الدرس الثامن

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

5557 12
الدرس الثامن

العقيدة الطحاوية (2)

بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله رَبِّ العَالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى أَشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حيَّاكم اللهُ أَيُّها الإخوة الكِرام في هذا الدرس مِن دُروسِ العَقيدةِ الطَّحاوية، نسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يُعلمنا وإِيَّاكم وَسَائِرَ إخواننا المسلمين ما ينفعنا في ديننا، إنه سميع مجيب الدعاء.
نبدأ الآن -أيُّها الإخوة- بقراءة المتن.
{بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمشاهدين والحاضرين.
قال المصنفُ -رحمه الله: (وَالْإِيمَانُ هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، وَنُصَدِّقُهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى مَا جَاؤوا بِهِ.
وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّارِ، لَا يُخَلَّدُونَ؛ إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ)
}.
يقول -رحمه الله تعالى: (وَالْإِيمَانُ هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى. وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، وَنُصَدِّقُهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى مَا جَاؤوا بِهِ).
الإيمان هو: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ؛ هذه أركان الإيمان، وقد ذكرها النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لمَّا سَأَلَه جِبريلُ -عليه السَّلام- عن الإيمان، فَأَجَابَه النَّبي -صلَّى الله عليه وسلم- بهذا، وهو ذكرُ أركان الإيمان السِّتَّة، فهذا هو الإيمان مِن جِهة مَا يُؤمن به العبد، فيؤمن بالله ربًّا وخالقًا، وإلهً معبودًا، ويؤمن بأسمائه وصفاته، يُخلص له العبادة، ويتعلَّق به وحده لا شريك له، يَعبده ويَستعينُ به وَيَلجَأُ إليه، ولا يَعبدُ غَيرَه، ولا يَستعينُ بغيرهِ، وَهَكَذَا سائر ما يتضمَّنه الإيمان بالله، فهو يتضمَّن الإيمان بالألوهيَّة والرُّبوبيَّة، والأسماء والصَّفاتِ، ويدخل في ذلك مَعانٍ عَظيمة كثيرة مذكورة في الكتاب والسنَّة.
والإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقدر خيره وشرِّه؛ كل هذه أركان الإيمان السِّتَّة يجب على المؤمن أن يُؤمنَ بها، ومَن أنكرَ واحدًا منها فَقد كَفَرَ، وليس بمسلمٍ ولا بمؤمنٍ، فمَن كَّذَّبَ بالقدرِ أو كذَّبَ باليومِ الآخر وأنكرَ البَّعثَ بَعدَ الموتِ، أو كذَّبَ بالملائكة، أو كذَّبَ بالرُّسل، أو كذَّبَ بالكتب؛ فهذا كافرٌ بالله العظيم؛ فيجب على المؤمن أن يؤمن بهذه الأركان السِّتَّة على ما وُضِّحَ في كتاب الله، وفي سنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم.
وقول المصنف: (وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى).
القدر: الأمور المُقدَّرة، وهي كل ما كَتَبَهُ اللهُ في اللوح المحفوظ ممَّا يجري على العبادِ، فكلُّ الأمور التي تجري على العباد مكتوبة مُقدَّرة، وقعت بمشيئة الله وخلقه، فهذه الأمور التي تقع للعباد:
-       منها ما هو خير بالنِّسبة لهم.
-       ومنها ما هو شرٌّ لهم.
-       ومنها ما هو حلوٌ بالنِّسبَةِ لهم.
-       ومنها ما هو مرٌّ بالنِّسبَةِ لهم؛ ولكن من جِهة فعلِ الله -سبحانه وتعالى- وتقديره فالله -عزَّ وجلَّ- كلُّ أفعاله خير كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ»[113].
فكلُّ ما يُقَدِّرُه الله -عزَّ وجلَّ- ويَقْضِيهُ فهو لحكمةٍ بالغةٍ، حتى لو كان فيه ضررٌ أو شَرٌّ على بعضِ النَّاس، فَمِن جِهَةِ فِعلِ الرَبِّ -سبحانه وتعالى- فَأفعَالُه كلها حِكْمَةٌ بالغةٌ، يفعل ما يشاء ويحكمُ ما يريد، لا مُعقِّبَ لحكمه ولا رادَّ لقضائه، فهو الذي يُدبِّر أمرَ الكون، وكل ما يفعله ربنا -سبحانه وتعالى- لحكمةٍ عظيمةٍ، حتى ما يقع للعباد من بعض الشُّرور، مثل خلق إبليس، ووجود الكفار وخلقهم، ونحو ذلك من الأمور التي هي شَرٌ، وبيَّنَ القرآن وبيَّنت السُّنَّة أنَّها شرٌّ، فالشَّيطان شرٌّ، وإبليسُ شرٌّ، والكفارُ شرٌّ، ولكن الله -عزَّ وجلَّ- لحكمةٍ بالغةٍ قَضَى ذَلِكَ وَقَدَّره.
فَمِن جِهة فِعل الرَّبِّ فنقول كما قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ»[114].
ومِن جهة المفعولات المقضيات المقدَّرات التي تقع: فمنها بالنِّسبة لنا وللعباد منها ما هو خير، ومنها ما هو شر، فكل ما يقع لنا وللعباد من خير أو شر فهو بقدر الله، وبقضاء الله -سبحانه وتعالى.
هذا معنى قوله: (وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى).
ثم نقول كذلك في بقيَّة أركان الإيمان: يجبُ الإيمان بكل ما وَرَدَ في الكِتَابِ وَالسُّنةِ، يعني: التَّفاصيل هذه مذكورة في كتاب الله -عزَّ وجلَّ- قال: (وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ).
ثمَّ عقَّبَ على واحدٍ منها وهو: (وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، وَنُصَدِّقُهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى مَا جَاؤوا بِهِ) هذا مثلما قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا * أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينً﴾ [النساء:150-151].
وهذا مُكرَّرٌ في القُرآن في مَواضع، مِثلَ: آخِرَ آيتين في سورة البقرة: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285].
مَن الذي فرَّقَ بين الرسل؟
الجواب: الكفار، مثل: اليهود والنَّصارى، فاليهود آمنوا بموسى -عليه السَّلام- وكفروا بعيسى وبمحمدٍ -عليهما الصَّلاة والسَّلام- والنَّصارى آمنوا بموسى وعيسى وكفروا بمحمدٍ -عليه الصَّلاة والسَّلام- فهؤلاء كفَّار لأنَّهم كَذَّبُوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم.
ولهذا في القرآن يقول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء:105]، ما قال: "كذبت قومُ نوحٍ نوحًا"، فجعل تكذيبهم لنوحٍ تكذيبًا لجميع الرسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام.
ولهذا لا يجوزُ لأحدٍ بعدَ مبعث النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يدخلَ في دينِ النَّبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- فَمَن لَم يُؤمن بالنَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فَهو كَافرٌ، وَهُو ممَّن فرَّقَ بينَ اللهِ وَرُسُلِه، فآمنَ ببعضٍ وكفرَ ببعضٍ، فالإسلام نسخَ جميعَ الأديانِ، وَرَفَعَ حُكمُها، فلا يجوزُ التَّديُّن ولا التَّعبُّد بدينٍ غيرِ دينِ الإسلام، قال الله تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19]، وقال النَّبي -صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»[115].
إذن إِذَا بِلَغَتْ دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى أيِّ يهوديٍّ أو نصرانيٍّ فالواجب عليه أن يَدخُل فِي دِينِ محمدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم- وأن يتعلَّم ويبحثَ عن الحقِّ حتى يَدخلَ في دين الإسلام؛ لأنَّه هو الدِّينُ الحقُّ، وما سواه فهو باطلٌ.
فالأديان الموجودة التي وُرثت عن الأديانِ الصَّحيحة مُحرَّفة، فاليهود كانوا على دينٍ صحيح لما بُعثَ موسى، ثمَّ دخلَ هذا الدَّين التَّحريفُ والتَّبديلُ والتَّغييرُ، ثم بَعَثَ اللهُ عِيسى وكانوا على دينٍ حقٍّ، وعلى شريعةٍ حقَّة، ثم دخلَها التَّحريفُ والتَّبديلُ، ثم جاءت فَترةٌ مِنَ الرُّسل، ثم بعثَ الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- خاتَم الأنبياء والمرسلين على فترةٍ من الرُّسلِ، فوجبَ على جميعِ الخلقِ -جنِّهم وإنسهم، عربهم وعجمهم، ذكرهم وأنثاهم- أن يدخلوا في دين محمد -صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158].
إذن الدَّعوة إلى التَّقارب بين الأديانِ -أو الدَّعوة إلى وحدة الأديان- هذه مناقِضَة للإسلام، ومناقِضَة للقرآن، وهذه معاندة للرَّسول -صلى الله عليه وسلم- ومحادَّة لدين الله، فلا يجوزُ أن نقول: يتقارب المسلم مع الكافر في العقيدة، فالعقيدة الحقَّة هي التي في القرآن وفي السُّنَّة، فلا يجوزُ أن نتنازل عن شيءٍ منها حتى نقرب من الأديان الأخرى، فلسنا في شكٍّ -ولله الحمد- قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 104].
وكذلك الدَّعوة إلى وحدةِ الأديانِ هذه أقبح وأخبث، ولها دعاتها، ويريدون أن يكون دينًا واحدًا مخلوطًا، يأخذون شيئًا مِن الإسلام، وشيئًا من اليهوديَّة، وشيئًا من النَّصرانيَّة! وهؤلاء لا شكَّ أنَّهم كُفَّار وملاحدة ومُكذِّبون، فَهُمْ كَذَّبوا بالرُّسُلِ، وَكَذَّبُوا بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم.
هذا التَّعليق على قوله: (وَنُصَدِّقُهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى مَا جَاؤوا بِهِ).
أضف إلى هذا أمرًا مهمًّا وهو: أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- بيَّنَ في القرآن أنَّه أخذَ على كل نبيٍّ الميثاق إن بُعثَ محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- وهو حي أن يتَّبع محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَن تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ [آل عمران: 81].
ولهذا لمَّا رأى النَّبي -صلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ- صحيفة من التَّوراة في يد عمر فقال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا ، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتْبَعَنِي‏»[116]، وأيضًا إذا نزلَ عيسى بن مريم في آخر الزَّمان فإنَّه يُصَلِّي خَلفَ إمام المسلمين، ويتَّبع شريعة النَّبي الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- وحتى الصَّلاة لا يتقدَّمها تكرمةٌ لنبيِّنا ولهذه الأمَّة، اللهمَّ صلِّ على نبيِّنا محمد، وصلِّ على عيسى بن مريم.
هذا هو الحق، وهذا هو الدِّين، فما يدعو إليه بعض الزَّنادقة مِن وحدةِ الأديانِ هذا مضادٌّ لِمَا سمعتم مِن هذه الآيات وهذا الأحاديث.
ننتقل للجملة التي بعد هذا.
{(وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّارِ، لَا يُخَلَّدُونَ؛ إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ، بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ عَارِفِينَ مؤمنين، وَهُمْ فِي مَشِيئَتِهِ وَحُكْمِهِ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ بِفَضْلِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:48]، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ فِي النَّارِ - بِقَدْرِ جِنَايَتِهِمْ- بِعَدْلِهِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ، وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ، ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ؛ وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ،وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ كَأَهْلِ نُكْرَتِهِ الَّذِينَ خَابُوا مِنْ هِدَايَتِهِ وَلَمْ يَنَالُوا مِنْ وَلَايَتِهِ. اللَّهُمَّ يَا وَلِيَّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ ثَبِّتْنَاعَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى نَلْقَاكَ بِهِ)}.
هذه المسألة العظيمة متعلِّقة بالإيمان، وهي: حُكُمُ أَهل الكبائر.
أولًا: مَن هم أهل الكبائر؟
الكبائر: جمع كبيرة، والكبيرة: هو الذَّنب الكبير.
فالذنب ينقسم إلى:
- ذنب كبير.
- ذنب صغير.
فالذَّنب الكبير: يُقال عنه كبيرة من كبائر الذنوب.
والصَّغير: هو الصَّغيرة من الذنوب.
هذا هو الحق، وهذا هو ما دلَّ عليه القرآن ودلَّت عليه السنَّة، أمَّا القرآن فقد قال الله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمً﴾ [النساء: 31]، فهنا ذكرَ الله -عزَّ وجلَّ- الكبائر التي نُهينا عنها، فما نهينا عنه فيه كبائر وفيه ما دون الكبائر وهي الصَّغائر، وهذه الآية دليلٌ على التَّفريق بين الكبائر والصَّغائر.
ما الجزاء إذا اتَّقى المسلم الكبائر وابتعد عنها؟
يُكفِّر الله الصَّغائر، ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمً﴾ ، وهذه من آيات الرَّجاء، وهذا من واسع فضل الله -عزَّ وجلَّ.
كذلك ممَّا يدلُّ على التَّفريق بين الكبائر والصَّغائر آية سورة النَّجم ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ [النجم: 32]، مفهوم الآية أنَّ الإثم منه ما فيه كبائر، وفيه ما هو صغائر، فهذا دليل على التَّفريق.
ما هي الكبيرة؟
اختلفت عبارات السَّلفِ والعلماءِ في بيانِ معنى الكبيرة على أقوالٍ كثيرةٍ، فذكر العلماءُ مِن أصحابِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ومَن بعدهم في تعريفها عدَّة أمور، منها:
- أنَّ الكبيرة: ما رُتِّبَ عليه غضبٌ أو لعنةٌ، أو نارٌ، أو تُبرِّئَ من صاحبها، أو رُتِّبَ عليه حدٌّ مِن الحدود في الدُّنيا.
- وقيل: ما رُتِّبَ عليه وعيدٌ خاصٌّ، وهذا فيه توسُّع.
وبعضهم قال: الكبائر سبع.
- وبعضهم قال: إلى السَّبعين أقرب منها إلى السَّبعِ.
والذي قال: الكبائر سبع؛ أخذها من قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ»[117].
فالنَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لما قال: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ» هل معنى هذا أنَّ الكبائر سبع؟
الجواب: لا، بل هي إلى السبعين أو أكثر من السبعين، فكلُّ ما رُتِّبَ عليه حدٌّ في الدُّنيا ووعيد في الآخرة؛ فإنَّه من الكبائر.
ومِن الكبائر ممَّا لم يُذكَر في السَّبعِ: السَّرقة، فهي مِن الكبائر، وكذلك الزِّنَا لم يُذكر في الحديث وهو من الكبائر، وكذلك شرب الخمر لم يُذكر في الحديث وهو من الكبائر، والغِيبة لم تُذكر في الحديث وهي من الكبائر، والنَّميمة كذلك، فالنَّمَّام يُعذَّب في قبره، وكذلك الذي لا يستنزه مِن البول عندما يبول، فلا يُبالي إذا قطرَ على ثوبه، ولا يتبرَّأ منه ولا يستنزه منه فإنه يُعذَّب في قبره، وهذا دليل على أنَّ هذا الفعل من الكبائر، كذلك مَن يبخل بالزَّكاة فإنَّ هذا من الكبائر.
والكبائر كثيرة، وقد أُلِّفَت فيها مؤلَّفات، منها:
-      كتاب الكبائر للذَّهبي.
-      ومن الكتب المعاصرة كتاب "تطهير المجتمعات من الدَّنس والكبائر والموبقات" للشيخ أحمد بن حجر البنعلي آل بوطامي -رحمه الله- وهذا كتاب جيد، جمع فيه عددًا من الكبائر، وذكر أدلتها، وحذَّرَ المسلمين من الوقوع فيها.
فهذا خلاصة تعريف الكبيرة.
والصَّغيرة: هي كل ما عدا الكبيرة، وهي ما لم يثبت فيها وعيدٌ خاصٌّ من حدٍّ في الدُّنيا أو وعيدٍ في الآخرةِ.
هل معنى هذا أنَّ المؤمن يتساهل في الصَّغائر؟
الجواب: لا، لا يجوز التَّساهل في الصَّغائر، فإنَّهنَّ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث عبد الله بن مسعود: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ».
محقرات: جمع محقَّر -أو محقَّرة- يعني الذنب الذي يحتقره فيراه خفيفًا وحقيرًا وليس كبيرًا.
فقال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ»، ثُمَّ ضَرَبَ لذلك النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مثلاً فقال: «كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ»[118]، فهذه النَّارُ الشَّديدة أحرقت وأنضجت الطعام.
معنى هذا: أنَّ الإنسان يُذنب ذنبًا وهو لا يشعر، ويقول: هذا خفيفٌ، وهذا بسيطٌ، أو هذا حقيرٌ. ولا يَدري أنَّ اللهَ يُحصي عليه كُلَّ شَيءٍ!
ولهذا يجب على المؤمن أن يَحذَرَ مِن الكبائرَ ومِنَ الصَّغائِرَ، «فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ»[119] كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم.
هل الإصرار على الصغيرة يُصيُّرها كبيرة؟
قال بعض العلماء: إنَّ الإصرارَ على الصَّغيرة يُصيُّرها كبيرة، ولكن الظَّاهر من الأدلَّة -والله تعالى أعلم- أنَّ الصَّغيرةَ تبقى صغيرة، والإصرار عليها ذنبٌ آخر، وتَكرار للذَّنبِ، لكن لا يرتفع حكم كونها صغيرة، بل تبقى صغيرة، فالإصرار عليها لا يُصيُّرها كبيرة، وإنَّما يزيد الإثم بالتَّكرارِ وبالبقاء على هذه الصغيرة.
فالواجب على المسلم أن يحذرَ مِن الإصرارِ على الذُّنوب، قال الله تعالى في وصف المؤمنين: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135].
هل المؤمن لا يرتكب كبيرة أو لا يُذنب؟
لا نقول: إنَّ المؤمن من شأنه ألا يُذنب أو أنَّه لا يرتكب كبيرة؛ بل الذُّنوب تقع من المؤمن، قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»[120].
ولكن -أيُّها الإخوة الكرام- المؤمن من شأنه أنَّه يُبادِر إلى التَّوبة، فإذا وقعَ في الذَّنبِ يُبادر إلى الإقلاع، وإلى النَّدمِ، وإلى التَّوبة، ويعزم ألا يعود.
فهذه هي التَّوبة: يندم، ويُقلع عن الذَّنب، ويعزم ألا يعود إليه، وإذا كان متعلِّقًا بحقٍّ يَردُّ الحقوقَ إلى أصحابها، مع الإخلاص والصِّدق في هذا. فهذه هي التَّوبة النَّصوح، ويعمل الأعمال الصَّالحة حتى تُكفَّر عنه الذُّنوب التي سلفت.
فيا إخواني الكرام! يجب علينا أنْ نستغفرَ الله ونتوبَ إليه دائمًا، فإنَّنا نقع في الذُّنوبِ ونحن لا نشعر، نقع في ذنوبٍ خفيَّةٍ في القلبِ، فقد يقعُ في قلوبنا شيء مثل: قِلَّةُ التَّوكُّلِ، أو الجزَع، أو الطَّمع، أو قد يقع في قلبِ أحدٍ الحسدُ، أو يغل قلبُه على أحدٍ من المسلمين، أو لا يكون سليم الصَّدرِ تجاهه، أو يظنُّ ظنَّ السُّوء، فهذه ذنوب خفيَّة، وقد يغترُّ بعمله، وقد يُرائي وهو لا يشعر، والله -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المجادلة: 6].
وهناك ذنوب تقع باللسان، وقد لا يشعر الإنسان بها، ولهذا وصفَ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- هذا فقال: «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ!»[121].
هل تعرف الحصَّادة التي تحصد الزَّرع؟
كانوا يحصدون الزَّرع بأيديهم وبالحصَّادات، فهذا اللسانُ يتكلَّمُ في اليوم والليلة بكلامٍ كثير جدًّا في التَّعاملات، وفي الأهل، وفي الجيران، وفي النَّاس، وفي الأصدقاء، فما عدد هذه الكلمات؟
الله أعلم! فهي كثيرة جدًّا، وكثيرٌ من هذه الكلمات قد تكون غير موزونة، وفي غير محلِّها، وقد تكون آثمة، ولهذا يُكبُّ الإنسان على وجههِ في النَّارِ بسبب لسانه، «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ!».
الجوارح أيضًا قد يقع منها ما قد يقع، كالضَّربِ، والمشيِ إلى الشَّيء المحرَّم، أو الحركة باليد، حتى الجوالات -نسألُ الله أن يعوف عنَّا- والأشياء التي نطلبها ونبحث عنها، فالإنسان يُحاسِب نفسَه ويستغفر ربَّه، ويُجدِّد التَّوبة، والله يتوب على مَن يشاء.
عرفنا الآن تعريف الكبيرة وتعريف الصَّغيرة، وأنَّ الإصرار على الصَّغيرة لا يُصيُّرها كبيرة، وإنَّما تبقى صغيرة، وإنَّما الإصرارُ إثمٌ على إثمٍ، وتَكرارٌ للإثمِ -نسألُ الله أن يعفو عنَّا وعن جميع المسلمين.
المسألة العظيمة التي تتعلَّق بالموضوع، قال: (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّارِ، لَا يُخَلَّدُونَ؛ إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ).
هذه المسألة العظيمة هي: إذا ماتَ المسلم وهو مرتكبٌ للكبيرة وباقٍ عليها ولم يتب منها، ولقيَ الله على هذه الكبيرة. ما حكمه؟
هذه المسألة اختلفت فيها الطَّوائف، والقولُ الحقُّ هو ما ذكره الطَّحاوي -رحمه الله- أنَّهم لا يُخلَّدون في النَّار، وأنَّهم تحت مشيئة الله، إن شاء الله -عزَّ وجلَّ- عذَّبهم بسببِ ذنوبهم وكبائرهم، وإن عُذِّبوا لا يُخلَّدون في النَّار، وإن شاء الله -عزَّ وجلَّ- عفا عنهم من أوَّلِ وهلةٍ ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ [النساء: 116].
هذا البحثُ وهذا النَّظرُ وهذه الدِّراسةُ في مسألة مُرتكبِ الكبيرة إذا ماتَ عليها من غيرِ توبة، إمَّا إذا ماتَ وقد تابَ؛ فكلُّ الطوائف متَّفقة على أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يقبل توبة التَّائبين، فلم يختلف في ذلك لا الخوارج ولا المعتزلة ولا غيرهم، ولكن البحث عندما تكون المسألة في حال المسلم إذا لقيَ اللهَ على كبيرة ولم يتب منها.
ولذا قال: (إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ)، وهذا هو المذهبُ الحقُّ، وهذا مذهبُ أهلِ السُّنَّة والجماعة، وهذا ما دلَّ عليه القرآن ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ [النساء:116]، المغفرة تكون لمَن فعلَ ما دون الشِّرك، أمَّا مَن لقيَ الله وهو مشرك فهذا لا يُغفَر له، وهذا مخلَّدٌ في النَّار -نسألُ اللهَ العافيةَ والسَّلامة- وهذا يدلُّكَ على خطر الشِّركِ، ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به﴾ .
أمَّا ما دونَ الشِّرك -يعني الذُّنوب- ككبائرِ الذُّنوب، فهذه تحت المشيئة ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ .
إذن هناك مَن يُغفر له، وهناك مَن لا يُغفر له؛ لأنَّ هذا معلَّق بمشيئة الله -سبحانه وتعالى- فإن شاء عفا عنهم بفضله ورحمته، وإن شاء عذَّبهم بعدله، و ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً﴾ [الكهف: 49]، وإن عُذِّبوا فإنَّهم لا يُخلَّدون في النار.
مرَّ معنا حديث عبادة بن الصامت، وهو ممَّن بايَع وشهد العقبة الثانية، قال: "بَايَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الأُولَى عَلَى أَنْ لا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا نَسْرِقَ، وَلا نَزْنِيَ، وَلا نَقْتُلَ أَوْلادَنَا،..." إلى آخره. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ»، يعني: الحدود، فإذا أصابَ حدًّا مثل السَّرقة والزنا فأقيم عليه الحد، قال: «وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَسَتَرَهُ اللَّهُ» أي: لم يعاقب «فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ»[122]
وهذا الحديث في البخاري ومسلم، وغيرهما.
وهذا يدلُّكَ على ما قاله أهل السُّنَّة والجماعة مِن أنَّ أهلَ الكبائر تحتَ مشيئة الله، ويدلُّ على هذا أحاديث الشَّفاعة، وهي كثيرة جدًّا، فجاءت الأحاديث عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يشفِّعه في قومٍ دخلوا النَّار، فيخرجهم الله -عزَّ وجلَّ- من النَّار بشفاعةِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فيدخلون الجنَّة، وهذا يدلُّ على أنَّ أهل الكبائر منهم مَن يدخل النَّار.
المخالفون من أهل البدع -الخوارج والمعتزلة- يقولون عن أهل الكبائر: إنَّهم مخلَّدون في النَّار.
فيُسوُّون بينهم وبينَ الكفَّار، فحكمهم مثل حكم الكفَّار عند الخوارج والمعتزلة، وهذا ضلال عظيم، الله -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم:35]، فكيف يُساوى بين الموحد وبين الكافر المجوسي والمشرك الوثني، والنَّصراني المكذِّب للنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم؟!
لا والله! ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: 28].
فهذا -أيُّها الإخوة الكرام- فيما يتعلَّق بمَن ماتَ على غير التَّوبة.
هناك قول فاسد للمرجئة، يقولون: يجوز أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يُدخل جميع أفراد أمَّة محمد الجنَّة ولا يُدخلهم النَّار إطلاقًا، وذلك من قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ [النساء:116]، فهذا دليلٌ على أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يجوز له أن يتجاوز عن جميعِ الأمَّة.
ونحن من باب التَّنبيه على هذا الغلط نقول: إنَّ الأحاديث صحَّت عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في أنَّه رأى أقوامًا مِن أمَّة محمد في النَّار. فكيف يُقال هذا!
فمن بابِ النَّظرِ إلى قدرة الله فإنَّ الله على كلِّ شيءٍ قديرٌ، ولكن من بابِ النَّظرِ في النُّصوصِ وفيما أخبر الله، وبما أخبرَ رسوله -صلى الله عليه وسلم- فلا يكون خبرُ الرَّسولِ إلا حقًّا وصدقًا وواقعًا كما أخبر -عليه الصَّلاة والسَّلام- فهو قد رأى أقوامًا مِن أهلِ الكبائر يُعذَّبون في النَّار، فكيف يُزعَم أنَّه من الجائز أن يتجاوز عنهم ويغفر لهم؟!
هذا معناه عدم قبول هذه الأحاديث، وعدم الإيمان بما أخبرَ به النَّبي -صلى الله عليه وسلم- من أنَّ جماعةً من هذه الأمَّة يدخلون النَّار.
ولهذا فإنَّ هذا القول مِن أغلاط المُرجئة، وهذا القول مشهورٌ عند بعض الأشاعرة أيضًا. وفي مقابل قول الخوارج والمعتزلة يأتي هذا القول الفاسد أيضًا.
فالمقصود أنَّ القول الحق: أنَّ أهلَ الكبائر المرتكبون للذُّنوب مِن أهلِ التَّوحيد مِن أهل الإسلام إذا ماتوا مِن غير توبة فإنَّهم تحت مشيئة الله، إن شاء الله عذَّبهم وإن شاء عفا عنهم، وإن عُذِّبوا فإنَّهم لا يُخلَّدونَ في النَّار؛ بل يكون مآلهم إلى الجنَّة.
أمَّا مَن مات على الشِّرك ولقيَ الله مشركًا، أو ماتَ على الكفرِ ولقيَ اللهَ كافرًا؛ فإنَّه خالدٌ مخلَّدٌ في النَّار ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ [المائدة: 72].
قال: (بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ عَارِفِينَ مؤمنين).
التَّعبير بقوله (عَارِفِينَ) هذا فيه شيءٌ من النَّظر، ولو قال: "بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ موحِّدين" لكان أنسب، يعني: سالمين من الشِّرك؛ لأنَّ الله قال: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء:116]، فإذا سَلِمَ من الشِّرك فقد لحقَ بالجزء الثَّاني من الآية وهو ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾ [النساء: 116]، يعني ما دونَ الشِّركِ، والذي سَلِمَ من الشِّركِ لا يُقال عنه "عارف"، وإنَّما يُقال عنه "موحِّد"، فالتَّعبير بالتَّوحيد هنا أولى؛ لأنَّ التَّوحيد يُقابل الشِّرك، وعلى كلِّ حال هذا مراد المؤلف -رحمه الله.
قال: (وَهُمْ فِي مَشِيئَتِهِ وَحُكْمِهِ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ بِفَضْلِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:116]، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ فِي النَّارِ - بِقَدْرِ جِنَايَتِهِمْ بِعَدْلِهِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ).
لابدَّ أن نقول هذا، إذا عُذِّبوا بعدلِ الله -عزَّ وجلَّ- مقابل ذنوبهم فإنَّهم لا يُخلَّدون في النَّار وإن طال مكثهم فيها -نسأل الله أن يُعيذنا وإياكم وسائر المسلمين من النَّار.
فأهل السُّنَّة يعتقدون أنَّهم حتى لو عُذِّبَ مرتكب الكبيرة بالنَّار بسببِ كبيرته فإنَّه لا يُخلَّدُ في النَّارِ.
قال: (ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ، وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ).
لأنَّ الشَّافعين يوم القيامة أعظمهم محمد -صلى الله عليه وسلم- فهو الشَّافع المشفَّع في المحشَر، ثم الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- يشفَعُون، والصَّالحون مِن عباد الله يشفَعُون، والشُّهداء يشفَعُون، والملائكة يشفَعُون، والأفراط -جمع فَرَط وهو الذي مات دون البلوغ- يشفع لوالديه؛ فكل هؤلاء ثبت في النُّصوص أنَّهم يشفعون لمَن أذن الله -عزَّ وجلَّ.
والشَّفاعة لابدَّ فيها من شرطين:
- إذن الله للشَّافع أن يشفع.
- رضا الله عن المشفوع له.
لأنَّه لا يُمكن لأحد أن يتجرَّأ على الله وأن يبدأ بالشَّفاعة قبل أن يأذن الله له، ولا يمكن لأحد أن يشفع لأحد إلا وقد رضيَ الله قوله وعمله، ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ﴾ [الأنبياء: 28]، وقول: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: 255].
ولهذا فإذا أردنا الحصول على شفاعةِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فإنَّنا نبذل الأسباب التي بيَّنها الرسول -صلى الله عليه وسلم- لنا.
ما هي الأسباب لحصول الشَّفاعة؟
التَّوحيد، قال -عليه الصَّلاة والسَّلام: «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ»[123]، هذا من حديث أبي هريرة في الصَّحيح، وقال: «فَهِيَ نَائِلَةٌ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئً»[124]، فهذا هو شرطُ نيل الشَّفاعة، أمَّا مَن لقي الله مشركًا فإنَّه لا تنفعه شفاعة الشَّافعين، قال تعالى عن الكفار: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ [المدثر: 42-48]، فمَن لقيَ الله مشركًا وكافرًا فإنَّه لا يُشفَعُ فيه، ولا تنفعه شفاعة الشَّافعين.
ومِن أسباب نيلِ شفاعة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم: اتِّباعه والإيمان به، والعمل بسنَّته، وكثرة الصَّلاة والسَّلام عليه، وإجابة المؤذن، فالأذان كلُّ كلماته توحيد، ثم الصَّلاة على النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وسؤال الله له الوسيلة، وغير ذلك ممَّا ورد.
أمَّا مَن يأتي إلى أصحابِ القبور، أو يأتي إلى قبرِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ويستغيث به ويطلب منه الشَّفاعة فقد خالفَ الكتاب والسُّنَّة، وعصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخالفَ طريقةَ الصَّحابة -رضي الله عنهم.
فعلى كل مسلم أن يحذر مِن هذه المسالك، لا تأتي إلى عبادة تفعلها إلا بما دلَّكَ عليه الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- وبما أمرك الله به، والله -عزَّ وجلَّ- لم يأمرك أن تذهب إلى صاحب قبر.
فانتبه إلى هذا! لأنَّ الذِّهاب إلى أصحاب القبور وطلب الشَّفاعة منهم هذا من الشِّرك، فاطلب الشَّفاعة ممَّن يملكها، وهو الله -سبحانه وتعالى.
قال: (ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ، وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ، ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ)، هذا فيمَن دخل النَّار، يُخرَجون من النَّار ثم يُخَلون الجنَّة، وهناك أسباب لرفع العقوبة ومحوها عن المسلم، فالمسلم إذا رتكب الذُّنوب هناك أسباب تمحو هذه الذُّنوب:
السَّبب الأوَّل، وهو أعظم الأسباب: التَّوبة الماحية، التَّوبة الصَّادقة، التَّوبة النَّصوح.
السَّبب الثَّاني: الاستغفار.
السَّبب الثَّالث: الإكثار من الحسناتِ والأعمالِ الصَّالحات، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114]، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَ»[125]، هذه تمحو الذنوب عنك، فأكثر من العمل الصالح لو ارتكبت ذنبًا.
السَّبب الرَّابع: المصائب المكفِّرة، فإذا أصيبَ المسلم بمصيبة فإنَّها تُكفِّر خطاياه كما قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وذلك إذا صبرَ واحتسبَ.
السَّبب الخامس: دعاء المؤمنين، إذا دعا المؤمن وقال: ربنا اغفر لنا والإخواننا، وللمسلمين والمسلمات، اللهم اغفر لأخي...، وهكذا.
السَّبب السَّادس: الصَّدقة عن الميِّت، فإنَّها تنفعه كما أخبر النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم.
السَّبب السَّابع: ما يصيب المؤمن مِن أهوال القبرِ، والأهوالِ التي تكونُ يوم القيامة، وضمَّة القبر، وفتنة القبر؛ كلُّ هذه مِن الأسباب التي يرفع الله بها أثرَ الذَّنب عن المؤمن إذا أصاب شيئًا.
السَّبب الثَّامن: الشَّفاعة التي بيَّنها الله -عزَّ وجلَّ- في كتابه، وهي لا تكون إلا بإذنه ولمَن رضي قوله وعمله.
السَّبب التَّاسع: عفو أرحم الرَّاحمين، فالله -عزَّ وجلَّ- يعفو ويغفر، ولهذا قال: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ [النساء:116]، فنسألُ الله أن يغفر لنا ولجميع إخواننا المسلمين.
قال: (ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ)، جاء في الحديث: «آخر أهل الجنة خروجًا من النار ودخولًا إلى الجنة، رجل طال مكثه في النار، فيخرجون منها وقد صاروا فحمًا، ثمَّ يُلقون عن نهر يُقال له نهر الحياة، فينبتوب كما تنبت الحبة من حمل السيل، ثم يدخلون الجنة»[126]، هؤلاء الموحِّدون الذين دخلوا النَّار، فيكون مآلهم إلى الجنَّة كما صحَّت بذلك الأخبار عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم.
قال الطَّحاوي -رحمه الله: (وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ).
نلاحظ هنا أنَّ المؤلف كرَّرَ لفظ "المعرفة" فقال: (فالعارف، وأهل المعرفة، والعارفون) والأولى أنَّنا نُعبِّر بالتَّعبيرات الشَّرعيَّة، فالتَّوحيد ليس هو المعرفة فقط، فلابدَّ من العلم، ولذلك لو قال: "أهل طاعته" أو "أهل توحيده وعبادته" ونحو ذلك؛ لكان أولى.
قال: (وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ)، يعني أهل الإيمان: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 68]، ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ [الأعراف: 196]، فمِن تولِّي الله للمؤمن -حتى لو كان مذنبًا- أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- إذا قدَّر أن يُعذَّب فإنَّه يُعذبه بقدرِ ذنوبه، ثم يكون مآله إلى الجنَّة.
قال: (وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ كَأَهْلِ نُكْرَتِهِ)، يعني: الكفَّار المنكرين له، أو المكذِّبين له ولرسوله -صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (فِي الدَّارَيْنِ) يعني: في الدنيا وفي الآخرة.
* ففي الدُّنيا قال: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ [القلم: 35]، ولهذا المسلم في الدنيا حتى لو كان عاصيًا له أحكام ليست مثل أحكام الكافر، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا ، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا ، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا ، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ»[127]، فليس هو في الدُّنيا كالكفَّارِ حتى لو كان عاصيًا.
* وفي الآخرة كذلك، إذا قُدِّرَ أنَّ الله يُعذِّبه فإنَّه لا يكون كالكفار.
قال: (وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ كَأَهْلِ نُكْرَتِهِ)، أي: المنكرين المكذبين؛ لأنَّ الله ميَّزَ بين أهل الطاعة والمعصية، وأهل الكفر والإيمان، فليس المؤمنون كالكافرين، وليس المجرمون كالمجرمين ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم:35]، وقال: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية: 21]، وقال: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: 28].
فهذا من الأدلَّة على أنَّ الموحدِّين المرتكبين للذُّنوب لا يُخلَّدون في النَّار، وهذا فيه ردٌّ على طوائف الخوارج والمعتزلة، فبعض الخوارج يقول: إن الله قال: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ [النساء: 116]، هذا في التَّائب.
نقول: لا، الله فرَّق بينهما، والتَّائب حتى من الشِّرك يُغفَر له إن تاب قبل أن يموت، فبعض الصَّحابة كانوا مشركين، ثم آمنوا وتابوا، قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتَوْا الزَّكَاة فَإِخْوَانكُمْ فِي الدِّين﴾ [التوبة: 5]، فلمَّا فرَّق هنا عُلِمَ أنَّ المراد به: مَن لقيَ الله على هذا ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ يعني: إذا لقي الله هكذا، ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾ ، يعني: إذا لقيَ الله بما دون ذلك وسَلِمَ من الشِّرك ولكنَّه عنده ذنوب فهذا تحت المشيئة.
فمَن زعم من الخوارج أنَّ المراد بالآية التَّوبة والتَّائب فقد غلِطَ، فلا يُفرَّق بين مَن كان مشركًا وبين مَن كان دون الشِّرك؛ بل كل مَن تابَ فالله يتوب عليه حتى لو كان مشركًا.
ولهذا فآية التَّائبين في قوله: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعً﴾ [الزمر: 53]، ما فرَّقَ بين الذُّنوب، فهذا في التَّائبين، أما آية النِّساء فهي فيمَن لقيَ الله ومات على غير توبة.
ثم قال: (الَّذِينَ خَابُوا مِنْ هِدَايَتِهِ وَلَمْ يَنَالُوا مِنْ وَلَايَتِهِ).
فالإسلام والإيمان ولاية، فمَن كان مؤمنًا كان وليًّا لله -كما تقدم- ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 62]، فإذا كان عنده إيمان ولو قليل، وإسلام ولو قليل؛ فهذه ولاية، أمَّا الكفار فليس عندهم من هذه الولاية شيء إطلاقًا، فليس عندهم إيمان، وليس عندهم إسلام فهم (الَّذِينَ خَابُوا مِنْ هِدَايَتِهِ وَلَمْ يَنَالُوا مِنْ وَلَايَتِهِ).
ثمَّ ختَم الكلام بهذا الدعاء: (اللَّهُمَّ يَا وَلِيَّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ ثَبِّتْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى نَلْقَاكَ بِهِ).
وهذا من أجمل الدعاء، ومن أحسن الكلام، وهذا من معنى قوله -صلى الله عليه وسلم: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»[128]، فأهل العلم، وأهل الإيمان، طلاب العلم، وعموم المؤمنين، وعموم المسلمين؛ يجب أن يكون عندهم خوف من الله -سبحانه وتعالى- على دينهم وعلى إيمانهم، وأن يجمعوا بينَ الخوفِ والرَّجاء، وأن يخافوا أن يُسلَبَ عنهم الدِّين، فكم من شخصٍ أصبح مؤمنًا ثم أمسى كافرًا -نسأل الله العافية والسَّلامة- لا يقول الإنسان أنا حافظٌ للقرآن، أنا درست العلم، أنا فاهم كذا وكذا...، لا، فهناك مَن انسلَخَ عن الدين ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [المائدة: 27]، نسأل الله العافية والسَّلامة.
فالمؤمن يحرص على سلامة دينه، ويسأل الله الثَّبات، ولهذا قال: (اللَّهُمَّ يَا وَلِيَّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ ثَبِّتْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى نَلْقَاكَ بِهِ).
واليوم ترون الضلالات والفتن والشُّبهات والشَّهوات تحيط بالإنسان، فهو بحاجة إلى تثبيت الله -عزَّ وجلَّ- حتى يلقى الله -عزَّ وجلَّ- على الإسلام «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، يعني: اثبتوا على الإسلام حتى إذا جاءكم الموت تموتون على الدِّينِ وعلى الإسلام.
فالمؤمن يجمع بين الخوف والرجاء، يخاف أن يُسلَبَ عنه الدِّينِ فيثبت عليه ويتمسَّك به، ويرجو فضل الله إذا ثبت على السُّنَّة وعلى طريقة الطائفة المنصورة الذين قال عنهم النبي -صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»[129]، فهناك أناسٌ خالفوا من أهل البدع، وأهل الكفر، وأهل الشِّرك، وهناك مَن خذلوا.
ما معنى خذلوا؟
انتبه للفظ «لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ»، يعني: كان منهم ثم تركهم، وانقلب على عقبيه، ونكص على عقبيه، فكان على الحقِّ ويعرفه، ولكنَّه خذلَ أهلَ الحقِّ -فنسأل الله الثبات- وأن نستمر على طريقة أهل السُّنة والجماعة، وأن نكون ممَّن اختارهم الله -عزَّ وجلَّ- لاتِّباع سبيل السَّلف الصَّالح -نسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم وسائر المسلمين من هؤلاء.
فيجب أن نلجأ إلى الله، وأن نتضرَّع إلى الله -سبحانه وتعالى- حتى ننجوا، أمَّا مَن أمِنَ وتساهلَ فإنَّه على خطرٍ.
هذا -أيُّها الإخوة- ما يتعلَّق بهذا الدرس، ونحبُّ أن نلخِّصَ الدَّرس في دقيقتين أو ثلاث دقائق باختصار شديد، فتقدَّم معنا:
- تعريفُ الإيمان لغةً واصطلاحًا، وكذلك الأدلَّة عليه.
- ودخول العمل في مسمَّى الإيمان.
- بيان مراتب الموحِّدين، أمَّا مراتب الدِّين لم نذكرها، وهي ثلاث: الإسلام، والإيمان، والإحسان -كما في حديث جبريل.
- المراد بأهل القبلة.
- عدم خروج العصاة الموحِّدين من الإيمان، وعدم تخليدهم في النِّيران، وأنَّهم تحتَ المشيئة.
- تعريف الكبيرة، والفرق بينها وبين الصَّغيرة، وخطر الصَّغائر.
- أسباب رفع ومحو العقوبة عن الموحِّد.
فهذا هو الكلام على الإيمان، فالكلام عنه مهمٌّ وعظيم، ويمكنك أن تُراجع كتاب الإيمان من صحيح البخاري فإنَّك ستجدُ فيه خيرًا عظيمًا، وهناك مقامات عظيمة للإيمان: زينة الإيمان، حلاوة الإيمان، طعم الإيمان، ذوق الإيمان، تبوُّء الإيمان، كَتْب الإيمان في القلب؛ كل هذه المقامات مذكورة في كلام الله، وكلام الرسول -صلى الله عليه وسلم.
اللهمَّ حقِّق فينا الإيمان، وثبِّتنا على الإسلام، وارزقنا يا ربَّنا الثَّبات على طريقة أهل السنَّة والجماعة، إنَّك سميعٌ مجيبُ الدُّعاء، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
-------------------------
[113] رواه مسلم في صحيحه (1296)
[114] تقدم في (1)
[115] مسلم (153)
[116] رواه أحمد (14736)، وحسنه الألباني في " إرواء الغليل " (6/34) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ، فَقَرَأَهُ على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ وَقَالَ: أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتْبَعَنِي....
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بعد أن ذكر أسانيد هذا الحديث: "وهذه جميع طرق هذا الحديث ، وهي وإن لم يكن فيها ما يحتج به ، لكن مجموعها يقتضي أن لها أصلا " انتهى من" فتح الباري " (13/525) .
[117] متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
[118] مسند أحمد (22216)
[119] البخاري (3708) ومسلم (1552)
[120] رواه أحمد في المسند (12801) والترمذي في سنن (2436).
[121] رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ
[122] البخاري ومسلم
[123] صحيح البخاري (98).
[124]  أخرجه البخاري (6304)، وأحمد (8959) مختصراً، ومسلم (199)، والترمذي (3602)، وابن ماجه (4307) واللفظ له
[125] مسند أحمد (20882)، سنن الترمذي (1906)،  وحسنه الألباني.
[126] مسلم (184) ولفظه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يُدْخِلُ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ بِرَحْمَتِهِ وَيُدْخِلُ أَهْلَ النَّارِ النَّارَ ثُمَّ يَقُولُ انْظُرُوا مَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا حُمَمًا قَدْ امْتَحَشُوا فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ أَوْ الْحَيَا فَيَنْبُتُونَ فِيهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ إِلَى جَانِبِ السَّيْلِ أَلَمْ تَرَوْهَا كَيْفَ تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً
[127] صحيح البخاري (391).
[128] رواه الترمذي: 2140، وأحمد: 12128، وصححه الألباني فيمشكاة المصابيح: 102.
[129] مسلم (1920)

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك