ أن تكتبَ خيرًا أو تكتبَ شرًّا.
فلا تقل: أنا مسيِّر، وتحاول أن تتخلَّص من تبعاتك؛ فأنت محاسبٌ عليها، لأنَّك
مسؤول عن تصرفاتك، فالله أعطاكَ عقلًا، وأعطاكَ قدرةً، وأعطاكَ إرادةً.
كذلك إذا قلت: أنا مخيَّرٌ؛ قد يتبادرُ بذهنك أنَّك بالفعلِ عندك حُريَّة وقدرةٌ
وإرادةٌ، لكن بعض النَّاسِ -خاصَّة بعضُ المعتزلة والقدريَّة- يريدون بذلك أنَّك
مستقلٌّ عن مشيئةِ الله، فهذا غلطٌ عظيمٌ، فلا تقلْ هذا ولا هذا؛ بل احفظ كلامَ
النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وقلْه، وعلِّم النَّاسَ هذا «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا
خُلِقَ لَهُ».
نرجعُ للحديثِ الذي شرحناه وهو: «أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ
لِعَمَلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ
الشَّقَاوَةِ»، جاء في بعضِ الرِّواياتِ عن بعضِ الصَّحابة قال: "فلمَّا سمعنا بهذا
ما كنَّا بأشد اجتهادًا منَّا بعدما سمعنا بهذا"[7].
وهذا دليلٌ على أنَّ هذا هو أوَّلُ طريقِ الجنَّة، أنَّكَ تُطيع الله -عزَّ وجلَّ-
وتطيعُ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم وهذا يُشجِّعك على الثَّباتِ، حتى العاصي
يُذكَّر ويُخوَّف بالله، فيقال له: أنت إذا استمررت على هذا المنوال السَّيئ فأنت
على خطرِ أن تقعَ في النَّار؛ فأقلِع عن هذا الذَّنبَ، وتُب إلى الله، وبادر
بالتَّوبة قبلَ أن يفجأك الأجلُ، ولا تُسوِّف فربَّما يهجمُ عليك الموتُ.
ثم قال: (وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ)، الحقيقة أنَّ هذه الجملة هي ثابتةٌ
أيضًا عن النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: «الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ»[8]،
وهذا -أيُّها الإخوة الكرام- وردَ في عدَّةِ أحاديث مِن أحاديثِ الصَّادق المصدوق
التي رواها عبد الله بن مسعود، قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّادق
المصدوق: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا،
ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ،
ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ
وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ
فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ
بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ
بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا
ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ
فَيَدْخُلُ النَّارَ»[9] نعوذ بالله.
قال: «فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ
بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ»، وقال صلى الله عليه وسلم:
«الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ».
كيف هذا عمل بعمل أهل الجنَّة ثم حصلَ له هذا؟
ورد في بعض الرِّوايات الصحيحة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ
الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ»[10]،
يعني عنده نفاق يُخفيه، فظَهَرَ في آخرِ حياته، ولكن مِن فضلِ الله على عباده أنَّ
الموفَّق للطَّاعات والموفَّق للعملِ الصَّالح أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يُثبِّته،
وهذه بشارةٌ للمؤمن، ولكن هذا فيه تخويفٌ لكلِّ مسلمٍ ألا يتساهل في أمورِ الدِّين،
لأنَّ بعضَ الكلمات تُخرج مِن الملة، مثلَ الاستهزاء بالدِّين الإسلامي، بعضُ
النَّاس يدخلُ مجلسًا ويجدُ مَن يستهزؤون بالإسلام وبالنَّبي صلى الله عليه وسلم
فيشاركهم ويضحك معهم وينقل كلامهم راضيًا به؛ فيستحق سخطَ الله، فبعد أن كان يعمل
بالطَّاعة حَصَلَ له هذا الشَّيء، ولهذا يعظُم خوفُ المؤمن على إيمانه، لأنَّ أعظمَ
كنزٍ عندك هو الإيمان والإسلام، فأعظمُ منَّةٍ منَّ الله بها عليك أنَّك مسلم، فهذا
الإسلام هناك مَن يريد نقلك عنه وزعزعة قلبك عنه حتى تخرج منه؛ وهو عدو الله
الشيطان، ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّ﴾ [فاطر: 6]،
ولهذا اثبُت على الإسلام، تأتي فتنٌ وعواصفٌ من الشُّبهاتِ أو الشَّهوات؛ فاثبُت
على الإسلام، واسأل ربَّك الثَّباتَ، قلْ: يا مُقلِّبَ القلوبَ ثبِّت قلبي على
دِينِكِ، نسأل الله أن يهدينا ويكفينا شر أنفسنا.
ولهذا ثبت في الصحيح عن أم سلمة رضي الله عنها أنَّها قالت: كان أكثر دعاء النَّبي
صلى الله عليه وسلم: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى
دِينِكَ»[11].
ولفظ "أكثر" صيغةُ تفضيلٍ، يعني الغالب على دعائه صلى الله عليه وسلم وهو أعظمُ
النَّاسِ علمًا بالله، وأعظمُ النَّاسِ إيمانًا بالله، وأعظمُ النَّاسِ خشيةً لله؛
فإذا كان هذا أكثر دعائه فينبغي علينا أن نقتدي به -صلى الله عليه وسلم.
فهذا قوله صلى الله عليه وسلم: «الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ»، يجعل المؤمن حريصًا
على الثبات، وأيضًا يخشى على نفسه، وأيضًا يسأل الله -عزَّ وجلَّ- ألا يكون مغترًّا
بعمله، وجاء في صحيح البخاري لما أورد حديث عثمان في صفة وضوء النَّبي صلى الله
عليه وسلم وقال فيه: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى
رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِهِ»[12]، فهذه بشارةٌ عظيمةٌ قالها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري بعد هذا الحديث: "وقال الزهري: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لا
تغترو»[13]"، فالمؤمن يجمع بين الخوف والرجاء، يرجو فضل الله -عزَّ وجلَّ- ويسأل
الله الثبات.
فهذا -أيُّها الإخوة الكرام- يجعلنا نخاف على أنفسنا ونرجوا فضلَ ربِّنا، نجمعُ بين
الخوفِ والرَّجاءِ، نخافُ على أنفسنا فنحذر مِن أهلِ الباطلِ وأهلِ الشَّرِّ وأهلِ
البدعِ وأهلِ الأهواءِ، وأهلِ النِّفاقِ، ونلجأُ إلى ربِّنا وندعوه ونضطَّرُ إليه،
ونسأله أن يختمَ لنا بالخاتمةِ الحسنَةِ، لأنَّ قوله صلى الله عليه وسلم:
«الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ» يعني إذا خُتِمَ للعبد بشرٍّ صار إلى شرٍّ وطُبِعَ
على عمله بالشِّرِّ حتى لو تقدَّم هذا الشَّرَّ بعضُ الخير لم ينتفع به إذا كان هذا
الشَّرُّ مخرجًا له عن الملَّةِ، أمَّا إن لم يكن مخرجًا له من الملَّة كالمعصيةِ
فهذا يُنقِّصُ حاله وإن كان مسلمًا، لكن إذا خَرجَ عن ملَّةِ الإسلامِ فهذا هو
الخطرُ العظيمُ.
كذلك إذا مات على المعاصي أو على الكبائر أيضًا فهذا خطرٌ عظيمٌ، فالمؤمنُ يحذر من
هذا ويستغفرُ ربَّه، لكن الكبائرَ لا يُخلَّد صاحبُها في النَّارِ، فصاحبُها تحتَ
المشيئة، إن شاء الله عذَّبه وإن شاء غفرَ له، وإن عذَّبَه اللهُ فإنَّه غيرُ
مخلَّدٍ فيها كما دلَّت على ذلك الأحاديث.
قال: (وَالسَّعِيدُ: مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّقِيُّ: مَنْ
شَقِيَ بِقَضَاءِ اللهِ تَعَالَى)، هذه هي السَّعادة الحقيقيَّة والباقيَّة، كم مدة
بقاء الإنساء في الدُّنيا؟
إن طال عمره فمدة بقائه سبعون سنة، أو ثمانون سنة، نادرًا مَن يبلغ التِّسعين أو
المائه، لكن كم تُمثِّل السَّبعين سنة أو الخمسين سنة من الحياة السَّرمديَّة التي
لا انقطاع لها؟! «يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ
النَّارِ: خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ»[14] حياةٌ كاملةٌ إلى ما لا نهاية، فالسَّعيدُ
حقيقةً ليس الذي يركبُ الفاخرَ أو يأكلُ ما اشتهى، أو يسكنُ أينما اشتهى؛ إنَّما
السَّعيد مَن سَعِد بقضاءِ الله، وقدَّر الله وكتبَ أنَّه مِن أهلِ الجنَّة، وهو في
عمله في الدُّنيا يعملُ بعملِ أهلِ الجنَّة.
فاجتهد أيُّها المؤمن، واجتهد يا طالبَ العلم في سعادتِكَ ونجاتِكَ وصلاحِكَ، هذا
هو السَّعيدُ حقيقةً، والحياةُ الطَّيبةُ ذكرها الله في سورة النَّحل ﴿مَنْ عَمِلَ
صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً
طَيِّبَةً﴾ [النحل: 97]، الحياة الطَّيبة في الدنيا وفي الآخرة.
قال: (وَالشَّقِيُّ: مَنْ شَقِيَ بِقَضَاءِ اللهِ تَعَالَى)، يعني قدَّرَ اللهُ
-عزَّ وجلَّ- أن يكونَ مِن أهلِ النَّارِ، وهو في الدُّنيا يعملُ بعملِ أهلِ
النَّارِ، معاندٌ، مُعرِضٌ؛ نسألُ الله العافية والسَّلامة.
ولهذا يُروى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ
فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ"[15].
هذا أيُّها الإخوة الكرام تعليقٌ على هذا الكلام المبارك للعلَّامة أبي جعفر أحمد
بن محمد بن سلامة الطَّحاوي -رحمه الله- والحقيقة هذه المسائل العظيمة سوف يتمُّ
شرحها والتَّوسُّع في موضوع القضاءِ والقدرِ في الدَّرسِ القادمِ بحول الله تعالى.
هل عندكم سؤال أو استفسار أيُّها الإخوة؟
نسألُ الله -جلَّ وعلا- أن يرزقنا وإيَّاكم العلمَ النَّافعَ والعملَ الصَّالح، وأن
يهدينا للتي هي أقوم، والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على
نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
وإلى لقاءٍ آخرٍ نلتقي بكم أيُّها الإخوةُ الكرام، والسَّلامُ عليكم ورحمةُ الله
وبركاته.
---------------------
[1] معجم الطبراني (5028).
[2] صحيح البخاري (6557).
[3] مسند أحمد (12061).
[4] هذا الحديث صححه ابن حبان، والترمذي قال عنه: حديث حسن صحيح
[5] صحيح مسلم (8).
[6] صحيح البخاري (4593).
[7] ورد في صحيح ابن حبان (337)، عن سراقة بن مالك لما سمع الحديث قال: " فلا أكونُ
أبدًا أشدَّ اجتهادًا في العملِ منِّي الآنَ"
[8] صحيح البخاري (6607).
[9] صحيح البخاري (3105).
[10] صحيح البخاري (2697)
[11] مسند أحمد (24044)، سنن الترمذي (3522)، وصححه الألباني.
[12] صحيح البخاري (161)
[13] صحيح البخاري (6433).
[14] صحيح البخاري (4386).
[15] رواه الإمام مسلم من كلام عبد الله بن مسعود (4789).
سلاسل أخرى للشيخ
-
12803 18
-
16750 9
-
34826 6
-
3050 13
-
3132 12
-
4154 11
-
5557 12