الدرس الخامس

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

4715 11
الدرس الخامس

الاجتهاد والفتوى

الحمد لله رب العالمين، أحمده على نعمه، وأشكره، وأسأله المزيد من فضله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد، فأرحب بكم في لقاءٍ جديدٍ من لقاءاتنا في مقرر الاجتهاد والفتوى، نتدارس فيه شيئًا من مباحث التَّقليد، وقد سبق معنا عددٌ من الدروس، تباحثنا فيها مسائل الاجتهاد.
عرفنا ما هو الاجتهاد، ومن هو المجتهد، ومتى يجوز للشخص أن يجتهد، ومتى يجب عليه الاجتهاد، ومتى يُمنع المرء من الاجتهاد، وذكرنا عددًا من الأحكام في الاجتهاد.
وفي لقاءٍ سابقٍ، ابتدأنا بالكلام عن التَّقليد، وعرفنا أن التَّقليد هو التزام الإنسان مذهبًا في مسألةٍ شرعيةٍ، قال به غيره.
وقلنا: إن بعض العلماء عرَّف التَّقليد بأنه: الأخذ بقول الغير، من غير أن يكون حجةً، وذكرنا أن التَّقليد له مجالاتٌ متعددةٌ، فهناك تقليدٌ في المسائل الفقهية، وهناك تقليدٌ في مسائل الأصول، سواءً كانت عقديةً، أو أصوليةً، وهناك تقليدٌ في ما عُلم من الدين بالضرورة، من أمثلة أركان الإسلام الخمسة، ونحو ذلك، وقد تقدَّم الكلام في ذلك كله.
مَن هو الذي يُقلِّد؟
من ليس بمجتهدٍ، مَن لم يصل رتبة الاجتهاد، فإنه يجب عليه أن يُقلِّد، ولا يجوز له أن يجتهد؛ لأنه لا يملك آلة الاجتهاد، وقد قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، فأوجب السؤال على من ليس لديه أهلية العلم والاجتهاد.
وقد يقول بعض الناس: أنا طالب علمٍ، وبالتالي سآخذ الأحكام من الأدلة، فنقول: هذا الوصف، أنا طالب علمٍ، ليس من الأوصاف المنضبطة، بل هو من الأوصاف التي تحتمل أوجهًا متعددةً.
ما هو الوصف الذي يُعوَّل عليه في الحُكم؟
وصف الاجتهاد، من كان من أهل الاجتهاد، فهذا يجب عليه أن يعمل بالأدلة، وأن يجتهد، ولا يجوز له أن يقلِّد غيره.
ومن لم يصل إلى رتبة الاجتهاد، فهذا يجب عليه السؤال، حتى ولو عرف جميع أقوال الفقهاء، وجميع أدلتهم، وحفظها حفظًا دقيقًا متينًا؛ لأنه ليس لديه آلة الاجتهاد.
ما هي شروط الاجتهاد؟
شروط الاجتهاد أربعةٌ:
أولها: معرفة النصوص الشرعية، الواردة في المسألة المجتهد فيها، معرفةً بأعيانها، وبصحتها.
والثاني: معرفة الإنسان بأصول الفقه، وقدرته على تطبيقه، فيعرف دلالات الألفاظ، ويعرف ما الذي يصح الاستدلال به، وما الذي لا يصح الاستدلال به، وشرائط الاستدلال، وأنواعها، ومباحث التعارض والترجيح، ونحو ذلك.
والشرط الثالث: أن يعرف مواطن الاتفاق والاختلاف.
والشرط الرابع: أن يعرف مِن لغة العرب، مَا يمكِّنه مِن فَهم الأدلة.
فهذه شروط الاجتهاد، مَن وجدتْ فيه، وجب عليه أن يجتهد، ومن انتفى عنه أحدها، لم يجز له أن يجتهد، ووجب عليه التَّقليد، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ ليَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122].
يبقى عندنا سؤالٌ: كيف يعرف العاميٌّ المؤهل للفتوى؟
عندنا شخصٌ عاميٌّ، عُرضت له مسألةٌ من مسائل يحتاج إلى معرفة حكم الله فيها، وهو ليس أهلًا للاجتهاد، مَن الذي يُسأل؟
هل يَسأل العامة الذين يماثلونه؟
نقول: لا، لا يجوز له ذلك؛ لأن الله أمره بسؤال أهل الذكر، في قوله: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وهذا العامي المسئول، يماثل السائل، لا مزية لأحدهما على الآخر.
هل يسأل من يَجهل حاله؟ فلا يعرفه بعلمٍ سابقٍ، ولا يدري هل هو جاهلٌ أو لا؟
نقول: لا يجوز له على الصحيح، لماذا؟
لأنه لا يجوز له إلا أن يسأل أهل الذكر، كما هو منطوق الآية، وهذا الشخص المسئول هنا، لم يتحقق للإنسان أنه مِن أهل الذكر، وبالتالي لا يجوز أن يُسأل.
قد يقول قائلٌ: بأي شيءٍ نعرفه؟
نقول: نعرفه بكونه مِن أهل العلم.
متى نعرف أنَّ الشخص مِن أهل العلم الذين يجوز الرجوع إليهم؟
نقول: هناك طرائقُ:
الطريق الأول: رجوع العلماء إلى شخصٍ في الفتوى، وفي مسائل العلم، فإذا وجدنا الفقهاء يراجعون شخصًا في ما يعرض لهم من المسائل، فهذا دليلٌ على أن ذلك الشخص الذي يراجعه العلماء من أهل العلم، وأنه يجوز أن يُسأل، ويجوز أن يُرجع إليه.
الطريق الثاني: بطريق الدلالة، فإذا أرشد عالمٌ من العلماء، شخصًا إلى آخر، وقال: اذهب فاسأل فلانًا في مسألتك، فهذا دليلٌ على أنَّ ذلك الذي أُحيل إليه، مِن أهل العلم والفتوى، بشهادة هذا الشخص الذي أحال المستفتي الذي وصل إليه، إلى ذلك الشخص، فلو لم يكن من العلماء أهل الاجتهاد، الذين يجوز الرجوع إليهم، لما أرشد العالم ذلك العامي إليه.
والطريق الثالث: بطريق التقرير، وعدم النكير، فعندما نجد شخصًا يُفتي في مسائل العلم، بحضرة العلماء، ومشاهدتهم، وسكوتهم، وإقرارهم، نعرف أنه من أهل العلم، وأنه يجوز سؤاله، ومراجعته؛ لأنه لو لم يكن من أهل العلم لأنكر عليه هؤلاء الموجودون، ولبيَّنوا للناس عدم صلاحيته للفتوى.
إذن، هذه ثلاث طرائق، نعرف بها من هو الفقيه، المؤهل للفتوى.
عندي سؤالٌ.
السؤال الأول: هل السمت الحسن دليلٌ على أنَّ الشَّخص مِن أهل الفتوى؟ وأنه ممن يجوز سؤاله؟
شخصٌ عنده لحيةٌ جميلةٌ، وهيئةٌ حسنةٌ، وبشتٌ جميلٌ، وثيابٌ سابغةٌ، هل معناه أنه من أهل الاجتهاد والفتوى؟ ومِن ثَمَّ يجوز تقليده؟ ماذا تقولون؟
{لا}.
نقول: لا، ليس هذا طريقًا صحيحًا.
الأمر الثاني: هل كلام الإنسان بالفتوى، وإفتاؤه يدل على أنه صالحٌ للفتوى؟ ويجوز الاعتماد على فتواه؟
نقول: لا.
هل ادعاؤه بأنه من أهل الفتوى، وتصديه للمسائل، يعني أنه كذلك؟
نقول: ليس كل من ادعى شيئًا يكون صادقًا في دعواه.
أيضًا: هل ظهور الإنسان في برامج الفتوى، يعني أنه من أهل الفتوى الذين يجوز سؤالهم ومراجعتهم؟
نقول: ليس هذا طريقًا صحيحًا، إلا إذا استند إلى الثلاثة طرائق السابقة، بأن تكون القناة لا تستفتي إلا من يَشهد له العلماء الثقات أهل الفتوى، بأنه مؤهلٌ لذلك، أما إذا كانت القناة تقابل مع كل أحدٍ، فهذا ليس دليلًا على أن المتكلم فيها متأهلٌ للفُتيا.
وكم من شخصٍ جاهلٍ ليس من أهل العلم، ولا يعرف طرائق استخراج الأحكام، نصَّبته هذه القنوات لمنصب الفتوى، وجعلته مفتيًا فيها، مع عدم أهليته لذلك.
قد يسأل سائلٌ ويقول: هل وضْع الإنسان في وظيفةٍ متعلقةٍ بالفتوى، يدل على أنه متأهلٌ لها، وأنه يجوز تقليده؟
الجواب: يعني عندنا في بعض الدول يضعون مفتين، وقد يكون مفتيًا عامًّا لتلك الدولة، فنقول: هذا يعتمد على طريقة اختيار الشخص، فإن كانوا لا يختارونه إلا بعد شهادة أهل العلم، وصلاحيته لذلك، فهذا طريقٌ صحيحٌ، لكنه ليس لذاته، وإنما للطرق السابقة.
فإذن هذا الأمر، ليس طريقًا مستقلًّا لمعرفة المتأهل للفتوى، الذي يجوز سؤاله، والرجوع إليه.
{جزاكم الله خيرًا، سؤالي: ذكرتم أنَّ العامي يقلِّد المجتهد، هل من حق المجتهد أن يقلِّد؟ فإن كان يقلِّد مثلًا في البلاد هناك يوجد مجتهدون، كثيرٌ من المجتهدين لو كان كل واحدٍ سيعتمد على اجتهاده، لا يكون في نظر العامي أن هناك اختلافًا بين المجتهدين، ويكون هذا سببًا للاختلاف في المجتمع}.
هذا السؤال تضمن عددًا من المسائل.
المسألة الأولى: المجتهد هل يجوز له أن يقلِّد غيره؟
الجواب: لا يجوز له ذلك، بل كل مَن تأهل للعلم والاجتهاد والفتوى، لا يجوز له أن يعتمد على قول غيره، بل يجب عليه أن يجتهد في المسألة؛ لأنَّ الله إنما أجاز التَّقليد لمن لا يعلم، أي: لمن ليس لديه قدرةٌ لمعرفة الحكم الشرعي، فقال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43] أما من كان يعلم، أو لديه الأهلية للعلم، فهذا لا يجوز له أن يقلِّد غيره. إذن هذه المسألة واضحةٌ.
وبعض العلماء أجاز ذلك عند ضيق الوقت، أو عندما تكون المسألة متعلقةً به بذاته، أو نحو ذلك، ولكن ظواهر النصوص تدل على انحسام الباب، وأنه لا يجوز للفقيه المجتهد، أن يقلِّد غيره، بل يجب عليه أن يجتهد.
مما تضمنه أيضًا سؤالك:
هل يمكن وجود اختلافٍ بين الفقهاء والمفتين؟
نقول: هذا ليس بأمرٍ مستغربٍ، بل قد يوجد، وإن كان هذا بالنسبة للمسائل الواقعة كثيرًا، يُعَدُّ قليلًا، وذلك أن أكثر المسائل الشرعية، فيها اتفاقٌ بين أهل العلم على حكمها.
قد يختلف الفقهاء، هل معنى هذا أنه يُطعن في الشرع؟ أو يُطعن في أولئك العلماء؟ نقول: لا، ليس هذا من الطعن فيهم، بل هذا الاختلاف طرائق الاجتهاد، وقواعد الاستنباط، وهذا أيضًا لاختلاف قدرات الناس في أذهانهم، ومن ثَمَّ فوجود الاختلاف ليس بأمرٍ مستغربٍ، وما من تخصصٍ، ولا فنٍّ من الفنون، إلا ونجد أن أهله يختلفون، ومع ذلك لا يُعَدُّ هذا طعنًا في ذلك العلم، أو ذلك الفن، فالطب مدارس، وهناك اجتهاداتٌ فيه، ومع ذلك، لا يُطعن في الطب لوجود هذا الاختلاف، وهكذا في بقية الفنون، أصحاب الفن يختلفون، ولهم مناهج ومدارس، ومع ذلك، لم يكن هذا سبيلًا للطعن في ذلك الفن أو العلم، فهكذا في علم الشريعة، بل وجود الاختلاف فيه عددٌ من الفوائد، منها: طمأنينة المستفتي، أن المفتيين يجتهدون، ويبحثون، ويضعون الأوقات الكثيرة من أجل تعرُّف الحكم الشرعي، ومن ثَمَّ تطمئن نفسه إلى فتاواهم، وكذلك هناك حكمةٌ للشرع، بوجود مثل هذا الاختلاف، ألا وهو: أنه يساعد في البحث والتحري من قِبَل أهل العلم، بل يكون سببًا من أسباب المناقشة، والمحاورة، فيكون له آثارٌ حميدةٌ، من تواصل الناس، وشغل مجالسهم بما ينفعهم، وتقوية الفقه وتدعيم دعائمه؛ لأنه سيتناقشون فيه، وبالتالي سيكون له أثره في بقاء هذا العلم في النفوس، وبالتالي لا يُطعن فيه.
ماذا يفعل العامي عند اختلاف الفقهاء؟
هذه -إن شاء الله- سيأتي لها بحثٌ قريبًا، ونتكلم عنها، وهذه المسألة لها جانبان: الجانب الأول: مسألة تعدد الفقهاء.
والجانب الثاني: مسألة اختلاف المفتين.
فعندما يوجد في البلد أكثر من فقيهٍ، والعامي لا يعرف أقوالهم، ولم يسبق له أن سألهم، فمن الذي يسأل؟ هل يكون سؤاله خاصًّا بالأعلم؟ أو يجوز أن يسأل من هو أقل؟
الصواب: أن العامي في هذه المسألة، مادام لم يعلم بأقوال الفقهاء أنه مخيَّرٌ، فيسأل أي فقيهٍ منهم، حتى ولو سأل الفقيه المفضول، جاز له ذلك، وبرأتْ ذمته بعمله بفتواه.
والدليل على هذا: إجماع الصحابة -رضوان الله عليهم- في زمانهم على سؤال المفضول مع وجود الفاضل، فقد كان الناس يسألون المفضول، مع وجود من هو أفضل منه، ويعملون بفتواه، ولا يجدون حرجًا في ذلك، وقد أقرت الأمة هذا.
ويدل عليه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاءه الرجل، وقال: إني سألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني الجلد والتغريب.
فهنا أقر النبي -صلى الله عليه وسلم- سؤال هذا الشخص لأهل العلم، الذين كانوا في زمن النبوة، ولم يقل له: إني أفضل منهم، وأعلم منهم، وبالتالي يجب عليك أن تراجعني، وأن تسألني.
فدل هذا على جواز سؤال المفضول مع وجود الفاضل، وجواز العمل بفتياه، وأنه لا حرج في مثل هذا.
{لو كان المفضول لم يصل إلى مرتبة الاجتهاد والفتوى، لكن إنما هو ناقلٌ لأقوال العلماء في المسألة ويوجد في البلد أو في مكانٍ يوجد من هو أفضل منه، الذين وصلوا إلى مرتبة الاجتهاد والفتوى، فما الحكم في ذلك؟ يحق للعامي أن يسأل من هو أقل درجةً من المفتين؟}.
كما تقدَّم، إذا لم يكن من أهل الاجتهاد فلا يجوز سؤاله، وليس من أهل الفتوى، وبالتالي: لا تعارضه بقول الفقيه، نحن إنما نتكلم عن مجتهديْن، فقيهيْن، اختلفا في مسألة، مع كون أحدهما أفضل من الآخر، عندنا فقيهان في البلد، العامي لم يستفتِ أحدًا منهما بعد، سؤال الفاضل لا إشكال فيه، لكن هل يجوز له أيضًا سؤال المفضول؟ نقول: نعم، لماذا؟ لوجود الإجماع، ولوجود إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- على سؤال المفضول مع وجود الفاضل.
هذه المسألة قبل أن يُعلم بأقوال المجتهدين، لكن لو قُدِّر أنَّ العامي علم بأقوال المجتهدين، وعلم أنَّ زيدًا يقول بكذا، وأن عمروًا يقول بكذا، فماذا يفعل؟
جاء للشيخ صالح الفوزان وسأله، فأجابه بجوابٍ، بناءً على اجتهادٍ من الشيخ، ثم جاء إلى الشيخ عبد العزيز وسأله فأفتاه بجوابٍ آخر مغايرٍ للجواب الأول، ماذا يفعل؟
نقول:
أولًا: يعلم أن هؤلاء الفقهاء إنما قالوا بحسب اجتهاداتهم، وليست المسألة اعتباطيةً، وهذا الاختلاف له أسسٌ وقواعدُ بُني عليها، وليس من الأمور الاعتباطية.
وثانيًا: أن وجود مثل هذا الاختلاف ليس بمستغربٍ، وله فائدةٌ، وللشرع فيه حكمةٌ، فهو يرفع درجة العلم، ويجعل الناس يتناقشون، ويتساءلون، فينشر العلم في ما بينهم.
ماذا يفعل العامي في هذه الحال؟ نقول: بأنه يأخذ بقول الأعلم، لماذا؟ لأنه عندما يأخذ بقول الفقيه، لا يأخذه لأنه فلانٌ، أو لأنه من القبيلة الفلانية، وإنما يأخذ بقول الفقيه؛ لأنه يظن أن قول الفقيه هو الموافق لشرع رب العزة والجلال، فعندما يختلف عليه فقيهان، فإنه حينئذٍ يغلب على ظنه أن قول الأعلم هو شرع رب العزة والجلال، وبالتالي يأخذ بقول الأعلم.
قد يقول قائلٌ: العامي ليس لديه آلةٌ لمعرفة الأعلم ممن هو ليس كذلك، نقول: بل عنده آلاتٌ يتمكن بها من معرفة الأعلم، من كون المفضول يقدِّم الفاضل، ومن كونه يراجعه، ومن كون الناس يعتمدون على قول الفاضل أكثر مما يعتمدون على قول المفضول، ومن كون العلماء يراجعون الفاضل، فهذا دليلٌ على أن العامي يتمكن من معرفة من هو الأعلم.
فإن استويا المفتيان في درجة العلم في نظر العامي. قبل هذه مسألةٌ، وهي: أن كل إنسانٍ في مسألة الأعلم متعبدٌ باجتهاده، فإذا كنت تظن أن زيدًا هو الأعلم، فحينئذٍ تعمل به، وإذا كان خالدٌ يظن أن الفقيه الثاني هو الأعلم، أخذ بقول الفقيه الثاني، بحسب نظرهم واجتهاداتهم.
إذا تساوى الفقيهان المختلفان في العلم، أو جهل العاميُّ السائلُ من هو الأعلم، فحينئذٍ يعتمد على صفةٍ أخرى، وهي: صفة التقوى والورع، فيقدِّم قول الأتقى الأورع على قول الآخر، ولا يلتفت لصفة العلم في هذه الحال؛ لكونه لم يستطع الترجيح بها.
لماذا قلنا بأنه يأخذ بقول الأورع والأتقى؟
لأن قوله أقرب؛ لأن يكون هو شرع رب العزة والجلال؛ لأن أهل الورع والتقوى، يوفِّقهم الله -عزَّ وجلَّ-، ويهديهم كما قال -جلَّ وعلَا-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانً﴾ [الأنفال: 29]، أي قدرةً تستطيعون أن تفرِّقوا بها بين الحق والباطل، فهذا دليلٌ على أن أهل التقوى يُوفَّقون لمعرفة الصواب، ما لا يُوفقه غيرهم.
ويدل على هذا قول الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]، فكون أهل التقوى يهتدون بالكتاب، دليلٌ على أنهم يُوفَّقون إلى معرفة الصواب، ما لا يُوفَّق إليه غيرهم.
وهكذا في نصوصٍ كثيرةٍ، مثلًا: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجً﴾ [الطلاق: 2] والآية الأخرى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرً﴾ [الطلاق: 4]، ومن ذلك أن ييسَّر للقول الراجح، وأن يعرف المخرج من المسألة.
فهذا دليلٌ على أنَّ صاحب التقوى يُوفَّق لمعرفة الصواب، أكثر مما يوفَّق إليه غيره، ومن ثَمَّ قلنا: إن الأتقى الأورع يُقدَّم، فإذا عجز العامي عن معرفة من هو الأعلم، صِرنا إلى وصف الأورع الأتقى، فأخذنا بقوله؛ لأنه حريٌّ لموافقة الصواب.
فإن تساووا في العلم والورع، فحينئذٍ ماذا يعمل هذا العامي المسكين، الذين لم يجد إلا هذيْن المفتييْن، وقد اختلفا عليه؟
في هذه الحال، قال طائفةٌ: يسأل عالمًا ثالثًا، فيعمل بقول الأكثر، لأن قول الأكثر مظنةٌ لأن يكون هو الحق والصواب، وقال آخرون: بأنه يعمل بالقول الأثقل، وقال آخرون: بالقول الأخف، وهناك أقوالٌ أخرى في المسألة لكن هذه زبدة الأقوال في المسألة.
{فضيلة الشيخ، كما تعلمون في زماننا الآن، يعني هناك زمن التخصصات، فأحيانًا تجدون الطالب هو يركز في قضيةٍ ما مثلًا، يعني هو جيدٌ في معرفة النصوص الشرعية، وهناك حديثو عهدٍ بالإسلام، الناس حديثون في الإسلام، فهؤلاء يرجعون إليهم، وقد تجدون في ذات المنطقة، لا يوجد سوى هؤلاء، لكن هم تخصصوا في نواحٍ معينةٍ، فهل يمكن إكمال بعضها ببعضٍ؟ حتى تصل مرتبة الاجتهاد؟ مثلًا، هذا تخصصٌ جيدٌ في اللغة، وذاك جيدٌ في الأصول، هل يمكن الاثنان يجتمعان حتى يخرجا شيئًا مفيدًا لأمتهم؟ أو يتصلون بخارج المنطقة حتى يجدوا حلًّا لأمتهم؟}.
بارك الله فيك، هذا يتضمن مسألتين:
المسألة الأولى: هل يمكن أن يكون الاجتهاد مُرَكَّبًا، بحيث يكون هناك اجتهادٌ من شخصيْن، فيصلون إلى النتيجة، وهذا يُسمَّى مُركَّبًا أو مُكمِّلًا لبعضه.
مثال ذلك: أنت لا تعرف صحة الأحاديث من ضعفها، لكن لديك القدرة على استنباط الأحكام، فتعتمد على قول زيدٍ في التصحيح والتضعيف، ثم تستخرج الحكم، فهذا جائزٌ، وَيُعَدُّ قولًا واحدًا، ولا إشكال في مثل هذا من المسائل.
لكن هناك مسألةٌ أخرى، وهي مسألة: إذا لم يكن في البلد فقيهٌ، فكان ينقل من أقوال المتقدمين، فنقول: هذا ليس بمجتهدٍ، وإنما هو ناقلٌ، ينقل ما في الكتب، وينقل الأقوال، وبالتالي هذا الناقل لا يلزمنا الأخذ بنقله، حتى يرد الدليل على وجوب الأخذ بما عنده.
{الناقل هذا في نقله، هل هو ينظر إذا كانت المسألة فيها اختلافٌ بين الفقهاء، وهذا الاختلاف وجده في الكتب، فماذا هو يأخذ في هذا الاختلاف؟ هناك أقوالٌ هو لم يستطع أن يجد القول الراجح في المسألة، مع أنه ناقلٌ للأقوال}.
إذا لم يستطع الشخص أن يرجِّح في المسألة، فهذا ليس بمجتهدٍ فيها، وبالتالي لا يصح له أن يفتي فيها، وليس هو من أهل الاجتهاد، أو من أهل العلم في هذه المسألة، وإن كان مجتهدًا في غيرها، كما ذكرنا في مسألة تجزؤ الاجتهاد، في أوائل ما أخذنا في باب الاجتهاد، قد يكون مجتهدًا في بابٍ دون بابٍ، وفي مسألةٍ دون مسألةٍ.
متى يكون الشخص مؤهلًا للفتوى؟ عندما يتمكن من معرفة الراجح من المرجوح، لو عرف جميع الأقوال في المسألة، وجميع الأدلة في المسألة، وجميع المناقشات، لكنه لم يتمكن من الترجيح فيها، فهذا ليس بفقيهٍ في هذا الباب، وإن كان قد يكون مجتهدًا في بابٍ آخرٍ.
إذن، إذا اختلف الفقهاء على العامي، فإنه يأخذ بقول الأعلم، فإن تساووا، أخذ بقول الأتقى الأورع، فإن تساووا، أو جهل التفاضل، فحينئذٍ يسأل عالمًا ثالثًا، ويكون الحكم هنا بحسب قول الأكثر، فمن وافقه هذا الثالث، كان قوله هو الراجح.
هنا هل العمل بقول المفتي الأول؟ أو بقول المفتي الثالث؟ هذه من مواطن الخلاف، يترتب عليه ما لو حصل خطأٌ في الفتوى، ووجب فيها ضمانٌ، هل يكون على المفتي الأول، أو على الثالث؟ إذن هذا جواب هذه المسائل.
{شيخنا، أحسن الله إليكم، هناك سؤالٌ في مسألة تجزؤ الاجتهاد، إذا ثبت أن الاجتهاد يتجزأ عند المفتي، في مسألةٍ دون مسألةٍ، أو بابٍ دون بابٍ، كيف يمكن تصور أن يقبل العامي من هذا العالم، يعني هو سأل العالم، ولا يدري أن هذا العالم مجتهدٌ في هذا الباب، أو ليس مجتهدًا في هذا الباب، وإنما هو في بابٍ آخر، كيف يتصرف مع هذه الفتوى التي أخذها من عالمٍ الأصل فيه أنه مجتهدٌ؟}.
الأخذ بقول الفقيه سبق أن قلنا إنه يُشترط له شرطان: أن يكون من أُخذ عنه من أهل الاجتهاد، فإذا لم يكن من أهل الاجتهاد، لم يجز الرجوع إلى فتواه، ذكرنا مثلًا كُتَّاب الصحف، أو من يكتب بالرأي، قد يكتبون في مسائل شرعيةٍ، ويقول: أرى كذا، والمفروض كذا، هذا كله لا قيمة له، ولا وزن له، ولا اعتبار له، ولا يجوز الاستناد إليه، أو اعتماده؛ لأن الله قال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ [النحل: 43]، وهذا ليس منهم؛ لأن هذا ليس مؤهلًا للنظر فيها.
إذن من الذي يتكلم؟ الفقيه، يُشترط أيضًا في الفقه حتى يُقبل قوله أن يكون عدلًا، إذا لم يكن عدلًا، لم يجز أن نستند إلى فتواه؛ لقوله -عزَّ وجلَّ-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6].
ومن هذا المنطلق، المجهول لا يجوز لنا أن نعتمد على قوله؛ لأنه تُجهل عدالته، ويُجهل علمه، ومن ثَمَّ لابد أن يكون عدلًا، ومن طبيعة العدل: أن لا يتكلم في مسألةٍ إلا إذا كان من أهلها، إذا كان فقيهًا عنده تجزؤٌ في الاجتهاد، يعرف باب الفرائض، وأبواب المعاملات، جاءه سائلٌ وسأله في باب العبادة، هذا الشخص المسئول عدلٌ ثقةٌ، نقول: هذا المفروض، وإلا لا يجوز أن يُسأل من ليس كذلك، والعدل الثقة لا يمكن أن يتكلم في مسألةٍ لم يتوصل فيها إلى الراجح من المرجوح من أقوال أهل العلم.
{هل في هذا المكان مثلًا في هذه المسألة، المجتهد الذي ليس له معرفةٌ أو علمٌ في هذا الباب، له أن يسأل غيره؟ مجتهدًا آخر، أو هو يجب عليه أن يجتهد، بناءً على قولكم أن المجتهد ليس له حقٌّ أن يسأل إلا هو يجتهد}.
نقول: له حقٌّ أن يسأل، لكنه لا يعمل إلا باجتهاد نفسه، ولا يفتي إلا باجتهاد نفسه، قد يسأل غيره عن مذهبه من أجل معرفة الأقوال، من أجل المناقشة بالأدلة، ونحو ذلك، فهذا سؤاله لا يؤثر على ما نحن فيه.
هل هذا الناقل يجوز أن يُعتمد على نقله؟
تقدَّم معنا أن من يُنسب إلى اسم الاجتهاد أنواعٌ: مجتهدٌ مطلقٌ، ومجتهدٌ منتسبٌ، أصحاب الوجوه، وأصحاب الترجيح، وأصحاب التخريج، والآخرون أصحاب الحفظ، وأصحاب الحفظ هم الذين ينقلون المذهب.
هل يجوز الاعتماد على قولهم؟ تقدَّم معنا أنه لا يجوز أن يُعتمد على قولهم، وليس قولهم هو شرع الله -عزَّ وجلَّ-، وبالتالي لا يصح أن يعوَّل على مثل ذلك.
إذن، الناقل للفتوى، هذا النقل لا يلزم، لكنه يثير عند الناس البحث؛ ليعرفوا حكم الله في الوقائع، وبالتالي يكون دافعًا للناس إلى سؤال العلماء، ولا يجوز للإنسان أن يعتمد على قول الناقل للفتوى؛ لقول الله سبحانه: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، ما قال: اسألوا من يحفظ وقائع العلماء وأقوالهم.
{مثلًا في بلاد الأقلية الإسلامية، وفي مثلًا بلادنا لا يوجد فيها المجتهدون، ولا المفتون، إنما الدعاة والذين ينقلون، يقرؤون في الكتب، ويفتون الناس بهذه الأقوال الموجودة في الكتب، الدعاة هؤلاء في هذا الزمان، ممكن لهم أحيانًا يأخذون بفتوى مجتهدٍ آخر، ثم يأخذون بفتوى آخر أيضًا لقول واحدٍ آخر من المجتهدين، يعني يرجعون إلى القول الأخف للناس ويأخذون، وإن كانوا مختلفين في المذاهب، فهل هذا يجوز؟}.
عندما يكون الإنسان مضطرًا، ولا يجد فقيهًا يسأله، حينئذٍ لا سبيل له إلا أن يسأل أولئك النقلة، الذين ينقلون العلم، النقل لا حرج على الإنسان فيه، لكن هل يلزم من نُقل إليه أن يعمل بذلك النقل؟ نقول: لا يلزمه، إنما يجب عليه أن يسأل، إلا في مواطن الضرورات، كما تقدَّم، إذا لم يجد فقيهًا، جاز له أن يعتمد على قول الناقل للفتوى، مثل من كان في بريةٍ وصحراء قاحلةٍ، لا يجد عارفًا يعرف الطرقات، ويجد من يمكن أن يصيب لمعرفته بعض الدلائل والعلامات، فهل يترك العمل بقوله؟ ولا يسير معه، ويبقى في مكانه؟ نقول: لا، فهكذا في موطن الضرورة، وللضرورات أحكامها.
{يا شيخ، أحسن الله إليكم، هل يأثم أهل البلاد أو أهل المنطقة إذا كانت هذه المنطقة خاليةً من المجتهدين؟ أو ما دورهم في هذا إذا كانت المنطقة خاليةً من المجتهدين؟}.
أولًا: لا يوجد زمانٌ، ولا يخلو زمانٌ من فقيهٍ مجتهدٍ، فكل الأزمنة لابد أن يوجد فيها فقهاء مجتهدون، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق»، ومن الحق أن يكونوا من أهل الاجتهاد، لكن لو قُدِّرَ أن بلدًا من البلدان لا يوجد فيه فقيهٌ مجتهدٌ، قال طائفةٌ: يجب على أهله الهجرة، وقال آخرون: بأنهم يجب عليهم أن يستقدموا فقيهًا عالمًا، ولكن في مثل عصرنا الحاضر، بوجود وسائل التواصل والاتصال السهل الذي يقرِّب المسافات البعيدة، يبدو أن البحث في مثل هذه المسائل يكون قليلًا فائدته، وذلك لأن الناس قلَّت حاجتهم لمثل هذه المسألة، لوجود وسائل الاتصال ووسائل المواصلات، التي تسهِّل على الناس، وتقرِّب لهم البعيد.
من المسائل المتعلقة بهذا الباب: ما ذكرتم من أنه إذا اختلف العلماء هل له أن يأخذ بقول الأسهل؟ فنقول: في مراتٍ كثيرةٍ ينخدع الإنسان بالمسائل، ويظن أن الأسهل في قولٍ، ويكون الأمر بضده، وبالتالي قد يقول فقيهٌ بأن هذا الطعام حرامٌ، ويقول الآخر بأن هذا الطعام مباحٌ، أيهما أسهل؟ لو كان تناول الطعام يؤدي إلى ضررٍ في البدن، لكان قول المانع أسهل، ويمثِّلون له بمسائل متعددةٍ، يظن أن التشديد في قولٍ، ويكون التسهيل فيه، مثال ذلك: في مسألة وجود المحرم بالنسبة للمرأة الحاجة، قال طائفةٌ: يجب على المرأة أن تحج ولو لم يكن معها مَحرمٌ، وقال آخرون: لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزوجية في مدة الإحداد، يقول: لا يجوز لها أن تخرج، لا في حجٍّ، ولا في غيره، إذن أصل المسألة في الحج بدون مَحرمٍ، قال طائفةٌ: للمرأة أن تحج بدون مَحرمٍ، وقال آخرون: ليس لها أن تحج بدون مَحرمٍ، أيهما أسهل؟ أجيبوا.
{أن تحج بدون مَحرمٍ}.
أن تحج بدون مَحرمٍ، نقول: لا، الأسهل القول الآخر، لماذا؟ لعددٍ من الأمور، أولها: أن هذه المرأة التي لا تجد مَحرمًا على القول بأنه لا يجوز لها الحج يُكتب لها أجر الحج كاملًا، وهي في بيتها، ثم ليس عليها مشقةٌ، ولا تدفع شيئًا من التكاليف، وبالتالي لو ماتتْ، لم يجب إخراج من يحج عنها من تركتها، وإن قلنا بأن سفر المرأة بدون مَحرمٍ جائزٌ، حينئذٍ نقول: يجب عليها أن تحج، ويجب عليها أن تدفع النفقات، ولا تبرأ ذمتها إذا لم تحج، ولو ماتت أُخرج من تركتها من يحج عنها.
إذن أي القولين أسهل؟ القول بعدم سفر المرأة بدون مَحرمٍ.
وهكذا في مسائلَ كثيرةٍ، يُظن التسهيل في شيءٍ، ويكون في القول المقابل له، العبرة بما في النصوص، لا بما نراه في مخيلاتنا وأذهاننا، والصورة النادرة لا حكم لها.
من المسائل أيضًا المتعلقة بهذا الباب: كيف نعرف مذهب الفقيه حتى نقلِّده؟
قد يأتينا صريح كلامه، يقول: هذا الفعل لا يجوز، فهذا يُثبت مذهبه، وقد يأتي بطريق المفهوم، فعندما يمنع من شيءٍ لوجود صفةٍ، معناه إذا انتفت تلك الصفة ارتفع المنع.
وقد يكون أخذ مذهب الفقيه من فعله، فإذا رأيناه يفعل فعلًا فإن هذا يدل على أنه يرى إباحته، والقول بأن مذهب الفقيه يؤخذ من فعله، قول طائفةٍ من أهل العلم، وكذلك من الطرائق: الأخذ من تعليلاته، إذا قال مثلًا: الشيء الفلاني جائزٌ؛ لأنه كذا، ثم وجدنا هذه العلة في موطنٍ آخر، حكمنا عليه بنفس الحكم، وهكذا قد يؤخذ مذهب الفقيه من مفهوم المخالفة من كلامه.
إذن قد يؤخذ من العلة، وكذلك قد يؤخذ مذهب الفقيه من القياس على مذهبه، نجد أنه أفتى في مسألةٍ بحكمٍ، ثم وجدنا مسألةً مشابهةً لها تماثلها في العلة، فحينئذٍ نثبت أن للفقيه مذهبًا وقولًا في تلك المسألة الأخرى.
إذن هذه طرائق معرفة مذهب الفقيه، التي يتمكن العامي بها من معرفة مذهب الفقيه.
هناك ما هو موطن اتفاقٍ كالقول، والمفهوم، وهناك ما هو موطن خلافٍ كالفعل، فهذا من مواطن الخلاف في إثبات مذاهب الأئمة.
يبقى هنا مسألةٌ: هذا الكلام في فقيه العصر، فيه فقيهٌ متقدِّمٌ، أو الفقيه الميت، أو المجتهد الميت، هل يجوز للعامي أن يأخذ بفتواه؟ أو لا؟
يقولوا: إذا سأله حال حياته، فلا بأس أن يستمر على فتواه؛ لأنه قد سأل، والله تعالى يقول: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، أما إذا كان قد مات قبل المسألة، فطائفةٌ كثيرةٌ من أهل العلم يقولون: لا يجوز له أن يعتمد على فتواه، إذا لم يعمل بها قبل وفاته؛ لأنه لم يسأل ذلك العالم، والله قال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، فلابد من سائلٍ ومسئولٍ.
وقد يجرنا هذا على مسألة الأخذ بمذهبٍ فقهيٍّ، من المذاهب الفقهية، هل يجوز؟ أو لا يجوز؟
يسمونها مسألة التمذهب، هل يجوز للعامي أن يأخذ بمذهبٍ برخصه وشدائده، أو لا يجوز ذلك؟ هذا من مواطن الخلاف بين العلماء، والخلاف في هذه المسألة طويلٌ وعريضٌ، وفيه ذيولٌ كثيرةٌ متتبعةٌ متتابعةٌ، وحينئذٍ نُرجئ البحث في ذلك إلى لقاءٍ آتٍ، ماذا نفعل بهذه المذاهب الفقهية؟ وما هي الطريقة الشرعية للتعامل معها؟ وهل ما في هذه المذاهب مُلزمٌ؟ أو ليس بمُلزمٍ؟ ونحو ذلك من المسائل المتعلقة بالمذاهب الفقهية.
إذن، عرفنا في هذا اللقاء عددًا من مباحث حكم التَّقليد، وأخذنا ما يتعلق بالتَّقليد عند اختلاف الفقهاء، وعند تعددهم، وهكذا أيضًا في كيفية إثبات مذهب الفقيه الذي يجوز أن يُستند عليه، بارك الله فيكم، ووفقكم الله للخير، وجعلكم من الهداة المهتدين، وأسأله سبحانه أن يُصلح أحوال الأمة، وأن يردها إلى دينه رَدًّا حميدًا، اللهم وفِّق ولاة أمورنا لكل خيرٍ، واجعلهم من أسباب الهدى والتقى والصلاح، كما أسأله -جلَّ وعلَا- أن يوحِّد كلمة المسلمين على الحق، وأن يؤلِّف بينهم، وأن يجمع وحدتهم، كما أسأله -جلَّ وعلَا- أن يكفيهم شر من أراد بهم سوءًا وشرًا، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك