الدرس السادس
فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد
إحصائية السلسلة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ الأنبياء والمرسلين،
نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ.
نُرحبُ بكم أيُّها الإخوة الكرام في هذا الدَّرس الجديدِ مِن دروس العقيدةِ
الطَّحاويَّة، ونبدأ بحولِ الله وبعونِه وتوفِيقِهِ في قراءةِ المتنِ.
{(بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ
وصحبِه وسلِّم.
اللهمَّ اغفر لنا ولشيخنا، وللمستمعينَ، وللمشاهدينَ، ولجميعِ المسلمينَ.
قال المصنِّف -رحمه الله: (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ
بِذَنْبٍ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ، وَلَا نَقُولُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ
ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ))}.
باركَ الله فيكَ، وباركَ الله في الإخوة جميعًا.
يقول الطَّحاوي -رحمه الله: (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ
بِذَنْبٍ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ)، تقدَّم أنَّ المرادَ بأهلِ القِبلة: المسلمون
لقولِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ
قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ
اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ»[81]، فمَن ثبتَ إسلامه فهذا له حُرمةٌ وله حقٌّ
علينا، لا يجوزُ أن نعتديَ عليه لا في مالِهِ ولا في عِرضِهِ ولا في دَمِهِ، ومِن
أعظمِ البَغي ومِن أعظمِ الاعتداءِ تكفيرُه بغيرِ حقٍّ.
وتكفيره: أي إخراجُه مِن مِلَّةِ الإسلامِ فنقول: هذا كافر، فتكفيرُ المسلمِ بغيرِ
حقٍّ ليسَ مِن منهجِ أهل السُّنَّة والجماعةِ، بل هو مِن منهج الخوارجِ
والمُعتزلَةِ، فالخوارجُ يصرِّحون بتكفيرِه، والمُعتزلَة يصرِّحون بخروجِه مِن
الإيمانِ والإسلامِ، ويقولون: هو في منزلةٍ بين المنزلتينِ.
أمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجماعة فهم موافقونَ للكتابِ والسُّنَّة، ومتَّبعون
للنُّصوصِ الشَّرعيَّة.
يقولُ الطَّحاوي مُعبِّرًا عن هذا المعنى: (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ
الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ)، لأنَّ المراد عنده -رحمه الله-
الذُّنوب التي دونَ الشِّركِ الأكبرِ والكفرِ الأكبرِ، مثل: السَّرقة، وشُرب الخمر،
والزِّنا -نسألُ الله العافيةَ لنا ولكم وللمسلمين- فهذه الذُّنوب مِن كبائرِ
الإثمِ، ولكنَّها لا تخرجُ صاحبها مِن الدِّين، بل ينقصُ دينُه، وينقصُ إيمانُه،
وينقصُ يقينُه، ويكون بهذه الكبيرة فاسقًا، ناقصَ الإيمان، ناقصَ الإسلام، لكن لا
يجوزُ أن نكفِّره وأن نُخرجَه من ملَّة الإسلام.
قال: (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ مَا لَمْ
يَسْتَحِلَّهُ).
لماذا لا نُكفِّره بالذَّنب؟
لأنَّ الذَّنبَ الذي هو دونَ الشِّركِ كالسَّرقة، والزِّنا، والقتلِ، وشربِ الخمر،
وأكلِ الرِّبا، وأكلِ مالِ اليتيم، ونحو ذلك مِن الموبقاتِ؛ هذه الذُّنوب لا تُخرِج
مِن ملَّة الإسلام، ولا يجوزُ أن يُخرَجَ الإنسانُ مِن الدِّين الإسلامي إلا
بيقينٍ، ولهذا فإنَّ التَّكفِيرَ حقٌّ لله ولرسولِه، ليسَ لأهوائنا ولا لرغباتنا،
ولا لعواطفنا دخلٌ في ذلك، وإنَّما يجبُ علينا أن نلتزمَ طريقةَ الكتابِ
والسُّنَّة، وطريقةَ أهلِ العلمِ الراسخينَ فيه مِن أئمة أهلِ السُّنَّة -رحمة الله
عليهم- هذا هو المنهج الصَّحيح في مسائلِ التَّكفِير.
أمَّا إذا كفَّرناه بغيرِ حقٍّ فماذا يحصل؟
يحصل مفاسد عظيمة:
أوَّل مفسدة: أنَّ الكفرَ يعودُ على قائله، لِما في الصَّحيحينِ من قولِ النَّبيِّ
-صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا
أَحَدُهُمَ»[82]، يعني إذا لم يكن على ما ذَكَرَ ترجعُ الكلمةُ على المتكلِّم
والمُكفِّر -نسألُ الله العافيةَ والسَّلامةَ.
هل معنى هذا أنَّ الذي كفَّر أخاه بغير حقٍّ يكونُ أيضًا كافرًا خارجًا من الملَّة؟
نقولُ: هذا من بابِ الوعيدِ الشَّديدِ، وهذا الحديثُ مِن أحاديثِ الوعيدِ التي تبقى
على وعيدها وترهيبها حتى يخافَ المسلم مِن ذلك، فهذا مِن أسبابِ رجوعِ التَّكفِيرِ
إليه.
ثانيًا: إذا كُفِّرَ المسلمُ بغير حقٍّ، فهذا سيكونُ خَصمًا لك يوم القيامة، لأنَّ
قولك للشَّخص: يا كافر؛ أعظمُ مِن رميكَ لَه بالسَّرقةِ أو بالقتلِ، أو بالزِّنا،
لأنَّ الكفرَ أعظم الذُّنوب، فهو أعظمُ من الذُّنوب كلِّها، ولهذا أعظم البغي أن
يُخرَج العبدُ من الدِّين وهو ليسَ كذلك، فهذا عدوانٌ عظيمٌ وإساءةٌ بالغةٌ لا
نظيرَ لها.
الأمر الثالث: الذي يجعل هذا الأمر خطير جدًّا: أنَّ الإنسانَ إذا ركب هذا الأمر
وكفَّر غيرَه بغيرِ حقٍّ فقد سَلَكَ مَسلكَ الخوارج، فالخوارج كفَّروا المسلمين،
وجعلوا الآيات التي نزلت في المشركين في المؤمنين، وأخرجوهم من الدِّين، وأوَّل مَن
فعلَ ذلك الخوارج الذين خرجوا في آخرِ عهدِ عثمان وتسبَّبوا في مقتلِه، ثم خرجوا
على علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم أجمعين.
فهؤلاء الخوارج حكَمُوا بالتَّكفِيرِ بغيرِ حقٍّ، فالذي يُكفِّرُ أحدًا مِن أهلِ
القبلة بغيرِ حقٍّ يَسلُك مَسلكَ الخوارج، وكفى بهذا خِزيًا وعارًا وإثمًا وذنبًا،
لأنَّ الخوارجَ وردَ فيهم الوعيد الشَّديد عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ومنه
قوله: «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ»[83]-نسألُ
الله العافيةَ والسَّلامة.
ومنها قوله: «يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ
الْأَوْثَانِ»[84]، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم- عنهم «هَؤُلَاءِ كِلَابُ
النَّارِ»[85]، ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم: «شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ
السَّمَاءِ»[86]، كلُّ هذا الوعيد الشَّديد فيمَن سَلَكَ هذا المَسلَك.
رابعًا: مِن آثار التَّكفِير بغيرِ حقٍّ: سفكُ دماءِ المسلمين، وإيجاد الإحَنِ
والعداواتِ والأحقادِ بينَ المسلمين، والخروج على جماعةِ المسلمين وإمامهم، وغير
ذلك من المفاسد العظيمة.
ثم إنَّه إذا حُكِمَ على الشَّخص بأنَّه غيرُ مسلمٍ بانت منه زوجته، ومُنعَ
التَّوارث بينه وبين أقاربه المسلمين -أولادًا أو آباءً- وكذلك لا يُغسَّلُ ولا
يُكفَّن، ولا يُصلَّى عليه، ولا يُدفَن في مقابر المسلمين، كل هذه الأحكام الخطيرة
لا يجوزُ للمسلم أن يطلقها إلا بقينٍ مثلَ الشَّمس، وهو أن يرجع إلى أهل العلم
الراسخين فيه، ولا يستعجل ولا يتسَّرع كسفهاء الأحلام وحدثاء الأسنان، وليكن المسلم
ثابتًا على السُّنَّة، ومتمسكًا بغَرْزِ أهل العلم لا يخرج عن قولهم، ولا يتجرَّأ
على التَّكفِير، فإذا تجرَّأ على الفتوى فقد تجرَّأ على النَّار، والفتوى قد تكونُ
أسهل؛ فكيف إذا تجرَّأ على التَّكفِير؟!
فلا مقارنة بينَ الفتوى بغيرِ علمٍ وبينَ التَّكفِيرِ بغيرِ حقٍّ، لا شكَّ أنَّ
التَّكفِيرَ بغيرِ حقٍّ أخطر بكثير.
فكلُّ هذه الأمور -أيُّها الإخوة الكرام- تُوجِب على المسلم الحذرَ ثمَّ الحذرَ
ثمَّ الحذرَ، والتَّثبُّت والتَّبيُّ، قال الله -عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا
لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم
مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ﴾ [النساء: 94]، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا
بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6].
وانظر إلى ما حصلَ لمَّا سلكَ كثيرٌ مِن الشَّبابِ مسلَكَ الخوارج، واتَّبعوا دعاة
شرٍّ ودعاة سوء ممَّن رَكِبَ موجةَ التَّكفِيرِ بغير حقٍّ، ماذا حصلَ في بلدانِ
المسلمين مِن الجماعات الضَّالَّة والتَّنظيماتِ الخبيثةِ الإرهابيَّة، ماذا حدث؟
صاروا يقتلون أهلَ الإسلام، ويُفجِّرون في الأسواقِ، والمساجِد، والطُّرقات،
ويترصَّدون للنَّاس في بيوتهم، أو في مسَاجدِهم، أو في أسواقهم، ويغتالون، ويقتلونَ
رجالَ الأمنِ، ويقتلونَ المواطنينَ، ويقتلونَ المعَاهدينَ، كلُّ هذا بسببِ الغلوِّ
في التَّكفِيرِ بغيرِ حقٍّ، وسلوكِ هذا المسلك الخبيث -نسأل الله العافية
والسَّلامة.
فإن سألتَ عن الدَّليل: لماذا الذَّنب لا يُخرجُ مِن الملَّة؟
فنقول: دلائلُ هذا لا تُحصَى، فدلَّ القرآنُ الكريم، ودلَّت السُّنَّةُ المطهَّرة،
وإجماعُ المسلمين على أنَّ ارتكاب الذُّنوب التي دون الشِّرك لا تُخرج مِن الملَّة،
ولا توجب التَّكفِير.
فمِن هذه النُّصوص الشَّرعيَّة: قول الله -عزَّ وجلَّ- في شأنِ القاتل، والقاتل
ارتكبَ جريمة القتلِ، وهي مِن أكبرِ الكبائرِ بعدَ الشِّرك، قالَ الله في شأنِه
﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ
إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 178]، فأثبتَ الأخوَّة مع وجود القتل.
ومِن الأدلَّة أيضًا: قولُ الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَ﴾ [الحجرات: 9]، فسمَّاهم
"مؤمنين" وقد حصل بينهما اقتتال، وهذا دليلٌ على أنَّ هذه الكبيرة لم تُخرِجهم مِن
وصفِ الإيمانِ، ثمَّ قال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات: 10]، وهذا
صريحٌ في أنَّ المؤمن إذا ارتكبَ هذا الجرمَ أنَّه لا يُخرَجُ مِن الإيمانِ، ولكن
يكون معه إيمانٌ ضعيفٌ، وإيمانٌ ناقصٌ، بحسب حاله.
ومِن الأدلَّة أيضًا: ما وردَ مِن الوعيدِ في شأنِ السَّارق والزَّاني ونحوه، قال
الله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا
كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة: 38]، لو كان
بمجرد السَّرقة كافرًا لوجبَ استتابته أو قتله إن كان مرتدًّا، وهنا شُرع الحدُّ
وهو قطعِ يدِ السَّارق، ولم يُشرَع القتلُ ولا الاستتابة، لأنَّ السَّارق لم يخرج
من الدِّين، فهذا صريح جدًّا.
ومثله قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: 2]، فهذا حدٌّ مِن حدودِ الله -عزَّ وجلَّ- يجب أن
يُنفَّذَ فيمَن استحقَّ ذلك، فينفِّذه وليُّ الأمرِ عن طريقِ القضاءِ الشَّرعيِّ،
ولكن هذا يدلُّ على أنَّه بمجرد الزِّنا لم يَكفر ولا يجوزُ تكفيره. والأمثلة على
هذا كثيرة.
وأيضًا القذفُ فيه حدٌّ، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَات ثُمَّ
لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة وَلَا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَة أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: 4]،
هذا دليلٌ على أنَّهم لم يَكفُروا، ولهذا تنوَّعت العقوبات والحدود، فبعضها فيه
الجلدُ مائة جَلدة، وبعضها فيه الجلدُ ثمانينَ جَلدة، وهذا يدلُّ على أنَّ هذه
عقوباتٌ.
وجاء في السُّنَّةِ في صحيحِ البخاري ومسلم مِن حديثِ عبادة بن الصَّامت -رضي الله
عنه- وكان قد شهدَ العقبَة، أنَّ النَّبيَّ –صلى الله عليه وسلم- قَالَ وَحَوْلَهُ
عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: «تَعَالَوْا بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا
بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا
أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ
وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ
عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا
فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ،
فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ "،
قَالَ: فَبَايَعْتُهُ عَلَى ذَلِكَ»، وهذا الحديث في البخاري ومسلم والسُّنن، وهو
مِن أصحِّ الأحاديث عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم.
الشَّاهد فيه: أنَّ مَن أصابَ مِن ذلك شيئًا لم يقل له: فليجدد إسلامه، أو يُسلم من
جديد، أو قد ارتدَّ. وأيضًا قال «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ
اللَّهُ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ»، أي إن لم يُعاقب ويُقام عليه الحد؛ فإنَّه إلى
الله «إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ».
وإن كان بمجردِ ارتكابِ هذه الذُّنوب التي دون الشِّرك يَكفر لَمَا صارَ مجالًا
للعفوِ، لأنَّ الله قال: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ
مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ [النساء: 116].
وهناك نصوصٌ كثيرة جدًّا في هذا المعنى كلُّها تدلُّ على أنَّه لا يجوز تكفير
المسلم بالذَّنبِ، وأنَّ هذا منهج الغلاة مِن الخوارجِ والمُعتزلَة والوعيديَّة
وأشباههم، فالواجبُ على أهلِ الإسلامِ الحذرَ مِن هذه المسالك الخبيثة.
وهناك شُبَهٌ لهؤلاء الخوارج خاصَّة المعاصرين منهم، فلهم شُبَهٌ يُشبِّهونَ بها
على النَّاس، فبعضهم يقول: نحن لا نُكفِّر بالذَّنب، لكن تجده يُكفِّر بالذَّنبِ
بحيلةٍ أخرى، مثلَ أن يقول: إنَّ الدَّولة إذا حَمَت المعصية فهي كافرة، فجعل
حمايَة المعصيةِ كفرًا مخرِجًا مِن الملَّةِ، فرجعَ إلى التَّكفِيرِ بالذَّنبِ، لكن
احتالَ عليه، وهذه طريقتهم.
وبعضهم يقول: الطَّائفةُ الممتنعة مِن إقامةِ شعيرةٍ مِن الشَّعائرِ، أو الممتنعة
بالإصرارِ على معصية؛ فهي كافرة، فيجعل الدِّول الإسلاميَّة طوائفَ ممتنِعة، وهؤلاء
هم الشُّذَّاذ الذين يُشبِهون قطَّاع الطُّرق، فيجعلونَ أنفسَهم هم القادَةُ وهم
الأمَّة -بزعمهم- مع أنَّهم مختفُونَ في السَّراديبِ، ومختفون عن أعينِ النَّاسِ.
على عهد أبي بكر الصديق كانَ هو الخليفة شاهرٌ ظاهرٌ، ما كانَ مختفيًا يدَّعي
الخلافة ولا يأبه به أحد! فكانَ شاهرًا ظاهرًا له قوَّة، والسُّلطة لا تتمُّ إلا
بهذا، والإمارة والولاية لا تتمُّ إلا بهذا، أمَّا الذين يختفونَ في المغاراتِ،
ويختفونَ الكهوفِ، ويختفونَ في البيوتِ؛ هؤلاء ليسوا قادَة وليسوا أئمَّة، وليسوا
ولاةَ أمرٍ!
فبعضُ الخوارج يحتالون ويجعلونَ الدِّول الإسلاميَّة طوائفَ ممتنعة، ثم يقولون:
إنَّ هذه الطَّوائفُ الممتنعة امتنعت عن تطبيقِ الأمرِ الفلاني، أو امتنعت بفعلها
المحرَّم الفلاني، إذن يجبُ قتالها ومحاربتها، وإذا حاربتنا وقتلتنا فهي كافرة
مرتدَّة، فصاروا يُكفِّرون بالذِّنبِ بهذه الحِيَل التي يخدعونَ بها الصِّغار،
ويخدعونَ بها مَن لا يعرفُ العلمَ.
ولِيعلم المسلم أنَّ هؤلاء الخوارج عندهم عبادة، وعندهم تديُّن، وعندهم ابتهال؛ فلم
تنفعهم عبادتهم، ولم ينفعهم تديُّنهم، ولا ابتهالهم، ولا ذكرهم لله -عزَّ وجلَّ.
على سبيلِ المثال: عبد الرحمن بن ملجم الذي قاتل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-
هذا الرَّجل من حُفَّاظِ القرآنِ، وهو عربيٌّ أصيلٌ؛ فليسَ مِن العجمِ، ولكن فُتِنَ
-نسأل الله العافية والسَّلامة- فكانَ مِن أهلِ السُّنَّة والجماعة أوَّل أمره، ففي
عهدِ عمر كانَ في المدينة مع أهلِ السُّنَّة، ثم لمَّا ذهبَ إلى مصر وبقيَ هناك
فترة، وجاءت الفِتنُ وجاءت الأمورُ شاركهم في الفتنِ، ثمَّ في عهدِ علي -رضي الله
عنه- شاركَ الخوارج حتى عَزَمَ على قتلِ أميرِ المؤمنينَ علي بن أبي طالب -رضي الله
عنه.
فهذا يدلُّك على أنَّ هؤلاء الخوارج بعضُهم حافظٌ للقرآن، وبعضُهم عارفٌ
بالأحاديثِ، ودارس العلم الشَّرعيَّ؛ ولكن فُتِنَ -نسألُ الله العافيةَ والسَّلامة-
فلا تغترَّ به يا مسلم ويا مسلمة، لا تغتروا بمَن زلَّ وشذَّ عن جماعةِ المسلمين.
هذا أمر
الأمر الثَّاني: لما قُبِضَ على عبد الرحمن بن ملجم. أتدرون ماذا قالَ قبلَ أن
يُقامَ عليه القصاصُ ويُقتَل؟
قال: دعوا لساني حتى أذكر الله -عزَّ وجلَّ- به. فكان يذكر الله -عزَّ وجلَّ- حتى
قُتِلَ!
هذا الرَّجل مِن أخبثِ النَّاس، ومع ذلك لم يترك الذِّكر لله -عزَّ وجلَّ.
إذن هذا يُعطيك فائدة -أيَّها المؤمن وأيَّتها المؤمنة- أنَّنا لا نغترُّ بعبادةِ
المتعبِّد، وما نغترُّ ببكائِه، ما نغترُّ بأنَّه تدمع عيونُه، هذه أمور طيبة ولا
شكَّ، لكن هذا ليسَ المعيار في إصابة الحقِّ والصِّراطِ المستقيمِ.
انظر إلى النَّصارى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾
[الغاشية: 3]، عبادةٌ شديدة ولكن ضالُّون كما قالَ الله عنهم، فأهلُ البدعِ منهم
مَن عندَه تعبُّد، ومنهم مَن عندَه شِدَّة كذلك، منهم مَن عنده قيامُ ليلٍ، ومنهم
مَن عندَه أشياء أخرى، فلا نجعل هذا معيارًا في قبولِ الحقِّ أو ردِّه، إنَّما
المعيار هو موافقة الكتابِ والسُّنَّةِ وما كانَ عليه سلفُ الأمَّة -رحمة الله
عليهم.
فهذه مسألة مهمَّة جدًّا، فكثير ما يغترُّ بعضِ الشَّبابِ المسلمين ونساؤهم بمَن
أظهرَ بعضَ التَّمسُّكِ أو أظهرَ بعضَ الأعمالِ الطَّيِّبة؛ فيوافقونه على منهجهِ
وعلى عقيدتِه كلِّها؛ اغترارًا منه بكثرة بكاء أو غيره.
والله -عزَّ وجلَّ- لمَّا ذكرَ المشتَبهات؛ لم يذكر إلا الرَّاسخين في العلم، قال
الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ
هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران: 7]، هذا ما ينفع فيها
مصلٍّ ولا عابدٌ ولا صائمٌ ولا مُكثِرُ ذكرٍ؛ هذه المتشابهات لا ينفعُ فيها إلا
الرَّاسخُ في العلمِ، فقالَ الله عن المبتدعة ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ
تَأْوِيلِهِ﴾ ، وقال عن الراسخين في العلم: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا
أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ ، فكن معهم وابحث عنهم، واسلُك سبيلَ الرَّاسخين في العلمِ.
هذا تعليقٌ على قوله: (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ
مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ)، طبعًا ليسَ كلُّ ذنبٍ، فهناك ذنوبٌ عظيمةٌ، وهي الشِّرك
بالله -عزَّ وجلَّ- كما قال ابن مسعود -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وسلم:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قال: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ
نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»[87]، سمَّاه ذنبًا، فمراد الطَّحاوي الذُّنوب التي هي دونَ
الشِّركِ، لكن هناك ذنوبٌ عظيمةٌ كالشِّركِ، والكفرِ، والإلحادِ، والنِّفاقِ
الأكبرِ؛ كلُّ هذه مخرجَةٌ من الملَّة الإسلاميَّة بإجماعِ المسلمين.
أيضًا هناك أمورٌ إذا تركَها كَفَرَ، كتركِ الصَّلاةِ، ثبتَ عن النَّبيِّ -صلى الله
عليه وسلم- أنَّه قال: «الْعَهْدُ الَّذِي بيْنَنَا وَبيْنَهُمْ الصَّلَاةُ، فَمَنْ
تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[88].
والمعيار في التَّكفِيرِ في هذه الأمور يكونَ بالأدلَّة الشَّرعيَّة، ليسَ
بالأهواءِ ولا بما يضعه النَّاس، حتى لو كانَ كلام عالمٍ فنردُّه إلى النُّصوصِ،
ونردُّه إلى فَهمِ الصَّحابةِ والسَّلفِ الصَّالحِ -رحمة الله عليهم.
بقي معنا قوله: (مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ)، ما معنى الاستحلال؟
الاستحلال: هو الاعتقاد أنَّه حلال.
وليسَ معنى الاستحلال الإصرار على الذَّنبِ، فلو أنَّ رجلًا أصرَّ على الذَّنبِ
ولقيَ الله وهو مصرٌّ على الذَّنبِ؛ فيُعتبر مسلمًا، لكن لا يخرجُ مِن الإسلام
بسببِ إصراره على الذَّنبِ، صحيحٌ أنَّه زادَ إثمُه، ولكن لا يخرج مِن الدِّين،
فالإصرارُ على الذَّنبِ والتَّساهلُ في ارتكابِ الذُّنوبِ، والاستمراءُ للذُّنوبِ،
والرِّضى بالمعاصي والاستمرارُ عليها والأنسُ بها؛ هذا لا شكَّ أنَّه يدلُّ على
ضعفِ الإيمان بشدَّة، لكن لا يُخرَج من الإسلام بهذا.
إذن ما هو الاستحلال؟
أن يعتقدَ أنَّه حلالٌ، ويتكلَّم بذلك، فيقول: الخمرُ حلالٌ وليسَ حرامًا. يقول:
الرِّبا حلالٌ وليسَ حرامًا. يقول: الزِّنا حلاٌل وليسَ حرامًا. أو يقول: أنا لا
أقبلُ تحريمه حتى لو كان حرام، هو حلال لي؛ فهذا مُستحِلٌّ.
ما حكم استحلال الذَّنب في الشَّريعة الإسلامية؟
كُفرٌ مُخرِج من الملَّة بإجماعِ المسلمين.
لماذا؟
لأنَّه تكذيبٌ لكتابِ الله، ولسُنَّة رسولِه -صلى الله عليه وسلم- لأنَّ التَّحليل
والتَّحريم نأخذه مِن الكتاب والسُّنَّة، فمَن ردَّ حكمَ الكتابِ وحكمَ السُّنَّةِ
فقد كَفَرَ. هذا هو السَّبب.
نرجع مرة ثانية إلى الخوارج؛ فبعضهم يجعلُ حماية الذَّنبِ استحلالًا.
نقول: لا، حماية الذَّنبِ معصيةٌ معَ الذَّنبِ، يعني لو أنَّ واحدًا أرادَ أن يفعلَ
ذنبًا وطَلبَ من شخصٍ أن يحرسه؛ فهذا الحارس يدخلُ في قوله تعالى: ﴿وَلَا
تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]، لكن لا يكون كافرًا،
إذا كانا يعتقدان أنَّه حرامٌ فهما عاصيانِ لله -عزَّ وجلَّ- وليسَا كافرين.
فهنا تقعُ تلبساتٌ مِن الخوارج، حيثُ يجعلونَ الاستحلالَ هو حمايةُ الذُّنوب، أو
الإصرارُ على الذُّنوب، أو استمراؤها، فنقول لهم: لا، انتبهوا، ونُبيِّنُ لإخواننا
المسلمين أنَّ هذه الأمور لا تجوز، نحن لا نتهاون بالذُّنوبِ، لكن نُبيِّنُ ما هو
الضَّابط في مسألة التَّكفِيرِ، لأنَّها مسألةٌ خطيرةٌ جدًّا.
وبعضُ النَّاس يخلِط بينَ الاستخفافِ والتَّهاونِ، فالتَّهاونُ بالشَّيءِ لا يدلُّ
على عدمِ قبولِ حُكمِ الله -عزَّ وجلَّ- فبعضُ النَّاس عندَه تهاونٌ في بعضِ
الواجبات، وعندَه تهاونٌ في المحرماتِ، فهذا ليس استحلالًا. فهذا معنى قوله: (وَلَا
نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ)، فهذا
الأمر أمرٌ عظيم.
بقيت مسألة نختمُ بهذا هذا الموضوع المهم، وهي: أنَّ أهلَ السُّنَّة والجماعَة
يُفرِّقون بينَ التَّكفِيرِ المطلَقِ والتَّكفِيرِ المعيَّنِ.
التَّكفِيرُ المطلَق: أن تُذكَرَ المقالَة الكفريَّة، بغضِّ النَّظرِ عن قائلها.
فيُقال: مَن قالَ إنَّ القرآنَ مخلوقٌ فهو كافرٌ، مَن قالَ أنَّ الله -عزَّ وجلَّ-
حالٌّ في كلِّ الأمكِنِةِ ومختَلِطٌ بالمخلوقاتِ فهو كافرٌ، مَن أنكرَ أسماءَ اللهِ
وصفاتِه فهو كافرٌ. هذا يُسمَّى التَّكفِيرُ المطلَق.
التَّكفِيرُ المعيَّن: هو أن يُقال: فلان ابن فلان الذي قال كذا وكذا هو كافرٌ
بعينِه.
فالتَّكفِيرُ المطلَق يُشتَرط فيه أن تكونَ المقالةُ كفرًا، ومناقِضةٌ لكتابِ الله
وسنَّة رسوله، وموجبة للتَّكفيرِ. هذا شرطٌ.
لكن التَّكفِير المعيَّن يُشترط فيه أكثر مِن ذلك، فيُشترط فيه ما تقدَّم في
التَّكفِيرِ المطلَق، ويُشتَرط ثبوت هذا بيقيٍن عن الشَّخصِ المعيَّن، واجتماعِ
شروط التَّكفِير، وانتفاء موانع التَّكفِير؛ حتى يصحَّ إطلاق التَّكفِيِر على
المعيَّن.
وهناك مِن النَّاسِ مَن يَكفر بعدَ إسلامِه، قال تعالى عن المستهزئين بالدين: ﴿لاَ
تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: 66]، لكن لا يُطلَق
هذا إلا بعدَ التَّثبُّتِ والتَّبيُّنِ، وهذا دلَّت عليه النُّصوص الشَّرعيَّة،
ونذكرُ منها قولَ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في الرَّجل الذي فقدَ ناقتَه
وطعامَه وشرابَه في الصَّحراء، فلمَّا نامَ واستيقظَ ووجدَها فوقَ رأسه، فشكر الله،
ورفعَ يديه يدعو ربَّه وقال: «اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ
مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ»[89]، فالقول هذا كفرٌ، فقالَ لله تعالى "أنت عبدي"؛
ولكنَّه لم يُكفَّر لأنَّه مخطئ، والله تعالى يقول: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن
نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَ﴾ [البقرة: 286]، فالخطأ مانعٌ مِن موانعِ التَّكفِيرِ،
وهذا دليلٌ على التَّفريقِ بينَ التَّكفِيرِ المطلَق والتَّكفِيرِ المعيَّن.
فنقول: مَن قالَ للهِ ربِّ العالمين "أنت عبدي" هذا بإجماعِ المسملينَ أنَّه كافر،
فالمقولةُ كفرٌ، والشَّخصُ كافرٌ، ولكن لمَّا جئنا نُطبِّق على المعيَّن وجدنا أنَّ
بعض الناس قالها عن خطأ كما في الحديثِ، فهو يريد أن يقول "اللهم أنت ربي وأنا
عبدك" فأخطأ وسبقَ لسانُه، فهذا غيرُ مؤاخذ، وهذا دليل على صحَّة القاعدة.
ومثلَ قول الرَّجل الذي أسرفَ على نفسِه بالذُّنوب، فقالَ لأبنائه: «كَانَ رَجُلٌ
يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، قَالَ: لِبَنِيهِ إِذَا
أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ
فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ
أَحَدًا، فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ، فَقَالَ:
اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ فَفَعَلَتْ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ
عَلَى مَا صَنَعْتَ ؟، قَالَ: يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ فَغَفَرَ لَهُ، وَقَالَ
غَيْرُهُ مَخَافَتُكَ يَا رَبِّ»[90]، مع أنَّه شكَّ في قدرة الله، والشَّكُّ في
قدرةِ الله كفرٌ. فالذي يقول: إنَّ الله لا يقدرُ عليّ؛ فهذا كافر. فالمقولة كفرٌ،
ولكن هذا الشَّخص لجهلِه وشدَّة مخافته لله -عزَّ وجلَّ- دُرءَ عنه هذا الحكم.
إذن هذا يدلُّ على التَّفريقِ بيَن التَّكفِيرِ المعيَّنِ والتَّكفِيرِ المطلَق.
وحديث حاطب -رضي الله عنه- لمَّا أرسل رسالة لمشركي قريش يخبرهم بمسير النَّبيِّ
-صلى الله عليه وسلم- فهذا الفعل جريمة، ولكن هذه الجريمة تحتاج استفسار، قال له
النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «ما حملك على هذا؟»، فذَكَرَ له عذرًا أنَّ له أهل
ويخاف عليهم، فدُرءَ عنه حكم الكفر، ولأنَّه لو كانَ هذا عن رضًى وموافقة لهم على
الدِّين لكان موجبًا لكفرِه، فهذا يدلُّ على التَّفريقِ بينَ التَّكفِيرِ
المعيَّنِ، والتَّكفِيرِ المطلَقِ.
هناك موانع للتَّكفيرِ، وهي: الخطأ، والنِّسيان، والإكراه، والجهل، والتَّأويل،
والعجز؛ هذه ستَّة موانع مذكورة في أصول الفقه، ومذكورة في كتب الفقه، ومذكورة
أيضًا في كتب العقيدة.
هذا ما يتعلَّق بهذا الموضوع المهم.
فيجب على المسلم أن يحذَر مِن التَّسرُّع في تكفيرِ المسلمين بغيرِ حقٍّ، وأن
يتورَّعَ، وأن يلزَمَ طريقةَ العلماء، خصوصًا في الأمور المشكِلة، فأهلُ العلم
والفُتيا والقضاء هم المردُّ للنِّاس، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ
مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ
مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83]، هذا معنى قوله (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ
الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ).
لو استحلَّ ما اختلف فيه العلماء، كأن قال بعضهم هذا حلال، وبعضهم قال هذا حرام. هل
يكفر؟
الجواب: لا. فهناك بعضُ الأشياء اختلفَ العلماء فيها، فبعضُ العلماء يقول: هذا
الشَّيء حرام لدَّليل الفلاني، وبعضهم يقول: هذا الشَّيء حلال، وهناك خلافيات كثيرة
بين الفقهاء، فمثلًا: رِبا الفضلِ، وشُرب النَّبيّذ، وإن كان الخلاف ضعيفًا
والصَّواب هو تحريم ربا الفضل، لكن بعضَ النَّاس يوافقُ القول هذا عن اجتهادٍ وليس
عن هوًى؛ فهل بهذا يكون قد استحلَّ محرمًا؟ لا.
ولهذا بعض العلماء يقول: "مَن استحلَّ محرَّمًا معلومًا من الدِّين بالضَّرورة"، أو
نحو ذلك من العبارات حتى يُخرِج المسائل التي جرى فيها الخلاف.
قال: ( وَلَا نَقُولُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ) لأنَّ
هذه مقولة المُرجِئَة.
الفقرة السَّابقة كنَّا نردُّ عن الخَوارج، وفي هذه الفقرة نردُّ على المُرجِئَة
بهذه الجملة.
قال: (وَلَا نَقُولُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ)، لأنَّ
المُرجِئَة عندهم أنَّ الإيمان هو التَّصديق، فإن صدَّق بقوله حتى لو وقعَت منه
الذُّنوب، فإنَّ التَّصديق لا يتزحزح ما دام أنَّه صدَّق بالله، وصدَّقَ بالرَّسول
-صلى الله عليه وسلم- وصدَّقَ باليومِ الآخرِ، فلو ارتكبَ الذُّنوبَ لا يضرُّه ذلك.
وهذا كلامٌ باطلٌ من عدة أوجه:
أولًا: أنَّ الإيمانَ ليسَ تصديقًا فقط، الإيمانُ هو: التصديقُ بالقلبِ، والعملُ
بالجوارحِ، والقولُ باللسانِ. هكذا دلَّ القرآن، ودلَّت السُّنَّة المطهَّرة،
وأجمعَ المسلمون مِن الصَّحابَة والتَّابعين على هذا، فمَن قالَ غير ذلك فقد سَلَكَ
خلافَ سبيلِ المؤمنين.
ثانيًا: دلَّت النُّصوصُ الشَّرعيَّة والأحاديثُ على أنَّ مَن ارتكبَ الذُّنوبَ فهو
على خطرٍ. كيف تقول "لا يضر" وهو على خطر؟
مثال ذلك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا
يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرً﴾ [النساء: 10]، كيف
تقول للمسلمين لا يضركم هذا؟ فهذا كلامٌ باطل مضادٌّ للقرآن، ومضادٌّ للسُّنَّة،
والأحاديثُ كثيرةٌ جدًّا، والنُّصوصُ كثيرةٌ في هذا المعنى، كلُّ أحاديثِ الوعيدِ
التي وردت تدلُّ على هذا، فهذه مقولة المُرجِئَة، فيقولون: لا يضرُّ مع الإيمان ذنب
لمن عمله.
وهذه ضلالة عظيمة، حتى أنَّ بعضهم يقول للنَّاس: إيماني مثل إيمان جبريل، ومثل
إيمان محمد -صلى الله عليه وسلم!
فهذا كلام بشع جدًّا ولا يرضى أن يقوله مسلم، لكن هكذا البدع تفعل بأصحابها، ومع
الأسفِ مضمونُ هذا الكلام موجودٌ في مقالاتِ المتكلِّمين مِن الأشاعرة ومن
الماتريدية، لأنَّهم يجعلون الإيمانَ هو التَّصديق، فلهذا يقولون: التَّصديقُ لا
يتزحزح ولا يتضرَّر، ولو نقصَ التَّصديق -بزعمهم- لوقعَ في الشَّكِّ والكفرِ، فبقيَ
التَّصديقُ إذن حتى لو فعلَ الذُّنوبَ فلا تضرُّه.
وكلامهم باطلٌ، وخطير جدًّا، والنَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا يَزْنِي
الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ
وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ»[91]،
والنُّصوص في هذا المعنى كثيرة، فنحذر مِن ضلالة الخوارج كما نحذر مِن ضلالة
المُرجِئَة.
{(وَنَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ
وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ، وَلَا نَأْمَنُ عَلَيْهِمْ، وَلَا
نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَنَسْتَغْفِرُ لِمُسِيئِهِمْ، وَنَخَافُ
عَلَيْهِمْ، وَلَا نُقَنِّطُهُمْ)}.
هذه الجملة تُبيِّن لنا الموقف مِن أهل الإسلام، أهلُ الإسلام على درجاتٍ متفاوتون
كما قال الله -عزَّ وجلَّ- في سورة فاطر: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم
مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [فاطر: 32]، ثلاث
درجات:
فالسَّابقون بالخيراتِ: هم أعلى، وهم المحسنون.
والمقتَصِدُون: هم المتوسِّطون.
والظَّالمون لأنفسِهم: هم الذين وقعوا في الذُّنوب.
فما هو موقفنا تجاههم؟
قال: (وَنَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ)، يعني إذا ماتوا نرجو لهم الخير، (مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ).
قال: (وَلَا نَأْمَنُ عَلَيْهِمْ) لأنَّنا لنا الظَّاهر والله ويتولَّى السَّرائر،
لا نعلم ما في القلوب، فلا يعلم ما في القلوب إلا علَّام الغيوب -سبحانه وتعالى.
(وَلَا نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ)، إلا مَن شَهِدَ له الكتابُ ورسولُ الله -صلى
الله عليه وسلم- لأنَّ الشهادة لمعين أنَّه في الجنَّة أو في النَّار هذا أمرٌ لا
يجوزُ إلا بما تجوز به الشَّهادة، والشَّهادة كما في الحديث «أَنَّ رَجُلا سَأَلَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشَّهَادَةِ، فَقَالَ: " هَلْ
تَرَى الشَّمْسَ ؟ عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ أَوْ دَعْ»[92]، فما دليلُكَ أنَّ هذا
في الجنَّة أو أنَّ هذا في النَّار؟
إن لم يكن عندك دليل فقل: "نرجوا"، وما نقطع لهذا أنَّه لما ماتَ أنَّه في
الجنَّةِ، إلا مَن شهدَ له الكتابُ والسُّنَّة، مثل الصَّحابة ﴿لَقَدْ رَضِيَ
اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: 18]،
ونحو ذلك، ومثل قوله -صلى الله عليه وسلم: «أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ
فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ،...»[93]،
إلى آخر العشرة، ومنهم ثابت بن قيس، أبو هريرة، عبد الله بن عمر، وأزواج النَّبيِّ
-صلى الله عليه وسلم- عائشة وخديجة، وبقيَّة أمهات المؤمنين، وهكذا الحسن والحسين
«سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ»[94]، وفاطمة، وهكذا...، فمَن شَهِدَ له
الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم- نشهدُ له، أمَّا مَن لم يرِد فنرجوا له، نرجوا
للمحسِن ونخافُ على المسيء، لا نقطع لهم بجنَّةٍ ولا بنارٍ، فإذا مَاتَ واحدٌ مِن
أهلِ الخيرِ والتَّقوى والصَّلاح وأهلِ العلمِ فإنَّنا ندعوا له، ونستغفر له،
ونترحَّم عليه، ونرجوا له الجنَّة، لكن ما نقول أنَّه الآن في الجنَّة، ما نعلم
هذا، لأنَّ هذا مِن أمورِ الغيبِ، فلا نشهدُ إلا بما تجوزُ به الشَّهادة.
قال: (وَنَسْتَغْفِرُ لِمُسِيئِهِمْ)، لماذا؟
لأنَّه أخونا في الإسلام، فالمسيء منهم لازالت بيننا وبينه أخوَّة الإسلام
والدِّين، ألم يقل في القاتل: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ [البقرة:
178]، وقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، ولهذا نقولُ:
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ﴾
[الحشر: 10]، فمن حقِّه علينا أن ندعوا له، قالَ الله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد: 19]
(وَلَا نُقَنِّطُهُمْ)، لا نُقنِّطُ أحدًا مِن رحمةِ الله، لا نقول: أنَّك قانِطٌ
من رحمة الله، ولا يمكنُ أن يرحمَك الله. هذا لا يجوز، وانتبهوا مِن هذا لأنَّه
خطيرٌ جدًّا!
ولهذا جاء مِن حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-
قال: «كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَآخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا
يُذْنِبُ وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَزَالُ
الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ، فَيَقُولُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ
يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ، فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي
أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَوْ
لَا يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ ».
انبته! ماذا صنَعَت هذه الكلمة في صاحبِ العبادَةِ والمجتهدِ فيها؟
قال: «فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ
لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي
قَادِرًا، وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي،
وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ»[95]. قال أبو هريرة -رضي الله
عنه: "قال كلمة أوبقت دنياه وآخرته".
ولهذا فالمذنبون لا نُقنِّطَهم مِن رحمةِ الله، انظر للبغيِّ التي سقت كلبًا فشكر
الله لها فأدخلها الجنة[96]، فالمقصود أنَّ هذا المذنِب حَصَلَ في قلبِه لمَّا
أهانه هذا الرَّجل واستحقَرَه، وقال: لا يغفرُ الله لك، وأنتَ كذا وأنت كذا...،
فحصَلَ في قلبِه استكانَةٌ وضعفٌ بين يدي الله -عزَّ وجلَّ- فأوجبَ له أن يُغفر له،
وذاك حصلَ في قلبه استكبارٌ بسببِ عبادتِه ورؤيتِه لنفسِه، فصارَ مِن أهلِ
النَّارِ، فانتبهوا -نسأل الله أن يحفظنا وأن يحفظ ألسنتنا- فالرَّجل
«لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا،
يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»[97]، وهذا هو الموضوع، فهو عندما يرى المذنبين وأهل
المعاصي فيقول: هذا في النَّار، ويقول: أنتم لا يَغفر الله لكم. فلا يجوزُ هذا
الكلام؛ بل ادعُ لهم أن يهديَهم، وانصحهم، وأنِكر عليهم، لكن لا تَحكمَ عليهم
بأنَّهم لا يُغفَر لهم، فهذا غلطٌ عظيمٌ جدًّا، فما داموا مِن أهلِ التَّوحيدِ ومِن
أهلِ الإسلامِ فيُرجَى لهم أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يوفِّقَهم للتَّوبةِ، ولعلَّهم
يندَمون، وهذا في الحياة، أمَّا إذا مَاتوا على الذُّنوبِ ولم يتوبوا منها فنخافُ
عليهم، ولكن لا نُقنِّطهم، ولا نقطعُ لهم بنار. هذا ما يتعلَّق بهذه الجملة.
قال المؤلف: (وَالْأَمْنُ وَالْإِيَاسُ يَنْقُلَانِ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ،
وَسَبِيلُ الْحَقِّ بَيْنَهُمَا لِأَهْلِ الْقِبْلَةِ)، هذه المسألة العظيمة مِن
أصولِ العقيدة الإسلاميَّة، وهي الجمع بينَ الخوفِ والرَّجاءِ، لأنَّ أصولَ العبادة
ثلاثة: حبٌّ، وخوفٌ، ورجاءٌ.
فالله -سبحانه وتعالى- الذي تعبده تُحبُّه وترجوه وتخاف منه، وهذا مذكور في قوله
تعالى في سورة الفاتحة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ .
فقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فيه إشارة للحبِّ، لأنَّك تحبُّه
لمحامدِه، ولإحسانِه العظيم، فهذا موجبٌ لمحبَّته.
قولك: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ، فيه الرَّجاء، فترجو رحمته.
وقولك: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ ، فيه الخوف، فتخاف مِن عقوبته، وتخافُ مِن يومِ
القيامة، ومِن ذنوبِك.
فأصولُ العبادة: الحبُّ والخوفُ والرَّجاء. فلابدَّ مِن الجمعِ بينَ الخوفِ
والرَّجاءِ.
أمَّا الأمنُ والإياسُ فهما ضدِّان للخوفِ والرَّجاء، فمَن خافَ لا ييأس، ومَن رجا
لا يأمن. كيف؟
مَن خاف مِن الله -عزَّ وجلَّ- لا يُقنِّط نفسه ويقول: أنا في النَّار، ولن يغفر
الله لي، لأنَّ ذنوبي كثيرة. الله -عزَّ وجلَّ- قال: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]،
ومغفرة الذنوب جميعًا ليس معناه أن تذهب لأصحابِ القبور، أو إلى وليٍّ، أو إلى شيخِ
طريقةٍ، أو بعض النَّاس الذين يغترُّون بالتَّنظيمات الضَّالة فيأتي ويقول: تعالَ
معي نُقاتل تحتَ راياتٍ جاهليَّةٍ حتى تُكفَّر ذنوبك! لا، إذا دعوتَ الله،
وصَدَقْتَ في التَّوبة، وأقلعتَ عن الذُّنوبِ وندمتَ عليها؛ سيغفر لك الله.
هذه شروط التَّوبة:
- الإقلاع عن الذَّنبِ.
- والعزمِ على ألا تعود.
- والنَّدمِ على ما فاتَ منك.
بهذا يغفر الله لك، ما تحتاج أن تتكلَّف، فرحمةُ الله واسعةٌ، وفضلُ الله عظيمٌ،
فأحسِن الظَّنَّ بالله. هذا موضوع الخوف، وضده الإياس، فإذا خفتَ مِن الله فلا
تيأس.
وإذا رجوتَ الله، ورجوتَ الجنَّةَ، ورجوتَ أن الله يرحمَكَ؛ فلا تأمَن مَكَرَ
اللِه، فلا تقل: سيُغفر لي، قطعًا أنا في الجنة ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ
فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 99]، بل
تخاف مِن أعمالك لأنَّ فيها تقصيرٌ ونقصٌ، قد لا تُقبَل بسببِ تقصيرك وإساءتك.
أيضًا قد يأتيكَ الشَّيطانُ فتغترَّ بعمَلِكَ وتزهو، وتمنُّ على الله بعمَلِكَ،
وهذا أيضًا من أسبابِ ردِّ العملِ.
ثالثًا: قد يُقلِّبُ الله قلبكَ فتنقلِبَ على عقبيكَ، فلهذا كانَ أكثر دعاء
النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ
قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»[98]، فالأسبابُ كثيرةٌ، والواحدُ يسألُ ربَّه الثَّباتَ.
كيف يكون تعامله في الأمن والإياس؟
بأن يخافَ ويرجو، فلا يأمنَ مكرَ الله، ولا يقنُطَ مِن رحمةِ الله، فيجمع بينَ
الخوفِ والرَّجاءِ، ولهذا قال العلماء: "الخوفُ والرَّجاء للمؤمِن كجناحِ
الطَّائرِ، إذا استويتا تمَّ الطَّيرانُ، وإذا ضعُفَ أحدهما ضعُفَ الطَّيران جدًّا،
وإذا ذهبا سقطَ الطَّائر"؛ وهكذا المؤمِن في مسيرته إلى ربِّه يخافُ مِن اللهِ
ويرجو رحمَتَه، ولهذا وَصَفَ اللهُ الأنبياء والأولياء والصَّالحين بهذا
﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبً﴾ [الأنبياء: 90]، فهذا مدح لهم، وهكذا في سورة
الزمر ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ
الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ [الزمر: 9]، فجَمَعَ بينَ الخوفِ
والرَّجاءِ، وفي سورة الإسراء ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى
رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ
عَذَابَهُ﴾ [الإسراء: 57]، وهذا كثير في القرآن.
فلابدَّ أن تجمعَ بينَ الخوفِ والرَّجاءِ والمحبَّة لله -عزَّ وجلَّ.
أما مَن يقول: إنَّ هذه مقامات ضعيفة، ويكفي الحب لله؛ فهذا كلام الصُّوفية
الضُّلَّال، وهذا كلامٌ فاسدٌ، وطعنٌ على الأنبياءِ، واتِّهامٌ لهم بالنَّقصِ، وهذا
طعنٌ في كتابِ اللهِ، ولهذا قالَ بعضُ العلماء: "مَن عبد الله بالحبِّ وحدَه فهو
زنديقٌ"، يشير إلى هؤلاء الذي يتنقَّصونَ أنبياءَ الله، ويتنقَّصونَ المؤمنينَ مِن
الصَّحابَة ومِن التَّابعينَ لهم بإحسانٍ.
ولهذا قال هنا: (وَالْأَمْنُ وَالْإِيَاسُ يَنْقُلَانِ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ)،
يعني إذا قلتَ: أنا آمن لا يمكن أن أدخلَ النَّارَ، أنا متأكدٌ أنني في الجنَّة...،
كيف ذلك؟!
والعكس هو الإياس، أن تقول: أنا لن يُغفر لي.
هذا كلُّه ينقِلُكَ عن ملَّةِ الإسلامِ.
قال: (وَسَبِيلُ الْحَقِّ بَيْنَهُمَا لِأَهْلِ الْقِبْلَةِ).
مَن هم أهلُ القبلَة؟
هم أهل الإسلام.
ما هو سبيل الحق؟
الجمع بين الخوف والرجاء.
{(وَلَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ
فِيهِ)}.
قوله: (وَلَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الْإِيمَانِ).
متى يخرج العبد من الإيمان؟
إذا وقعَ في المكفِّرات المخرِجَة مِن ملَّةِ الإسلامِ، لكن المؤلف قصَرَها على
واحدٍ مِن هذه المكفِّرات، وهو الجحود -أي التَّكذيب.
وهناك فرقٌ لطيفٌ بينَ الجحودِ والتَّكذيبِ:
الجحودُ: أن يجحدَ حتى لو لم يعتَقِد كذبه، فيردُّ الحقَّ، ويردُّ كلام الله،
ويردُّ الرِّسالَة، حتى لو عَلِمَ أنَّه حقٌّ. فهذا جاحِدٌ.
والتَّكذيب: أن يقول: هو كذاب.
والحقيقة -يا إخواني الكرام- أنَّ هذه الجملة (وَلَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ
الْإِيمَانِ إِلَّا بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ) قَصَرَ المؤلِّفُ التَّكفِيرَ
على مسألةِ الجحودِ، ولكن هناك موجباتُ تكفيرٍ أخرى غير الجحود، مثل الشَّكِّ في
الدِّين، الشَّكِّ في اليومِ الآخرِ، والشَّكِّ في اللهِ، وهذا مذكور أيضًا في
القرآن في سورة الكهف، وكذلك الاستكبار والإباء عن الطاعة وعن الإسلام، وكذلك
الإعراض، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ﴾ [النحل:
2]، وكذلك لو سبَّ الله ورسولَه حتى لو قال: الدِّين حقٌّ، وأنا لا أجحد شيئًا، وأن
مقر؛ وأخذ يسبُّ الله ورسوله، فهذا يعتبر خارجًا من الإيمان ومن الإسلام.
وأيضًا الاستهزاء بالدِّين، وأيضًا لو قال: إنَّ أحدًا مِن النَّاس يسَعه الخروج عن
شريعة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أو دعا غيرَ الله، واستغاثَ بالأمواتِ وذبحَ
لهم، وطافَ بأضرحتِهم، وتقرَّبَ إليهم بالذَّبحِ والنَّذرِ؛ فهذا مخرجٌ عن ملَّة
الإسلام كما دلَّت على ذلك الأحاديث والآيات، وكذلك لو تركَ الصَّلاة، فالنَّبيُّ
-صلى الله عليه وسلم- أخبرَ أنَّ تاركَ الصَّلاةِ كافرٌ.
لهذا قوله -رحمه الله- هنا (وَلَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا
بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ)، اعتبر أنَّ الحجودَ واحدٌ فقط، والمؤاخَذةُ هنا
واضحة، والمؤلِّفُ -رحمه الله- وافقَ مُرجِئةَ الفقهاءِ، المُرجِئَة يقولون:
الإيمان هو التَّصديق، وضِدُّ التَّصديقِ التَّكذيبُ والجحودُ، فلا يكونُ الكفرُ
إلا بالجحودِ؛ بناءً على مذهبهم في مَسألةِ الإيمانِ.
وهذا غلطٌ -كما تقدم- ونُنبِّه عليه حتى لا يقعَ فيه أحدٌ مِن إخوانِنا، فنواقضُ
الإسلامِ كثيرةٌ -نسألُ الله أن يثبتنا على الإسلامِ- وكُتبُ الفقهاءُ في المذاهب
الأربعة نصَّت على هذه النَّواقض، فهي ليست مقصورةٌ على الجحودِ أو التَّكذيبِ،
فهناك نواقض تكون بالأعمالِ، كالسُّجودِ للصَّنمِ، ووَطئِ المصحَفِ، والاستهزاءِ
بالقولِ أو بالفعلِ، فهناكَ نواقضٌ بالعملِ، ونواقضٌ بالقولِ، ونواقضٌ بالاعتقادِ،
فيا مُقلِّبَ القلوبِ ثَبت قلوبَنا على دِينكَ.
والمؤمنُ يحافظُ على إيمانِه مِن أي ناقضٍ، وحتى مِن أي نقصٍ، ويحرصُ على الإيمانِ
والثَّباتِ عليه، ويحرصُ على أسبابِ زيادَته، ويبتعدُ عن أسبابِ نقصَانِه، فما بالك
بالأمورِ التي تنقض الإيمان! فيجبُ أن يحذرَ منها أشدَّ الحذر، وهذا لا يتأتَّي إلا
بالعلمِ النَّافعِ، والعملِ الصَّالحِ. نسألُ اللَه أن يُثبِّتَنا على الإيمانِ
والسُّنَّةِ، وأن يُعلِّمَنا مَا ينفعَنا، وأن ينفَعَنَا بِما عَلَّمَنا، إنَّه
سميعٌ مجيبُ الدُّعاِء.
وبهذا نكونُ قد وَصَلنَا إلى نهايةِ الفقرَةِ الأخيرةِ مِن الفقَرات، ثمَّ الموضوع
القادم في الدَّرسِ القادم -إن شَاء الله تَعَالى.
وفَّقَ اللهُ الجميعَ لكلِّ خيرٍ، وصلَّى الله على نبيِّنا محمد، ونستودعُكم الله،
والسَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
--------------------------
[81] صحيح البخاري (381).
[82] مسند أحمد (5750).
[83] صحيح البخاري (3117).
[84] صحيح البخاري (3117).
[85] مسند أحمد (21602).
[86] مسند أحمد (21625).
[87] صحيح البخاري (5569).
[88] مسند أحمد (22334).
[89] صحيح مسلم (4938).
[90] صحيح البخاري (4957).
[91] صحيح البخاري (6302).
[92] رواه ابن حزم في المحلى (9: 434)، وابن الملقن في البدر المنير (9: 617)،
وضعفه ابن عثيمين في شرح بلوغ المرام (6: 188).
[93] مسند أحمد (1608).
[94] مسند أحمد (11565).
[95] سنن أبي داود (4257)، وصححه الألباني.
[96] جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله
عليه وآله وسلم - قَالَ: «غُفِرَ لِامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى
رَأْسِ رَكِيٍّ يَلْهَثُ، قَالَ: كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ فَنَزَعَتْ خُفَّهَا
فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا فَنَزَعَتْ لَهُ مِنَ الْمَاءِ فَغُفِرَ لَهَا
بِذَلِكَ» صحيح البخاري (3094).
[97] صحيح البخاري (6024).
[98] رواه البخاري في الأدب المفرد (681).
سلاسل أخرى للشيخ
-
12803 18
-
16750 9
-
34826 6
-
3050 13
-
3132 12
-
4154 11
-
5557 12