الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد.
فأرحب بكم في لقاءٍ جديدٍ من لقاءاتنا في تقرير أحكام الاجتهاد والتقليد، لنبحث
فيها مسائل الفتوى والاختلاف، ونتذاكر فيها شيئًا من المسائل الأصولية المتعلقة
بهذه الأبواب.
من المعلوم أن الفتوى عليها مدارٌ عظيمٌ، وأنها هي التي تتضح بها الأحكام الشرعية،
وأن الله -عزَّ وجلَّ- قد أخذ الميثاق على العلماء ليُبينوا شريعته، ومن ثَمَّ
نتقرَّب إلى الله جميعًا بتقرير مسائل الفتوى، ونتقرب إلى الله -عزَّ وجلَّ- بتدارس
هذه المسائل، لنعرف أحكام المفتي والمستفتي، فنكون بذلك قد سرنا على الطريقة
الشرعية في ما يتعلق بأحكام الشريعة.
سبق أن بيَّنا معنى الفتوى في ما مضى، وعرَّفنا بشيءٍ من أسباب أهميتها، وذكرنا بعض
الأحكام المتعلقة بها، ولعلنا -إن شاء الله تعالى- أن نواصل الحديث في الكلام عن
بعض أحكام الفتوى في هذا اليوم.
ومن الأمور التي تُقرَّر: أن الاستفتاء إنما يكون للعلماء الذين يتصفون بصفتين:
الأولى: أن يكونوا من أهل الاجتهاد؛ لأن من لم يكن من أهل الاجتهاد لا يجوز له أن
يُفتي، وسبق معنا أن أهل الاجتهاد لابد أن يكون كلُّ واحدٍ منهم قد أخذ الأحكام من
الأدلة، لم يأخذها تقليدًا لغيره، ولم يأخذها من كتابٍ غير كتاب الله، وسنة نبيه
-صلى الله عليه وسلم-؛ لأن من كان كذلك، فهو مقلِّدٌ يحتاج إلى أن يسأل، ومن ثَمَّ
لم يصح أن يُسأل ويُستفتى.
والشرط الثاني: أن يكون من أهل العدالة؛ لأن غير العدل لا يوثق في خبره، ولذلك فإنه
لا يصح أن يُستفتى، وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6].
ومن المسائل المتعلقة بهذا الجانب: أنه إذا -كلمة غير واضحة من الشيخ- من يكون من
المبتدعين بحيث عنده منهجٌ مخالفٌ للمنهج الشرعي الصحيح المتعلق بتقرير الأحكام
الشرعية، سواءً كان يستقي الأحكام مثلًا من ما يسمى بالذوق، أو الكشف، أو الهوى، أو
يكون ممن يردُّ شيئًا مما في الكتاب والسُّنة، لوجود تقعيداتٍ عنده، مخالفةً لما في
الشريعة، فإن من كان كذلك قيل له: بأنه من أهل الابتداع.
ومثل هذا الأصل أن يُكتفى بسؤال غيره عن سؤاله، وما ذاك إلا خوفًا من أن يقع
الإنسان في مخالفةٍ شرعيَّةٍ لقواعد الشريعة وأصولها، من حيث لا يشعر، ومن ثَمَّ
يتقرب إلى الله -عزَّ وجلَّ- بمن كان يسير على كتاب الله، وسنَّة رسوله، ويقدِّمهم
على غيرهما، ويكون ولاؤه وبراؤه مبنيًّا على الانتماء إلى هذين الأصلين العظيمين.
وبالتالي فإن الأصل في الاستفتاء: أن يكون لمن يوثَق به في علمه ودينه وورعه، وأما
من لم يكن كذلك، فإنه لا يحسن أن يُستفتى إلا في مواطن الضرورات، التي يُؤمن مِن أن
يقع ذلك المفتي في مخالفةٍ شرعيةٍ، في ذلك الباب.
لا يعني هذا أن من كان كذلك، فإنه تُهمل كتبه ومؤلفاته، كما ظن ذلك البعض، وذلك أن
النظر في الكتب، خصوصًا الكتب التي أُلِّفت للنظر في الخلاف، إنما ينظر فيها طلبة
العلم، وعلماء الشريعة، و من ثَمَّ يميزون ما قد يقع فيها، من مخالفةٍ أو خطأٍ، ومن
ثَمَّ لابد من التفريق بين حال ذلك المستفتي العامي، الذي قد تخفى عليه أوجه الخطأ
في فتوى المفتي، وبين ذلك العالم، أو طالب العلم الذي يميِّز أصول المسائل، ويعرف
الأسباب التي وقع فيها عددٌ من الطوائف في مخالفةٍ للشريعة.
من المسائل المتعلقة بهذا: أن مستور الحال في العلم، لا يجوز أن يُسأل، وذلك لأنه
لا يُدرى، هل الأجدر به أن يَسأل أن يُسأل، ولأن الله عزَّ وجلَّ إنما أمر بسؤال
أهل الذكر، فأما من لم يكن من أهل الذكر،لم يصح أن يُسأل.
من الأمور المتعلقة بهذا: أنه لا بأس أن يُستفتى الحاكم والقاضي، متى كان من أهل
الاجتهاد، بعض أهل العلم قال: القاضي لا يُستفتى؛ لأنه يعمل للفصل بين الخصومات،
وقد يأتيه أهل الخصومة، فيفتيهم، ثم بعد ذلك تتبين المسألة على خلاف ما حُكيتْ له،
ومن ثَمَّ احتجنا إلى أن يكون السؤال لشخصٍ لا علاقة له بالقضاء والحكم وفصل
الخصومات، هكذا قالوا، ولكن ينبغي بالمفتي، سواءً كان قاضيًا، أو لم يكن، أن يفرِّق
بين المسائل التي فيها نزاعٌ وخصومةٌ بين اثنين، فيتكلم فيها، فلا يتكلم فيها على
جهة الفتوى، وإنما يتكلم فيها على جهة القضاء، متى تقدَّم إليه المتخاصمان.
وأما المسائل التي تكون بين العبد وبين ربه -سبحانه وتعالى-، ولا يوجد أطرافٌ أخرى
فيها، فمثل هذا ينبغي أو يحسن بالقاضي والحاكم أن يجيب فيها، وأن يُظهر الحكم
الشرعي فيها.
من الأمور التي قد تتعلق بهذا: أن العلماء يقررون بأنه إذا كان بين المستفتي
والمفتي عداوةٌ، إما لأمرٍ دنيويٍّ أو لغيره، فإنه لا بأس أن يستفتي المستفتي من هو
عدوٌّ له، ولا بأس أن يفتي ذلك المفتي لمن سأله، ولو كان بينه وبينه عداوةٌ، فإن
العداوة والصداقة ليست من منافيات باب الفتوى.
وهذا بخلاف باب الشهادة، فإن العدو لا يشهد على عدوه، والصديق الذي بينه وبين
الإنسان مخالطةٌ، لا يشهد لصديقه، بخلاف باب الفتوى، فإن باب الفتوى لما كانت
إخبارًا عامًا بالحكم الشرعي، قيل بأنه لا بأس أن يستفتي الإنسان العدو والصديق،
سواءً كانت الفتوى له، للمستفتي أو عليه، فإن المفتي يجيبه في الحالين.
ومن المعلوم أن الإنسان قد يكون بينه وبين شخصٍ عداوةٌ لسببٍ دنيويٍّ، لكنه إذا جاء
أمر الفتوى، أو جاء أمرٌ فيه جانب تقوى، فإنه لا يتجاوز حدود التقوى تلك.
من الأمور التي يقررها أيضًا علماء الشريعة: أن الغضبان لا يُستفتى، متى كان غضبه
مسيطرًا عليه، وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- منع القاضي من القضاء حال
الغضب، كما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تقضِ بين اثنين وأنت غضبانٌ»،
وحينئذٍ فالمفتي إذا كان عنده غضبٌ يشوِّش فكره، أو يجعله لا يتمكن من فهم كلام
المستفتي، أو يكون هذا المفتي في حالةٍ تعجزه عن إدراك عواقب أموره، أو عن معرفة
دلالات النصوص، ففي هذه الأحوال لا يُفتي فيجب عليه أن يتوقف؛ لأنه في هذه الحال قد
لا يُتم النظر في المسألة، وقد لا يستذكر جميع النصوص الواردة فيها، وقد لا يفهم
كلام المستفتي على حقيقته، ومن ثَمَّ وجب عليه أن يتوقف، فلا يفتي في حال الغضب.
وهكذا إذا كان المستفتي يعلم من المفتي أنه قد وصل إلى حالٍ يتشوَّش عليه ذهنه في
حال الغضب، فإنه لا يستفتي ذلك المفتي.
من الأمور التي يوجد عند الناس فيها إشكالٌ: قضية التيسير والتشديد، فإن كثيرًا من
الناس قد يصفون أحد المفتين بأنه متشددٌ، والآخر يوصف بأنه متساهلٌ، وفيه مراتٌ،
يقال: فلانٌ ييسر على الناس، وفلانٌ لا ييسر عليهم، وفي الحقيقة أن أحكام الشريعة
يُسرٌ، سهلةٌ، ومن ثَمَّ إذا أفتى المفتي بحكمٍ شرعيٍّ مأخوذٍ من الكتاب والسُّنة،
فإن ذلك الحكم هو اليسر والسهولة، وهو المحقق لمصالح الخلق، كما في قول الله تعالى:
﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]،
وكما قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ
ضَعِيفً﴾ [النساء: 28]، ويقول سبحانه: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «بعثتُ بالحنيفية السمحة».
لكن ليس المراد باليسر والسماحة: موافقة الناس على رغباتهم وأهوائهم، وإنما متى سار
الإنسان على الحكم الشرعي، فحينئذٍ يكون على جانب التيسير والتسهيل.
إذا تقرر هذا، فإن الظن بعلماء الشريعة أنهم لا يقولون في مسألةٍ بفتوى إلا إذا غلب
على ظنهم، أن ذلك الحكم هو شرع رب العزة والجلال، وأنه دين الله، الذي تعبَّد
الخلقَ به، ومن ثَمَّ لا يصح أن يُظنَّ بالفقيه والمجتهد أنه ينسب إلى الله ما لا
تصح نسبته إلى شرع الله ودينه، ومن ثَمَّ إذا أفتى فهو يظن أن هذا هو الشرع.
ورود الخطأ، هذا أمرٌ محتملٌ، ولكن لا يعني التشكيك في نيته، أو في مقصده، ومن
ثَمَّ قد يُظنُّ أن بعض الفتاوى، هي مما يعسِّر على الناس، وتكون في الحقيقة هي
التي تيسَّر للخلق، ومن أمثلة هذا مثلًا: في مسألة الحج بدون مَحرمٍ، فإن الجمهور
يرون المنع من حج المرأة بدون مَحرمٍ، لما ورد في حديث ابن عباس في الصحيحين: أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تسافر امرأةٌ إلا مع ذي محرم»، فقيل: يا رسول
الله، إن امرأتي خرجت حاجةً، وإني اكتتبتُ في غزوة كذا وكذا، فقال النبي -صلى الله
عليه وسلم-: «اذهب فحجَّ مع امرأتك».
هذا حديثٌ ظاهرٌ في هذا الموضوع، فحينئذٍ إذا تأملتَ، وجدتَ أن أولئك الذين يقولون
بأن المرأة التي ليس لديها مَحرمٌ لا تسافر، قد سهَّلوا على النساء، فإن المرأة
التي ليس لديها مَحرمٌ، حينئذٍ يسقط عليها وجوب الحج على هذا القول، وبالتالي لن
تدفع تكاليفه، ولن تُمضي الأوقات الطويلة في أداء شعائره، ولن يكون منها التعب
والمشقة التي تُبذل عادةً لمن أراد الحج والعمرة.
وفي مقابلها، ستجلس في بيتها، وقد نوتْ الحج، ومن ثَمَّ سيُكتب لها أجر الحج
كاملًا، بدون نفقةٍ، وبدون كلفةٍ، ولا مشقةٍ، فحينئذٍ هذا القول الذي قال بأن
المرأة لا تسافر للحج إذا لم تجد المحرم، ولا يجب عليها الحج، هو في الحقيقة
الأسهل، وهو الذي ييسر على الناس، وهو الذي يُبعد عنهم المشقة، بخلاف القول الأول
الذي يقول بأن المرأة التي ليس لها محرمٌ، يجب عليها أن تحج، فإن هذا يشدد على
الناس، ومن المعلوم أن القول القائل برفع الوجوب أسهل من القول القائل بتقرير أمر
الوجوب. أليس كذلك؟
{في هذه المسألة يا شيخ أحسن الله إليكم....}.
نحن لا نريد المسألة الفقهية، وإنما نريد أن نقرر بها هذه القاعدة في مسألة التيسير
والتشديد في الفتوى.
{في مسألة المرأة التي تحج، لو كانت كبيرةً في السن مثلًا، وكانت هناك حملاتٌ
آمنةٌ، ممكن تدخل في هذه الحملة؟}.
أيهما أسهل عليها؟ أن تجلس في بيتها، وأن يُكتب لها أجر الحج كاملًا، وأن لا تدفع
النفقات، نفقات الحج، أو أن تتكلف، فتذهب مع هؤلاء الرفقة المأمونة، وتدفع نفقات
الحج، وتتنقل بين شعائره ومشاعره، لابد أن يكون عندها شيءٌ من المخالفة في هذا
الحج، وبالتالي ينقص أجرها وثوابها بسبب ذلك، فهذا القول الأول الذي قال بأنها إذا
جلستْ في بيتها حصَّلتْ الأجر كاملًا؛ لكون عدم سفرها للحج ناشئًا من أمرٍ عائدٍ
للشرع، هذا أسهل عليها من القول الذي يقول: يجب أن تحج، ويجب أن تذهب إلى المشاعر،
أيهما أسهل؟ القول برفع الوجوب، لاشك أنه أسهل وأيسر، وهناك مسائل كثيرةٌ أيضًا
يُظنُّ فيها أن الفتوى تكون بالأصعب والأشد، ولا يكون الأمر كذلك.
من مسائل الفتوى: ما يتعلق بوجود الخطأ فيها، المفتي بشرٌ، وبالتالي ليس من
المعصومين، بشرٌ لا يوحى إليه، وبالتالي ليس معصومًا من الزلل والخطأ في اجتهاداته،
فإذا اجتهد، ثم بعد ذلك حصل بناءً على فتواه إتلافٌ بنوعٍ من أنواع الإتلاف، ففي
هذه الحال نقول بأن هل يجب على ذلك المفتي الضمان؟ أو لا يجب؟ جاءه واستفتاه في
الحج، وقال: يجب عليك ذبح شاةٍ فديةً، وبالتالي ذبح الشاة، ثم بعد ذلك تغيَّر
الاجتهاد، تبين أن هذا الرجل ليس عليه الشاة، فنقول حينئذٍ هذه المسألة على نوعين:
مسألةٌ كان يرى الفقيه فيها رأيًا في السابق، بناءً على أدلةٍ، ثم تغيَّر رأيه في
الحكم، وليس في مناط الحكم، فبالتالي لا يجب عليه ضمان ما فعله ذلك المستفتي.
الحال الثاني: إذا كان الخطأ ناشئًا من أمرٍ عائدٍ إلى المفتي، إما لعدم إكماله
النظر في المسألة، أو لكونه لم يتحقق من كون شرطٍ من الشروط المتعلقة بالمسألة، أو
نحو ذلك، ففي هذه الحال يكون ذلك المفتي عنده نوعٌ من أنواع التفريط، فإذا فرَّط،
فحينئذٍ يجب عليه الضمان، يضمن ما أتلفه ذلك المستفتي، أما لو كان هناك رجوعٌ، فهذا
لا نوجب فيه الضمان على المفتي.
مما يتعلق بهذا مسألةٌ فيها قرابةٌ مع هذه المسألة، ألا وهي: مسألة أخذ المفتي
الأجرة، أو الرَّزْق من بيت المال، الإفتاء وظيفةٌ عامةٌ، يتصدى المفتي فيها لحوائج
الناس، ومن ثَمَّ قد يُشغله ذلك عن الاكتساب، إن كان يكتسب، واكتفى باكتسابه، فهذا
خير الأمور وأكملها، وإن كان لا يكتسب، وكان محتاجًا إلى ما يقوم بحوائجه التي
تمنعه الفتوى من استكمالها والنظر فيها، ففي هذه الحال نقول بأنه لا بأس أن يُبذل
للمفتي الرَّزْقَ من بيت المال؛ لأن بيت المال مُعدٌّ لمصالح المسلمين، وهذا من
أنواع مصالح المسلمين.
أما إذا كانت الأجرة من المستفتين، ففي هذه الحال اختلف العلماء في أخذ المفتي
الأجرة من المستفتي، هل يجوز له أو لا يجوز؟
وهناك ثلاثة أقوالٍ مشهورةٌ، قول يقول: بأنه لا يجوز؛ لأن هذا من أخذ الثمن على
أعمال القُرب، ومن شراء الحياة الدنيا بالآخرة.
وطائفةٌ قالوا: بأنه يجوز أخذ الأجرة، وقالوا بأن هذا المفتي قد بذل من نفسه، وخصص
وقته، واشتغل بما يتعلق بأمر الفتوى، ترتيبًا، وتحضيرًا، وتهيئةً، وبالتالي لا بأس
أن يأخذ أجرةً من المستفتين.
والقول الثالث يقول: بأن المفتي يأخذ أجرةً على ما أداه من عملٍ، مثلًا إذا كان
يكتب الفتوى، قالوا في هذه الحال له حق أخذ الأجرة على كتابة هذه الفتوى.
في عصرنا الحاضر، وُجد مَن يضع رسومًا على المستفتين الذين يتصلون بالمفتين، ويكون
هناك أرقامٌ معيَّنةٌ، من شركات الاتصال، بحيث هذه الأرقام من اتصل بها، كان عليه
أجرةٌ مضاعفةٌ عن أجرة الاتصال، بحيث يكون بعضها للشركة، وبعضها لمكتب المفتي، هذا
مما يدخل في هذه المسألة، أخذ الأجرة على الفتيا.
ويشابهها أيضًا مسألة: قبول الهدايا، هل يحق للمفتي أن يقبل أو لا؟
بعض أهل العلم قال: ننظر فإن كان هناك معاملةٌ سابقةٌ بين المفتي والمستفتي، فلا
بأس أن يأخذ بعضهما منن بعضهم الآخر، أو ممن يكون بينهم وبينه تعاملٌ بالهدايا في
ما سبق.
وبعض أهل العلم حسم الباب، وقال: لا ينبغي للمفتي أن يأخذ شيئًا من الهداية،
واستدلوا عليه بحديث ابن اللتبية، الذي في الصحيح، لما ولاه النبي -صلى الله عليه
وسلم- فلما جاء بالمال، قال: هذا لكم، وهذا أُهدي إليَّ، فلم يقبل النبي -صلى الله
عليه وسلم- ذلك، وقال: «ألا جلس في بيته أمه، حتى ينظر هل يُهدى له أو لا؟».
وهناك قولٌ ثالثٌ يقول بأنه إذا كانت هناك معاملةٌ سابقةٌ بالهدايا، فلا بأس من
استمرار التعامل بها. وهذه الأقوال ممهدةٌ عند أهل العلم.
من مسائل الفتوى: ما يتعلق بالترجمة، فإن المفتي في كثيرٍ من الأحوال يحتاج إلى
الترجمة، والحاجة في شيئين: ترجمة كلام المستفتي، يأتي واحدٌ لا يُحسن العربية،
ويتكلم معه بالسواحلية، وبالتالي يحتاج إلى مترجمٍ يقف بين المستفتي والمفتي، هذا
المترجم يُشترط فيه العدالة؛ لأن غير العدل لا تُقبل نقولاته وكلامه، وأما إذا كان
عدلًا، فهناك من قال يُقبل على كل حالٍ؛ لأنه بمثابة الشاهد، فلا نحتاج إلى يمينه،
بينما الجمهور على أنه لابد من أخذ يمينه، الجمهور يرون أنه لابد من أخذ يمينه.
من الأمور التي لابد أن تُلاحظ: ما يتعلق بكون المفتي لابد أن يُراعي مآلات
الأحوال، ماذا سيئول إليه الكلام في ما يأتي، وبالتالي يكون الإنسان عارفًا بمآلات
كلامه، وما يرجع إليه الكلام.
من الأمور أيضًا التي ينبغي أن تُراعى في هذا الباب: أن المفتي لا يفتي حتى يستكمل
النظر في المسألة، وهذا بشيئين: بفهم الواقعة على حقيقتها، ثم بتطبيق النصوص
الشرعية عليها، ولابد أن لا يقتصر الإنسان في نظره على ما يتعلق بالأحاديث النبوية،
لابد أن يجمع جميع الأدلة التي يمكن أن يُستدل بها في تلك الواقعة.
من الأمور التي أيضًا لابد أن تُراعى: أن يراعي المفتي المصالح الشرعية، وما يكون
فسادًا، أو مؤدِّيًا للفساد؛ لئلا تكون الفتوى سببًا من أسباب مخالفة ذلك.
هل يلزم المفتي أن يجيب في كل المسائل التي ترد عليه؟ أو لا يلزمه ذلك؟
فنقول: هذا على نوعين: النوع الأول: إذا وجد مفتٍ آخر في البلد، فحينئذٍ للمفتي أن
يرد الفتوى، وأن يطالب المستفتي بالرجوع إلى العالم الآخر، ولازال الصحابة -رضوان
الله عليهم- يتدافعون الفتيا، ومما يدل على أنه يجوز أن يرد الإنسان الفتوى لغيره
من المفتين.
إذا لم يوجد في البلد إلا فقيهٌ واحدٌ، فحينئذٍ الأصل أنه يجيب على ما يرد إليه من
استفتاءاتٍ يعرف جوابها، وعليه أن يجتهد للوصول إلى ما يظنه حكم الله في غيرها، إلا
في خمسة أنواعٍ من المسائل.
النوع الأول: الاستفتاءات التي تأتي في أمورٍ لم تقع بين الناس، فإن المسائل
الافتراضية المقدَّرة لا يلزم المفتي أن يجيب فيها؛ لعدم وجود الاحتياج إلى الفتوى
فيها.
النوع الثاني: إذا كانت المسألة مما لا يفهمه المستفتي، بحيث إذا كانت المسألة لا
يتسع ذهن المستفتي إلى فهمها، فإنه حينئذٍ يُقال بأنه لا يلزم المفتي أن يجيب، ومن
أمثلة هذا: مثلًا لو جاء المستفتي يسأل عن مسائل دقيقةٍ في مسائل القدر، فهذه
المسائل قد لا يستوعبها ذهن ذلك المستفتي، وتحتاج من الوقت والدراسة إلى شيءٍ
كثيرٍ، وقد لا تكون الأذهان مهيأةً للجواب، أو لفهم الجواب الوارد فيها، وبالتالي
لا يلزم المفتي في هذه الحال أن يجيب.
النوع الثالث: المسائل التي لا يتعلق بها عمل المستفتي، لو سألتك عن مسألةٍ ليس
فيها عملٌ، لا يلزمك الجواب، سواءً عملٌ قلبيٌّ، أو عملُ جوارح، ومن ذلك مثلًا ما
يتعلق بأعمال الآخرين، قال: هل عمل فلانٍ هذا جائزٌ؟ أو غير جائزٍ؟ نقول: أنت تسأل
عن عملك، عمل غيرك، لست مسئولًا عنه في الدنيا ولا في الآخرة، وبالتالي لا يجب على
المستفتي أن يسأل عن مثل هذه المسائل.
أيضًا من الأمور التي يجوز للمفتي أن يردَّ الفتوى فيها: المسائل التي يكون فيها
غرضٌ آخر غير معرفة الحكم، بعض المستفتين يأتي له أغراضٌ، إما أن يريد فتوى
ليركِّبها على مسائل تحقق هواه، أو لكونه يريد مدح أقوامٍ، أو ذمَّ آخرين، وبالتالي
نقول: مثل هذه غير مقبولةٍ، ولا يلزم المفتي في هذه الأحوال أن يجيب عن السؤال
الوارد عليه.
ومثل هذا أيضًا، في ما يتعلق بالأمور العامة، أو بوسائل الاتصال العامة، أنا في
التلفزيون يأتيني أسئلةٌ، هل يلزمني أن أجيب كل مسألةٍ ترد إليَّ؟ نقول: لا، لا
يلزم، لماذا؟ لابد من النظر في عددٍ من الأمور السابقة، مرةً يريد المستفتي استغلال
الوضع ليجعل الفتوى دعايةً مدحًا أو قدحًا، وبالتالي ما يساعد على تحقيق غرضه أو
مقصده، ومرةً يكون المستفتي له أغراضٌ فاسدةٌ، يريد أن يوقع الفتنة بين الناس،
ويريد أن يوجِد إشكالًا بين الخلق، ففي هذه الحال نقول بأنه لا يلزم المفتي أن يجيب
هذا المستفتي، باعتبار النظر في مآلات الأفعال.
وهكذا أيضًا قد يُصدر الإنسان الفتوى في وقتٍ، فتُفهم على غير مراده منها، يكون
هناك حادثةٌ أو قضيةٌ، أو فعلٌ منتشرٌ بين الناس، فيُسأل عن فعلٍ آخر، وبالتالي
يعلم أن الناس ينزِّلون كلامه على ذلك الحال، وذلك الفعل، وبالتالي لا يلزمه
الجواب، وإذا أجاب لزمه أن يُفرِّق بين تلك المسألة، والمسألة الأخرى.
وأضرب لذلك مثلًا: يكون من الشائع عند الناس، مسألة: حكم رفع اليدين في الدعاء بعد
الصلاة المكتوبة، هل هو مشروعٌ؟ وهل هو فعلٌ نبويٌّ أم لا؟ متى الوقت؟ بعد السلام
من الصلاة المكتوبة، فيأتي المستفتي ويقول للمفتي: ما حكم رفع اليدين عند الدعاء؟
هو لم يقيِّدها بالصلاة، فيقول له: هذا أمرٌ مستحبٌ، وفعل النبي -صلى الله عليه
وسلم-، ومن ثَمَّ إذا جاءت هذه الفتوى، وسياق الناس، وحديث الناس، وفي ذلك الموضوع،
ستركَّب تلك الفتوى على ذلك الموضوع. فهنا يريد رفعًا لليدين مطلقًا في الدعاء،
وهنا يريد رفع اليدين في المحل بخصوصه، وهذا المحل له حكمٌ خاصٌّ في الشريعة،
وبالتالي لابد من ملاحظة هذا الجانب.
أيضًا لابد أن يُحذَر من المسائل التي فيها خصوماتٌ، عندك مسألة خصومةٍ، هذه مرجعها
للقاضي، أنت أتيتَ إليَّ تستفتيني، وبالتالي أنا لم أستمع للمخالف والمنازع لك، وقد
أُفتيك بما يجعلك تستحل أموال الآخرين، وقد يكون في المسألة أصلًا مَدركٌ أنت لم
تفهمه، ولم تُدركه، ولم تدرِ ما عواقبه، وبالتالي لابد من ملاحظة ذلك.
أيضًا من الأمور التي تتعلق بهذا: أنه فيه مراتٌ يأتي اسمٌ مشتركٌ، وهذا الاسم
يحتمل معانيَ متعددةً، ومن ثَمَّ لابد من التفصيل في هذا الاسم المشترك، وأظن في
لقاءاتٍ سابقةٍ مثَّلنا له بمسألة: حكم التأمين، فلو جاءنا واحدٌ، وقال: ما حكم
التأمين؟ هذا لفظة التأمين مشتركةٌ بين معنيين، أو معانٍ متعددةٍ، هل تريد التأمين
بعد الفاتحة؟ هذا مستحبٌ، أو تريد التأمين التعاوني؟ هذا جائزٌ، أو تريد التأمين
التجاري؟ فهذا ممنوعٌ منه، ولكلٍّ حكمه، وبالتالي الاسم المشترك الذي يأتي في
الاستفتاء لابد من التمييز بينه وبين غيره.
أيضًا من الأمور التي لابد على المفتي أن يلاحظها: أن يلاحظ وجود بعض التحايل من
المستفتين، بعض المستفتين يريد أن يبرئ ساحته، ويسلم عِرضه من أمرٍ يفعله، فيدلِّس
على المفتي في بعض فعله، من أجل أن يفتيه بالجواز، حتى إذا جاءه من جاءه، يعترض
عليه، أو ينصحه، يقول: عندي فتوى بالجواز، وهو إنما أُفتي بجواز فعلٍ آخر مُغايرٍ
لهذا الفعل، ومن ثَمَّ لابد من ملاحظة هذا، يأتي ويقول: لو قدَّرنا أن هناك غصَّةً
عندي، ولم أجد ما يسيغها إلا شُرب الخمر، فهل يجوز لي شُرب الخمر؟ فيقول المفتي:
نعم، يجوز لك، والمراد في هذه القضية، ففيه مرَّاتٌ، ويضع قطعًا للصوت، وبالتالي
يكون عنده سؤالٌ: هل يجوز لي تناول الخمر؟ ويأتيك الجواب بالإثبات، بينما كان
السؤال أصلًا متعلِّقًا بمسألةٍ أخرى، أراد أن يتحايل بها على ذلك المفتي، ومن
ثَمَّ خصوصًا في القضايا المالية، من أجل ترويج بضاعة الإنسان، أو من أجل غلاء
سعرها وثمنها، قد يروَّج لفتوى معينةٍ، وتكون على خلاف كلام المفتي، الذي نُسبتْ
الفتوى له، وبالتالي لابد من الحذر من مثل هذه الحيل التي قد يفعلها بعض المستفتين.
من الأمور المتعلقة بهذا أيضًا: ملاحظة ما يتعلق بوسائل الاتصال والتواصل والإعلام،
فهذه الوسائل هي يمكن استعمالها لنشر الخير، وبثِّه، وبالتالي فاستعمالها في
الفتوى، قد يكون له آثارٌ حميدةٌ، لكن عندنا عددٌ من الإشكالات، أول هذه الإشكالات:
أن الفتوى في مثل هذه الوسائل في كثيرٍ من الأحيان، لا يُعرف مَن صاحبها، والأصل في
الاستفتاء: أن لا يؤخذ إلا بقول من يوثق به في علمه ودينه وعدالته، يعني مرَّات
يتصل عليَّ بعض الناس، وإذا سألتُ: أنت على من اتصلتَ؟ قال: والله ما أدري، لكن
أعطوني الناس هذا الرقم، من هم هؤلاء الذين أعطوك هذا الرقم؟ قال: والله واحدٌ من
جيراننا، توَّه متلزمٌ من قبل أسبوعٍ، وبالتالي نقول: ما يصح لك، ولا يجوز لك أن
تعتمد على فتوى من لا تعرفه، ولا تعلم حقيقة حاله، ولا تدري هل هو من أهل العلم، أو
ليس كذلك. إذن، الشرط الأول: لابد من تمييز حقيقة المفتي.
والثاني: لابد من التأكد من نسبة الفتوى إليه، سواءً كانت بصوته، وكلامه، والناقل
أيضًا يوثق به؛ لأننا وجدنا في بعض هذه الأوقات من يقوم بتغيير الأصوات، وتركيب
الجمل بعضها على بعضٍ، ومن ثَمَّ فمثل هذا يجعل الإنسان يعيد النظر في ما نُقل في
هذه الوسائل من فتاوى منسوبةٍ إلى علماء الشرع.
من الأمور المتعلقة بهذا: مسألة علاقة ولي الأمر، صاحب الولاية، بالفتوى، ولي الأمر
قائمٌ بأمر المجتمع، لأنه يتولى أمر المسلمين، ومما يحتاج إليه المسلمون: وجود مَن
يفتيهم، وبالتالي فإن تنظيم ولي الأمر لهذا الباب، أمرٌ مطلوبٌ؛ لأنه يحقق مقصود
الشارع، وهكذا أيضًا قد يكون هناك تصوُّراتٌ غير حقيقةٍ للوقائع، مما يمكن أن يقع
به تلبيسٌ على المفتي، ومن ثَمَّ فإن على ولي الأمر واجبٌ شرعيٌّ بمراقبة مثل هذه
الفتاوى، والنظر فيها، وعليه واجبٌ آخر من جهة النظر في مآلات الفتوى، إذا كانت
الفتوى ستؤدي إلى الاقتتال وسفك الدماء، والفرقة، فإنه حينئذٍ لا يصح أن تُبذل هذه
الفتوى، ومن ثَمَّ فإن ولي الأمر عليه واجباتٌ شرعيةٌ متعلقةٌ بالفتوى، سواءً
بتهيئة المفتين، أو كان ذلك بترتيب أمر الفتوى، أو بإيجاد المراجع العلمية التي
يُرجع إليها، أو بتقرير الشروط والضوابط المتعلقة بأمور الفتوى، وإلا لأدَّى ذلك
إلى التباس أحوالٍ كثيرةٍ، واختلاط أمورٍ عديدةٍ، وكم مِن مَن يُظَنُّ أنه من أهل
العلم والفتوى، ويأتي بفتاوى غريبةٍ شاذةٍ، مخالفةٍ لمحكمات النصوص الشرعية، فكم من
إنسانٍ أفتى باستحلال أموال الآخرين ودمائهم، بدون أن يكون هناك مستندٌ شرعيٌّ،
وإنما هو الهوى، والسير على مقتضى ما يسير عليه أصحابه في فرقته، وفي تعلمه، ونحو
ذلك.
المقصود: أن الفتوى لابد أن يكون لولي الأمر مدخلٌ فيها، وذلك بتقويتها، بالأمر
بها، بإظهارها، وإشهارها، بالتأكد من أنه لا يدخل في باب الفتوى إلا من كان
مؤَّهلًا في هذا الباب.
وقد أُثر عن بعض الصحابة أنهم منعوا أشخاصًا من الفتوى، وخصصوا مفتين في بعض
الأبواب العلمية، يعني يقوم ولي الأمر ويقول: أنت يا فلان تخصصْ في باب المناسك،
أنت في مكة، والناس يردون إلى مكة كثيرًا، ويحتاجون إلى معرفة الأحكام الشرعية
المتعلقة بذلك، وبالتالي ليكن من عملك استنباط واستخراج الأحكام من الأدلة في مثل
هذه المسائل.
هكذا أيضًا من مسئولية ولي الأمر: النظر في تمسُّك الناس بهذه الفتاوى، وعملهم بها،
والتأكد من وجودها بين أيديهم.
كنت قبل قليلٍ ذكرتُ شيئًا مما يتعلق بالتشديد والتسهيل أو التيسير على ما يذكره
بعضهم، وذكرتُ: أن التيسير والتسهيل هو الحكم الشرعي، فما ثبت أنه حكم الله، فهو
الأيسر، وهو الأسهل، وهو الذي يحقق مصالح العباد، ويستجلب لهم خيرات الدنيا والآخرة
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9]، وبالتالي
فإن العمل بهذه النصوص يجعل الناس يسعدون في أمور حياتهم.
من الأمور التي وقع فيها ترددٌ كثيرٌ: مسألة -التي ذكرتها قبل قليلٍ- تتبع الرُّخص.
تتبع الرُّخص هذا مصطلحٌ يُراد به أحد معنيين: المعنى الأول: الأخذ بالرُّخصة
الواردة في الكتاب والسُّنة، فهذا جائزٌ، ولا حرج فيه، ومباحٌ على الإنسان أن
يفعله، فإن الله يُرخِّص لهم في ذلك، إلا لكون هذه الأمور مباحةً جائزةً، بعض الناس
مثلًا يقول: بأن يجب الالتزام بأداء الصلاة في أوقاتها، حتى بالنسبة للمسافرين،
وبالنسبة للمرضى، فيُقال له: بأن الرُّخصة قد جاءت في النصوص بإعفاء هؤلاء من هذا
الواجب، فهذه الرُّخصة منسوبةٌ إلى الشارع، المسافر يجوز له أن يُفطر، وأن يقصر
الصلاة، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ [النساء: 101] ونحو ذلك من النصوص.
من الأمور التي تُلاحظ في هذا، مسألةٌ: قد يُطلق اسم الرُّخص على اختلافات العلماء،
بل قد يُطلق على شواذ الأقوال، يسميه بعضهم رُخصةً، وهذا ليس برُخصةٍ منسوبةٍ إلى
الشارع، وإنما هي اجتهاداتٌ من بعض الفقهاء، وبالتالي ليست معصومةً، قد يقع فيها
الخطأ، وقد يقع فيها الزلل، ومن ثَمَّ فإنه عند وجود الرُّخص فإننا نُعمل فيها
قواعد اختلاف الفتوى، أو تعدد المجتهدين، تُنزَّل منزلة مسألة تعدد المجتهدين، هنا
تعدد المجتهدين، واختلفت الفتوى، وبالتالي يلزم حينئذٍ أن يؤخذ بقول الأعلم،
الأورع، على ما تقدَّم.
هذا شيءٌ من أحكام الاجتهاد والفتوى، ولعلنا -إن شاء الله- أن نستكمل البحث في مثل
ذلك في يومٍ آخر، بارك الله فيكم، ووفقكم الله.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.