الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد.
فأرحب بكم، أيها الإخوة الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعلَا- لكم التوفيق، ورفعة الدرجة
في الدنيا والآخرة، رزقكم الله علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، ونيةً خالصةً، ولسانًا
صادقًا.
وبعد، ففي لقاءاتنا السابقة، تحدثت عن مسائل الاجتهاد، فعرَّفتُ بالاجتهاد، وذكرتُ
شروطه، وبيَّنت مَن هو أهلٌ للاجتهاد، وذكرتُ حُكم الاجتهاد، ونتيجته، وبيَّنت حُكم
المخالف في الأحكام الاجتهادية.
ويُقابل الاجتهاد، التقليد، وهو الذي سنبتدئ الكلام عنه في هذا اللقاء، وأواصل
الحديث فيه في لقاءاتٍ آتيةٍ -بإذن الله جلَّ وعلَا-.
ما هو التقليد؟
التقليد في اللغة: يُراد به: إما التعليق أو التنصيب؛ ولذلك قيل عن القلادة التي
توضع على العنق، هذا الاسم؛ لأنها تُعلَّق على رقبة الإنسان.
وكذلك قيل لتكليف الإنسان بعملٍ مِن الأعمال "قُلِّدَ العمل الفلاني"، بمعنى: أنه
عُلِّق عليه، أو نُصِّبَ فيه.
هذا من جهة المعنى اللغوي، وسمِّي الأخذ بأقوال العلماء تقليدًا؛ لأن العامي
يُعلِّق المسألة على قول الفقيه، ويأخذ في أفعاله بأقوال الفقيه المجتهد، ويُعلِّق
عمله على فتواه.
وأما تعريف التقليد في الاصطلاح: فهناك تعريفاتٌ متقاربةٌ، بعضهم يقول: الأخذ بقول
من ليس قوله حُجَّةً.
وبعض أهل العلم يقول عن التقليد: بأنه الالتزام بمذهب مَنْ ليس قوله حُجَّةً لذاته.
فهذا يدخل فيه المسائل العملية، والمسائل العقدية؛ لأنها التزامٌ.
وقيل: مذهبٌ؛ لأن بعض العلماء يَرى أنَّ مَذهب الفقيه قد يؤخذ مِن فعله، ولا يُقتصر
في ذلك على ما يؤخذ مِن أقواله؛ لأن أقوال الفقهاء لها طرائق يؤخذ مذهب الفقيه
منها، كما سيأتي -إن شاء الله- تفصيله في مبحثٍ آتٍ -بإذن الله جلَّ وعلَا-.
لما قيل: بقول مَنْ ليس قوله حُجَّةً؟ لإخراج الأخذ بقوله النبي -صلى الله عليه
وسلم-؛ ولأن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- حجةٌ بنفسه، كما قال تعالى: ﴿وَمَا
يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3، 4]، وكما قال
تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ
يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرً﴾ [الأحزاب: 21]،
وكما قال: ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158]، وكما قال
تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]، فدل هذا على أنَّ قول
النبي -صلى الله عليه وسلم- وسنته حجةٌ، فالأخذ بها لا يُعَدُّ تقليدًا.
ومثل هذا الأخذ بالإجماع، فإن الإجماع حجَّةٌ شرعيةٌ، وبالتالي لا يُعَدُّ الأخذ به
مِن التقليد، كما قال -جلَّ وعلَا-: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا
تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرً﴾ [النساء: 115]، وكما قال تعالى:
﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن
كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلً﴾ [النساء: 59].
وللنصوص الواردة في حجية الإجماع، مثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تجتمع
أمتي على ضلالةٍ»، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق
لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، إلى قيام الساعة»، وعلى هذا فالأخذ بالإجماع لا يُعد
تقليدًا؛ لأن الإجماع من الحجج الشرعية.
إذن الآن عرفنا معنى التقليد، قد يُشكل على بعض الناس ما يُسمَّى بالمحاكاة، كما
ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما وددتُ أني حاكيتُ إنسانً»،
حاكيتُ يعني: ماثلته في الفعل والتصرف، بعض الناس قد يُقلد غيره في التصرفات على
جهة نقل ذلك الفعل، أو على جهة التنقص والسخرية منه، فهذا من الأمور المذمومة.
ومثله: أخذ الإنسان من أفعال الأمم الأخرى، وملابسهم، وهيأتهم، فهذا قد يُسمَّى
تقليدًا، لكنه ليس مرادًا هنا، فإن المراد هنا هو الالتزام بمذهب فقيهٍ في حكمٍ
شرعيٍّ، الالتزام بمذهب من ليس قوله حجةً في حكمٍ شرعيٍّ، هذا هو المراد بالتقليد.
ننتقل بعد ذلك إلى حكم التقليد، ومن هو الذي يُقلد؟.
تقدم معنا تقسيم الناس إلى صنفين:
الصنف الأول: هُم أهل الاجتهاد، وهم الذين يأخذون الأحكام الشرعية مِن الأدلة،
فهؤلاء لا يجوز لهم التقليد؛ لأنهم متمكنون مِن أخذ الأحكام مِن الأدلة، وبالتالي
لا يجوز لهم أن يُقلدوا، قال تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن
رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾
[الأعراف: 3]، وقال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 132]، ونحو ذلك من النصوص الآمرة باتباع الكتاب والسنة.
فهذه في حق الفقهاء المجتهدين، الذين يتمكنون مِن أخذ الأحكام من الأدلة، أمَّا من
لم يكن لديه الأهلية، فإنه هو الذي يتطرق فيه البحث، وهو الذي يجوز له الأخذ بأقوال
الفقهاء، كما قال الله -جلَّ وعلَا-: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ
لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].
فدلَّ هذا على أنَّ النَّاس على صنفين: صنفٌ يتمكن مِن العلم، فهؤلاء لا يُسألون،
وإنما يأخذون الأحكام مِن الأدلة، وصنفٌ لا يعلمون، فهؤلاء هم أهلُ التقليد، وهم
الذين يراجعون العلماء، فيسألونهم، ويأخذون الأحكام منهم.
ما هي صفات القسم الأول، أهل الاجتهاد؟
ومن هم أهل القسم الثاني، أهل التقليد؟
سبق معنا أن ذكرنا شروط الاجتهاد، وهي الفارق بين هذين الصنفين، وقلنا: إن شروط
الاجتهاد أربعة شروطٍ:
الشرط الأول: معرفة الإنسان بالنصوص الشرعية، والأدلة الواردة في المسألة المُجتهد
فيها، من لم يكن عارفًا بها، فليس من أهل الاجتهاد، ما يكون مجتهدًا حتى يعلم هذه
النصوص، أو حتى يغلب على ظنه أنه لا يوجد في المسألة نصٌّ أو دليلٌ لم يقع تحت
عينيه.
الشرط الثاني: أن يعرف مواطن الاتفاق والاختلاف، بحيث لا يخالف أمرًا مُجمعًا عليه.
وبعض العلماء يجعل هذا الشرط الثاني جزءًا من الشرط الأول، وإنما يكون هذا على جهة
التأكيد لهذا الأمر.
الشرط الثالث: معرفة أصول الفقه؛ ليتمكن من التمييز بين ما هو دليلٌ، وما ليس
بدليلٍ، وليتمكن من استنباط الأحكام من الدليل، من لا يعرف أصول الفقه معرفةً
نظريةً، وتطبيقيةً، فإنه ليس من أهل الاجتهاد، حتى لو حفظ كتابًا أصوليًّا، وهو لا
يستطيع أن يطبِّق القواعد الأصولية على الأدلة، فهذا ليس بفقيهٍ ولا مجتهدٍ، وإنما
هو حافظٌ، يحفظ كلام المتقدمين فقط.
الشرط الرابع: فهو أن يعرف مِن لغة العرب ما يمكِّنه من فهم الأدلة، وسواءً في
معاني الألفاظ، ودلالاتها، أو في النحو والبلاغة، وسائر علوم العربية، فيعرف من هذه
العلوم ما يمكِّنه من فهم الأدلة الشرعية.
إذن، المجتهد لا يجوز له أن يقلِّد، وإنما التقليد لغير المجتهدين، وهؤلاء غير
المجتهدين يجب عليهم التقليد.
ما الدليل على أن غير المجتهدين يجب عليهم سؤال العلماء والأخذ عنهم والالتزام
بمذاهب الفقهاء؟
هناك أدلةٌ كثيرةٌ، منها: قول الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن
كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43، الأنبياء: 7] في موطنين من كتاب الله -جلَّ
وعلَا-، في سورة النحل، وفي سورة الأنبياء، والعبرة في هذا اللفظ بعمومه.
ويدل على ذلك أيضًا: قول الله -جلَّ وعلَا-: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ
ليَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ
لّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122].
إذن هناك فقهاء، وهناك غير الفقهاء، وغير الفقهاء أوجب الله عليهم الأخذ بقول
الفقهاء، وجعل ذلك من الحذر من عقوبةٍ تنزل عليهم في الدنيا والآخرة ﴿وَمَا كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ ليَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ
طَائِفَةٌ لّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا
إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾، يحذرون بماذا؟ بأخذهم بأقوال الفقهاء.
ويدل على ذلك أيضًا: مثل قوله -جلَّ وعلَا-: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ
الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى
أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ
إِلَّا قَلِيلً﴾ [النساء: 83]، ففي هذه الآية أمرٌ بمراجعة الذين يستنبطون الأحكام
من الأدلة، وهم الفقهاء، وجعل ترك الأخذ بأقوالهم من اتباع الشياطين، والسير على
خطواتهم.
وهناك أدلةٌ كثيرةٌ أيضًا من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، تدل على هذا المعنى،
كما ورد في السنن من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
بعث سريةً، فلما خرجوا من عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانوا في بردٍ شديدٍ،
أصيب واحدٌ منهم بجنابةٍ، وكان في رأسه شُجَّةٌ، أي جرحٌ عميقٌ، فسأل أصحابه: هل
تجدون لي رخصةً في أن أتيمم وأدع الاغتسال، فقالوا: لا نجد لك رخصةً، فاغتسل فمات،
فلما عادوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أُخبر بما وقع، فقال النبي -صلى الله
عليه وسلم-: «قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال»،
فدل هذا على أن غير الفقهاء يجب عليهم أن يسألوا علماء الشريعة.
ويدل على ذلك ما ورد في الصحيحين، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وزيد بن خالد
في حديث العسيف، أي الأجير، الذي زنا بامرأةٍ من يعمل عنده، فافتدى والد الغلام منه
بمالٍ دفعه بمائة شاةٍ ووليدةٍ، ثم إنه سأل أهل العلم فقالوا: بأن ما على ابنه مائة
جلدةٍ، وتغريب عامٍ، فلما ذهبوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل أحدهم النبي
-صلى الله عليه وسلم-، فأخبره بأنه سأل أهل العلم، فأخبروه بأن ما على ابنه مائة
جلدةٍ، وتغريب عامٍ، فأقره النبي -صلى الله عليه وسلم- على سؤال أهل العلم، والأخذ
عنهم، ولم يُنكر عليه ذلك.
ويدل على هذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يرسل عددًا من أصحابه؛ ليعلموا
الناس، ويفقهوهم، ويفتوهم في المسائل التي يحتاجون إليها.
أرسل النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى المدينة، قبل الهجرة، وأرسل معاذ
بن جبل، وأبا موسى الأشعري إلى اليمن، وأرسل عددًا من أصحابه -رضوان الله عليهم-
إلى مواطن شتى، ليفتوا الناس، ويفقهوهم، ويعلموهم، فدل هذا على أنَّ الأخذ مِن
العلماء مِن الأمور السائغة بالنسبة للعوام وغير المجتهدين.
وَرَدَ عن بعض الأئمة هنا إشكالان.
الإشكال الأول: أن بعض الأئمة قال بالمنع مِن التقليد في المسائل الفروعية الفقهية،
ومن أمثلة هؤلاء مثلًا: ابن حزم الظاهري، والعلامة الشوكاني، فقد رأوا بأنه لا يجوز
التقليد، فإذا عدنا وحققنا في أقوالهم، وجدنا أنهم لا يمنعون التقليد وإنما يُسمون
بعض صور التقليد بغير اسمه، ولذلك تجدهم يقولون: إنَّ العامي يكفيه إذا ذَهَب إلى
الفقيه أن يسأله، هل هذا حكم الله؟ فإذا أجاب بأنَّ هذا هو حكم الله، قالوا: يكفيه
ذلك.
ولا شك أنَّ العامي لا يخرج بذلك عن التقليد؛ لأنه لا يعرف صورة المسألة، ولا تحقيق
المناط فيها، ولا يَعرف الأدلة، ولا يَعرف الأقوال في المسألة، وكيفية الترجيح في
ما بينها.
وبالتالي فالاختلاف في تسمية بعض الصور هل تسمى تقليدًا أو لا، أو في بعض الشروط
المتعلقة بالتقليد.
والقول بأنه لا يجوز التقليد مطلقًا، هذا قولٌ لا يمكن أن يتصور أن يقول به أحدٌ؛
وذلك لأن رتبة الاجتهاد، تحتاج إلى زمنٍ طويلٍ، لممارسة الأدلة، والقراءة في كتب
العلم، ومثل هذا لا يحسنه كل أحدٍ، ولو أوجبناه على جميع الناس، لأدى ذلك إلى تعطل
الصنائع والحرف، فكان هذا من أسباب انقطاع كثيرٍ من المصالح التي يحتاج إليها
الناس.
وأما الإشكال الثاني في هذا الباب، وهو: أن بعض العلماء جعل هناك ثلاثة مراتب، سمى
مرتبة الاجتهاد، والثاني التقليد، وجعل بينهما مرتبةً ثالثةً، سماها: الاتباع، وإذا
تأملت هذا الذي يسمى الاتباع، وجدته نوعًا من أنواع التقليد، فهم قصروا اسم التقليد
على بعض صوره، مثل التمذهب، والأخذ بمذهبٍ واحدٍ في جميع مصادره وموارده، فسموه
تقليدًا، وجعلوا بعض أنواع التقليد بمسمًى آخر، فسموه الاتباع، وإلا في الحقيقة لا
يوجد هناك اختلافٌ حقيقيٌّ، وإنما الاختلاف في التسميات والتقسيمات، وبالتالي هناك
اتفاقٌ بين العلماء على أن غير المجتهدين يقلدون العلماء، ويأخذون بفتاوى العلماء،
وأن ذلك يبرئ ذممهم عند الله -جلَّ وعلَا-.
هذا بالنسبة للفروع الفقهية، أما بالنسبة للتقليد في المسائل العقدية، والأصولية،
فهناك خلافٌ محكيٌّ في هذه المسألة، وقبل أن أدخل في هذا الخلاف وأسوق ما فيه، أنبه
على أن بعض العلماء في الفروع يتشددون في إيجاب التقليد، وفي الأصول يتشددون في
إيجاب الاجتهاد على نفس الشخص، مع أن المؤهلات واحدةٌ لنفس الشخص، والقدرة واحدةٌ،
فكان ينبغي أن يسيروا على طريقةٍ واحدةٍ، وفي المقابل نجد من يضاد هذا، مثلًا لما
تشاهد كلام الشوكاني في "إرشاد الفحول"، لما جاء في الفروع منع من التقليد فيها،
ولما جاء إلى الأصول، أجاز التقليد فيها، وبالتالي ينبغي أن يكون الكلام متسقًا في
هذا.
ننتقل إلى ذكر، أولًا: ما هي الأصول، ثم بعد ذلك نتكلم عن الخلاف الفقهي؟
الأصول تشمل ثلاثة مسمياتٍ، قد يسمونها الأصول، الأول: أصل دين الإسلام، وهو
الشهادتان، شهادة التوحيد لله -جلَّ وعلَا-، وشهادة الرسالة لنبيه -صلى الله عليه
وسلم-، والثاني: مما يسمى أصولًا مسائل العقائد، والثالث: مسائل أصول الفقه، التي
يحصل بها الاستنباط والاجتهاد.
وهناك أيضًا تسميةٌ رابعةٌ للمسائل، التي فيها أدلةٌ قاطعةٌ، مثال ذلك مثلًا: في
وجوب الصلاة، هذه مسألةٌ عمليةٌ، وليست عقديةً، لكنها مسألةٌ قاطعةٌ، وفي المقابل
هناك مسائل عقديةٌ، ليس فيها أدلةٌ قاطعةٌ، وقد يوجد فيها اختلافٌ، ومن أمثلة هذا
مثلًا: ما ذُكر من الخلاف في رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- لرب العزة والجلال في
الدنيا، فقد وقع اختلافٌ محكيٌّ عن الصحابة في هذه المسألة.
إذن مسمى الأصول قد يُطلق على هذه المعاني، فننتبه لهذا اللفظ، سواءً في مسألة
التقليد، أو في مسألة الاجتهاد، أو في المسائل الأخرى، كمسألة حكم المخطئ، وحكم
المخالف، وخبر الواحد في الأصول والفروع، والقياس في الأصول والفروع، ونحو ذلك.
هل يجوز التقليد في العقائد والأصول أو لا يجوز التقليد فيها؟
هذه المسألة فيها بحثٌ طويلٌ، ولعلني أحاول أن أختصره، وأن أعطيكم ملامح عن هذا
الاختلاف.
القول الأول يقول: إنَّ الأصول لا يجوز أن يكون فيها تقليدٌ، ويجب على كل أحدٍ أن
يجتهد فيها، وقد تَشدد بعض أصحاب هذا القول، حتى قال بعدم صحة إيمان المُقلدين في
الأصول، ونُقل هذا عن العلامة أبي الحسن الأشعري -رحمه الله-، واستدل أصحاب هذا
القول بعددٍ من الأدلة:
الدليل الأول: النصوص التي وردت بذم التقليد في الأصول والعقائد، كما في قول الله
-جلَّ وعلَا-: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ
نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 170]، ونحو ذلك من النصوص التي
ذمَّت المقلدين.
وأُجيب عن هذا الاستدلال، بأن هذه النصوص إنما ذمَّت من قلَّد في الباطل، أما من
قلَّد في الحق فإنه لم يرد في النصوص ذمه ولا التشنيع عليه.
الدليل الثاني لهم: قالوا بأن الأصول يُطلب فيها القطع والجزم، والتقليد لا يحصل به
قطعٌ ولا جزمٌ.
ويستدلون على ذلك بمثل قوله تعالى: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ
إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: 116]، فذمتهم لكونهم لم يبنوا أمورهم على جزمٍ
وعلمٍ، وإنما اكتفوا بالظن.
وأُجيب عن هذا بأن العبد قد يُحصِّل قَطعًا وجزمًا بتقليده لمن يجزم بصحة قوله، كما
أُجيب عن هذا بأن الظن المذموم هو الظن المبني على غير دليلٍ.
واستدل أصحاب هذا القول أيضًا بما ورد في الحديث الذي يذكر فيه أصحاب القبر، حينما
أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن العبد في قبره يُسأل عن ثلاثٍ: عن ربه، وعن
دينه، وعن نبيه، قال: فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبي محمدٌ -صلى
الله عليه وسلم-، وأما الكافر أو المنافق، فيقول: ها، ها، لا أدري، سمعت الناس
يقولون شيئًا فقلته، قالوا: فجعل المقلِّد منافقًا أو كافرًا، لكونه قال: سمعت
الناس يقولون شيئًا فقلته.
وهذا الاستدلال فيه نظرٌ؛ لأن المنافق ما قال بأنني قلتُ ربي الله، لأن الناس
يقولونه، وأما المؤمن فلم يُسأل عن دليله، لما قال: ربي الله، لم يُقل له: أخذت ذلك
تقليدًا؟ أو أخذته بنظرٍ وتأملٍ واجتهادٍ؟ فدل هذا على أن من كان على عقيدةٍ
صحيحةٍ، فإنه حينئذٍ لا يُعدُّ مخطئًا، أو من القسم الثاني الوارد في الحديث.
واستدلوا على ذلك أيضًا بما ورد في الحديث، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ
الآيات في أواخر سورة آل عمران: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران:
190]، ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ويلٌ لمن قرأهن ولم يتفكر فيهن».
وأُجيب عن هذا: بأن التفكر والتدبر لا يعني الامتناع من التقليد، واستدلوا كذلك
بالآيات التي فيها الأمر بالاعتبار والنظر ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ﴾ [الروم: 42] ونحوها من النصوص.
والقول الثاني في المسألة: يقول بأن التقليد في أصل الإسلام يُمنع منه، بخلاف ما
عدا ذلك من مسائل العقائد والأصول، وقد يستدلون على هذا بحديث القبر، بحديث أسئلة
القبر؛ لأنه لم يذكر إلا المسائل الثلاثة التي هي أصل دين الإسلام، ربي الله، وديني
الإسلام، ونبي محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-.
القول الثالث في المسألة: بجواز التقليد في الأصول والعقائد، لمن لم يكن أهلًا
للنظر في هذه المسائل.
وقد قال بهذا القول طوائف، وأُثر عن عددٍ من الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم-.
وقد يستدلون على هذا بعددٍ من الأدلة، منها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان
يقبل الإسلام من كل من جاء إليه مسلمًا، ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- يسألهم هل
كان هذا عن نظرٍ واجتهادٍ، أو عن تقليدٍ وأخذٍ من الغير، قالوا: فلو كان التقليد
غير مقبولٍ، لأمرهم، لتحقق من كونهم أخذوا ذلك من النظر والاجتهاد، ولذلك كان
الأعرابي الجِلف يأتي إليه -صلى الله عليه وسلم- شاهدا الشهادتين، فيقبل منه ذلك
بدون أن يسأله.
والدليل الثاني لهم: قالوا بأنه قد وقع في عددٍ من النصوص أن بعض الصحابة آمن ودخل
في دين الله تقليدًا لغيره، ومع ذلك لم يعب النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم، ولم
يُبطل إسلامهم، ومن أمثلة هذا: ما جاء في الحديث، أن أسعد بن زرارة، وسعد بن عبادة،
لما جاءوا إلى مصعب بن عمير، وتلا عليهم بعض الآيات، وحاجَّهم قبل الهجرة آمنوا،
ودخلوا في دين الله، فعادوا إلى قومهم، وامتنعوا من خطاب قومهم حتى يدخلوا في دين
الله فدخلوا، فلم يحكم النبي -صلى الله عليه وسلم- ببطلان إسلامهم.
وفي حديث عمرو بن الطفيل الدوسي، عندما جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسلم،
فعاد إلى قومه دوس، فامتنع من خطابهم حتى يُسلموا، فدخلوا في دين الله -جلَّ
وعلَا-، فصحح النبي -صلى الله عليه وسلم- إسلامهم، وقَبِلَ منهم، ولم يُنكر عليهم.
قالوا: ولأن النصوص قد دلت على وجوب الدخول في دين الله -جلَّ وعلَا-، ولم تُعيِّن
طريق ذلك الدخول، وبالتالي يكفي التزام الإنسان بهذا الذي أُمر به، قال تعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: 21]، فإذا عَبَدَ الإنسان ربه
-جلَّ وعلَا- يكون ممتثلًا، سواءً عرف دليل العبودية، وقام عنده الدليل والحجة
والبرهان على ذلك، أو لم يكن الأمر كذلك.
من أين نشأ هذا النزاع؟ وهذا الاختلاف بين العلماء؟
نشأ هذا النزاع من مسألة: ما هو أول واجبٍ على المُكلَّف؟
والعلماء لهم أربعة أقوالٍ في هذه المسألة، قال طائفةٌ من المعتزلة: بأن أول واجبٍ
على المُكلَّف هو الشك، فيقدم الشك، لأنه لا يحصل على إيمانٍ ويقينٍ حتى ترد عليه
الاحتمالات، ثم ينظر في دلالة الأدلة على هذه الاحتمالات، وهذه الاحتمالات تكون في
أول الأمر متساويةً عنده، فهذا هو الشك.
والقول الثاني في المسألة: أن أول واجبٍ على المُكلَّف هو النظر، بحيث ينظر الإنسان
في الآيات الكونية والشرعية، فيستنبط منها المسائل الأصلية، وقد يستدلون على ذلك
بالأدلة التي ذكرنها لأصحاب القول الأول.
والقول الثالث: يقول بأن أول واجبٍ على المُكلَّف هو قصد النظر، بحيث يكون عند
الإنسان نيةٌ ومقصدٌ للنظر في الآيات الدالة على المطالب الإلهية.
والقول الرابع: يقول بأن أول واجبٍ على المُكلَّف هو التَّوحيد، والشهادتان، شهادة
التَّوحيد وشهادة الرسالة.
وهذا القول الأخير هو قول أهل السنة والجماعة، وهذا هو الذي تدل عليه النصوص في
مواطن كثيرةٍ، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد خاطب الناس بالتوحيد، وإنما
طالبهم بالنظر ؛ ليصلوا إلى التَّوحيد ﴿إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الصافات: 35] إذن خاطبهم بالتَّوحيد، ولذلك كان أنبياء
الله -عليهم السلام- يخاطبون أقوامهم أول ما يخاطبونهم بالتَّوحيد ﴿أَنِ اعْبُدُوا
اللَّهَ﴾ [نوح: 3]، ﴿أَن لَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ [هود: 26]، قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ
وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
ويدل على هذا، ما ورد في الصحيحين من حديث بعْث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن
جبلٍ إلى اليمن، ففي حديث أبي العباس، سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى
الله عليه وسلم- بعث معاذ بن جبلٍ إلى اليمن، وقال له: «إنك تأتي قومًا أهل كتاب،
فليكن أول ما تدعوهم إليه» ماذا؟ «إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول
الله»، وفي روايةٍ: «إلى أن يوحِّدوا الله»، ولم يقل له: ليكن أول ما تدعوهم إليه
الشك، ولا النظر، ولا قصد النظر، وإنما دعاهم أول ما دعاهم إليه إلى التَّوحيد،
وإثبات الرسالة.
وهكذا كان دعاة النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعلون، ولازال دعاة الإسلام يطالبون
الناس بهذا الأمر، تحقيق التَّوحيد، وإثبات الرسالة.
فدلت هذه الأدلة على أن الصواب أن أول واجبٍ على المُكلَّف هو التَّوحيد، وإثبات
الرسالة لنبينا -صلى الله عليه وسلم-، وأما النظر فهذا وسيلةٌ، وليس هو الوسيلة
الوحيدة لتحقيق هذا المقصود، وبالتالي فالأمر به إنما هو أمر للوصول إلى ذلك
المقصود.
وبهذا يتبين لنا أن القول الصواب: تصحيح إيمان المقلدين، بل جواز التقليد لمن ليس
من أهل النظر في مسائل الأصول، وشواهد هذا كما تقدم كثيرةٌ متعددةٌ، ولذا كان النبي
-صلى الله عليه وسلم- يقبل من الناس الإقرار بدين الإسلام، وإعلان الدخول فيه، ولم
يكن يسألهم هل أخذتم ذلك عن نظرٍ، وتفكرٍ، أو قبلتموه اتباعًا لغيركم. إذن عرفنا
هذه المسألة، وعرفنا حكم التقليد فيها.
هناك مسائل مما اشتهر من دين الإسلام، وعُلم منه بالضرورة، مثل: كون الصلاة خمس
صلواتٍ، ومثل وجوب صيام رمضان، وكون الزكاة والحج من أركان دين الإسلام، فبعض
العلماء قال بمنع التقليد فيها، بناءً على أنها وصلت إلى المُكلَّف بدليلٍ جازمٍ
قطعيٍّ، وبالتالي يأخذ بذلك الدليل، لكن بعض الناس قد لا تصل إليهم هذه المسائل،
وإنما يأخذها من طريق التقليد، فالقول بحسم باب التقليد فيها لا يتوافق مع أحوال
الجميع.
وبهذا نعلم أن الصواب: جواز التقليد لغير المجتهدين، سواءً في مسائل الفروع، أو في
مسائل الأصول، أو في ما اشتهر من دين الله بالنسبة لمن لم يعلم ذلك من دين الله
قطعًا، وأن القول بإلزام غير المجتهدين بالاجتهاد، سواءً في الفروع، أو في الأصول
مخالفٌ لما كان في عهد النبوة، وما يسير عليه الناس إلى يومنا هذا، وفي ذلك من
المشقة والعنت بالناس ما يتنافى مع قول الله -جلَّ وعلَا-: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، وقوله -جلَّ وعلَا-: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185].
بارك الله فيكم، ووفقكم الله للخير، وجعلكم الله هداةً مهتدين، ولعلنا -بإذن الله
جلَّ وعلَا- أن نواصل الحديث في مسائل التقليد في لقائنا القادم، هذا والله أعلم،
وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم
الدين.