الدرس الثالث

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

7411 11
الدرس الثالث

الاجتهاد والفتوى

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد.
فأرحب بكم، في لقاءٍ جديدٍ من لقاءاتنا، في مدارسة العلم، في البناء العلمي، حول مسائل الاجتهاد والتقليد والفتوى.
مضى لنا لقاءان في أبواب الاجتهاد، وهذا هو اللقاء الثالث والأخير في مسائل الاجتهاد، وإن شاء الله في اللقاء الآتي، نبتدئ فيه بمسائل التقليد.
كان مما أشرنا إليه في أواخر اللقاء السابق، ما يتعلق بأحكام التصويب والتخطئة.
مِن المعلوم أن أحكام الشريعة ليست على درجةٍ واحدةٍ، بل منها ما هو قطعيٌّ يُجزم فيه بخطأ المخالف، ويُنقض الحكم المخالف للصواب، وهذا ما يسميه بعض العلماء: الأصول.
وهناك ما هو ظنيٌّ، لا نجزم فيه بخطأ المخالف، ولا ننقض حكمه القضائي، متى خالف اجتهاداتنا، وهذا قد يسمى الفروع.
وقد وجد من بعض العلماء إنكار تقسيم الشريعة إلى أصولٍ وفروعٍ، ولكن مرادهم بناء بعض الأحكام على هذا التقسيم، من مثل قول بعضهم: بأن أخبار الآحاد تُقبل في الفروع دون الأصول، فهذا قولٌ مردودٌ، ومن مثل الحكم على المخالف بالإثم، فالتفريق بينهما بسبب ذلك أيضًا قولٌ غير مقبولٍ.
ولذلك عندنا عددٌ من المسائل المتعلقة بهذا التقسيم:
أولها مما يتعلق بمباحث الاجتهاد، أولها: مسألة التصويب والتخطئة، فالصواب في المسائل القطعية، مسائل الأصول، هو في أحد الأقوال، وما عداه فهو باطلٌ، فقال تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ [يونس: 32]، والنصوص التي وردت ببيان أن الحق واحدٌ، وأن ما عداه خطأٌ، كثيرةٌ متتابعةٌ، ومن المعلوم أن الأمور الخبرية، لا يمكن أن يكون جميع من تكلم فيها مصيبًا، بل المصيب واحدٌ، فمن أثبت مثلًا مسائل من مسائل يوم القيامة، كالشفاعة، والحوض، لا يمكن أن يقال بأنه هو ومن نفاها كلاهما على صوابٍ، بل إما أن تكون موجودةً، فيكون المثبت هو المصيب، وإما أن تكون منفيةً، فيكون النافي هو المصيب، ولا شك أن النصوص قد تواترت بإثبات الشفاعة، وإثبات الحوض، وإثبات الصفات، ولذلك فالمصيب في أحد هذه الأقوال.
يقابل هذا مسألة الفروع، وهي المسائل الظنية، هل المصيب واحدٌ؟ وما عداه يعتبر مخطئًا؟ أو أن كل مجتهدٍ مصيبٌ؟
نقول في هذا: بأن المجتهد المصيب هو أحد المجتهدين، وما عداه فهو مخطئٌ، إذن الصواب في أحد الأقوال.
ومن أمثلة ذلك، مثلًا: لما وقع الخلاف في عددٍ من المسائل الفقهية، في واجبات الصلاة، أو أركانها، أو في مسائل إيجاب الزكاة، أو مسائل اختلاف العلماء في الحج، أو البيوع، نقول: المصيب هو واحدٌ مِن المجتهدين، وما عداه فهو مخطئٌ، إذن الصواب في أحد الأقوال, وما عداه فخطأٌ، ويدل على ذلك، العديد من النصوص الشرعية الواردة في هذا الباب، ومن أمثلة ذلك: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحدٌ»، وبالتالي فالمصيب أحد العلماء، أحد الأقوال، وما عداه فإنه خطأٌ.
ولا يجوز أن يخرج الحق والصواب عن الأمة، بحيث لا يوجد قائلٌ يقول بالحق في أحد الأزمنة، وذلك لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق»، إذن لا يوجد في كل زمانٍ قائلٌ يقول بالحق، ومن هذا المنطلق، قلنا بأنه لا يجوز استحداث أقوالٍ جديدةٍ، لم يكن السلف يقولون بها.
ويدل على ذلك، ما ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لسعد بن معاذ، لما حكم في بني قريظة: «لقد حكمتَ فيهم بحكم الله، من فوق سبع سماواتٍ»، فدل هذا على أن حكم الله واحدٌ، وأن المجتهد قد يصيبه، وقد يخطئه.
وهكذا أيضًا يدل على القول بأن المصيب واحدٌ من المجتهدين، وأن ما عداه مخطئٌ، ما ورد في حديث بريدة -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أراد أن يرسله، قال: «وإذا أرادوك» أي العدو «أن تُنزلهم على حكم الله، فلا تُنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري أصبتَ حكم الله، أو لم تصبه»، معناه: أن لله حكمًا في الوقائع، وأن المجتهدين يجتهدون لمحاولة إدراك ذلك الحكم، فمن أصابه فهو المصيب، ومن لم يصل إليه فهو مخطئٌ.
وقد استدل بعض العلماء بقول الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمً﴾ [الأنبياء: 78، 79]، فهنا حكمان أحدهما من سليمان والآخر من داود -عليهما السلام-، فحكم الله بأن سليمان قد فهمها، مما يدل على أنه أصاب حكم الله فيها، وأن داود لم يُصب حكم الله فيها؛ لأنه خصَّ سليمان بالفهم.
وهناك نصوصٌ كثيرةٌ تدل على هذا الأمر، منها: النصوص التي أمرتنا عند التنازع بالرد إلى الكتاب والسنة، فلو كان كل مجتهدٍ مصيبًا لقال كل واحدٍ من المجتهدين: لا حاجة بي إلى المناقشة والمناظرة، ورد النزاع إلى الكتاب والسنة، وذلك لأن كل مصيبٍ مجتهدٌ، وهذا خلاف مدلول هذه الآية، قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 10].
ومنشأ الخلاف، هل يوجد لله حكمٌ سابقٌ لاجتهاد المجتهدين؟ أو أن أحكام الله تابعةٌ لاجتهادات المجتهدين؟
والصواب: أن لله حكمًا في المسائل، والمجتهدون يبحثون من أجل الوصول إليه، فمن وصل إلى حكم الله فهو المصيب، ومن لم يصل إليه فهو مخطئٌ.
هناك نصوصٌ كثيرةٌ تدل على هذا القول: بعض الأشاعرة يرى أن كل مجتهدٍ مصيبٌ، وليس المراد أنه مصيبٌ في كونه اجتهد، وإنما المراد أنه قد وصل إلى الحق، وهذا القول بُني على أصولٍ متعددةٍ، ومن عقائد خاصةٍ بهم، وهذا القول يخالف مقتضى النصوص السابقة، التي دلت على أن المصيب، أحد المجتهدين، ويدل على ذلك، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد خَطَّأَ بعض المجتهدين في زمانه، مما يدل على أن المصيب واحدٌ، وأن ما عداه مخطئٌ، ويدل على هذا إجماع الأمة على وجود المناظرة بين علمائها؛ من أجل أن يتوصل إلى القول الحق والصواب، فيكون هناك مجتهدون، فيتناظرون ويتناقشون، لعلهم أن يصلوا إلى ما يرونه حكم الله في هذه المسائل، مما يدل على أن حكم الله في أحد الأقوال، وأن من قال بذلك القول فهو المصيب، وأن من لم يقم به فهو مخطئٌ.
إذن هذه هي المسألة الأولى، التي بحثناها في مسألة: هل الحق في أحد الأقوال؟ أو أن جميع الأقوال صوابٌ وحقٌّ؟
بعض الناس انتقد مذهب الأشاعرة في هذه المسألة، فقال: أنتم تقولون بأن صفات الله قديمةٌ، وتذكرون أن منها الحكم، فأحكام الله عندكم قديمةٌ، ثم بعد ذلك تقولون بأن حكم الله تابعٌ لاجتهاد المجتهدين، والتابع للمُحدث مُحدثٌ يماثله، وليس بقديمٍ.
من المسائل أيضًا المتعلقة بهذا: مسألة حكم المخطئ.
المخطئ في المسائل الأصولية، والمسائل الفرعية، ما حكمه؟ هل يأثم بذلك؟ وهل يكفر؟ وهل يكون من المبتدعين؟ أو لا؟
المخطئ في المسائل القطعية على نوعين:
أحدهما: يعلم الحق، ويعلم دليله، ولكنه يخالف ذلك الدليل، ويخالف الحق في هذه المسائل، إما لهوًى في نفسه، أو لطمعٍ في دنيا، أو غير ذلك، فهذا مخطئٌ آثم، عاصٍ لله -عزَّ وجلَّ-، وذلك لأنه قد علم ما هو الحق، ثم تركه.
الثاني: من لم يعلم، كان مخطئًا في الأصول، ولا يعلم أنه مخطئٌ فيها، فمثل هذا ما حكمه؟
قالت طائفةٌ كثيرةٌ بأنه آثمٌ؛ لأن هذه مسائل عقديةٌ، وهذه مسائل عليها أدلةٌ قاطعةٌ، والصواب في هذه المسألة، أن من اجتهد وبذل وسعه، لكنه لم يُمكَّن من الوصول إلى الحق، فإنه لا يأثم بذلك، بل له أجرٌ على اجتهاده، مادام أنه يريد الحق، وأنه معتمدٌ على الكتاب والسنة، قد يصل إلى قولٍ خاطئٍ، وقد يكون ما وصل إليه بدعةٌ، لكنه لا يأثم بذلك، لكونه بذل ما في وسعه، والله -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، وقال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَ﴾ [البقرة: 286]، فهذا بذل ما في وسعه من أجل الوصول إلى الحق، لكنه لم يوفَّق للوصل إليه.
ويدل على هذا نصوصٌ متعددةٌ، منها قول الله تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بهِ﴾ [الأحزاب: 5]، وهذا كما يشمل مسائل الفروع، يشمل المسائل التي أدلتها قاطعةٌ، لعموم الدليل الوارد فيها.
وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه».
فحينئذٍ نعلم أن الأصل في وصف الشخص بأنه مبتدعٌ، أو وصفه بضد ذلك، وأنه ليس من أهل الابتداع، في المنهج الذي يسير عليه، هو محكِّمٌ للكتاب والسنة، ويسير في تفسيرها على وفق القواعد الصحيحة، أو لا، فمن كان مثلًا يحكِّم السنة النبوية، فهذا ليس على منهج أهل السنة، وهكذا من يأتي بقواعد فهمٍ واستنباطٍ غير صحيحةٍ، أو غير متوافقةٍ، فهذا ليس من أهل السنة، ومثله مثلًا من يترك الاستدلال بالإجماع، فهنا خطأٌ متعلقٌ بالمنهج، بخلاف من أخطأ في مسألةٍ، ولو كانت عقديةً لعدم وصول الدليل إليه، وهكذا في قواعد الفهم والاستنباط، لابد أن يكون مُلمًّا بها.
إذن ما نحن فيه أن المخطئ في الأصول إذا بذل وسعه، لم يتمكن من الوصول إلى الحق، فإنه معذورٌ، ويدل على ذلك: أن هناك عددًا من المسائل، وقعت في عهد النبوة، لأشخاصٍ اجتهدوا في مسائل قطعيةٍ، مجزومٍ بها، ومع ذلك خَطَّأهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكنه لم يؤثمهم.
فمثلًا في حادثة عديٍّ بن حاتمٍ، لما نزل قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187]، وضع خيطين تحت وسادةٍ، أحدهما أبيض، والآخر أسود، فأصبح يأكل، مع أن هذا مخالفٌ قطعًا لمدلول النص، من كونه يجب عليه الإمساك من طلوع الفجر، ومع ذلك لم يؤثمه النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وهكذا في وقائع متعددةٍ، لم يقع فيها تأثيمٌ، انظر مثلًا في قصة أصحاب المائدة، الحواريون، لما قالوا لعيسى -عليه السلام-: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ﴾ [المائدة: 112]، كأنه تشكيكٌ في قدرة رب العزة والجلال، ومع ذلك لمَّا كان هذا الخطأ، وهو في أمرٍ قطعيٍّ، كان عن اجتهادٍ، لم يؤثِّم قائله.
ومثله أيضًا في الحديث الذي فيه أن رجلًا قال لذريته: إذا أنا متُّ، فاحرقوني، وذروا رمادي في البر والبحر، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فلما مات فعلوا به ما أوصى به، فقال الله -عزَّ وجلَّ- للبحر اجمع ما فيك، وللبر اجمع ما فيك، فكوَّن الله -عزَّ وجلَّ- هذا الإنسان، فقال الله -عزَّ وجلَّ- له: ما الذي دعاك لتفعل هذا؟ فقال الرجل: مخافتك يا ربي، فهنا شكٌّ في قدرة الله، في قدرته على إعادة الأجسام، وفي البعث، ومع ذلك لم يؤثِّمه، بل غفر الله -عزَّ وجلَّ- له، لأنه لما كان مؤمنًا بالله، مؤمنًا بقدرة رب العزة والجلال، مؤمنًا بالحساب والعذاب، حينئذٍ فعل ما فعل، وبالتالي خطؤه ذاك مغفورٌ له؛ لأنه لم يكن عن اجتهادٍ، ولا عن سوء طويةٍ.
والنصوص في هذا الباب كثيرةٌ، وهكذا في عهد التابعين، فالمقصود أن المخطئ، الذي بذل وسعه لا يأثم، سواءً كان في الأصول على الصحيح، أو كان في الفروع، إلا في ما يتعلق بأصل دين الإسلام، وهما الشهادتان.
إذن هذا متعلقٌ بالتصويب والتخطئة في الأصول، وبهذا تعلم أن مذهب أهل السنة من أكثر الناس عذرًا للمخالف لهم، وللمخطئ في مسائل الأصول، وهم يتحملون من خطأ غيرهم، ويبذلون من النصح والإرشاد له ما لا يتحمله غيرهم، ولذا هم أبعد الناس عن التكفير، والتبديع، وأما بالنسبة للفروع، فإننا كما تقدم، قررنا بأن الفروع التي ليس فيها دليلٌ قاطعٌ، إذا اجتهد فيها الفقيه، بعد أن بذل وسعه، لكنه لم يصل إلى الحق والصواب، فإنه لا يأثم بذلك؛ لأنه بذل ما يستطيعه، ويدل على هذا نصوصٌ كثيرةٌ، وقع فيها اجتهاداتٌ لم يؤثِّم النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه على ذلك.
يبقى هنا: هل يجوز للمجتهد أن يترك اجتهاده في الأصول والفروع؟
نقول: إذا اجتهد المجتهد في مسألةٍ، أصليةٍ أو فرعيةٍ، فإنه يجب عليه أن يعمل بما وصل إليه اجتهاده، سواءً في مسائل الأصول، أو في مسائل الفروع، ولا يجوز له أن يخالف اجتهاد نفسه؛ لأنه يظن أن هذا القول الذي قاله، هو شرع الله -عزَّ وجلَّ-، وما ظن أنه شرع الله وجب عليه اتباعه.
من المسائل أيضًا المتعلقة بهذا: أن العامي إذا قررنا أن المصيب واحدٌ، وأن ما عداه مخطئٌ، وقررنا أن مسائل الأصول ما فيها دليلٌ قاطعٌ، ومسائل الظنون ما فيها دليلٌ ظنيٌّ، فإن كل واحدٍ من الفقهاء في المسائل القطعية والظنية، يجب عليه أن يعمل باجتهاد نفسه كما تقدم، لأنه يظن أن هذا هو شرع الله -عزَّ وجلَّ-، وهكذا العامي الذي يتبع ذلك العالم، فإنه يجب عليه أن يعمل باجتهادٍ لذلك العالم، أو بمن يثق فيه ذلك العالم، وذلك لأنه يظن أن قول ذلك الفقيه هو شرع رب العزة والجلال.
لكن لو قُدِّرَ أن العامي اختلف عليه المجتهدون، فقال أحد المجتهدين: هذا حلالٌ، وقال الآخر: هذا حرامٌ، فهل نقول بأنه يحتاط ويأخذ بجانب التحريم؟ أو نقول بأنه يأخذ بالرخصة؟ أو ما هو الحكم في هذا؟
فنقول: يجب عليه أن يجتهد بين أعيان المفتين، بحسب ثلاث صفاتٍ:
العلم، عندنا فقيهان اختلفا، فبالتالي يجب على العامي أن يرجِّح بينهما، يرجِّح بينهما في ماذا؟ في ثلاث صفاتٍ: العلم، والورع، والأكثرية، وبعضهم يقدِّم الأكثرية، وإن شاء الله في أبواب التقليد، نأتي لبحث هذه المسائل، والكلام فيها.
يبقى أن نعلم أن المجتهد يجب عليه أن يستقصي النصوص في المسألة التي يريد الاجتهاد فيها، ما لم يستقص النصوص والأدلة، ويغلب على ظنه أنه قد جمعها، فإنه لا يجوز له الاجتهاد في المسألة، لماذا؟ لأنه ليس عنده آلةٌ للنظر فيها، ولم يستكمل النظر في الأدلة الشرعية.
من المسائل المتعلقة بهذا: أن الفقيه لابد أن يختار قولًا، المجتهد يختار قولًا، ويعتبره راجحًا بحسب القواعد الترجيحية عنده، ولا يجوز للفقيه أن يترك الترجيح في المسألة، خصوصًا إذا كان هناك حاجة للناس إليها، وإلى معرفة أحكامها.
{كيف للعامي إذا كان ما يستطيع ما يعرف كيف يُفرِّق بين الفقهاء، ويرجِّح، بهذه صفاته، ما يعرف هذه الصفات}.
سؤالٌ جيدٌ، هل أحد عنده سؤالٌ آخر؟
{مثلًا، أحدٌ طلَّق امرأته، وذهب إلى عالمٍ مجتهدٍ، وقال: هذا طلاقٌ، وجاء مجتهدٌ آخر، وقال: لم يطلق، لا طلاق فيه، ماذا يفعل؟}.
بارك الله فيكم، هذه المسألة تسمى اختلاف الفتوى، عند اختلاف الفتوى ماذا يفعل العامي؟ وهذه من مسائل باب التقليد، وليست من مسائل باب الاجتهاد، وإن شاء الله نأتي إليها بالتفصيل، ونقول: بأنه يرجِّح بين المفتين بحسب صفات العلم والورع والأكثرية، وهناك طرائق يتمكن بها العامي من معرفة الترجيح بين العلماء، فأنت لو سألتك عن عالميْن من علماء العصر، أيهما أعلم؟ لقلتَ العالم على ظني أن العالم الفلاني أعلم، إذن عندك ملكةٌ ومبدأٌ في هذا الأمر.
{ولكن هذا الرجل من هو جيدٌ، ومن غير جيد، هو لا يعرف}.
لعله -إن شاء الله- أن نذكر مسائل هذا في أبواب التقليد -بإذن الله عزَّ وجلَّ-.
من خلال ما سبق نعلم أن الأئمة وأن العلماء غير معصومين، وأن الفقيه مهما علت منزلته، قد يصيب وقد يخطئ، الخطأ عند العالم لا يوجب استنقاص مكانته، ولا يبيح الكلام في عرضه، ومن ثمَّ الواجب حفظ مكانة العلماء، وطلبة العلم، فحفظ مكانته دينٌ يتقرب به إلى لله -عزَّ وجلَّ-، ولو أخطأ في بعض المسائل، أيُّنا لم يخطئ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: أخطأتَ في بعضٍ، وأصبتَ في البعض الآخر، فيه نصوصٌ كثيرةٌ، ومع ذلك لم يُنقص هذا من مكانتهم ومنزلتهم، فهم في القدح المعلى، وفي أعلى المنازل والمراتب، وبالتالي لا يصح لنا أن نستنقص مكانتهم، بل الواجب إعزاز مكانتهم، ورفع درجتهم عند الناس، لتحصل الثقة بأقوالهم.
إذن هذه مسائل من مسائل الاجتهاد، يبقى هناك عددٌ من المسائل، منها:
أن المجتهد لا يجوز له أن يأخذ بقول غيره، بل يجب عليه أن يجتهد، لقول الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، معناه: أن أهل الذكر لا يسألون، وإنما يجب عليهم أن يجتهدوا في المسائل، والواجب عليهم أن يجتهدوا في المسائل، فيعملوا باجتهاد أنفسهم.
إذا تقرر هذا، فإنه لا يمكن أن يقول فقيهٌ واحدٌ بقوليْن متضاديْن، في مسألةٍ واحدةٍ، بحيث يقول: الواجب إما القول وإما القول الثاني، ما حكم هذا الفعل؟ لا يصح، إذن نحن أهل الاجتهاد يجب عليهم أن يجتهدوا، كيف يجتهد؟ بأن ينظر في الأقوال، وأن يرجِّح بينها بحسب الأدلة، وقواعد الاستنباط، لا يخترع وسائل وأدواتٍ جديدةً في هذا الباب، ولا يجوز للمجتهد أن يأخذ بقوله، لابد أن يعمل بقول نفسه، ويدل على هذا قول الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 3]، ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ﴾، يعني الواجب اتباع ما أُنزل، إذا حصل الاختلاف والشقاق، فيتوقف في هذا، ولذا جاءت النصوص بالنهي عن الاختلاف في مواطن عديدةٍ.
{المسألة التي لم يجتهد المجتهد كيف يعمل هو؟}.
إذا لم يجتهد المجتهد، يجب عليه أن يجتهد؛ لأن الله -عزَّ وجلَّ- أمره بأن يجتهد، فتفريطه في عدم الاجتهاد، هذا معصيةٌ، لأن الله أمره بالاجتهاد، هناك من قال بأنه يجوز له أن يُقلِّد من هو أعلم منه، هناك من قال بأنه يجوز أن يُقلِّد في ضيق الوقت، ويجب عليه أن يجتهد في سعته، لكن هذه الأقوال ليس عليها أدلةٌ، الدليل قد جاء بوجوب اتباع الكتاب والسنة، ولا يمكن اتباع الكتاب والسنة إلا من أهل الاجتهاد.
أختم هنا بمسألةٍ، وهي أن باب الاجتهاد بابٌ رفيع العماد، وبالتالي لا يدخله كل أحدٍ، إنما يدخله الفقهاء، القادرون على جمع الأدلة، وفهمها والاستنباط منها.
من المسائل التي تتعلق بهذا الباب، مسائل تغير الاجتهاد، قد يكون المجتهد يرى رأيًا في مسألةٍ فقهيةٍ، ثم بعد ذلك يقلِّب النظر في المسألة، فيختلف اجتهاده، فحينئذٍ ما مضاه، وما قبل اجتهاده الأخير يعمل فيه بالاجتهاد الأول، وما بعد ذلك يعمل فيه بالاجتهاد الجديد، ولذا قالوا: لا يُنقض الاجتهاد بالاجتهاد.
وورد عن عمر -رضي الله عنه- أنه حكم في قضيةٍ باجتهاده، ثم تغير اجتهاده، فقيل له في ذلك، فقال -رضي الله عنه-: "تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي"، مما يدل على أن ذلك من الأمور المقررة لديهم.
وهنا مسائل متعلقةٌ بتغير الاجتهاد، إذن مسائل تغير الاجتهاد ثلاثة أنواعٍ:
النوع الأول: تغير الاجتهاد من الفقيه المجتهد المفتي.
النوع الثاني: تغير اجتهاد القاضي.
النوع الثالث: في تغير اجتهاد الإنسان لنفسه.
وأعطيكم أمثلةً، اختلف العلماء في الخُلع، هل هو طلاقٌ، أو ليس بطلاقٍ، الخُلع، وهو عقدٌ تفتدي به المرأة نفسها من الزوج، بدفع مالٍ.
فهنا الخُلع هل يعتبر طلاقًا أو لا يعتبر طلاقًا؟
هذا من مواطن الخلاف بين الفقهاء، فلو قُدِّرَ أن رجلًا خالع امرأته ثلاث مراتٍ، ثم يعقد عليها، هل تحرم عليه ولا تحل له إلا بعد زوجٍ آخر؟ أو لا؟
إن قلنا الخُلع طلاقٌ، حرمت عليه؛ لأنها قد خلعها ثلاثًا، وإن قلنا: الخُلع ليس بطلاقٍ، ففي هذه الحال، لا تُحتسب عدد الطلقات، ومن ثمَّ يجوز له أن يراجعها. إذن مبنىٌّ المسألة في الخُلع هل هو طلاقٌ؟.
وهذا في هذا الباب لها ثلاثة أنواعٍ:
النوع الأول: أن يذهب إلى القاضي، الزوج والزوجة، فيحكم بالخُلع، فيقع الخُلع، ويقول القاضي: هذا الخُلع ليس بطلاقٍ، أو يقول: هو طلاقٌ، فحينئذٍ بعد مدة تغير اجتهاد القاضي، وجاءته مسألةٌ أخرى، فما مضى نعمل فيه بالاجتهاد السابق، وما سيأتي نعمل فيه بالاجتهاد الجديد اللاحق.
جاءنا رجلٌ وقال: خالعت امرأتي ثلاثًا، نقول: الفقيه القاضي حكم بأنه لثبوت الفُرقة المؤبدة، بناءً على أن الخُلع طلاقٌ، نمضيه، رأيه اجتهاديٌّ، بعد مدةٍ تغير اجتهاده، وأصبح يرى أن الخُلع طلاقٌ، فبالتالي نقول: المستفتي يعمل في ما يعمل بالاجتهاد الجديد، ولا يعمل بالاجتهاد الأول؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، والاجتهاد الجديد هذا يرفع الخلاف.
ومسألةٌ أخرى، في تغير اجتهاد المفتي، القاضي له حق الإلزام، فيعملون بحكمه الجديد، فالمفتي إذا تغير اجتهاده، فهل يلزم العمل بالاجتهاد الجديد أو لا؟ كان يرى أن الخُلع فسخٌ، ثم تغير اجتهاده، وأصبح يرى أن الخُلع طلاقًا، وقد خالعها ثلاثًا، فجاءوا إلى المفتي، إن كان قد أفتاهم قبل ذلك ببقاء النكاح، عملنا فيه، وإلا قلنا نظرنا إلى الاجتهاد الجديد في المسائل الجديدة، وعملنا بالاجتهاد القديم في ما مضى، هذا بالنسبة للمفتي، الأول القاضي، القاضي ماذا قلنا؟ قلنا في ما يأتي يعمل بالاجتهاد الجديد، كذلك المجتهد المفتي في ما يأتي يعمل بالاجتهاد الجديد، أما القضايا السابقة فقد حكم عليها بالاجتهاد السابق.
المسألة الثالثة: إذا كان تغير الرأي من قِبَل المستفتي نفسه، فقيه تزوج امرأةً، وخالعها ثلاثًا، يحل له أن يراجعها؟ نقول: يا أيها الفقيه، أجبنا أنت ماذا ترى؟ هل الخُلع طلاقٌ؟ أو فسخٌ؟ ونرتِّب الأحكام بعد ذلك على هذا، فإن قلنا مثلًا هو طلاقٌ، لم تحل له إلا بعد زوجٍ آخر، ووجب عليه عددٌ من الأمور، فإن قلنا هو فسخٌ وليس بطلاقٍ، فحينئذٍ يحق له أن يراجع.
هذا فقيهٌ زوجٌ كان يرى أن الطلاق فسخٌ، فراجعها بعد الخلع الثالث، ثم تغير اجتهاده، وأصبح يرى أن الخلع طلاقٌ، وبناءً على هذا الاجتهاد الجديد لا تحل له، فهل نقول: يعمل باجتهاده الجديد فيفارقها كما قال طوائف من أهل العلم؟ أو نقول: يعمل بالاجتهاد السابق في القضايا السابقة؟
إذن كان يرى، هو الزوج الآن، الزوج كان يرى أن الخُلع فسخٌ، فاسترجع المرأة، وعقد عليها بعقدٍ جديدٍ، بعد خمس سنين، تغير اجتهاد المجتهد، فأصبح يرى أن الخلع طلاقٌ، هل يفارق المرأة؟ نقول: لا، حكمه كان حكمًا اجتهاديًّا في أول المسألة، وبالتالي يبقى على اجتهاده السابق، ولا يأخذ بالاجتهاد الجديد.
إذن هذا خلاصة مسائل تغير الاجتهاد، أسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يوفقنا وإياكم لكل خيرٍ، هذه المحاضرة الثالثة، هي آخر محاضراتنا في أبواب الاجتهاد والتقليد والفتوى، وإن شاء الله في اللقاء القدم نأخذ ما يتعلق بأحكام التقليد.
أسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يوفقنا وإياكم لكل خيرٍ، وأن يجعلنا وإياكم الهداة المهتدين، كما أسأله -عزَّ وجلَّ- أن يُصلح أحوال الأمة، وأن يردهم إلى دينه ردًّا حميدًا، وأن يرزقهم العلم النافع والعمل الصالح، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك