الحمد لله رب العالمين، نحمده على نعمه، ونشكره على فضله، ونسأله المزيد من منِّه،
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله
عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد، فهذا هو اللقاء الثامن من لقاءاتنا في هذا المقرر، نتدارس فيه شيئًا من
أحكام الفتوى، بعد أن تكلمنا في ما مضى عن مباحث الاجتهاد والتقليد، فندخل في بابٍ
جديدٍ، ألا وهو: باب الفتوى.
ما هي الفتوى؟ وما المراد منها؟ وما هي مناهج العلماء فيها؟ وهل الفتوى مهمةٌ؟ وما
هي الضوابط في هذا الباب؟ وما هي طريقة السلف في أبواب الفتوى؟ هذا ما سنتكلم عنه
-بإذن الله جلَّ وعلَا- في هذا اليوم، أسأل الله أن ينفع بكم، وأن يوفقكم لخيري
الدنيا والآخرة.
الفتوى في اللغة، مأخوذةٌ من معنى البيان والوضوح، وكأن الفتوى توضح حكم الله -جلَّ
وعلَا- وتبينه في الوقائع التي تنزل بالناس، والمراد بالفتوى إذن: توضيح وبيان حكم
الله -جلَّ وعلَا- في الوقائع التي تقع في الناس.
وهناك منهجان من مناهج العلماء في حقيقة الفتوى، فطائفةٌ تقول: كل بيانٍ للحكم
الشرعي في الوقائع، فإنه يُعَدُّ فتوى، بينما رأى آخرون: بأن الفتوى هي التي تكون
ناشئةً عن سؤالٍ، فهي بيانٌ لحكمٍ شرعيٍّ، جوابًا عن سؤالٍ.
إذن، هناك منهجان، وبالتالي ينبغي بنا أن نفرِّق بين الفتوى وعددٍ من المسائل
المماثلة لها، فمن المسائل التي بينها وبين الفتوى اتصالٌ: مباحث القضاء، فالقضاء
يختلف عن الفتوى في شيئين؛ لأن القضاء، فصل الخصومات التي تقع بين الناس، ومن ثَمَّ
هناك شيئان أو ثلاثةٌ، يقع الفرق فيها بين الفتوى والقضاء.
الأول: أن باب الفتوى في ما بين العبد وبين ربه -سبحانه وتعالى-، بينما في باب
القضاء: القضاء يكون في مسائل الخصومات والنزاعات بين الناس، ومن ثَمَّ فإن القضاء
لا يكون في مسألةٍ ليس فيها إلا مستفتٍ واحدٍ، لابد فيها من اثنين متقابليْن.
الفرق الثاني: أن القضاء مُلزمٌ، بينما الفتوى غير مُلزمةٍ في الأحكام الدنيوية،
وإن كان العبد يلزمه أن يعمل بفتوى المفتي، متى غلب على ظنه أنها شرع رب العزة
والجلال.
ومن الفروقات بين القضاء والفتوى: أن الفتوى تكون في مسألةٍ عامةٍ، تتعلق بعموم
الناس، فمثلًا هذا المفتي يفتي في حكم التدخين لكل من يريد أن يُدخِّن، بينما في
القضاء، هي متعلقةٌ بمسألةٍ جزئيةٍ معينةٍ، الخصومة التي بين فلانٍ، وفلانٍ في
الموقع الفلاني، في المواصفات الفلانية. إذن، هذا فرقٌ ثالثٌ بين الفتوى والقضاء.
القضاء لا يدخل أصالةً في مسائل العبادات، بخلاف الفتوى، إذن هذه فروقاتٌ بين
الفتوى وبين القضاء.
ما هي الفروقات بين الفتوى والتعليم؟
عندنا مدرسٌ يدرس الأحكام الشرعية، ويعلِّمها، ويوضِّحها، فنقول: هذا المدرس هو
معنيٌّ بتوضيح المسألة، وليس معنيًّا بتقرير الحكم فيها، وتقريرُ الحكم يكون من أهل
الفتوى، المعلم يأتي بالأقوال والأدلة، وقد يرجِّح بينها وقد لا يرجِّح، بخلاف
المفتي، فإنه في الفتوى، الأصل في الفتوى أن تكون بذكر القول الراجح، ولا يلزم ذكر
الأقوال الأخرى في مسائل الفتوى، بخلاف التعليم، فلابد أن يُجلِّي المسألة، ويوضِّح
المراد منها.
إذن، عرفنا الفرق بين التعليم والفتوى، والتعليم والقضاء والفتوى، وعرفنا أن الفتوى
توضيح الحكم الشرعي، وبيانه في المسائل الواقعة التي تقع عند الناس.
هل الفتوى مهمةٌ؟ وهل نحن محتاجون للفتوى؟
نقول: نعم، نحن في أشد الحاجة للفتوى، وتبرز أهمية الفتوى في أربعة أشياء:
الأول: إصلاح أحوال الخلق في الآخرة؛ لأنه لن تصلح أحوال الإنسان في آخرته، إلا إذا
كان قد سار على شريعة رب العزة والجلال، والناس لا يعرفون حكم الله، إلا من خلال
الفتوى.
والأمر الثاني: استجلاب رضا الله، فإن الفتوى تُستجلب بها صفة الرضا من رب العزة
والجلال؛ لأن الله يرضى عن العباد متى تعلموا العلوم الشرعية، ويرضى عن العباد متى
عملوا بالشرع، ولا يكون هناك معرفةٌ من الناس بشرع الله إلا من طريق الفتوى، في
غالب أحوال الناس؛ لأن أهل الاجتهاد نوادرُ، والذين يتمكنون من استخراج الأحكام من
الأدلة قلَّةٌ، وبالتالي أكثر الخلق يحتاجون إلى الفتوى؛ لمعرفة حكم الله -جلَّ
وعلَا-
الأمر الثالث: أن الاستقرار على كافة أصعدته، إنما يكون بهذه الفتوى، سواء كان
الاستقرار النفسي، أو الأسري، أو الاجتماعي، أو الأمني، أو السياسي، أو المالي؛ لأن
صلاح أحوال الناس، وطمأنينة قلوبهم، تكون باتباع الشرع، والذي يوضِّح الشرع، فهو
هذه الفتوى، ومن ثَمَّ فالفتوى تنزع فتيل الخصومات والمنازعات قبل حصولها، وتكون من
أسباب استقرار أحوال الناس، ولذلك على من كان من أهل الفتوى أن يراعي هذا الجانب،
وأن تكون فتواه مؤديةً إلى الطمأنينة والاستقرار على كافة الأصعدة، الصعيد النفسي
والاجتماعي والنفسي والسياسي؛ لأنه حينئذٍ يسعد الناس في دنياهم.
إذن، هناك حاجةٌ شديدةٌ للفتوى، خصوصًا إذا علم الإنسان كثرة الخلق، وتعدد حوائجهم،
وكثرة مسائلهم، مئات الملايين، أكثر من مليار مسلمٍ كلهم يحدث له حوادث يوميةٌ،
يحتاج إلى معرفة حكم الله -جلَّ وعلَا- فيها، لا يتمكن إلا بالفتوى، لا يمكن أن
يعود الناس إلى دين الله -جلَّ وعلَا- إلا بالفتوى، كيف يعرفون شرع الله ويعملون به
إلا بوجود المفتين، الذين يدلون الخلق على شرع رب العزة والجلال.
ومع أهمية الفتوى إلا أنه قد تؤثر بالتأثير السلبي، متى ما دخل في باب الفتوى من
ليس أهلًا لها، أو متى وُظِّفت الفتوى في غير الوظيفة الشرعية، التي جاء الشرع
بتوظيف الفتوى فيها، متى جُعلت الفتوى سببًا من أسباب رفع مكانة الإنسان في الدنيا،
أو تكبُّره على الخلق، أو كانت الفتيا من أجل ترويج أمورٍ تجاريةٍ وماليةٍ، أو من
أجل تمرير مخالفاتٍ شرعيةٍ، حينئذٍ تكون الفتوى أشد ما تكون ضررًا للعباد؛ لأنه قد
خالفت المقصود الشرعي منها.
والفتوى كما سيأتي لها منطلقاتٌ لابد أن يلاحظها المفتي، ولها من العسر والشدة ما
الله به عليمٌ، قد يُفتي الإنسان بكلمةٍ يترتب عليها من الآثار الشيء الكثير، ومن
هذا المنطلق، جاءت كلمات السلف -رضوان الله عليهم- في التحذير من الفتوى بلا علمٍ،
أو من الفتوى قبل تمام النظر فيها، "فمن أخطأ لا أدري أُصيبت مقاتله"، كما قال
ربيعةُ، وقال أيضًا: "بعض المفتين أحوج بالسجن من السُّرَّاق" سواءً أراد من تسلق
جانب الفتوى وهو ليس من أهلها، أو من كان لا ينظر في عواقب الأمور ومآلاتها، وقد
كان السلف -رضوان الله عليهم- يَحذرون من هذا الجانب، حتى أن المستفتي كان يمر
عليهم واحدًا واحدًا يمتنعون من فتواه، كلٌّ منهم يشير إلى صاحبه ليعود إليه.
وقد ورد في خبرٍ عند الدارمي: "أجرؤكم على الفتيا، أجرؤكم على النار"، وورد في خبرٍ
آخر: "من أُفتي بغير علمٍ، فإنما إثمه على من أفتاه"، مما يدل على أن الفتوى جانبٌ
عظيمٌ، ولا يجوز أن الإنسان في مسألةٍ إلا وقد اجتهد فيها، بأن نظر في الأقوال،
ونظر في الأدلة، ورجَّح بين تلك الأقوال.
الفتيا بابٌ مهمٌ، ولذلك تولى الله -جلَّ وعلَا- الفتيا في بعض المسائل، كما في
قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ
وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا
تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾ [النساء: 127]
الآية، وقوله: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ
امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ
يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ﴾ [النساء: 176]، إذن هذا من تولي رب العزة
والجلال للفتوى، لما يستشكله العباد.
وهكذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفتي الناس، ويجيبهم على أسئلتهم، ويبيِّن
لهم الحكم الشرعي في ما يعرض لهم من النوازل، فهذا هو شأن النبي -صلى الله عليه
وسلم-، وبعد النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء علماء الصحابة -رضوان الله عليهم-،
فتولوا جانب الإفتاء، واهتموا به، وأولوه العناية اللائقة به، وتحرَّزوا في هذا
الباب، الشيء الكثير، وكما تقدَّم أنهم كانوا يتورَّعون في باب الفتيا، ما يفتون
إلا بما يعلمون أنهم قد برئت ذممهم عند الله -جلَّ وعلَا- فيه، وتتابع علماء الأمة
على الفتوى في ما يحتاج إليه الناس من المسائل، فهؤلاء علماء الإسلام، وإن كنا نجد
أن العديد منهم يمتنع عن الجواب عن بعض المسائل، التي لو عُرضت على صغار الناس في
زماننا لأجاب فيها بدون تأنٍّ ولا تروٍّ، مما يدلك على استهانة البعض بهذا الباب.
قد ورد عن الإمام مالك -رحمه الله- أنه سُئل عن أربعين مسألةٍ، أو عن اثنين وأربعين
مسألةٍ، فقال في ستٍّ وثلاثين منها: لا أدري، فلما قيل له في ذلك، وأنه أتاه السائل
من مصرَ، قال: ارجع إلى من ورائك، فأخبره أن مالكًا لا يدري.
وذلك لأنك في الفتوى تريد أن تخرج الناس من الورطات التي هم فيها، مما يُخشى عليهم
بسببه الإثم، فإذا علَّقتَ الإثم برقبتك، بعد أن قمتَ بفكه من رقبة ذلك السائل،
فحينئذٍ لاشك أن هذا تغفيلٌ مخالفٌ للطريقة العقلية والشرعية في هذا الباب.
ما هو الحكم الشرعي في الفتيا؟ والحكم الشرعي في الفتيا يختلف باختلاف الأحوال
المحيطة به، ما هو حكم الشريعة في الفتيا بالنسبة للعالم الفقيه؟ نقول: إذا وُجد في
البلد غيره، فإنه يستحب له الجواب ولا يجب، وإذا لم يوجد سواه، وكان المستفتي
محتاجًا للعمل بالفتوى، تعيَّن عليه.
أما إذا كان الشخص غير مؤهلٍ للفتيا، فحينئذٍ لا يجوز له أن يفتي، ويحرم عليه أن
ينسب إلى الله، وإلى شرعه ما لا تطمئن نفسه إليه، وما لا يتأكد باجتهادٍ سابقٍ منه،
أن هذا هو حكم رب العزة والجلال.
ومن خلال ما سبق نعرف أن المفتي له مكانةٌ عاليةٌ، لماذا؟ لأنه يبلِّغ شرع رب العزة
والجلال، ولأنه ممن نوَّهت النصوص الشرعية بفضله، والنصوص في هذا الباب كثيرةٌ،
يقول الله -جلَّ وعلَا-: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ
لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]، الجواب: لا يستوون، قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة:
11]، وقال: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، وفضل العالم على العابد، كفضل
القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»، فيه نصوصٌ كثيرةٌ تدل على فضيلة المفتين،
وعِظم مكانتهم في الشريعة، وما ذاك إلا لأنهم قد بذلوا أوقاتهم لله، وما ذاك إلا
لأثرهم الحميد في إصلاح أحوال الأمة.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، كما أسلفنا في الدروس الماضية في المجتهد، كان هناك
شروطٌ للمجتهد، هل للمفتي نفس الشروط؟ أو هناك شروطٌ مستقلةٌ للمتفي؟}.
جيد. بارك الله فيك.
المفتي يُشترط له شرطان:
- الشرط الأول: الاجتهاد.
- الشرط الثاني: العدالة.
فلا يُفتي إلا من كان مجتهدًا، والمجتهد تقدَّم معنا أنه يتصف بأربع صفاتٍ:
- العلم بالأدلة الشرعية.
- والقدرة على تطبيق القواعد الأصولية.
- ومعرفة مواطن الاتفاق والخلاف.
- ومعرفة شيءٍ من لغة العرب، يتمكن به من فهم النص ومدلوله.
فهذه شروط الاجتهاد التي تقدَّمت معنا، والاجتهاد كما تقدَّم شرطٌ في الفتوى، فلا
يجوز أن يُفتي إلا المجتهد، الذي يتمكن من استخراج الأحكام من الأدلة، أما من كان
حافظًا لأقوال الفقهاء، فهذا ليس بمجتهدٍ، وبالتالي لا يكون مفتيًّا، إنما هو
ناقلٌ، لماذا؟ لأنه ليس من أهل الاجتهاد.
والصفة الثانية: أن يكون المفتي من أهل العدالة، لأنه إذا لم يكن عدلًا، فإنه لا
تُقبل شهادته، ومن ثَمَّ لا تُقبل فتواه، قد يكون مؤهلًا للاجتهاد، وصل إلى رتبة
الاجتهاد في نفسه، وبالتالي نقول: في نفسك اعمل باجتهادك، ولكن في الأمر المُعلن،
لا يصح أن تعمل بخلاف فتوى سائدةٍ في ذلك المكان، أما أخْذ غيره له، فلا يجوز له أن
يأخذ، لماذا؟ لأنه ليس بعدلٍ، ويُشترط في من يُقبل قوله: أن يكون من أهل العدالة؛
لقول الله -جلَّ وعلَا-: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [الطلاق: 2]،
ولقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُو﴾ [الحجرات: 6]، معناه: الفاسق ما تُقبل شهادته، لابد من التبيُّن
فيها.
إذن، المفتي له المنزلة الرفيعة، هناك بعض الأشخاص الذين قد يقع التردد في حكم
كونهم يُفتون في المسائل، وحكم أخْذ الآخرين لفتاواهم، مثال ذلك: المفضول هل يجوز
أن يُستفتى؟ أو لا يجوز؟ عندنا مفضولٌ وفاضلٌ، فهل يجوز لنا أن نستفتي المفضول مع
وجود الفاضل؟ نقول: نعم يجوز؛ لأن هذا هو شأن الصحابة في العهد الأول، فإذا لم يعلم
المقلِّد إلا بقول أحدهم، عمل به، وبرئت ذمته بذلك، وإن علم بأكثر من قولٍ لهم،
حينئذٍ يرجِّح بينهم بحسب صفات العلم والورع والأكثرية على ما تقدَّم.
هل المقلِّد يصح أن يُستفتى؟
نقول: لا يصح أن يُستفتى؛ لأن الله -جلَّ وعلَا- يقول: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وبالتالي من لا يعلم، فوظيفته
السؤال، ولا يُسأل، والعامي المقلِّد هذا ليس مؤهلًا لاستخراج الأحكام من الأدلة،
وبالتالي لا يجوز أن يُفتي، ولا أن يُستفتى، لن توجد فيه شروط الفتوى.
إذن، المفضول هل يجوز لنا أن نستفتيه؟ نقول: نعم؛ لأنه مؤهلٌ، وقد وُجدتْ فيه شروط
الفتوى، وبالتالي يجوز سؤاله، فإن لم نعلم إلا بقوله، جاز لنا العمل بقوله؛ لأن
الأدلة الدالة على جواز العمل بالفتوى من المجتهد عامةٌ، فإذا علمنا بوجود
الاختلاف، فحينئذٍ نقول بالترجيح بينهم بحسب الصفات الثلاثة: العلم، والورع،
والأكثرية، على ما تقدَّم.
من المسائل المتعلقة بهذا: أن بعض الناس قد يُرسل من يستفتي له، فنقول: هذا جائزٌ؛
لأن هذا الرسول ينقل الواقعة بحذافيرها، كما هي، ويسأل عنها، واقعة فلانٍ، في
واقعةٍ خاصةٍ، وبالتالي يجوز حينئذٍ أن نعمل بقول هذا الرسول، متى كان ثقةً يصحُّ
أن ينقل الأخبار.
هل يكون هذا من باب استفتاء المقلِّد؟ أو غير المجتهد؟
نقول: لا، هذا مجرد رسولٍ، قد تكون مستحيًا من قضيةٍ من القضايا؛ لقرابتك من المفتي
أو لغيرها، فتُرسل غيرك فيسأله، كما ورد في حديث المقداد عن عليٍّ -رضي الله عنه-،
قال: "كنت رجلًا مذَّاءً، فاستحييتُ أن أسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمكان
ابنته منِّي، فأرسلتُ المقداد" والمقصود أنه لما أرسل المقداد، سأل النبي -صلى الله
عليه وسلم- فأجابه، فعمل عليٌّ -رضي الله عنه- بما رواه المقداد، فهنا سؤالٌ خاصٌّ،
في قضيةٍ خاصةٍ، أُرسل برسالةٍ تتعلق بتلك الواقعة، ومن ثَمَّ فإنه يُقبل هذا
الإرسال، ولا يُعَدُّ من باب استفتاء المقلِّد؛ لأن هذا مجرد رسولٍ.
من المسائل المتعلقة بهذا: أن المفتي قد يكون له عددٌ من الصفات، وبالتالي لابد أن
نلاحظ أن هذه الصفات تكون موجودةً في المفتي على ما تقدَّم. هناك صفاتٌ وقع التردد
في كونها شرطًا من شروط المفتي أو لا، والصواب: عدم اشتراط هذه الصفات.
من ذلك مثلًا: أن بعضهم اشترط أن لا يكون هناك عداوةٌ بين المفتي والمستفتي.
المفتي عدلٌ أو ليس بعدلٍ؟ التقرير على أنه عدلٌ، هل تظنون أن العدل سيرتكب تلك
الجريمة العظيمة، وهي القول على الله بلا علمٍ؟ هذا ما يفعله، مادام عدلًا لا يفعل
ذلك، أليس كذلك؟ وبالتالي: لو كان عدوًّا للمستفتي، فلا يمكن أن يُتصور أن ينسب إلى
الله، وإلى شرعه ما ليس منهما، ما ليس من شرع الله، لا في الكتاب ولا في السُّنة.
إذن، وجود العداوة بين المفتي والمستفتي لا تمنع من الاستفتاء، هكذا وجود الصداقة،
يعني في باب الشهادة، العداوة والصداقة، هذه مؤثرةٌ على باب الشهادة، لكن في باب
الرواية، أو باب الفتوى، لا تؤثر، ما السبب أنها لا تؤثر مع كونها تؤثر في باب
القضاء والشهادة؟ نقول: هناك القضية متعلقةٌ بقضيةٍ شخصيةٍ، في القضاء والشهادة،
بينما في باب الفتوى ليست القضية شخصيةً، بل هي تعم كل من احتاج إلى تلك المسألة،
فبتالي نفرِّق بين هذين النوعين من المسائل.
{فضيلة الشيخ، أحسن الله إليكم، هل الفتوى ثابتةٌ؟ أو قابلةٌ للتغير؟ وهل يمكن أن
يفتي في شيءٍ يتوقع حدوثه؟}.
بارك الله فيك.
{أحسن الله إليكم شيخنا، هنا سؤالٌ حول قضية التفريق بين المسائل التي نعدُّها من
قبيل الفتوى، والمسائل التي يمكن أن يكون المستفتى فيها ناقلًا، يعني متى نقول إنه
يحق له أن ينقل، والمسائل التي لا يحق له أن ينقل؛ لأنها من قبيل الفتوى، التي لا
يُفتي فيها إلا المجتهد؟}.
بارك الله فيك.
نقْلُ الفتوى، هذا لا إشكال فيه، الإشكال في العمل، هل يلزمنا أن نعمل بفتوى
منقولةٍ؟ أو لا يلزم ذلك؟ الجماهير يقولون: لا يلزم، وإنما يلزمه أن يسأل، ولا عبرة
لهذه القيمة المنقولة، وأنت تشاهد أن الإنسان قد يُنزِّل، أو قد ينقل، وقد يفهم
أشياء فهمًا خاطئًا، ويرتب على هذا من النتائج ما الله به عليمٌ، وبالتالي لابد من
التمييز بين الأمرين.
هنا شيءٌ يمكن أن يكون مرادًا بسؤالك، وهو: أن بعض المسائل تتردد بين كونها من
مسائل القضاء، وبين كونها من مسائل الفتوى. من أمثلة هذا: مثلًا مسألة الطلاق، هل
هي مسألة خصومةٍ فيرجعون للقضاء؟ أو هي مسألة فتوى فيرجعون إلى المفتي؟ بماذا
تجيبون؟ فتوى أو قضاء؟
{إنها مسألة فتوى}.
لماذا قلتَ بأنها مسألة فتوى؟
{لأن المسألة تحتاج إلى المفتين، المجتهد هو الذي يستنبط الأحكام الشرعية، من
الأدلة الشرعية، فيكون هناك هو الذي يستطيع يستنبط الأحكام الواردة، الآيات والنصوص
الواردة، يفهمها، ويستخرج الأحكام منها، ويفتي بها في هذه المسألة}.
ماذا تقولون؟ أحدٌ يوافق؟ أنا ما أوافق، من يجيب؟ فيه أحدٌ منكم عنده فرقٌ؟
وبالتالي نعرف مسألة الطلاق، هي مسألة فتوى؟ أو مسألة قضاءٍ؟
تقدَّم معنا: أن القضاء فصل خصومات، فإذا كان الزوجان متنازعيْن، ما يذهبون إلى
المفتي، يذهبون إلى القاضي، وإذا كان الزوجان متوافقيْن فالجواب تكون ليس فيها
نزاعٌ، ولا خصومةٌ، فيرجعون فيها إلى الفتوى، فتلاحظون هذا الأمر، وبما أننا نتكلم
عن مسائل القضاء، أُبيِّن هناك ثلاثة أشياء:
الأمر الأول: أن بعض الناس في استفتائه لا يريد إلا أمر الدنيا، ما هي المصلحة؟
مثال ذلك: يأتيك يقول لك: أنا طلقتها، أريد أن ترجع إليَّ، لا يقول: ماذا يبرئ
ذمتي؟ يأتيك ويقول لك: أنا طلَّقتُ زوجتي ثلاثًا، ماذا عليِّ، نقول: فعلك هذا
حرامٌ، وعليك التوبة إلى الله منه، قال: هذا لا أسألك عنه، أنا أريد الزوجة ترجع
إليَّ، فمقصوده بالاستفتاء في مثل هذا، ليس تصحيح أوضاعه، وإنما تحقيق هواه، وتنفيذ
مراده، فمثل هذا ما يُتمادى معه، إلا على سبيل النصح والإرشاد، احذر، أمر الآخرة
أعظم، لابد أن تكون متيقِّظًا في هذا الجانب.
وهناك مسائل حكم فيها القاضي بالتفريق، أو بالخُلع، أو غيره، فهذه المسائل ليست من
مسائل الفتوى، خلاص انتهت بحكم قضاء، وبالتالي لا يُرجع إلى الفتوى في مثل هذا، إلا
أن بعض أهل العلم ولعل قولهم فيه وجاهةٌ، يقول: يجوز للمفتي النظر متى أذِن له
القاضي، ناظر القضية؛ لأنه قد يطَّلع على أشياء جديدةٍ لم تكن موجودةً في السابق،
وقد يكون هناك خفايا ونحوه، وبالتالي إذا أذِن القاضي للمفتي بالنظر في هذه المسألة
التي نظر فيها، نقول: هذا الإذن معتبرٌ.
من المسائل المتعلقة بهذا، في مسائل الطلاق: التفريق بين ما يُحكم به ديانةً، وما
يُحكم به قضاءً، فقد تكون المفتي يُفتي بشيءٍ، أو القاضي يحكم بشيءٍ، فقضاءً يحل،
لكنه في قرارة نفسه يعلم غير ذلك، تكون الديانة على خلافه، أنا عندي قضيةٌ، خصمي
جاء بشهود زورٍ يشهدون معه، قضاءً الحق معه، لكن في الديانة ليس معه حقٌّ، أليس
كذلك؟ إذن هناك تفريقٌ بين ما هو ديانةٌ، وبين ما هو من باب القضاء، تُفرِّقون
بينهما، وهذا له مسائل كثيرةٌ، طلَّقها الطلقة الثالثة، ولا أحد يعلم، إلا هي، لو
ادَّعتْ عليه، ما عندها شهودٌ، فقضاءً الزوجة باقيةٌ في ذمته، ديانةً ليست في ذمته،
وليست زوجةً له، وبالتالي يُشرع لها أن تفتدي منه بالخُلع، لأنها تعلم أنه ليس
زوجًا لها، فهنا نُفرِّق بين ما هو قضاءٌ يُلتفت فيه إلى الأمور الظاهرة، وما هو
ديانةٌ يكون للأمور الباطنة تأثيرٌ فيه، مثل النيَّات والمقاصد ونحوها.
إذن، عندنا الجاهل هل يجوز لنا أن نستفتيه؟ نقول: لا، العالم؟ يجوز، طيب، مستور
الحال؟ لا يُدرى، يمكن يكون أجهل من الأول، وبالتالي لا يجوز سؤاله.
{ذكرتم هناك ثلاثة أمورٍ ينبغي أن ننتبه إليها، وذكرتم واحدًا، وما هو الثاني
والثالث}.
قلنا الأول: أن الفتوى لابد أن يلاحظ المستفتي فيها أمر الآخرة، ما تكون مقاصده
الأمور الدنيوية فقط، والأمر الثاني: التفريق بين ما هو قضاءٌ، وما هو ديانةٌ، قد
يُحكم بالحكم القضائي، وتكون الديانة بخلافه، كما في قول النبي -صلى الله عليه
وسلم-: «إنكم تختصمون لديَّ، ولعل أحدكم يكون أَلْحَنَ بحجته من بعضٍ، فمن قضيتُ له
من حق أخيه بشيءٍ، فإنما أقضي له جمرةً من نار»، فهنا الحكم الظاهر على حسب الأمور
الظاهرة، ولكن هناك حكمٌ باطنٌ عند رب العزة والجلال، فلابد من التفريق بين الديانة
والقضاء.
والأمر الثالث المتعلق في مسائل الطلاق أيضًا: تلاحظون التفريق بين الذي يتولاه
القاضي، والذي يتولاه المفتي على ما تقدَّم قبل قليلٍ.
من الأمور المتعلقة بهذا: أن الحاكم، سواءً كان إمامًا أعظم للمسلمين، أو كان
قاضيًا، أنه الأصل تأهيله للفتوى، فمتى كان مؤهلًا للفتوى، وجب قبول فتواه، وما لم
يكن كذلك، لم يجب قبول فتواه.
من الأمور المتعلقة بهذا: مسألة ما لو غضب المفتي، مراتٌ تعرض للإنسان أقدارٌ
تُخرجه عن طوره، فلو قُدِّرَ أن مستفتيًا جاءه في ذلك الوقت، فسأله فأفتاه، ما حكم
هذه الفتوى؟
نقول: يحرُم عليه أن يُفتي، ويحرم على ذاك أن يأخذها، وأن ينقلها، لماذا؟ لأن
الغضبان ليس بمؤهلٍ للحديث والكلام والفتيا، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
«لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبانٌ»، لماذا؟ لأن الغضب مشوِّشٌ للذهن، كما
يشوِّشه في باب الرواية، يشوِّشه في باب الفتوى، وبالتالي يكون ذهن هذا المفتي
مشوَّشًا، وبالتالي عليه أن لا يُفتي.
من الأمور التي أريد أن أتوسَّع فيها، وأن أتكلم فيها: أن بعض الناس قد يصف المفتين
بأوصافٍ ينبغي التنبيه عليها، يقول: فلانٌ هذا ييسِّر الأمور، وفلانٌ متشددٌ،
ومراتٌ يصلون إلى الذِّمة، ويقولون: فلانٌ يأخذ الرِّشوة لفتواه، فمثل هذا الكلام
ما حكمه؟ بهتانٌ أو غيبةٌ، أليس كذلك؟ وبالتالي لا يجوز للإنسان أن يتكلم بمثل هذا
الكلام، حتى وصفه بأنه متشددٌ، لماذا؟ لأن المفتي إنما يأخذ الأحكام من الأدلة،
بحسب قواعد الترجيح الموجودة لديه، فهو لا يبتدئ الأحكام من عند نفسه، وليس لموافقة
هواه، وإنما بحسب مدلول النص الشرعي، وبالتالي لا يصح أن نطعن بمثل هذه الأوصاف،
الطعن في الفقيه المفتي بمثل هذه الأوصاف لا يجوز، وكم من مرةٍ، وكم من مسألةٍ يُظن
أن التيسير في بابٍ، ويكون التيسير في ضده، وأعطيكم أمثلةً.
من المسائل التي وقع الاختلاف فيها: هل يجوز للمرأة أن تسافر إلى الحج بدون مَحرمٍ؟
قال الجمهور: لا يجوز، لحديث ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يحل
لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرمٍ»، قالوا: ومن ذلك أسفار
الحج، بالتالي لا تسافر.
جاءنا آخر، وقال: أنا أريد أن أسهِّل على الناس، تحج بدون مَحرمٍ، لا بأس، إذا صار
في القافلة عشرة رجالٍ، يصيرون مَحرمًا لكل من كان في الرحلة، حتى ولو لم يلتقوا
إلا في آدم -عليه السلام-، طيب أين الحديث؟ قالوا: هذا مخصوصٌ، هذه عبادةٌ.
أيهما أيسر وأسهل على الناس؟
نقول: القول الأول: الذي يقول: يُشترط في السفر المَحرم، أليس كذلك؟ لأن القول
الثاني يقول: المرأة تجلس في بيتها معززةٌ مكرمةٌ لها الأجر كاملًا، وذاك يقول: لا،
تبذل من أموالها، وتسافر المسافات البعيدة، وتنتبه لكي لا تخالف في محظورات
الإحرام، أو يصير عندها رفثٌ أو غير ذلك من الجدال، أو فسوقٌ أو غيره، وبالتالي
ينقص أجرها...