الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد.
فهذا لقاءٌ جديدٌ متجددٌ، نلتقي معكم لنتباحث شيئًا من مسائل الموضوعات التي كان
هذا المقرر لمناقشتها والبحث والحديث عنها، وكنا في ما مضى تكلمنا عن الاجتهاد
والتقليد، وذكرنا شيئًا من الأحكام المتعلقة بهما، وكذلك ذكرنا مسائل الفتوى، وكان
من أواخر ما تحدثنا عنه: أثر صاحب الولاية على مسائل الفتوى، من جهة الواجب الشرعي
على الأمة في إيجاد وتهيئة المفتين الذين يتولون المسائل الشرعية، ويوضحون للخلق ما
يحتاجون إليه من أحكام دينهم، وهكذا أيضًا ما يتعلق بتقييد وأمر الفتوى في الأمور
العامة التي يترتب عليها مفاسد كبيرةٌ، سواءً في ما يتعلق بأبواب الاجتهاد، أو
أبواب الجهاد، أو مسائل التكفير واستحلال الدماء، والأعراض والأموال، ونحو ذلك.
وذلك لابد أن نستحضر أن الفقهاء ليسوا خارج نطاق الولاية الشرعية، وأن مبدأ الإمامة
العظمى، التي يتولاها الإمام الأعظم، إنما جاءت من حكم الله -عزَّ وجلَّ-، ومن
شريعة رب العزة والجلال، فهذا يقوم بتحكيم شرع الله، فليس الحاكم والوالي نائبًا عن
الشعب، كما يتوقعه ويريده بعض الناس، ولذلك يقول بعضهم: إرادة الشعب، ونواب الشعب،
ونحو ذلك، وإنما المراد تحكيم شرع رب العزة والجلال، ولذلك فهو يسير على مقتضى شرع
الله -عزَّ وجلَّ-، ويحكم في العباد بما يرضي الرب تعالى، وقد نهى الله -عزَّ
وجلَّ- عن اتباع رغبات الناس وأهوائهم، وبيَّن أنه يترتب على ذلك مفاسد كبيرةٌ، من
تضييق أحوال الخلق، ومن وجود النزاع والخصومة في ما بينهم، كما قال تعالى في كتابه
العظيم: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾
[الأنعام: 116]، وكما قال سبحانه: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ
يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾ [الحجرات: 7]، أي للحقتكم
المشقة.
هذا اليوم -بإذن الله عزَّ وجلَّ- نتباحث أبوابًا جديدةً، تتعلق بأبواب الخلاف
الفقهي؛ لأن المسائل الاجتهادية تختلف فيها نظرات العلماء، وتختلف فيها اجتهادات
الفقهاء من جهة النظر في صحة الدليل، وعدمه، ومن جهة النظر في صحة الاستدلال
بالقاعدة الأصولية، وعدمها، ومن ثَمَّ لابد أن يكون هناك اختلافاتٌ، ويمكن أن
نعرِّف أن هذه الخلافات الفقهية، ليست بالأمر الاعتباطي، وليست من باب اتباع الهوى،
وإنما خلاف العلماء ناشئٌ عن أسبابٍ مقنعةٍ، وإلا فإن الأصل أن الخلاف مذمومٌ،
ولكنه قد يقع فيكون أمرًا واقعًا في الخلق، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾
[آل عمران: 105]، وكما قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا
شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 159]، ولهذا نهى النبي -صلى الله
عليه وسلم- عن الاختلاف، وبيَّن أن مما أهلك الأمم السابقة كثرة اختلافهم على
أنبيائهم.
وحينئذٍ نعلم أن الاختلاف ليس مرغَّبًا فيه، لكنه قد يقع في الناس، فحينئذٍ نحتاج
إلى آليةٍ لكيفية التعامل مع هذا الخلاف، فإن قال قائلٌ بأن الله -عزَّ وجلَّ-
يقول: ﴿ولَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ
خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118، 119]، فنقول: بأنه قوله سبحانه: ﴿ولَا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ﴾، هذا إخبارٌ عن الواقع الذي يقع في حياة الناس، وقوله: ﴿إِلَّا مَن
رَّحِمَ رَبُّكَ﴾، فيه إشارةٌ إلى أنه إذا وُجدت الرحمة لم يوجد الاختلاف، بل وجد
الاتفاق، وقوله: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ ليس المراد به ليختلفوا، وإنما المراد به
ليُرحموا من عند الله، ﴿وَلِذَلِكَ﴾ أي: أراد الله -عزَّ وجلَّ- بالعباد الرحمة،
ومن هنا خلقهم، فهذا هو المراد بالآية.
فالمقصود أن هذا الخلاف الفقهي الموجود بين العلماء، هذا أمرٌ حتميٌّ واقعٌ في
الناس، وبالتالي لابد من التعامل معه على وفق القواعد الشرعية التي جاء بها ديننا
القويم.
إذا تقرر هذا، فإن الخلاف قد يكون له أثرٌ حميدٌ في عذر الناس بعضهم لبعضٍ، وقد
يكون هناك نتائج سيئةٌ، بسبب عدم السير على المقتضى الشرعي، سواءً من وجود النزاع
والاختلاف، ووجود البغضاء، وقد يكون هناك عداوةٌ، وقد يكون هناك انقسامٌ بسبب هذا
الاختلاف، وما ذاك إلا -انقطاع في الصوت- من الشرع في ما يتعلق باختلاف المجتهدين
والفقهاء.
ولكن المعوَّل عليه، أن باب الحكم الشرعي والمسائل الشرعية، لا يدخلها إلا المؤهل،
وغير المؤهل لا يجوز له الدخول في هذا الباب، فإذا وُجد اختلافٌ علمنا أن هذا
الاختلاف من المتأهلين إنما هو لأسبابٍ شرعيةٍ، ومن ثَمَّ لا يصح لنا أن نتكلم في
أيٍّ من المختلفيْن، أو أن نقدح في ديانته، أو في علمه، يؤدي إلى الاختلاف الفقهي.
هناك أسبابٌ كثيرةٌ، من تلك الأسباب: الاختلاف في اعتبار الشيء دليلًا، فقد يقع
نزاعٌ بين العلماء في أحد الأدلة، هل يصح الاستدلال به أو لا يصح الاستدلال به، ومن
أمثلة ذلك مثلًا في قاعدة حجية قول الصحابي، هل يُحتج به، أو لا، هذا من مواطن
الخلاف بين العلماء، وهكذا هناك عددٌ من الأبواب التي يقع الاختلاف في حجيتها، بين
علماء الشريعة.
السبب الثاني: الاختلاف في صحة الدليل، فقد أرى أن الدليل صحيحٌ، وترى أنه ضعيفٌ،
وبالتالي لا يكون هناك اتفاقٌ بين المجتهدين.
مثال ذلك: يأتينا حديثٌ، تختلف فيه أنظار العلماء تصحيحًا وتضعيفًا، وينبني عليه
الاختلاف في الحكم الفقهي في هذه المسألة، بسبب الاختلاف في هذا الحديث، هل يصح أو
لا يصح، ومن أمثلة هذا مثلًا لما ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
«من صام رمضان، ثم أتبعه ستًا من شوالٍ»، هذا الحديث، جمهور أهل العلم على أنه
حديثٌ صحيحٌ، وقد رواه الإمام مسلمٌ في صحيحه، هناك طائفةٌ قدحوا فيه بقدحٍ يسيرٍ،
ولذلك قالوا بعدم استحباب صوم ستٍ من شوالٍ؛ لأن الحديث لم يصح عندهم.
ومن ثَمَّ فيه مراتٌ عديدةٌ يقول علماء أحد المذاهب بأن الإمام يقول في هذه المسألة
كذا، بينما مذهبه بخلاف ذلك، لماذا؟ لأنهم رأوا أن الإمام لم يصل إليه الحديث،
وبالتالي لم يقل به لكونه لم يصل إليه. ولهذا مثلًا ورد عن الإمام الشافعي -رحمه
الله- أنه في مواطن قال: "إنْ صح الحديث في ذلك، فأنا أقول به، وإنْ صح الحديث فهو
مذهبي".
كذلك من أسباب الاختلاف: الاختلاف في التقعيد الفقهي في ذلك الباب، فيقع اختلافٌ
بين العلماء بسبب ذلك، ومن أمثلة هذا مثلًا: أن العلماء اختلفوا: هل العبرة في
العقود بالألفاظ والمباني، أو بالمقاصد والمعاني، ولذلك لو قال: بعتك هذا الثوب
لمدة سنةٍ، فهل المعتبر قوله: بعتك، وإلا يكون إجارةً لكونه مقيَّدًا فالمعنى أنه
إجارةٌ. هذا نشأ الخلاف فيه من الاختلاف في القاعدة السابقة.
النوع الرابع: أن يقع الاختلاف في إدراج الفرع فيكون عندنا قاعدتان محل اتفاقٍ بين
العلماء، فيأتي الفقهاء فتختلف أنظارهم. ومن أمثلة هذا: أن باب اللباس له أحكامٌ،
فالنساء مثلًا يجوز لهن لبس الحرير والذهب، بينما باب الآنية له أحكامٌ أخرى، ومن
ثَمَّ لا يجوز للنساء الأكل في آنية الذهب، فيأتي بعض الأشياء، فيقع التردد فيها،
هل هي لباسٌ أو آنيةٌ، القلم مثلًا، هل هو لباسٌ؟ أو آنيةٌ؟ يقع التردد فيه،
وبالتالي يقع الاختلاف في حكمه. هناك أشياءٌ كثيرةٌ يقع الاختلاف فيها، هل هي
عبادةٌ، أو عادةٌ؛ لأن القاعدة في العبادات أنها على الحرمة، وأن الأصل في العادات
أنها على الإباحة، فتأتينا بعض الأعمال فيتردد فيها أهل العلم هل هي عبادةٌ فنقول
بمنعها، أم هي عادةٌ فنقول بإباحتها وجوازها.
وفي مراتٍ يقع الاختلاف في وجه الاستدلال، يكون القاعدة واحدةً والحديث واحدًا،
ويقع اتفاقٌ أن هذا الدليل يستدل به في هذه المسألة، فيقع الاختلاف بسبب الاختلاف
في كيفية تطبيق المسألة.
ومن أمثلة هذا: ما ورد في مسألة العوْد في الهبة، الإمام أحمد وجماعةٌ يرون المنع؛
لأن -صلى الله عليه وسلم- قال: «العائد في هبته، كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه»،
بينما آخرون قالوا: بإباحة العود في الهبة، وقالوا بأن الحديث يدل على ذلك؛ لأن
الكلب لا يحرم عليه العود في قيئه، فلا يحرم على الواهب العود في هبته، فهنا
استدلوا بنفس الدليل، نفس الحديث، وبنفس القاعدة، وبجميع أنواع الاستدلال هنا، لكن
وقع الاختلاف في تطبيق القاعدة، أو الحكم والدليل على فروعه، فمن ثَمَّ وقع
الاختلاف في الحكم في هذه المسألة.
أيضًا قد يقع الاختلاف بسبب التعارض بين الأدلة، فيدل دليلٌ على حكم، ويدل دليلٌ
آخر على مضاده، فيقع التردد بين العلماء في كيفية التعامل مع ذلك التعارض، ومن
أمثلته مثلًا: ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «على كل أهل بيتٍ
عتيرةٌ»، المراد بالعتيرة ذبيحة رجب، وورد في الحديث الآخر أن النبي -صلى الله عليه
وسلم-: «لا فَرَعَ ولا عتيرة»، فمن نظر للحديث الأول قال بمشروعية ذبيحة رجب، ومن
نظر إلى الثاني قال بعدم مشروعية ذبيحة رجب، فهذا تعارضٌ، فحينئذٍ طائفة قالوا:
حديث «على كل أهل بيتٍ عتيرةٌ» ضعيفٌ، وقدحوا فيه، بينما حديث «لا فَرَعَ ولا
عتيرة» هذا في الصحيح، وحديثٌ متفقٌ عليه، وبالتالي يقدَّم.
يعني قد يقع الاختلاف بأسبابٍ أخرى مذكورةٍ عند أهل العلم، وهناك اختلافاتٌ في
الأصول نتج عنها اختلافاتٌ كبيرةٌ في الفروع، وبالتالي فهذا الخلاف الفقهي الموجود
بين العلماء ليس من الأمور الاعتباطية، بل هو ناشئٌ عن أسبابٍ معقولةٍ.
ومن ثَمَّ على كل واحدٍ منَّا أن يراعي أدب الاختلاف، ومن ذلك: عدم القدح في
المخالف؛ لأن هذا المخالف إنما أراد الوصول إلى الحق، وقد يكون الحق معه، وإن كان
الغالب على الظن أن الحق في ما نقوله، ومن الأدب في ذلك أيضًا: أن لا يُشوَّش الناس
والعامة على ذلك المخالِف، فإنه وإن أخطأ في مسألةْ أو مسألتين إلا أن صوابه أكثر،
وما يرشد إليه الآخرين مما ينتفعون به في دنياهم وآخرتهم أكبر، وبالتالي لا يصح
القدح فيه، ولا يجوز شرعًا.
ومن أدب الاختلاف أيضًا أن يحصل اتفاقٌ على المرجع الذي يُرجع إليه عند وجود
الاختلاف، فإن الله تعالى قال: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ
إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 10]، وقال سبحانه: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلً﴾ [النساء: 59]، فيه
نصوصٌ كثيرةٌ كلها تدل على هذا الأمر.
ومن الأمور المتعلقة بهذا: أن وجود الاختلاف لا يسوِّغ للإنسان الأخذ بأي واحدٍ من
الأقوال التي وقعت بين أهل الاختلاف، فإن كان مجتهدًا وجب عليه أن يجتهد في
المسألة، ولا يجوز له أن يقلِّد، وإن كان غير ذلك، فإنه حينئذٍ هناك معايير للتعامل
مع الاختلاف، إما بالترجيح بين المختلفيْن، بحسب العلم والورع والكثرة، وإما بأخذ
المسألة من عالمٍ آخر، فيحصل للإنسان قناعةٌ بالحكم الشرعي في مثل هذا، ولذلك من
الأمور التي نحذِّر منها أشد التحذير، أن يقول الإنسان في مسائل العلم، وهو ليس
عنده علمٌ، وقد ورد التحذير من مثل هذا، قال: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى
عَلَى اللَّهِ كَذِبً﴾ [الأنعام: 21]، أي: لا يوجد أحدٌ أظلم ممن كان كذلك.
ومن الأمور المتعلقة بهذا: أننا نتقرب إلى الله -عزَّ وجلَّ- بعذر المخالف، هذا
المخالف الذي خالفنا في هذه المسألة نعذره، وقد يكون له من الاجتهاد والرأي ما يكون
سببًا من أسباب وصوله إلى ذلك القول الذي قال به، وبالتالي لا يصح لنا التشنيع على
ذلك المتكلم، أو مقاطعته، وعدم التعاون معه في ما يعود بالخير.
ما موقفنا من المخالف؟
الخلاف لا يقضي على الأخوة الإيمانية، بالتالي لازالت الأخوة الإيمانية موجودةً،
والخلاف يُتقرب إلى الله -عزَّ وجلَّ- بتقريب هوَّة الخلاف، وتقريب وجهات النظر؛
ليكون هذا من أسباب اتحاد كلمة أهل الإسلام؛ لأن الاختلاف ليس مطلوبًا لذاته.
من الأمور التي تتعلق بهذا: أن يتقرب الإنسان إلى الله -عزَّ وجلَّ- بعذر المخالف،
فلا يتهمه في نيته، ولا يتكلم عليه في مسائل اجتهاده وترجيحه، وإنما يتقرب إلى الله
-عزَّ وجلَّ- بأن يعذره، ما وصل إلى هذا إلا بناءً على اجتهادٍ ورأي منه.
من المسائل المتعلقة بهذا: أن الإنسان في مسائل الاختلاف لا يحسن به أن يُعجب
بنفسه، احذر يا أيها المؤمن أن تُعجب بنفسك، فإن الإعجاب بالنفس مدار الخذلان،
وعندما يُعجب الإنسان بنفسه، يوكل إليها، ولا يوفِّقه الله -عزَّ وجلَّ- إلى ما
ينتفع به.
من -انقطاع في الصوت- يلاحظ في هذا: أن الفقيه لا يجوز له بأي حالٍ أن يستنقص
المخالف له، ولا -انقطاع في الصوت- المخالف من الخير، والحق، أكثر مما يقابله،
وبالتالي -انقطاع في الصوت- ما يتعلق بالمحاورات الفقهية.
في عصورٍ متعددةٍ وجد هناك جلسات مناظرةٍ في المسائل الفقهية، يأتي أحد الأشخاص
منتميًا إلى مذهبٍ، ويأتي الشخص الآخر منتميًا إلى مذهبٍ آخرٍ، فيوضع بينهما
محاورةً، ومناقشةً، هذا الحوار في الخلاف الفقهي، موجودٌ من العصور الفقهي، ولازال
الناس يستعملونه خصوصًا في المغرب العربي، وهذه المحاورات، لها ضوابط، ولها شروطٌ،
ولها إجراءاتٌ، ولها أيضًا مستنداتٌ يمكن أن يستندوا إليها، فهذه الأمور لابد أن
تكون حاضرةً عند وجود هذا الخلاف الفقهي.
من الأمور المتعلقة بهذا: مسألة الحذر من التعصب، قد يتعصب الإنسان إلى مذهبه،
وبالتالي لا يوفَّق إلى الحق والصواب. التعصب للمذاهب له صورٌ كثيرةٌ متعددةٌ، أورد
لكم نماذجَ، ولعلكم تشاركونني أيضًا في إيراد نماذج منها:
النموذج الأول في التعصب المذهبي: ترجيح أحد المذاهب الفقهية على غيرها بعمومٍ،
يقول: مذهبنا أحسن من بقية المذاهب، فهذا من التعصب، كل مذهبٍ، وكل قائلٍ، لابد في
أقواله من الصواب، وفي أقواله من الخطأ.
هكذا أيضًا: استنقاص المذاهب الأخرى، يعني يأتي ويحاول أن يقدح في أحد المذاهب،
فهذا الاستنقاص نوعٌ من أنواع التعصب المذموم المحرَّم في الشرع.
كنت طلبت منكم أن تشاركونني في التعصب الفقهي. نعم.
{عدم الاعتراف بالخطأ}.
جيد.
{التعصب في المذاهب يؤدي إلى التفرق}.
نريد صورًا منها.
{هذا مما نحن نعيشه هو ما يتعلق بالصوفية، أو ما يتعلق ببعضٍ يقولون هؤلاء سنية،
وهؤلاء المذاهب الأخرى}.
هذا خلافٌ عقديٌّ، لكن نحن نتكلم عن التعصب في الخلاف الفقهي.
يعني مثلًا أنتم من بلدان أفريقيا، هناك طائفةٌ يقولون: من قبض يديه لم نُصلِّ
خلفه، تعرفون الاختلاف في اليدين ماذا يُفعل بهما، هل تُرسل أو تُقبض، الجمهور
يقولون: تُقبض، والوارد عن الإمام مالك -رحمه الله- يقول: بأنها تُرسل، فيأتي من
يأتي، ويبحث المسألة، وتجده يتعسف في الأدلة، وفي بحثها وفي نظرها، من أجل أن يوافق
مذهب من يرى صحة مذهبه بجواز سدل اليدين في الصلاة، وتراه يقول: من لم يسدل يديه،
فإنه لا يُصلَّى خلفه، هذا من التعصب، حتى الأئمة الذين يرون هذه المسألة ما يقولون
بهذا.
ومن أمثلته: استنقاص المذاهب الأخرى، حتى أن بعضهم يقول: لا يجوز للمرأة منَّا أن
تتزوج بأهل المذهب الآخر، يقول: نعاملهم معاملة أهل الكتاب، نتزوج منهم، ولا
نزوجهم، هذا تعصبٌ، مخالفٌ للهدي النبوي.
{أيضًا في ما يتعلق في الاختلاف عندنا في المذهب المالكي في النية، القدامى يقولون:
النية محلها القلب، والبعض يقولون: لا بأس بالتلفظ بها، فهذا مما أدى إلى الاختلاف
عندنا أيضًا}.
نحن نريد أن نمثِّل للتعصب، يعني مثلًا لما قال: لا يُصلَّى خلفه، هذا تعصبٌ، هكذا
إذا استنقص بقية المذاهب، ورأى أنه في درجةٍ أقل من مذهبه، هناك مؤلفاتٌ في التعصب
المذهبي، مثلًا في كتب تفسير القرآن، بعضها تجده يتعصب للمذهب، ويتعسف في استعمال
الأدلة، هناك في كتب الخلاف أمثلةٌ ونماذجُ، وفي المقابل أيضًا هناك كتبٌ ومؤلفاتٌ
كثيرةٌ بل هي الأكثر فيها تركٌ للتعصب، وحياديةٌ في البحث والتحقيق، وبالتالي برز
أصحابها.
من المسائل المتعلقة بالخلاف: أنه إذا سُئلت في مسألةٍ فقهيةٍ، هل يحسن بك أن تذكر
الخلاف؟ أو لا؟
فنقول: الأصل في الفتوى عدم ذكر الخلاف، الأصل أن المستفتي أن يطلب منك أن توصله
إلى حكم الله -عزَّ وجلَّ- وحكم الله واحدٌ، وبالتالي المفتي لا يُبين إلا قولًا
واحدًا يرى أنه شرع رب العزة والجلال.
من المسائل المتعلقة بالخلاف الفقهي: ما يتعلق بنقض الحكم المخالف، لما يأتي قاضٍ
وينظر في قضيةٍ، ويحكم فيها باجتهاده، فحينئذٍ نُجري هذا الاجتهاد، ولو خالفه من
خالفه، وبالتالي نقول: لا يُنقض الاجتهاد باجتهادٍ آخر.
إذن، عندنا أن الأحكام القضائية المبنية على الاجتهاد، لا يجوز لنا أن ننقضها وأن
نلغيها، حتى ولو كان في درجةٍ قضائيةٍ أعلى.
من المسائل أيضًا المتعلقة بهذا الباب: أن الخلاف الفقهي ترتب عليه وجود المؤلفات
العديدة في مسائل هذا العلم، وهناك من يحاول تأصيل هذا العلم في ما يتعلق بعلم
الخلاف الفقهي.
وفيه مراتٌ توجد كتبٌ ومؤلفاتٌ في الخلاف الفقهي، مثل كتاب "المغني"، وكتاب
"المجموع"، وغيرها من الكتب التي تُعنَى بالمذاهب العلمية وتدوينها.
{هل يمكن نُدرج الاختلاف الفقهي في مسألة القنوت مثلًا عندنا، المالكية يقنتون في
الفجر، وبعض المذاهب لا يوجد ذلك، فنحن مثلًا البعض لا يقنتون، فهذا أدى إلى عدم
الصلاة في المساجد التي لا يقنتون في الفجر، ويقولون: إن هؤلاء جاءوا بدينٍ جديدٍ}.
هذا نموذجُ من النماذج، هذه مسألةٌ خلافيةٌ، الجمهور يقولون: القنوت إنما هو في
الوتر، وحال النوازل، لا يقولون هو في الفجر مطلقًا، وهناك من يرى أنه في الفجر
مطلقًا، يستدلون عليه بحديث أنس في قنوت النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الفجر،
فمثل هذا يؤخذ منه أن هذا القنوت لا ينبغي أن يكون صادًّا لاقتداء بعضنا عن بعضٍ،
ولإن كان هناك قولٌ راجحٌ، وقولٌ مرجوحٌ، وليس مذاهبهم واعتقاداتهم على طريقةٍ
واحدةٍ. عندكم أمثلةٌ أخرى.
{ما عندي أمثلةٌ، لكن هناك حديثٌ أريد أن أسأل، هل هو صحيحٌ أم ليس بصحيحٍ: "اختلاف
أمتي رحمة"، هل هو حديثٌ؟ أم ليس بحديثٍ؟}.
هذا لا يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يصح أن يعوَّل عليه، كما تقدَّم أن
الاختلاف هذا سنةٌ كونيةٌ، أمرٌ حتميٌّ مقدَّرٌ بين الخلائق، ولا ينبغي بالعبد أن
يقصد الاختلاف لذات الاختلاف.
{من نموذج هل يمكن نقول في الصلاة يقول: السلام عليكم، يقفون هكذا، ما يقولون:
السلام عليكم ورحمة الله، فتجد الذين يقولون: السلام عليكم ورحمة الله يُنكرون على
هؤلاء أنهم لا يتمون السلام، هل هذا يعتبر نموذج من نماذج التعصب؟}.
بعدم تمام الصلاة، هذا نوعٌ من أنواع التعصب، لأن هذا خلافٌ فقهيٌّ مقررٌ، وبالتالي
لا يصح معارضته بقولٍ لاحقٍ.
{لكن هل هذا موجودٌ، ورد في الصلاة يقول: السلام عليكم فقط، بدون السلام عليكم
ورحمة الله؟}.
نعم.
{مثلًا بعض الناس يقول: من قال آمين في الصلاة تبطل صلاته}.
نعطيك نموذجًا أوضح من هذا، البسملة، الشافعية يقولون: هي جزءٌ من الفاتحة، لا تصح
قراءة من لم يقرأ بالبسملة في فاتحة الكتاب، بينما المالكية يقولون: قراءة البسملة
بدعةٌ، قراءة البسملة في أول الصلاة بدعةٌ، قالوا: لأنه لم يكن من معهود فعل النبي
-صلى الله عليه وسلم-، فانظروا إلى التباين، وبالتالي إذا صلى الإنسان خلف أحد
هؤلاء، فإن صلاته صحيحةٌ مجزئةٌ؛ لأنه يعمل باجتهاده وأنت تعمل باجتهادك.
{مسألة قراءة الفاتحة للمأموم بعد قراءة الإمام، مثلًا عندنا بعد الأئمة لا ينتظرون
المأمومين ليقرؤوا الفاتحة، والبعض ينتظرون، هل هذا يعتبر اختلافٌ فقهيٌّ؟}.
الاختلاف في قراءة الفاتحة، اختلافٌ من قديمٍ، الشافعية يرون أن المأموم يجب عليه
أن يقرا الفاتحة، وقال طائفةٌ، يفرِّق بين الصلاة السرية والجهرية، قال آخرون بخلاف
القول الأول، هذا خلافٌ فقهيٌّ من الزمان الأول، وليس اختلافًا ناشئًا، وهو من
الأمثلة الجيدة.
يبقى هنا مسألةٌ متعلقةٌ بالخروج من الخلاف، يستحب للإنسان أن يكون في موطنٍ قد وثق
منه تمام الثقة، بحيث لا يدخل في محلٍّ إلا وهو متيقنٌ أنه مباح الحكم في الشريعة،
لو قُدِّرَ أنه دخل في منطقةٍ رماديةٍ، فحينئذٍ قد يقع في المحرمات من حيث لا يشعر،
ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «دع ما يريبك، إلى ما لا يريبك»، أي: اترك ما
تشك فيه، إلا ما لا تشك فيه، فإن الحلال بيَّنٌ والحرام بيَّنٌ قال: «إن الحلال
بيَّنٌ، والحرام بيَّنٌ، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، كالراعي يرعى
حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه».
يعني تأتي عند المحرمات، صحيح تقول: أنا لست بداخلٍ، لكن قد تشذ بعض بهائمك فتدخل
فتأكل، وبالتالي تعرِّض نفسك للعقوبة في هذا.
المقصود: أن الخروج من الخلاف هذا من المستحبات، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «دع
ما يريبك، إلى ما لا يريبك» دليلٌ على هذه القاعدة، والخروج من الخلاف له صورٌ
متعددةٌ، وأمثلةٌ كثيرةٌ، سواءً في قضايا العبادات، أو القضايا المالية، أو قضايا
الأسرة.
ومن الأمور التي أيضًا نؤكد عليها في هذا الباب، في ما يتعلق بالخلاف الفقهي: أن
يُبيَّن أن نظر المسائل ليس نظرًا اعتباطيًّا، وإنما هو مبنيٌّ على أصولٍ شرعيةٍ
واضحةٍ، فإذن الخلاف الفقهي هو ظاهرةٌ صحيةٌ، وعملٌ مستحبٌ، هو مما يُذكي روح
التعلُّم، وينشره في العباد عند الناس.
{ما حكم من يعمل بكل المذاهب؟ مثلًا يقرأ الفاتحة البسملة أحيانًا، وأحيانًا لا
يقرأها}.
المسائل التي يقع فيها اختلافٌ، قد يكون الاختلاف منسوبًا إلى الشارع، والاختلاف قد
يكون منسوبًا إلى غيره، فالاختلاف الذي في الشارع اختلاف تنوعٍ، وحينئذٍ الأولى أن
ينوِّع الإنسان بينها إلا إذا أُثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه استمر على
إحداها، فحينئذٍ يأخذ به.
مثال ذلك: في الأذان، هناك عندنا أذان أبي محذورة، وأذان بلال، وأذان أبي محذورة
فيه الترجيع، لكن الأذان الغالب، الذي يُقال عند النبي -صلى الله عليه وسلم- في
غالب الأوقات هو أذان بلال، ولذلك لم يؤثر عن بلال أنه ترك الصيغة التي يقولها
عادةً إلى صيغةٍ أخرى، وبالتالي نقول: الاختيار في مثل هذه المسألة، أن تُختار
الصيغة التي كانت بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإقراره -صلى الله عليه وسلم-.
بينما هناك أعمالٌ أخرى، ينوِّع فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في حديث
عائشة: أوتر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الليل كله، أول الليل، وأوسطه، وآخره،
فهذا تنويعٌ، وبالتالي يدل على جواز التنويع في مثل ذلك.
{هل يعتبر من واجبات الصلاة؟ وأركان الصلاة؟ هو ما يتعلق بالمالكية يقولون: أركان
الصلاة وسنن الصلاة فقط، دون ذكر الواجبات}.
لا، هذا في الترتيب، وقد يكون هناك اختلافٌ في الترتيب بين الأبواب، وقد يكون هناك
اختلافٌ في بعض المصطلحات، مثلًا باب الكفالة، بعضهم يطلقه على أن المراد به: إحضار
بدل مَن عليه حقٌ ماليٌّ، وبينما آخرون يقولون إن الكفالة تعني الغرامة المالية،
فهذا اختلافٌ في مصطلحٍ، هو اختلافٌ في لفظٍ، في عبارةٍ، ليس اختلافًا حقيقيًّا.
من الأمور التي تتعلق بالخلاف: أن مما يُستحب تدريب طلبة العلم على حسن التعامل مع
الخلافات الفقهية، فإنه حينئذٍ يؤدي إلى أن يحترم الناس بعضهم بعضًا، ويؤدي إلى أن
نثق في بعض من يتولون الإرشاد والتوجيه للخلق، وتعليمهم.
من الأمور المهمة في باب الخلاف الفقهي: أن يحذر الإنسان كل الحذر أن ينسب إلى نفسه
شيئًا يرفع مكانته، ويعزها، والأمر ليس كذلك، يريد أن ينتصر على خصمه في الخلاف
الفقهي، فيقول: أنا عملتُ وعملتُ، وأبي له المكانة الفلانية، فمثل هذا غير مقبولٍ،
فمثل هذا ليس من الأمور المقبولة.
من الأمور التي أيضًا لابد أن تُلاحظ في مسائل الخلاف الفقهي: أن الاختلاف الفقهي
قد يكون سببه اختلاف البلدان، اختلف حكم المحل، قد يختلف الحكم الفقهي إذن، لابد من
ملاحظة هذا الأمر، وتقليب النظر فيه.
هذه لمحةٌ عامةٌ، عن ما يتعلق بحكم الخلاف الفقهي، هذا الخلاف الفقهي وإن كان
مذمومًا في الأصل، إلا أن له آثارًا حميدة، يتناقشون، ويتساءلون، ويؤلفون الكتب،
مذاهب مختلفةٌ، بالتالي هذا الاختلاف الفقهي ليس مذمومًا بالكلية، وإنما يترتب عليه
آثارٌ حميدةٌ من نشر المعرفة، والعلم بين العباد.
كذلك تناولنا ما موقف الإنسان من المخالف منه، كيف يتأدب معه، ما موقف عامي الناس
من التعامل معهم، وحذرنا من بعض الأشياء التي قد تكون من الأمور المؤثرة، من مثل
إعجاب الإنسان بنفسه، أنه إذا أعجبت بنفسك، حينئذٍ قد يُذهب الله -عزَّ وجلَّ- بركة
علمك، ونحو ذلك.
وهكذا تكلمنا عن نقض الحكم القضائي، المبني على الرأي المخالف، وكذلك أيضًا أشرنا
إلى شيءٍ من المحظورات، سواءً في التعصب، أو في ممارسة بعض الصور التي تكون للتعصب
ونحوه.
إذن، هذه لمحةٌ عامةٌ عن: الخلاف الفقهي، وكيفية التعامل معه، والناس بأشد الحاجة،
كم حصل من الناس بين الناس من الخصومات، والنزاعات بسبب عدم قيامهم بالواجبات
الشرعية المتعلقة بالخلاف الفقهي؛ لأنهم ليس عندهم أدب الخلاف الفقهي، فتجدهم
يختصمون ويتنازعون، وقد يقتتلون، وقد تُسفك دماءٌ، وقد تؤخذ أموالٌ بسبب ذلك.
حينئذٍ لابد من أن نولي هذا الموضوع عنايته.
أسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يوفقنا وإياكم للخير، وأن يجعلنا وإياكم الهداة
المهتدين، وأسأل سبحانه صلاحًا لأحوال الأمة، واستقامة لأمورها، وسعادةً لقلوب
أبنائها. اللهم احقن دماءهم، واجمع كلمتهم، ووحِّد صفوفهم، اللهم يا حي يا قيوم
نسألك أن ترزق جميع المسلمين في جميع بقاع الأرض الأمن والاستقرار، والسلامة
والإسلام، كما نسأله -عزَّ وجلَّ- لكم إخواني ولكل من شاهدنا التوفيق والهداية،
والعلم النافع، والعمل الصالح. هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى
آله وصحبه أجمعين.