الدرس العاشر

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

5557 12
الدرس العاشر

العقيدة الطحاوية (2)

بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، والصَّلاةُ والسَّلام على أشرفِ الأنبياءِ والمُرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبه أجمعين.
نُرحبُ بِكم أيُّها الإخوة الكرام في هذا الدَّرس مِن دُرُوسِ "العقيدة الطحاوية"، ونستعين بالله -جَلَّ وعَلا- في القراءة والنَّظر في كلام أهل العلم، نسأل الله أن يَنفعنا وإيَّاكم بالعلم النَّافِعِ، ويوفقنا للعملِ الصَّالِحِ.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ للهِ ربِّ العَالمين، وصلَّى اللهُ وَسَلَّمَ على نبينا محمدٍ وعلى آلهِ وَصحبهِ وَسَلَّم.
اللهمَّ اغفر لنا ولشيخنا وللمُستمعين وللمُشاهدين، ولجميع المسلمين.
قال أبو جعفر الورَّاق الطَّحاوي -رحمه الله تعالى: (وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا، وَلَا نَدْعُو عَلَيْهِمْ، وَلَا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَرِيضَةً؛ مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ، وَنَدْعُو لَهُمْ بِالصَّلَاحِ وَالْمُعَافَاةِ)}.
هذه الجملة تضمَّنت عدَّة مسائل مُهمَّة جدًّا دَلَّت عليها الآيات القرآنيَّة والأحاديث النَّبويَّة، وهي من الأمور التي يَذكرها عُلماء أهلِ السُّنَّة والجماعة في كُتبِ العَقِيدَةِ؛ لأهميَّتها وحاجة المسلمين لها.
يقول الطَّحاوي -رحمه الله: (وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا، وَلَا نَدْعُو عَلَيْهِمْ، وَلَا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَرِيضَةً؛ مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ، وَنَدْعُو لَهُمْ بِالصَّلَاحِ وَالْمُعَافَاةِ).
قوله: (وَلَا نَرَى)، الإشارة هنا بالنون إلى عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة، ليست هذه عقيدة شخص واحدٍ أو عالمٍ واحدٍ؛ بل هذه عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة، أطبقوا عليها واتَّفقوا عليها.
قال: (وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَ).
الخروج: مُصطلح شَرعي ولفظ شَرعي وَرَدَ فِي سُنَّةِ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- للتحذير ممَّن يخرج على المسلمين، وقد ذكر النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- التَّحذير مِنَ البِدَعِ إجمالًا، والتَّحذير من أهل البدع إجمالًا؛ لكن على وجه الخصوص ذَكَرَ طائفة الخوارج، ووصفهم بالخروج في أحاديث كثيرة، منها قوله -صلى الله عليه وسلم: « يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ»[150]، فقوله: «يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ»، وأوَّل مَن خرجَ على المسلمين وسَلَّ السَّيف هم الخارجون على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وكفَّروه واستحلُّوا قتاله وقتال الصَّحابة والمسلمين، فهؤلاء هُم أوَّل الخوارج خُروجًا، ثمَّ تبعهم أقوام، ولا يزالون إلى قيام السَّاعة كما حذَّر النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- مِن هَذه الطَّائفة.
لهذا يجب على المسلمين عُمومًا الحذر أشدَّ الحذر من هذا المذهب، ويجب على طلبةِ العلمِ وأهلِ العِلمِ أن يُحَذِّروا المسلمين مِن هَذا المَسلك، وَمِن هَذا المنهج، ومِن هَذه الطَّائفة، بأيِّ اسمٍ كانت وبأيِّ صفةٍ كانت، وفي أيِّ زمنٍ كانوا، وفي أيِّ مكانٍ كانوا، إذا ركبوا مَذهب الخوارج وصاروا على طريقتهم؛ فيجب التَّحذير مِنهُم.
وقبل الحديث عن الخوارج نتحدَّث عن الخروج.
الخروج: هو مُصطلح شرعيٌ ولفظ شرعيٌ. معناه: التَّمرُّد والعِصيان، وعدم الانسياق لأَمْرِ وَليِ الأمر، وأن يَرى الإنسانُ أن لا بَيعةً له، أي: لوليِّ الأمر، وأنَّه لا يَسمع ولا يُطيع له؛ بل يَرى أشدَّ من ذلك، وهو أنَّ ولي الأمر هذا كافر، ويستحلُ دمَهُ وقتالَه. هذا هو الخروج الفعلي.
وبهذا تفهم أنَّ الخروج نوعان:
- خروج قولي: ويكون قبل الخروج الفعلي؛ لأنَّه مَا خرجت طائفة إلا وقد كان لها تهيئة بالأفكار السِّيئة وبالعقائد الباطلة، وبالتَّحريض وإيغار الصُّدور، حتى خرجوا على جَمَاعةِ المسلمين وإمامهم، ولذا يجب الحذر مِن مَبَادِئِ الخُروجِ وَمَبَادِئِ الفتن، فإنَّها تكون أوَّل الأمر في صورة خلافٍ وفي صورة نزاعٍ، وفي صورة آراءٍ.
- خروج فعلي: أن تكبر هذه الآراء وتنمو، وينفخ فيها الشَّيطان، وشيطان الإنس أيضًا ينفخ فيها حتى يَسُلُّون السَّيف، ويخرجون على الأمَّة، ويَستَحِلُّون الدِّماء.
لهذا يجب علينا أن نبثَّ عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في إخواننا المسلمين حِفاظًا على دِيننا وَدِينهم، حتى لا نقع فيما وقع فيه الخوارج الأوَّلون.
ما هي عاقبة الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه؟
قال فيهم النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم: «شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ»[151]، هذه عاقبتهم، قُتِلُوا وقُطِعَ دابرهم، وصاروا شرَّ قتلى، مع أنهم في ظاهر الأمر يُريدون الجهاد، ويريدون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويريدون نصرة الدين ونُصرَة الحق.
هذه ألفاظهم موجودة في كتب التاريخ، وهذه كلماتهم موجودة، فهذه مقاصدهم، لكن طريقتهم خالفت سنة النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- وخالفت الأحاديث التي سوف نسمعها بعد قليل، فخرجوا عن جماعة المسلمين.
ولهذا فإنَّ هذا أصلٌ عظيمٌ يجب العِناية به، وهي مسألة الحذر كل الحذر مِن مَذهب الخوارج وفروعه ومبادئه وأسبابه، وهذا يتطلب منك -يا طالب العلم- أن تدرس صفاتَ الخوارجِ، وآراءهم وعقائدهم الفاسدة، أن تدرس ذلك على الوجه الصَّحيح حتى تَعرِفَ البَاطِلَ فتجتنبه.
قال: (وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَ).
(أئمتن)، جميع: إمامنا.
والأئمة: هم وُلاة الأمور، يُسمَّى: "إمامًا" أو يُسمَّى: "ولي الأمر"، أو يُسمَّى: "رئيسًا"، أو يُسمَّى: "مَلِكًا"، أو يُسمَّى: "خليفةً"، أو يُسمَّى :"السُّلطان"، أو يُسمَّى: "الحاكم"، أو غير ذلك من المسمَّيات، فالمقصود أنَّ هذه الإمامة حُكمٌ شَرعيٌّ وقدريٌّ؛ لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- هو الذي يُؤتي الملك مَن يَشاء، وَيَنْزِع الملك ممَّن يشاء.
فهذا الحكم الشَّرعي؛ لأنَّه واجب من واجبات الدِّين أن يجتمع المسلمون، وإلا صارت فوضى، ذهب ريحهم، وذهبت قوَّتهم بالفوضى والافتراق، فوجود الإمام رحمة من الله -سبحانه وتعالى- وظلٌّ للعباد، فهو حُكمٌ شَرعيٌ وَحُكمٌ قدريٌ.
وَمَن أُوتي هذا الحُكم على شؤون النَّاس يندرج تحته أمور الدِّين، مثل: إقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، وكذلك الحج، كذلك شؤون المسلمين كالعدل بينهم والحُكمِ بينهم بكتاب اللهِ وَشَرعِه، كذلك القضاء، ونصب القضاة، والحِسبَة والاحتساب، واستيفاء الحقوق، إقامة الحدود، وحماية الثُّغور، وغير ذلك من الأمور التي تندرج تحت واجبات الإمام.
فهذا الإمام -أو السُّلطان- يَصِحُّ بثلاثةِ أشياءٍ عِندَ أهلِ السُّنَّة والجماعةِ:
الأول: اختيار أهل الحل والعقد: أن يجمتع أهلُ الحل والعقد ويختاروا شخصًا، فإذا اجتمعوا عليه -وهم أهل الشَّوكة والغَلبة- تمَّ الأمر له، فصار خليفة -أو إمامًا، أو حاكمًا، أو سلطانًا- الأسماء ما تهم، فالمقصود واحد.
الثاني: ولاية العهد: أن يَلِيَ بالعهدِ إلى مَن يختاره ولي الأمر، ثم إذا تُوفِّيَ الحاكمُ تمَّت البَيعة لوليِّ العهد.
الثالثة: أن تكون بالغلبة والقهر: فإذا غلبَ النَّاسَ وتغلَّب عليهم، وصارت له الشَّوكة عليهم؛ فهذا يكون إمامًا.
أمَّا المعدوم فليس بإمام، والغائب فليس بإمام، والمختفي أيضًا ليس بإمام، فالإمام إنَّما يكون معه الشَّوكة والغَلَبَة، وبه تتمُّ المصالح ويقوم شؤون الدين والدنيا. هذا هو الإمام.
ولهذا فإنَّ مِن عِبارات العُلماء، الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- يقول:
"الأئمة مُجمِعُونَ من كلِّ مذهب على أنَّ مَن تغلَّبَ على بلدٍ أو بلدان؛ له حُكمُ الإمامِ في جميع الأشياء".
ولولا هذا ما استقامت الدُّنيا؛ لأنَّ الناس مُنذُ زَمنٍ طويلٍ قَبلَ الإمامِ أَحمد إلى يومنا هَذا ما اجتمعوا على إمامٍ واحدٍ، ولا يعرفون أنَّ أحدًا مِن العلماء ذكر أنَّ شيئًا من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم"، يقصد: أنَّ كل الدول الإسلامية كانت دولةً واحدة في عهد النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- وفي عهد أبي بكرٍ وعمرٍ وعثمانٍ، ثُمَّ حدثت الفُرقة، ثم اجتمعوا في عهدِ الحَسَنِ أو مُعاوية -رضي الله عنهما- ثم دولة "أُميَّة" كانت تحت إمامٍ واحدٍ، ثم لمَّا زالت دولة "بني أميَّة" كانت الدولة العباسيَّة، وهنا فرع للدولة الأمويَّة في الأندلس؛ فصار تعدد الدول منذ عهد قديم.
ثم أواسط الدولة العباسيَّة ضعفت وقلَّ سلطانها وقوَّتها، فصار تعدُّد الدول في نفس الدَّولةِ العباسية، فصار العسكر هم الذين يحكمون، والخليفة صوري، خصوصًا في آخر الخلافة العباسية ازداد الأمر، حتى صارت الدُّول أكثر وأكثر، واستمرَّ هذا إلى يومنا هذا.
فهل يُقال إنه لا تصح بيعة؟
لا، كلُّ مَن تغلَّبَ على ناحيةٍ فَلَهُ حُكم الإمامِ، وهذا أمرٌ أَجمعَ عليه عُلماء الإسلام وفقهاء المسلمين.
إذن هذا مقصودُ قوله: (أئمتن)، فالإمام الذي يُسمَع له ويُطاع، ولا يجوز الخروج عليه، هو: الإمام الظَّاهر، والإمام الذي له الشَّوكة والغَلبة الذي اجتمع عليه النَّاس، وليس رُؤساء العِصَابات والتَّنظيمات الذي يفرُّونَ من هنا وهناك ويختفون عن النَّاسِ، أو المعدومين، فهؤلاء ليسوا أئمَّة، ولا يصحُّ لهم حكم الإمامَة والولاية، فهذا نردُّ به على الدَّواعش وأمثالهم الذين يعقدون البَيعةَ للمختفي والهارب والذي لا شوكة له، فهؤلاء فتنوا النَّاس وآذوا المسلمين، فيجب الحذر مِنهم؛ لأنَّهم على طريقة الخوارج -نسألُ الله جل وعلا أن يَهدي ضالَّ المسلمين، وأن يحفظ المسلمين من شرور هؤلاء الأشرار.
قال: (وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَ). لماذا؟
قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء:59]، أولوا الأمر هنا هم الأمراء، ثُمَّ العُلماء، فالأمراء هم ولاة الأمر؛ لأنَّهم يَلونَ أُمور المسلمين كلَّها في جميع شؤون الحياة، في الحدودِ وإقامتها، في العدلِ بين النَّاس، في حفظِ المصالحِ، في تأمينِ السُّبلِ، في بثِّ الأمنِ، في إقامةِ الجُمَعِ والجماعاتِ والأعيادِ والحجِّ، وحمايةِ الحدودِ، والدِّفاعِ عن الحُرُماتِ، إلى غير ذلك من المصالح.
ولهذا فإنَّ بعضَ النَّاسِ يقولُ: إنَّ المراد بأولي الأمر هم العلماء!
نقول: العلماء يُطاعون في الفتوى وفي أمور الدِّين، أمَّا في الأمور الأخرى فالعالم ما له سلطان عليك في أمورك الأخرى، فالعالم يُفتيِكَ فقط ولا يُلزمك، حتى الفتوى غير مُلزمة، القاضي هو الذي له حق الإلزام، والقاضي إنَّما صارَ قاضيًا بتنصيبِ الإمام له، فانتبه لهذه المسائل المهمَّة ولا تغلط فيها.
ومن الأدلة أيضًا: قوله -صلى الله عليه وسلم- لمَّا وعظ الصَّحابة موعظة بليغة، فذرفت عيونهم، ووجلت قلوبهم، فقالوا: كأنَّها موعظة مودِّع فأوصنا، قال: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرً»[152].
وقال أيضًا -عليه الصَّلاة والسَّلام- كما في حديث ابن عباس في الصَّحيحين: «منْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»[153]، وفي اللفظ الآخر في الصحيحين أيضًا: «مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»[154]، وقال -صلى الله عليه وسلم: «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ»[155].
وقال -صلى الله عليه وسلم: «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ»، يعني: يكون من هؤلاء الأمراء أمور من المعروف، ويكون من هؤلاء الأمراء أمور من المنكرات، قال: «فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ»، يعني: إذا رأيت المنكر وعرفت أنَّه منكر بَرِئَت ذمَّتُكَ، وإذا أنكرته بقلبِك وبلسانِك عندَ استطاعتك، كأن تُنكر على أهل بيتك أو مَن تحت يديك أو مَن تحتَ سلطانِك وولايتك إذا كنتَ صاحبَ مدرسةٍ أو صاحبَ دكَّانٍ أو شركة؛ فهذا تحت سلطانك، فإذا أنكرت المنكر فقد سَلِمت، أمَّا الذي يرضى بالمنكر ويُتابع هو الذي يؤاخذ.
ثم قال الصَّحابة للنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم: "أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟"، يعني: هؤلاء الذين حصل منهم المنكرات. قال: «لَا مَا صَلَّوْ»[156].
وفي حديث عادة بن الصَّامت -رضي الله عنه- قال: "دَعَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ"[157]، هذا الحديث في الصحيحين.
فهذه الأحاديث كلها -أيُّها الإخوة الكرام- تدلُّ على أنَّه يجب طاعة ولاة الأمور في غير معصيةِ الله، وأنَّه لا يجوز مقاتلتهم، ولا يجوز منازعتهم.
وفي اللفظ الآخر: " أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟"[158]. فجاء لفظ "المقاتلة"، وجاء لفظ "المنازعة"، وجاء لفظ "المنابذة"، وجاء لفظ "الخروج"؛ كلها نهى النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- عنها، ما استثنى إلا صورة واحدة وهي «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَان»، وأضاف العلماء على هذا شرطين عظيمين:
- الأول: الاستطاعة: لأن الله -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16]، ويقول: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَ﴾ [البقرة:286]، وفي الحديث: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»[159]، كل هذه النُّصوص الشَّرعيَّة تدلُّ على أنَّه لا يجوز أن تفعل شيئًا وإن كان واجبًا بالشَّرع إذا ترتَّب عليه أمرٌ أخطر وأفسد، فإن لم يكن عندك قدرة وما عند المسلمين القدرة فما عليهم إلا الصبر.
- الثاني: وجود البديل الصَّالح الذي تجتمع عليه الكلمة.
أمَّا إذا كان عندهم قدرة، ولم تجتمع الشُّروط -وهي الكفر البواح الذي عندنا فيه مِنَ الله برهان- ثم أزاحوه وتفرَّقت كلمتهم وتقاتلوا فيما بينهم؛ هل حصَّلوا خيرًا أم شرًّا؟
يُريدون خيرًا، لكنَّهم حصَّلوا شرًّا، فما تحقَّقَ لهم الخير الذي يريدونه، بل تحقَّقَ القتال زيادة، وتحقَّقَ الشَّرُّ زيادة، فهذا لا تأمر به الشريعة.
ولهذا فإنَّ أغلب النُّصوص الشَّرعيَّة في التَّحذير من القتال والخروج.
ولاحظ أمرًا مهمًّا! لم يُعبِّر الشَّرع بكلمة "الثَّورة" فلم يقل: "ثوروا عليهم"، فـ "الثورة"  مُصطلح غَير شرعي، وإنَّما التَّعبيرات الواردة والألفاظ الواردة علينا أن نلتزم بها؛ لأنَّ مَن التزم بألفاظ الشَّرع سَلِم.
أمَّا هذه الثَّوارت فهي جاهليَّة، وليس هناك لفظ شرعي يقول: تظاهروا عليه، أو ظاهروه، أو اخرجوا في الشَّوارع؛ لا.
الأنصارُ خيرٌ منَّا وخير مِن الأجيال كلها؛ لأنَّهم صَحِبوا النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- وهم بعد المهاجرين في الرُّتبةِ والفضلِ، ومع فضلِهم وتقدُّمِهم وثناءِ الله عليهم في القرآن قال لهم النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ»[160]، وهم الأنصار، فما بالك بما بعدهم!
بل جاء في الحديث في صحيح مسلم أنَّ صحابيًّا سأل النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وقال: أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقَّهم ولا يعطوننا حقَّنا؟ فأعرض عنه  النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فأعاد، فأعرض عنه النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فأعاد، فقال النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم: «تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ»[161]، الحقوق التي لوليِّ الأمر أدُّوها، وإذا منعوكم حقَّكم اسألوا الله  -عزَّ وجلَّ- هذا، ما قال: اخرجوا، أو نابذوهم أو قاتلوهم، فانتبه!.
فالمطالبة بالحقوق تكون بحسبِ ما أرشدَ إليه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وليس بحسبِ أهوائنا، وليس بحسبِ التَّقليدِ للغربيِّينَ.
وبالمناسبة: بعضُ النَّاس يسمِّي هذا أسماء غيرَ صحيح ليُنفِّر عن الحقِّ، يقولون: أنتم تأمرون بطاعة المستبدِّ، أو: أنتم تُكمِّمونَ الحريَّات.
أولًا: لا نقبل كلمة "المستبد" هذه؛ لأنَّ الاستبداد فيه تفصيل:
- فالاستبداد إذا كان بحقٍّ، وكان الحاكم على حقٍّ ونورٍ من الله، ورأى الحقَّ فاتَّبعه؛ فلا لومَ عليه، وهذا أبو بكر الصِّديق -رضي الله عنه- رأى قتالَ المرتدينَ ومانعي الزَّكاة، وخالفَه الصَّحابة كلُّهم، مع ذلك حلفَ وأقسَمَ وقال: "والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدُّونه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعه"، فانشرحت صدور الصَّحابة بما رأى أبو بكر واتَّبعوه، مع أنَّهم أوَّل الأمر خالفوه، ثمَّ اتَّبعوه.
فكملة "الاستبدال" حمَّالة أوجه.
ثم إذا قُدِّرَ أنْ وقعَ الحاكم في أمرٍ محرَّم شرعًا عليه؛ فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- علَّمنا كيف نفعل، ونحن لا مناصَ لنا ولا محيدَ عن توجيهاتِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ونحن نُعرض عن أهلِ الأهواءِ، وأهلِ الآراء، أو المُقلِّدَة للغربِ والشَّرقِ، أو المقلِّدة للفتِن، نُعرض عنهم، ونتبعُ كلام النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- حتى تخرج أرواحنا ونحن على السُّنَّة، نسألُ الله أن يثبتنا وإيَّاكم وإخواننا المسلمين على السُّنَّة.
هذا هو المقصود، وإلا فإنَّ الدُّنيا دار ابتلاء، ابتلاء في مَالِك ينقصُ عليك، ابتلاء في ولدك فيحصل ما يحصل، أو ابتلاء في زوجتك، ابتلاء في سكنك، ابتلاء في غربتك، ابتلاء في حاكمك، ابتلاء في دنياك؛ فهذه كلها أنواع بلوى تُختبر فيها أنت، هل تطيع اللهَ وتُطيع الرَّسولَ أو لا؟
فهذه الأمور ليست خاضعة للأهواء، ولا خاضعة لاستحسانات البشرِ، البشر مساكين ما يفهمون كيف يهتدون إلا بنورٍ من الله -عزَّ وجلَّ.
فيقول  -صلى الله عليه وسلم: «تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ»، هذا في الحقوق. وهل معناه أن نقطع باب الإصلاح؟
نقول: لا، الإصلاح موجود، ويكون بإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والصَّبرِ، والمكاتَبةِ، والمنَاصَحَةِ الشَّفهيَّةِ إذا تيسَّرت مع وليِّ الأمرِ، فيُكاتَب ويُناصَح ويُبلَّغ بالأمر، فيُبلَّغ بالأدلَّة، ويُبلَّغ بوجوه الحق حتى يقتنعَ، أو يبلغه العالِم المقرَّب منه فتبرأ ذمَّة النَّاس.
أمَّا أن يُقال لهم: اخرجوا عليه، أو ثُوروا عليه، أو نابذوه، أو قاتلوه؛ فكل هذا غَلَطٌ.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عبارة عظيمة وهي في كتاب منهاج السُّنَّة النبويَّة في الرَّد على الرَّافضة والقدريَّة، يقول: " وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ"، هذه عبارة طيِّبة، وهذا هو الواقع على مرِّ الأزمان.
قال: "وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ. كَالَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى يَزِيدَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَابْنِ الْأَشْعَثِ الَّذِي خَرَجَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْعِرَاقِ، وَكَابْنِ الْمُهَلَّبِ الَّذِي خَرَجَ عَلَى ابْنِهِ بِخُرَاسَانَ، وَكَأَبِي مُسْلِمٍ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ الَّذِي خَرَجَ عَلَيْهِمْ بِخُرَاسَانَ  أَيْضًا، وَكَالَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى الْمَنْصُورِ بِالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ.
وَغَايَةُ هَؤُلَاءِ إِمَّا أَنْ يَغْلِبُوا وَإِمَّا أَنْ يُغْلَبُوا، ثُمَّ يَزُولُ مُلْكُهُمْ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ عَاقِبَةٌ ; فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ وَأَبَا مُسْلِمٍ هُمَا اللَّذَانِ قَتَلَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَكِلَاهُمَا قَتَلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ. وَأَمَّا أَهْلُ الْحَرَّةِ وَابْنُ الْأَشْعَثِ وَابْنُ الْمُهَلَّبِ وَغَيْرُهُمْ فَهُزِمُوا وَهُزِمَ أَصْحَابُهُمْ، فَلَا أَقَامُوا دِينًا وَلَا أَبْقَوْا دُنْيَا. وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ بِأَمْرٍ لَا يَحْصُلُ بِهِ صَلَاحُ الدِّينِ وَلَا صَلَاحُ الدُّنْيَا"[162].
انتبه!  هذا ما حدث وسمَّوه "الرَّبيع العربي" وهو ليس بربيع كما ترون، إنَّما هو خريفٌ وعقوبةٌ وجحيمٌ على مَن وقعت في ديارهم ومساكنهم -نسأل الله جل وعلا أن يصلح أحوال المسلمين في كلِّ مكان- هؤلاء الذين حرَّضوهم ما جنى المسلمون منهم؟ وماذا حصَّل المسلمون في تلك الدِّيار؟
الملايين المملينَة هُجِّرَت وخرجت من بيوتها، ناهيك عن المقتولين، ناهيك عن الذي تقطَّعت بهم السُّبُل وماتوا في الصَّحاري والبَرَاري والفَيَافي وغَرقُوا في البحار؛ كلُّ هذا بسبب أنَّ أؤلئك حرضوا النَّاس ودعوهم للثَّورة، وزعموا أنَّ الثَّورات حقٌّ، وأنَّها دينٌ، وأنَّها مِن الأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المنكرِ؛ وكل هذا تزوير في الدِّين، وهذه طريقة العلماء أمامنا الآن، وكلُّ كتب السَّلف تقول هذا: (وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُو)، جاورا: أي: ظلموا.
وبالمناسبة: الغربيُّون وأصحاب الدِّيموقراطيَّات هم أنفسهم يرون هذه الثَّورات حق، وكل بلدٍ فيه من الثَّوارت تاريخ حافل من الانقلابات والفتن، ماذا جرى؟
كلُّ انقلابٍ أو كلُّ ثورةٍ تُحصَد فيها الأرواح بالملايين والآلاف، والخسائر بالملايين، حتى في الكفَّار، وهم أيضًا في هذه الأنظمة التي يُمجِّدها بعض المنافقين ومَن في قلبه مرض، فيُمجِّد أنظمة الكَفَرة ويُزهِّد المسلمين في القرآن وفي حكمِ الشَّرعِ لِما في قلبه من النِّفاقِ -نعوذ بالله- وأمَّا المؤمن فيعظِّم الشَّرع ويُعظِّم القرآن، ويُعظِّم الدِّينَ، فهؤلاء الكَفَرة يرون طاعة القانون حتى لو خالف هواك، أو حتى لو خالف العدل في ظنِّك إذا كنت من سكَّان تلك البلدان، فهم يعرفون أن تلك القوانين فيها ظلم.
وأوضح مثال: الأقليَّات عندهم، واقع عليها ظلمٌ شنيع في قوانينهم، فلا تشملها كثير من الحقوق، فحقوقهم مهضومة.
ولكن مشكلتنا أنَّ الكفَّارَ يُسلِّطون الضَّوءَ على بلادِ الإسلامِ، ويتتبَّعونَ مواضعَ الإبَر والمواضع الصَّغيرة لتهييج النَّاس، لكن لا أحد يتتبَع الكفرة وما يحصل في بلادهم من الظُّلمات، ومن الظُّلمِ العظيم، ومِن الجورِ الذي لا جورَ مثله، ولهذا فلا عدلَ إلا في شريعةِ الإسلام، ولا خيرَ إلا في القرآن وفي سنة النَّبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام.
ننتقل إلى قوله: (وَلَا نَدْعُو عَلَيْهِمْ)، فالدُّعاء على السُّلطانِ لا يُحقِّقُ خيرًا، وإنَّما يُغير النُّفوس، إذا جلست أنت مع النَّاس وقلت: اللهمَّ أهلك فلانًا، اللهمَّ عليك به. ماذا يحدث في قلوبهم؟
النُّفرَة منه، خصوصًا إذا كنتَ أنتَ صاحبَ خيرٍ وإمامٍ، وفيك دين؛ فإذا صرتَ تدعو عليه صارَ في قلوبهم نُفرَة عن السُّلطانِ، فلو زالَ هذا السُّلطان وزالت الإمامة؛ أنت في نفسك تخاف في بيتك، ما تأمَن على نفسِك، لأنَّ السُّلطان ظِلٌّ، فالدٌّعاء عليه تنفير.
ولكن لو قلت: اللهمَّ اهده، اللهمَّ أصلحه، اللهمَّ افتح على قلبه، اللهمَّ نوِّر بصيرته، اللهمَّ هيِّئ له الأعوان النَّاصحين، وأبعِد عنه أعوانَ الشَّرِّ، ونحو ذلك؛ لكان هذا خيرًا له، والله -عزَّ وجلَّ- على كلِّ شيء قديرٍ، ولا تيأس مِن روحِ الله، فالسَّحرةُ الذين كانوا مع فرعونَ في الصَّباح كانوا كفَّارًا فجَّارًا، وفي المساء صاروا أتقياء أبرارًا -رضي الله عنهم- وهم في الجنَّة الآن، أخبرنا الله بذلك في القرآن. هذا دليل على أنَّ المؤمن لا ييأس من روح الله.
 
والدُّعاء للحاكم مِن النَّصيحة، لقول النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، وذكر من حقوق النَّصيحة قال: «لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ»[163]، فالدُّعاء لهم بالهداية والصَّلاح مِن علامةِ الخيرِ، وهذا من النَّصيحة لهم، ومِن أسباب اجتماعِ كلمةِ المسلمين، ومن أسباب تأليفِ القلوب، أمَّا الدُّعاء عليهم فهذا خروج عن الصِّراط، وهو تأليبٌ وزيادةٌ في الشَّرِّ، ولا يُحصِّلُ المسلم بهذا الدُّعاء خيرًا؛ بل هذا من أسباب الخروج، ومِن أسبابِ الفتن -نسأل الله العافية والسَّلامة.
هذا الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله- لمَّا علَّق على هذا الموضع في شرح العقيدة الطحاويَّة قال: "لا يجوزُ الدُّعاءُ عليهم، لأنَّ هذا خروجٌ معنويٌّ، مثلَ الخروجِ عليهم بالسِّلاحِ، وكونه دعا عليه لكونِه لا يرى وِلايَته، فالواجبُ الدُّعاء لهم بالهدى والصَّلاح، لا الدُّعاء عليهم، فهذا أصلٌ مِن أصولِ أهلِ السُّنَّة، فإذا رأيتَ أحدًا يدعُو على ولاة الأمورِ فاعلم أنَّه ضالٌّ في عقيدتِهِ، وليسَ على منهجِ السَّلفِ، وبعضُ النَّاسِ يَظنُّ أنَّ هذا مِن الغَيرَة والغضبِ لله، ولكنَّه في غيرِ محلَّهِ، لأنَّهم إذا زالوا حَصَلَت المَفَاسِد".
ثم ذكر كلام الفضيل والأئمة، فقال عنه: "لو أنَّ لي دعوةٌ مستجابةٌ ما صيَّرتها إلا في الإمام"[164] -رحمة الله عليهم- فهؤلاء هم أطباء القلوب، وعلماء السَّلف هم قدوتنا، فرحمة الله عليهم. هذا معنى قوله:  (وَلَا نَدْعُو عَلَيْهِمْ).
قال: (وَلَا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ)، هذا تأكيد لِمَا سبق من عدم الخروج.
قال: (وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرِيضَةً؛ مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ)، إذا أمروك بمعصيةٍ فلا تسمع لهم، ولا تُطِع في تلك المعصية، وتسمعُ لهم وتطيع في غير المعصية.
قال: (وَنَدْعُو لَهُمْ بِالصَّلَاحِ وَالْمُعَافَاةِ)، هذا تأكيد لقوله (وَلَا نَدْعُو عَلَيْهِمْ).
يقول ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية: "وَأَمَّا لُزُومُ طَاعَتِهِمْ وَإِنْ جَارُوا ، فَلِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ طَاعَتِهِمْ مِنَ الْمَفَاسِدِ أَضْعَافُ مَا يَحْصُلُ مِنْ جَوْرِهِمْ"، نحن نعرف أنَّ فيه جورٌ، ولكن لو خُرِجَ عليهم لحصلَت المفاسد العظيمة.
قال: "بَلْ فِي الصَّبْرِ عَلَى جَوْرِهِمْ تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ" يعني أنت الآن لمَّا تصبر على حاكمٍ جائر ليس هذا رضًى بجوره، لأنَّ قول النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم: «فَلْيَصْبِرْ»[165]، «فَاصْبِرُو»[166] دليل على عدم الرِّضى بالجور، وعدم الرِّضى بالمنكر، فأهل السُّنَّة لا يأمرون المسلم بأن يرضى بالمنكرات أو يرضى بالجور، لا والله، فلا ترضى بالجور؛ بل إذا رضيتَ به فأنت آثمٌ وأنت معهم شريك في الإثم، وإنَّما تصبر.
ولهذا قال: "بَلْ فِي الصَّبْرِ عَلَى جَوْرِهِمْ تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ"، مثل البلوى التي تصيبك، لو شوكة أصابتك في يدك أو قدمك، أو جرح، أو مرض، ماذا يحدث لك إذا صبرت؟
تكفير للسَّيِّئاتِ ومحوٌ للذُّنوبِ، هكذا إذا صبرتَ على جورِ الحاكم الظَّالم.
قال: "وَمُضَاعَفَةُ الْأُجُورِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا سَلَّطَهُمْ عَلَيْنَا إِلَّا لِفَسَادِ أَعْمَالِنَا ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ ، فَعَلَيْنَا الِاجْتِهَادُ فِي الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ".
الله أكبر! هذه طريقة العلماء، فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتَّوبة وإصلاح العمل، قال تعالى:  ﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]، حتى الحاكم الجائر يُعتبَر مصيبة، إذا جار عليك أو ظلمك فأنت تلجأ إلى الله وتُنيب وتستغفر وتدعو الله  -عزَّ وجلَّ- أن يُفرِّج عنك وعن المسلمين، فقال تعالى:  ﴿ وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأنعام: 129]، معناها:أنَّ ما تولَّى هذا الظَّالم على هؤلاء إلا لوجود الظُّلم فيهم.
وختم فقال: "فَإِذَا أَرَادَ الرَّعِيَّةُ أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْ ظُلْمِ الْأَمِيرِ الظَّالِمِ ، فَلْيَتْرُكُوا الظُّلْمَ"[167]، فهذه عبارات مهمَّة جدًّا يجب أن يفهمها إخواننا الذين غَلِطُوا في هذه المقامات، واستثارتهم بعضُ الأوضاع، أو بعضُ المنكرات، أو بعضُ الأشياء؛ فلابدَّ أن يلزَم طريقةَ أهل السُّنَّة، ولا تحمله الغَيرة والعاطفة الدِّينيَّة على الخروج عن الصِّراط المستقيم -نسأل الله جلَّ وعلا أن يهدي ضالَّ المسلمين.
فالمقصود يا أخواني الكرام: أنَّ هذا الأمر أمرٌ عظيمٌ، فأمور الدِّين لا نأخذها بعقولنا ولابآرائنا ولا نستقيها مٍن غربٍ ولا مٍن شرقٍ؛ بل نأخذها مٍن كتابٍ الله، ومِن سُنَّة النَّبيِّ الكريم -صلَّى الله عليه وسلم.
فالخروج على ولاةِ الأمورِ إذا جاورا هذا مِن المنكرات العظيمة، ومن ركوب مذهب الخوارج.
ثمَّ تأمَّل معي، بعض النَّاس يقول: المسألة فيها خلاف. القول الأول: يجوز الخروج. والقول الثاني: لا يجوز الخروج.
من قال هذا؟! أهل السُّنَّة ما عندهم خلاف في هذا.
أولًا: هذا الذي يحكي الخلاف غلِطَ في مذهب أهل السُّنَّة وأساء، فغَلِطَ لأنَّ هذه كتب أهل السنَّة أمامك، كل ُّكتب العقائد الصَّحيحة لا تذكر أنَّ الخروجَ قولٌ لأهلِ السُّنَّة.
ثانيًا: أساء لأنَّه نسبَ إلى أهلِ العلمِ وإلى أهلِ التَّقوى مِن أصحاب النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- والتَّابعين ما لم يتحقَّقه وما لم يتثبَّت منه.
ثم الصَّحابي أو التَّابعي أو تابع التَّابعي، أو مَن بعدهم مِن علماءِ أهلِ السُّنَّة إذا غلِطَ
 في مسألة فهو ليس بمعصوم، فالغَلَطُ واردٌ عليه، لكن لا يجوز أن نجعل من غَلَطِهِ حجَّةً لنا في اتَّباعه في هذا الغَلَطِ، وكثير ممَّا يُنقَل عن بعضِ المتقدِّمين هم ندموا على ما فعلوا، ورجعوا عنه، وتمنَّوا أنَّهم لم يفعلوا ما فعلوا، كالذين خرجوا مع ابن الأشعث، فإنَّهم كلهم ندموا، وما أحد منهم رغب في مصرع مَن صُرِعَ منهم، وهذا مذكور في كتب التَّواريخ، ومذكور في كتب الأحاديث والتَّراجم، لكن احذر ممَّن يُحاول أن يأخذ بعضَ النُّقول ويترك بعضًا، واحذر ممَّن يُسيء الفهم ويُسيء الظَّن بأولئك الصَّالحين -رحمة الله عليهم.
ثم إنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قال:  ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 83].
على كلِّ حال؛ فالخروج -كما تقدَّم- على ولاة الأمر وعلى المسلمين إذا نظرتم في عاقبته اتَّضح لكم أنَّه باطلٌ، فانظر إلى كل مَن خرجَ على المسلمين في كلِّ مكانٍ، ماذا حدث منهم؟
حدث سفكُ الدِّماءِ، والإفسادُ في الأرض، وإزاحةُ الأمن عن النَّاسِ، وتعطيلُ المساجد، وتعطيلُ الخيرات -نعوذ بالله.
فهذا دلَّ الشَّرع على بطلانه، ودلَّ العقل أيضًا على بطلانِ هذه التَّصرُّفات، نسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يحفظنا، وأن يُعيذنا من مضلات الفتن.
والخروجُ -كما تقدَّم- يكونُ بالرَّأي قبل أن يكونَ بالفعلِ، والنَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قال للصَّحابة لمَّا استأذنوه وقالوا: "أفلا ننابذهم؟"، "أفلا ننازعهم؟". قال: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ»[168]، فهذا نصٌّ صريح، فكيف نعاند النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم.
فالنَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرً»، والفسقُ ليس كفرًا، فالفسقُ دونَ الكفرِ، وهو أفصح مَن نَطَقَ بالضَّادِ -صلى الله عليه وسلم- وهو أفصحُ العرب وأنصحهم وأبينهم وأبلغهم -صلوات الله وسلامه عليه- وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم كما وصفه الله في سورة التَّوبة  ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، وهو القائل -صلى الله عليه وسلم: «تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ»[169]، وهذا في صحيح مسلم، وهو لا يأمر بالشَّرِّ، وإنَّما يأمر بالخير الغالب، وإن حصلَ بعض الأضرار، لكن الخير في السَّمع والطَّاعة في غير معصية.
هذا مهم جدًّا، وهو تقريرُ تحريم الخروج على ولاة الأمور، وأنَّ هذا هو مذهب أهل السُّنَّة ألا يُخرَج على ولاة الأمور إذا جاروا.
ومن هنا أطلب مِن الإخوة والمشاهدين الكرام أن ينظروا في سِيَر علماءِ الأمَّةِ المشهود لهم بالإمامة، مثال على ذلك: الإمام أحمد بن حنبل، وإذا نزلت قرنين فابن قدامة -صاحب المغني- والنَّووي، وإذا نزلت في القرن السَّابع والثَّامن فابن تيمية، ثم ابن القيم، ثم ابن كثير، ثم ابن رجب؛ هؤلاء العلماء مَن حُكَّامهم؟ كيف حال حكَّام زمانهم؟ هل كانوا على التَّمامِ والكمالِ أم كان فيهم نقصٌ؟
فبعض الحكام  كان فيه بدع، وبعضهم كان يؤيِّد أهل وحدة الوجود، وبعضهم عنده ضلالات كثيرة؛ فبعض هؤلاء الحكَّام في القرن الثَّامن والتَّاسع كانت لهم تلك الضَّلالات؛ فهل هؤلاء العلماء الذين سمَّيتهم -وهم مشهود لهم بالإمامة- هل ألَّفُوا في التَّحريض على ولاة الأمور؟ هل ألَّفوا في وجوب الخروج على الحاكم فلان بن فلان؟
النَّظر في سِيَر العلماءِ الصَّادقين المشهود لهم بالإمامة يدلُّك يا طالبَ العلمِ على الطَّريقة التي سَلَكَها هؤلاء، وهم قد شَهِدَ لهم القاصي والدَّاني بالإمامة والتَّقوى والصِّدق والدِّيانة، وأنَّهم ليسوا أهل تزلُّف ولا مُداهنة، فرَضِيَ الله عنهم وأرضاهم، ونسألُ الله  -جلَّ وعَلا- أن يجعلنا وإيَّاكم على طريقتهم.
فمن الخروج على ولي الأمر: نزعُ البيعةِ، فيقول: لا بيعةَ في عنقي لفلان.
أو يقول: يا أهل البلد الفلاني ما لفلان بيعة -وهو حاكمهم وأميرهم- فهذا من الأشياء التي يجب الحذر منها لقوله -صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»[170].
{(وَنَتَّبِعُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ، وَالْخِلَافَ، وَالْفُرْقَةَ. وَنُحِبُّ أَهْلَ الْعَدْلِ وَالْأَمَانَةِ، وَنَبْغُضُ أَهْلَ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ. وَنَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ؛ فِيمَا اشْتَبَهَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ)}.
هذه ثلاث جمل مهمَّة (وَنَتَّبِعُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ، وَالْخِلَافَ، وَالْفُرْقَةَ).
هذا أصلٌ عظيم جدًّا لقوله -صلى الله عليه وسلم: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ»[171]، فنتمسَّك بسنَّة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ونترك البدع والمحدثات، «وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»[172]، وقال: «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»[173].
 فنتَّبِعَ السُّنَّةَ ونترك البدعة، ونتمسَّك بالجماعة، فالمراد بالجماعة: جماعة المسلمين، فنجتمع مع المسلمين، ونكون مع ولاة الأمور في السَّمع والطَّاعة في غير معصية الله  -عزَّ وجلَّ- ونلزم الحق، ونلزم طريقة أهل السُّنَّة من الصَّحابة والتَّابعين، فهذه هي الجماعة.
إذن الجماعة يُراد بها: جماعة السُّلطان، وبعض العلماء يُعبِّر عنها بــ "جماعة الأبدان" فنسمع ونطيع في غير المعصية، ونكون مع الجماعة، فنشهد الجُمَع والجماعات، ونسمع ونُطيع لوليِّ الأمر، ولا نخرج على وليِّ الأمر؛ فهذا لزوم الجماعة والإمام.
وأيضًا من لزوم الجماعة: أن توافقَ الحقَّ، وهو ما كانت عليه الطَّائفة المنصورة، فتوافق ما كان عليه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فكل ما كان من الحقِّ فهو الجماعة، فما وافقَ الحقَّ فهو الجماعة، وهذه تسمَّى جماعة الدِّين، فتلتزم الدِّين الحقَّ، وتلتزم المنهج الحقَّ، منهجَ الصَّحابةِ والتَّابعين.
إذن الجماعة يُراد بها:
- جماعة الأبدان.
- جماعة الدين.
فجماعة الأبدان: السَّمع والطَّاعة لمَن ولَّاه الله أمر المسلمين، وعدم الخروج عليه، وعدم مشاقَّته، وشقِّ العصا، والتَّمرُّد عليه ونحو ذلك.
وجماعة الدِّين: أن تلزمَ الحقَّ، وطريقةَ الصَّحابة لهذه الطَّائفة التي قال فيها النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ»[174]، وفي لفظ آخر قال: «هم الجماعة».
لو قُدِّرَ أنَّ السُّلطان على بدعةٍ، فنحن نلزمُ الجماعة بالسَّمعِ والطَّاعة في غير معصيةٍ، ولا نوافقه على بدعته؛ بل نتَّبع الجماعة فيما كان عليه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم.
لو قُدِّرَ أنَّ شخصًا في بلد غير مسلم، كالبلاد التي فيها أقليَّات مسلمة، كيف يكون لزوم الجماعة؟
لزومُ الجماعة بأن يلزمَ المنهجَ الحق، منهج أهل السُّنَّة والجماعة والطَّائفة المنصورة، وأمَّا السُّلطان في بلده فليس بمسلمٍ، فلزومُ الجماعة في حقِّه بلزومِ منهج أهل السُّنَّة والجماعة.
أمَّا إذا كان في بلدٍ مسلمٍ له حاكم مسلم فيلزم الجماعة بالسَّمعِ والطَّاعة للحاكم -وهذه جماعة الأبدان أو السُّلطان- ويلزم الحقَّ -وهو جماعة الدِّين- فيلتزم طريقة أهل السُّنَّة والجماعة الذين ساروا على منهج السَّلف الصَّالح.
قال: (وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ، وَالْخِلَافَ، وَالْفُرْقَةَ)، لأنَّ مَن شذَّ شذَّ في النَّار، والشُّذوذ دائمًا دليل على الضَّلال، فلا تشذَّ عن جماعة الحقِّ، ولا تشذَّ عن أهل السُّنَّة والجماعة، ولا تشذَّ عن منهج أهل السُّنَّة كالخرافيين وأهل البدع، وأهل العقائدِ الفاسدةِ؛ فهذا شُذوذٌ وخروجٌ عن منهجِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- والصَّحابة.
كذلك في مسائلِ الفقهِ لا تَشُذَّ، وتبحث عن الشَّاذِّ الذي لا دليلَ عليه ولا حُجَّة له، فبعض النَّاسِ يبحث عن الأشياء الشَّاذَّة ويتتبَّع الرُّخَصَ من غيرِ دليلٍ ولا حُجَّةٍ، فهذا ضلالٌ، مَن شذَّ شذَّ في النَّار، ومع الأسفِ بعضُ الإعلاميين يبحث عن الشُّذَّاذ ويجمعهم ويخرجهم في القنوات، لأنَّ الشُّذَّاذ هؤلاء يُعجبونهم، ولو كان ليس معه دراسة ولم يتلقى العلم، فبعضهم معه شهادة ضعيفة، ولم يُكمل حتى المتوسط أو الثانوي؛ فيقدمونه في الإعلام لأنَّه أخذ بقولٍ يعجب هواهم، فأنت أيُّها المسلم تحذر من هؤلاء الشُّذَّاذ.
أمَّا الخلاف فكذلك نجتنبه، والمراد بالخلاف هنا: هو اختلاف العقيدة، وأيضًا مخالفة الحق إذا ثبتَ النَّصُّ الشَّرعيُّ، فلا يجوز للمسلم أن يُعاند كلام النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ويُخالف الآيات.
مثل رجل لا يطمئن في الصَّلاة، فينقر الصَّلاة نقر الغراب، ويقول: فيه قول عند المذهب الفلاني، فأنا أستعجل في الصَّلاة لأنَّه لا تشترط الطمأنينة.
فنقول: هذا مُصادم للنَّصِّ النَّبوي.
فالخلاف نوعان:
النَّوعُ الأوَّلُ:  خلافٌ في العقيدة، وهو خروجٌ عن منهجِ أهل السُّنَّة، وهذا محذور.
النَّوعُ الثَّاني: خلافٌ غير السَّائغ الذي لا دليل عليه.
أمَّا الخلاف السَّائغ: فهو الخلاف النَّابع عن اجتهادٍ في فَهم النَّصِّ فهذا يقع بين العلماء، فهذا يرى القول الفلاني، وهذا يرى غيره، وهذا قد يكون بعدم ثبوت النَّصِّ، أو الخلاف في ثبوته، أو عدم فهمه، أو عدم بلوغه النَّاسخ أو نحو ذلك؛ فهذا الخلاف يُرفع به الملام عن الأئمة كما قال الإمام ابن تيمية "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" وذكر عشرة أعذار للعلماء في سبب الخلاف الذي يقع بينهم، لكن الخلاف المحذور هو الخلاف غير السَّائغ، ولهذا بعض النَّاس يقول: "نجتمع فيما اتَّفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه".
والصَّواب أنَّه ليس كلُّ خلافٍ يُعذر فيه، فمَن يُخالف الدِّين الإسلامي ولم يُسلِم، أو مَن خالف منهج أهل السُّنَّة فهذا ليس بمعذور!
الحقُّ واضحٌ، ويجب على المؤمن اتِّباع القرآن والسُّنَّة ولزوم الحق، لكن الذي يُعذَر ما كان خلافه سائغ، وما كان محلَّ اجتهادٍ في فهمِ النَّصِّ، أو في ثبوت النَّصِّ، وكما قال العلماء: "لا تَقُل في مَسأَلَةٍ ليسَ لَكَ فِيهَا إمامٌ مِن أئمَّةِ المسلِمينَ"، فلا تبتدع وتَشُذَّ عنهم، فالذي يتَّبع الهوى ويُخالف منهج أهل السُّنَّة، ويُخالِف الوحي، ويُخالِف القرآن، ويُخالِف الحديثَ الصَّحيحَ؛ هذا لا حجَّة له، وغيرُ معذور، والمعذور هو الذي له دليله واجتهاده وغَلِطَ، أو أخذ بهذا الاجتهاد وهو قريب وقد سُبِقَ.
من الشُّذوذ أيضًا: ترك الجمعة والجماعة مع المسلمين، فبعض النَّاس يترك الصَّلاة مع المسلمين ويصلِّي وحده، فهذا أيضًا من الشُّذوذ -نسأل الله العافية والسَّلامة.
هذه الجمل مهمَّة جدًّا، وبقي معنا قوله: (وَنُحِبُّ أَهْلَ الْعَدْلِ وَالْأَمَانَةِ)، نجعلها في الدِّرس القادم -إن شاء الله تعالى.
ويجب على المسلم أن يعرف أنَّ هذه الجمَل التي سبقت وأنَّ اتِّباع السُّنَّة والجماعة، وترك الخلاف والشُّذوذ والفُرقَة هو من أسباب اجتماع المسلمين، فبعض الناس يظنُّ أنَّ هذا يُفرِّق المسلمين؛ لا؛ بل لا يجمتع المسلمون إلا على سنَّة محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى جماعة أهل السنَّة والجماعة، فهذا هو سبب الاجتماع، ولا يمكن أن يكون الاجتماع إذا اتبع كلٌّ هواه ومذهبه.
ولهذا بعض النَّاس يقول: لابدَّ من التَّعدُّديَّة، ولابدَّ من إقرار الأحزاب في البلاد.
نقول: لا، يجب على كل جماعة، وكل طائفة أن ترجع إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وأن تتَّبع النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ومَن غَلِطَ منهم يُردُّ إلى الحقِّ، وإلَّا حدثت الفرقة وحدث الخلاف، ثم حدث الخروج.
نسألُ الله -جلَّ وعلا- أن يثبِّتنا وإيَّاكم على السُّنَّة والجماعة، ويُعيذنا وسائر إخواننا المسلمين من الخلافِ والشُّذوذِ والفُرقَةِ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
------------------------
[150] البخاري (6931) ومسلم (1064) عن أبي سعيد الخدري.
[151] أخرجه الترمذي (3000) واللفظ له، وأحمد (22262) وصححه الترمذي في صحيح الترمذي.
[152] أخرجه أبو داود (4607) واللفظ له، وأحمد (17185) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
[153] صحيح البخاري (6558) مسلم (3444).
[154] صحيح البخاري (6557) مسلم (3445)، واللفظ للبخاري.
[155] صحيح مسلم (3429).
[156] صحيح مسلم (3451)
[157] صحيح البخاري (6559).
[158] صحيح مسلم (3453).
[159] مسند أحمد (22178)، سنن ابن ماجة (2333).
[160] مسلم (24159).
[161] أخرجه البخاري (3603)، ومسلم (1843) واللفظ له.
[162] منهاج السنة النبوية/ الفصل الثاني في أن مذهب الإمامية واجب الاتباع ص: 529.
[163] صحيح مسلم (85).
[164] الحلية لأبي نعيم (8/91)
[165] سبق تخريجه رقم (4).
[166] سبق تخريجه رقم (10).
[167] شرح العقيدة الطحاويَّة لابن أبي العز ص: 542
[168] سبق تخريجه رقم (8).
[169] صحيح مسلم (3441).
[170] صحيح مسلم (3447).
[171] مسند أحمد (16813)، سنن ابن ماجة (42)، سنن أبي داود (3993).
[172] صحيح البخاري / باب البيوع، مسلم (1718).
[173] مسند أحمد (16813)، سنن ابن ماجة (42)، سنن أبي داود (3993).
[174] صحيح البخاري (3392)، صحيح مسلم (3551).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك