الدرس الثامن

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

7411 11
الدرس الثامن

الاجتهاد والفتوى

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد.
فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم في لقاءٍ جديدٍ، من لقاءاتنا في البناء العلمي، نتدارس فيه شيئًا من أحكام الاجتهاد والتقليد.
كنا قد ذكرنا عددًا من الأحكام المتعلقة بمسائل التقليد، ولعلنا -إن شاء الله- أن نواصل الحديث فيها. وقد ذكرنا أن المراد بالتقليد: هو التزام مذهب من ليس قوله حجةً لذاته، وذكرنا الأدلة الدالة على مشروعية التقليد وجوازه، لمن لم يكن متأهلًا لأخذ الأحكام من الأدلة، مثل قول الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، ونحوه من النصوص.
يبقى عندنا عددٌ من المسائل التي وقع فيها ترددٌ في مسائل التقليد.
أول هذه المسائل: أن الأئمة -رحمهم الله- نهوا عن تقليدهم، وشددوا في ذلك، ومرادهم بهذا: أن من كان متأهلًا للفتوى والاجتهاد، فلا يجوز له أن يقلِّد أحدًا من الناس، بل عليه أن يأخذ الأحكام من الأدلة مباشرةً، وذلك لأنه قد تمكن من أخذ الحكم من الأدلة، والأخذ من الأدلة هو الأصل، قال تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 3]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [محمد: 33]، ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 32]، ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 132]، فيه نصوصٌ كثيرةٌ متعددةٌ تأمر بهذا، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُو﴾ [الحشر: 7]، قال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36].
إذن، مراجعة النصوص هو الأصل، لكن إذا لم يكن الإنسان قادرًا على أخذ الأحكام من الأدلة، فإنه يراجع العلماء؛ لقول الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وحينئذٍ نعلم مراد الأئمة -رحمهم الله- عندما نهوا عن تقليدهم.
الأصل في التقليد: أن يكون لعالمٍ موجودٍ في زمان المقلد؛ لأن الله قال: ﴿فَاسْأَلُو﴾ [النحل: 43]، والسؤال يقتضي وجود سائلٍ ومسئولٍ، يقتضي أن المقلَّد قد سُئل.
هل يجوز أن يقلَّد الميت؟
نقول: هذه لها فرعان:
الفرع الأول: ما إذا كان المجتهد الميت قد أدركه المستفتي أو المقلِّد فسأله مباشرةً، ففي هذه الحال يجوز له أن يعمل بقوله؛ لأنه قد امتثل الأمر الوارد في قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].
أما إذا كان المجتهد من زمانٍ مغايرٍ لزمان المقلِّد، فهل يجوز للمقلِّد أن يقلِّده أو لا؟
فهذه المسألة وقع فيها اختلافٌ بين العلماء، فطائفةٌ يرون أنه لا يجوز تقليد المجتهد الميت، الذي لم يدركه المقلِّد، قالوا: لأنه لم يوجد سؤالٌ هنا، والتقليد إنما جاز في حال وجود السؤال، لقوله: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].
وقالوا: بأن هذا النقل مذهب الميت، لابد أن يكون له ناقلٌ، وهذا الناقل إن كان مجتهدًا، عُمِلَ بفتوى ذلك المجتهد الناقل، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد، فقد ينزِّل كلام الفقيه في غير مراده، وبالتالي لا يكون عمل هذا المقلِّد بفتوى المجتهد الميت على محلها.
وأنتم تشاهدون وجود اختلافًا في الاصطلاحات، ومعاني الألفاظ ما بين زمانٍ وآخر، أليس كذلك؟ فإذا جاءنا من جاءنا وقال: بأن التأمين عبادةٌ يتقرَّب بها لله -عزَّ وجلَّ-، كما في قول الإمام الفلاني، الإمام أراد قول "آمين" بعد الفاتحة، وذاك الذي نُقلت إليه الفتوى، إنما أراد التأمين الذي فيه تعويضٌ عند وقوع الخسائر، فنُزِّل كلام الإمام الأول في غير مراده. وهكذا قد نجد بعض الكلمات التي يختلف مدلولها ما بين زمانٍ وآخر، وما بين عُرفٍ واصطلاحٍ واصطلاحٍ آخرٍ، وبالتالي لابد من أن تكون الفتوى في زمان المقلِّد؛ ليعرف اصطلاحه ومراده، وليعرف تنزيل المسألة على واقعته، ولذاك المجتهد الميت، لم يعرف واقعة هذا المستفتي أو هذا المقلِّد الحاضر، ولا يدري ما هو مقصوده ولا مراده، وقد يكون في المسألة من الصفات أو الشروط أو العلل ما لا يتنبَّه له ذلك العامي، فيأتي وينزِّل كلام الفقيه الأول على مسألته، وهو لم يردها؛ لأن فيها هذا المأخذ الذي لابد من الالتفات إليه.
وآخرون قالوا: بأن المجتهد الميت فقيهٌ عالمٌ مجتهدٌ، فجاز للعامي أن يأخذ بفتواه، كما يأخذ بفتوى الفقيه الحي، قالوا: ولأن ذلك الفقيه الميت، قد يكون أعلم من الفقيه الحي. وإذن المسألة فيها التردد من قديمٍ، وعلى كلٍّ، يمكن أن يُقال: بأن من لا يعرف مراد الأئمة بكلامهم، ولا يعرف علل الأحكام، لا يجوز له أن يأخذ بفتاوى أولئك المتقدمين، التي لم يكن عارفًا بتنزيلها على مسألته، إلا بنوعِ تأملٍ واجتهادٍ، وهو ليس من أهله.
من المسائل المتعلقة أيضًا بالتقليد: عندما يقلِّد عالمًا في قولٍ من أقواله، ثم بعد ذلك تحدث له المسألة نفسها، أو مثيلتها، فهل عليه أن يلتزم بالفتوى الأولى؟ أو يجوز له أن ينتقل إلى غيرها؟
مثال ذلك: تأتينا مشروباتٌ ومأكولاتٌ جديدةٌ، أليس كذلك؟ كل زمانٍ وكل وقتٍ تأتينا مأكولاتٌ جديدةٌ، هذه المأكولات الجديدة، يُستفتى فيها الشخص وهو عالمٌ، فعمل بالفتوى، فحينئذٍ إذا جاءت هذه المسألة مرةً أخرى، هل يجوز له أن ينتقل عن ما التزمه سابقًا؟ أو لا يجوز له ذلك؟
فنقول: المعوَّل عليه في هذا الباب: النظر في ظن العامي، في قول الفقيه، هل يظن أنه هو شرع الله؟ أو ليس كذلك؟ فمتى غلب على ظنه أنه شرع الله، فحينئذٍ يلزمه أن يعمل به، ومتى غلب على ظنه أنه ليس شرعًا لرب العزة والجلال، فلا يجوز له في هذه الحال.
وبالتالي نشير إلى مسألةٍ قد أشرنا إليها في ما مضى، ألا وهي: مسألة تتبعِ الرُّخص، أشرنا إليها في ما مضى، لكن كانت في نهاية اللقاء السابق في ما أظن، وبالتالي لم نعطها حقها من الحديث والبحث.
الرُّخص على نوعين: رُخصٌ منسوبةٌ إلى الشارع، بحيث تكون استثناءً من قاعدةٍ عامةٍ، فهذه الرُّخص يجوز تتبعها والأخذ بها، مثلًا لما جاء في الحديث: «رخَّص في السَّلَم»، «رخَّص في العراي»، ونحو ذلك من الأحاديث التي فيها ترخيصٌ، هل يجوز للإنسان أن يتتبع هذه الرُّخص؟ وأن يأخذ بها؟ نقول: نعم، متى انطبقتْ عللها وأوصافها على مسألته؛ لأنها رخصٌ منسوبةٌ للشارع، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه»، وعلى حسب ألفاظٍ أخرى أيضًا في الحديث.
النوع الثاني من أنواع الرُّخص:
رخصٌ منسوبةٌ إلى المجتهدين، بحيث يأخذ بأقوال بعض المجتهدين التي تتوافق معه، ويظن أنها تحقق مراده ورغبته، بحيث يأخذ رخصةً من قول فلانٍ، ورخصةً من قول فلانٍ، ورخصةً من قول فلانٍ، ومن مذهب فلانٍ، ويجمِّع هذه الرُّخص، فنقول: مثل هذا لا يجوز، لماذا؟ لأنه حينئذٍ لم يأخذ بقول الفقيه لأنه يظن أنه شرع الله، وإنما أخذ بقول الفقيه؛ لأنه يوافق رغبته وهواه، وبالتالي يكون ممنوعًا منه؛ لأن العبد المكلَّف ممنوعٌ من اتباع الهوى، كما قال تعالى: ﴿ولَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: 26]، وجاءت نصوصٌ كثيرةٌ في النهي عن اتباع الهوى، والتحذير منه، وبيان سوء عاقبته، ما هو الهوى؟ ما ترغبه النفوس، ولو كان مخالفًا للشرع، لماذا؟ لأننا نعلم أن شرع الله في أحد الأقوال، بالتالي لزمنا في هذه الحال أن نجتهد بين تلك الأقوال؛ لنعرف ما هو الذي يغلب على ظننا أنه شرع الله، من خلال معرفة من هو العالم الأعلم في هؤلاء المفتين، ومن هو الأكثر ورعًا، ومن هم الأكثرية الذين اختاروا أحد الأقوال في المسألة، على ما تقدَّم.
من الأمور التي تتعلق بهذا الجانب: ما يتعلق بأن المقلِّد لا يأثم متى أخذ بالقول المعتبر، الذي يغلب على ظنه أنه شرع رب العزة والجلال، حتى ولو وُجد في المسألة من يمنع من مثل ذلك القول.
مثال هذا: عندنا عاميٌّ سأل عالمًا عن مسافة القصر، فأفتاه ذلك العالم: بأن مسافة القصر أربعون كيلو، على أحد الأقوال في هذه المسألة، فعمل بقول ذلك العالم؛ لأنه يظن أنه شرع الله، ويظن أن هذا المفتي أرجح من غيره في باب الفتوى، غير هذا الفقيه يرون أنه لا يجوز قصر الصلاة في هذا المقدار، وأنه لا تصح الصلاة عند قصرها في هذا المقدار من الأسفار، وبالتالي يؤثِّمون من فعل ذلك، لكنهم يعذرون من عمله بعد اجتهادٍ غلب على ظنِّه، أو بعد أخذه من مجتهدٍ غلب على ظنِّه أن قوله هو الموافق لشرع رب العزة والجلال.
يعني مثلًا: هناك أنواعٌ من المأكولات، قد يقول بها بعض الفقهاء، ويمنعها آخرون، فالذين يمنعون من هذه المأكولات، لا يُؤثِّمون المجتهد الذي يرى جوازها، ولا يُؤثِّمون من يقلِّده، مثلًا: تعدون لي شيئًا من اللحوم التي وقع الاختلاف فيها، مثل الضبع، وقع الاختلاف فيه، الضفدع، وقع الاختلاف فيه، الفيل وقع الاختلاف فيه، فلو قُدِّرَ أن فقيهًا مجتهدًا يرى جواز هذه الأصناف، أو بعضها، فَوُجِدَ من المقلِّدين من يأخذ بقوله، فالمخالف لهم، الذي يرى تحريم ذلك النوع، لا يقول بتأثيمهم، تأثيم هؤلاء المجتهدين، ولا تأثيم من أخذ بأقوالهم من المقلِّدين، لماذا؟ لأنه يسوِّغ له الأخذ بذلك القول.
يترتب على هذا مسألةٌ متعلقةٌ بالاقتداء في الصلاة، هل يجوز للإنسان أن يقتدي في الصلاة بمن يخالفه في المذهب؟ أو لا؟ فنقول: المخالفة في المذهب على ثلاثة أنواعٍ:
النوع الأول: مخالفةٌ في المذهب بأمرٍ يتعلق بالعبادة في داخلها، يرى أنه مُبطلٌ. مثال ذ لك: الجمهور يرون أن الطمأنينة في الصلاة ركنٌ من أركانها، لا تصح الصلاة إلا به، لحديث المسيء في صلاته، وقال الإمام أبو حنيفة -رحمه الله-: بأنه ليست الطمأنينة من أركان الصلاة، فلو وُجد حنفيٌّ يصلي بدون طمأنينةٍ، وصلاته صحيحةٌ، لكن لو صلى خلفه من يرى أن الطمأنينة ركنٌ في الصلاة، فحينئذٍ لن يؤدي ذلك المأموم صلاةً بطمأنينةٍ، ومن ثَمَّ نقول: لا تقتدي به إلا إذا كان يطمئن في صلاته.
النوع الثاني من أنواع الاختلاف: الاختلاف في مناط الحكم، مع الاتفاق في الحكم، فإذا وقع بين المأموم والإمام اختلافٌ في مناط الحكم، فحينئذٍ لا يصح الاقتداء بالمخالف.
مثال ذلك: من نواقض الوضوء خروج الريح، فإذا وُجد اثنان جالسيْن في محلٍّ، فخرج الريح من أحدهما، وكل منهما يظن أن الريح خرج من صاحبه، ثم حضرت الصلاة، لو صلى كل واحدٍ منهم لوحده صحت صلاته، هل يجوز لأحدهما أن يقتدي بالآخر؟ نقول: لا يجوز، لماذا؟ لأن الاختلاف هنا في مناط الحكم، هم متفقون على أن خروج الريح ناقضٌ للوضوء، وبالتالي يرون أنه لا يصح الاقتداء بالمخالف في هذه الحال، فكلٌ منهما يرى بطلان صلاة صاحبه.
النوع الثالث: أن يكون الاختلاف في الحكم، وفي هذه الحال تصح الصلاة خلف المخالف في المذهب.
مثال ذلك: شخصٌ يرى أن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء، وكان الإمام قد أكل لحم الجزور، ثم صلى، والإمام يرى أن أكل لحم الجزور لا ينقض الوضوء، فحينئذٍ يجوز للثاني أن يصلي خلفه، لأن الاختلاف هنا ليس في أمرٍ داخل الصلاة، يرى أنه مبطلٌ لها، وليس في مناط الحكم، وإنما في الحكم نفسه، وبالتالي يجوز الاقتداء بالمخالف في المذهب.
يتعلق بهذا عددٌ من الأعمال التي قد تؤدَّى مع الغير في ما يتعلق بالأحكام القضائية، أو في ما يتعلق بالاقتداء بالمخالف في عددٍ من الأعمال.
في مسائل القضاء هل يُنقض حكم المخالف في المذهب أو لا؟ أنا لي حق نقض الأحكام، ورأيت حكمًا قضائيًّا صادرًا من القاضي أرى بطلانه، فهل يسوغ لي أن أنقض الحكم أو لا يسوغ لي ذلك؟
نقول: الأحكام التي أرى خطأها وبطلانها ثلاثة أنواعٍ:
النوع الأول: مسائل الخطأ فيها يخالف الدليل القطعي، ففي هذه الحال يجوز نقض حكم المخالف، لماذا؟ لأنه قد خالف دليلًا قطعيًّا لا مساغ للاختلاف معه.
من أمثلة ذلك: مثلًا لو وُجد قاضٍ حكم بإبطال عقدٍ على امرأةٍ، قد طُلِّقت قبل الدخول بها بناءً على أنها تزوجت في العدَّة، طلَّقها الزوج اليوم، وتزوجت من الغد، ما الحكم؟ قالت: أنا طُلِّقت قبل الدخول بي، وبالتالي كيف تُبطلون العقد الثاني؟ قال القاضي: هذا عقد نكاحٍ في مدة العدَّة، فيبطل العقد، فنقول: هذا الكلام مخالفٌ مخالفةً قطعيةً لقول الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَ﴾ [الأحزاب: 49]، فحينئذٍ نقول: هذا الحكم القضائي مخالفٌ لدليلٍ قاطعٍ، فيجب نقضه.
النوع الثاني من أنواع المخالفة: أن تكون المخالفة في مناط الحكم، مناط الحكم أمرٌ واقعٌ في الخارج، فإما أن يُثبَت وإما أن يُنفى، فإذا كان النفي والإثبات الذي حكم به القاضي الأول، يُعلم خطؤه قطعًا، ففي هذه الحال يُنقض حكم القاضي.
مثال ذلك: ما لو حكم القاضي بناءً على شهادة الشهود، رأينا أن هذا الحكم خطأٌ بناءً على أن الشهود نعلم أنهم غير ثقاتٍ، فبالتالي يسوغ نقض هذا الحكم القضائي، ومثله ما لو كانت الشهادة غير موصلةٍ.
النوع الثالث من أنواع الأحكام القضائية المخالفة: ما لو كان الاختلاف في الحكم الاجتهادي، ففي هذه الحال: لا يجوز شرعًا نقض ذلك الحكم.
ومن أمثلته مثلًا: ما لو حكم القاضي بإثبات الشفعة للجار، كما هو مذهب الحنفية، فهل يجوز لنا إذا كنا نرى أن الجار لا شفعة له، أن ننقض هذا الحكم القضائي؟ نقول: ما نراه خطأً هنا، ليس خطأً قطعيًّا، بناءً على دليلٍ قطعيٍّ، وليس الخطأ في مناط الحكم وإنما المخالفة في ذات الحكم، وبالتالي لا يجوز نقض حكم القاضي الذي يكون كذلك.
ويترتب على هذا مسألة: ما لو رجع المفتي العالم عن قوله السابق، فحينئذٍ أحكامه القضائية، وفتاواه السابقة على ما هي عليه، وأما المسائل الجديدة التي تُعرض عليه في المستقبل، فيحكم فيها بالاجتهاد الجديد، الذي توصَّل إليه.
والاختلاف أو تغيُّر الفتوى له أسبابٌ، إما أن يكون لتغيُّر ترجيحه في القاعدة الأصولية، كان يرى أن مفهوم المخالفة ليس بحجةٍ، فرأى بعد ذلك حجيته، يترتب عليه عددٌ من الاستدلالات، وبالتالي قد يتغير اجتهاده في مسائل عديدةٍ.
الأمر الثاني: تغير حكم الفقيه للحديث النبوي صحةً وضعفًا، فإذا كان يرى تصحيح الحديث، ثم ظهرت له علةٌ في الحديث، فحينئذٍ ما بناه على الحديث السابق من الأحكام فإنه سيغيِّر اجتهاده فيه، بناءً على ما وصل إليه من وجود العلة التي في ذلك الخبر.
الأمر الثالث من أسباب تغيُّر الاجتهاد: أن يكون الحكم مُناطًا بمعنًى فيتغير ذلك المعنى، كما لو كان عندنا حكمٌ متعلِّقٌ بالأعراف، فحينئذٍ يتغير اجتهاد الفقيه بناءً على تغيُّر العرف.
مثال ذلك: مقدار نفقة الوالد على ولده، أو الزوج على زوجته، يختلف باختلاف أعراف الناس، فإذا كان يرى أن النفقة بمقدارٍ معينٍ، بناءً على العرف الموجود، فتغير العرف، فحينئذٍ سيُغير المجتهد اجتهاده في تلك المسألة؛ لأن الحكم مبنيٌّ على العرف، وقد تغيَّر العرف.
ومثله الأحكام المبنية على المصالح، قد يتغير معامل المصلحة، وبالتالي يغيِّر الفقيه اجتهاده في هذه المسائل.
إذن، هذا ما يتعلق بتغيُّر مذهب الفقيه المجتهد، وأسباب هذا التغيُّر والحكم فيه.
من المسائل المتعلقة أيضًا بالتقليد: أننا لابد أن نميز في مسائل التقليد في المعنى الذي من أجله ثبت الحكم، وبالتالي القياس على المسائل التي فيها فتوى ليس من شأن المقلِّد، لماذا؟ لعدم أهليته لمعرفة مأخذ الحكم، فعندنا أي حكمٍ، أو أي فتوى لها علَّةٌ، ووصفٌ يُناط الحكم به، ولها شروطٌ وموانعُ، فالعامي عندما يذهب إلى الفقيه، ويسأله عن مسألته، يقول له: يجوز، اقض هذه الصلاة، لا يعرف المعنى، وإن عرفه، لا يعرف ما قد يعارضه من العلل الأخرى، ولا يعرف الشروط، ولا يعرف الموانع، وإن عرفها لم يستطع تطبيقها، وكثيرٌ من المسائل يأتي بعض العامة ويقيس على مسائل فيها فتوى، وتكون المسألتان مختلفتيْن، لا يصح أن يُبنى حكم إحداهما على الأخرى.
من الأمور المتعلقة بهذا الباب، باب التقليد: أن يُلاحَظ مسألة: هل يجوز التقليد مع اختلاف البلدان؟ يعني تشاهدون مثلًا قد تصدر فتوى في بلدٍ، فهل يجوز لمن كان في البلد الآخر أن يقلِّد ذلك المجتهد؟ وأن يسير على فتواه؟ أو لا يجوز له ذلك؟
فنقول في هذه: الفتاوى العامة، التي يُطلقها الفقيه، الأصل عمومها، وأنها لا تُعلَّق بأمرٍ منحصرٍ في بلدٍ، وأما الفتاوى التي يقيِّدها الفقيه ببلدٍ أو وصفٍ أو عُرْفٍ، فحينئذٍ تختص بما يوجد فيه ذلك العرف، وذلك الوصف، وذلك البلد، فيُرجع في ذلك إلى فتوى المفتي، ليُنظر فيها، هل هي الفتوى العامة؟ أو هي مسألةٌ خاصةٌ بحسب ذلك.
وبالتالي نُفرِّق بين ما يكون جوابًا لمسألةٍ فرديةٍ، وما يكون جوابًا عامًا، وأغلب الأسئلة الفردية، التي تكون بين السائل والمفتي، تكون خاصةً، لا يصح قياس غير مسألة السائل عليها، لماذا؟ لأن المفتي والمجيب عندما أجاب إنما لاحظ حال ذلك السائل، ولم يلاحظ حال غيره، بخلاف ما إذا كانت الفتوى عامةً، أو في الوسائل العامة، أو مكتوبةً، فإن الأصل أنها تدل على العموم، والأصل دخول جميع الأفراد فيها، وصلاحية تلك الفتوى لأن يُعمل بها في جميع البلدان، فإن المفتي الذي يفتي في مكتوبٍ، أو في وسائل الإعلام يلاحظ الأوصاف التي يتغير بها الحكم، وبالتالي يشير إليها في فتواه، ويذكرها من أجل أن يُمَيَّزَ مناطُ الحكم، فَتُنَزَّلَ المسألة على محلها، ولا تُنَزَّلَ على غيرها.
ولذلك ينبغي في الفتاوى العامة، أن يلاحظ فيها التوجيه العام، وأن لا يُقتصر على جواب السائل فقط. يعني مثلًا: لو جاء السائل وسأل مسألةً فقال: شققتُ ثوب أخي، فهل أدفع له قيمته؟ فإن كانت المسألة خاصةً، فحينئذٍ تقول له: ادفع، يجب عليك الضمان، وأما إذا كانت الفتوى عامةً، فيلزمك أن تقدِّم بمقدمةٍ في تحريم الاعتداء على الآخرين، وأنه أمرٌ ممنوعٌ منه شرعًا.
ومثلها أيضًا في مسائل مثلًا في الطلاق، عندما يأتيك ويقول: طلقتُ في زمن الحيض، عندما تكون المسألة عامةً، تبتدئها بتحريم إيقاع الطلاق في زمن الحيض، وبيان أن هذا من المحرمات، ولا يجوز أن يطلق الرجل زوجته زمن الحيض، وتقيم الدليل على ذلك مثلًا، ثم بعد ذلك قد تجيب، وقد ترى أن الجواب قد يجرِّئ الناس على هذا العمل، فبالتالي تطلب من المستفتي أن يراجعك بخصوصه لتكون فتوى خاصةً.
أيضًا من المسائل المتعلقة بهذا: التفريق في جواب المفتي بين المسألة قبل وقوعها، والمسألة بعد الوقوع، فقبل الوقوع يُجعل ذلك المستفتي في بر الأمان، بعيدًا عن المجاوزة في هذا الباب، بينما المسألة بعد وقوعها تجيبه بما يخلِّصه مما وقع فيه من الورطات، وهذا يعني يشير إلى معنًى، وهو أن المفتي والعالم والفقيه والمجتهد، يسعى إلى تخليص الناس من آثار أفعالهم، وليس إذا جاء وقال أنا فعلت الذنب الفلاني قال: أحسن أنك تقع في النتيجة الفلانية، لا، يرشده إلى كيفية التخلص من ذلك الذنب، ومن آثار الذنب، لأن وظيفة الفقيه أن يحبب الخلق في الله، ويحبب الله في الخلق، أن يعيد الناس إلى رب العزة والجلال بالتوبة والإنابة إليه -سبحانه وتعالى-، هذه وظيفة المفتي.
إذا تقرر هذا المعنى، فإن من الآداب في هذا الباب: أن الفقيه إذا أغلق على الناس بابًا يظنون حاجتهم فيه، أن عليه ثلاثة أمورٍ:
الأول التمهيد لذلك بالممهدات المناسبة؛ ليُقبل هذا الحكم.
والثاني: أن يبين الآثار والحِكَم المترتبة على قفل هذا الباب.
والثالث: أن يُرشد العباد إلى طريقٍ آخرٍ يتمكنون من سد حوائجهم به.
ولهذا لما جاء بلال بنوعٍ جيدٍ من التمر، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كل خيبر هكذا؟»، قال: لا، إننا نبتاع الصاع من هذا بالصاعين من تمر الجمع، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أوه، أوه، عين الربا، بِع التمر الجنيب أو الجمع بدراهم، واشترِ بتلك الدراهم هذا التمر»، فأرشده إلى طريق تحقيق مقصوده بما يجعله يسلم من الإثم والمؤاخذة في هذا الباب.
أيضًا من الأمور التي تتعلق بهذا الجانب: أن نلاحظ أحوال المستفتين، فبعض الناس قد يستفتي من أجل أن يحتج بالفتوى، لا للعمل بها، وبعض الناس مراده بالفتوى تحقيق أمره الدنيوي، لا سلامة ذمته الأخروية، ومن ثَمَّ لابد أن يُعطى من الخطاب بما يتناسب مع مقصده ونيته في هذا الجانب، من الوعظ والتذكير بالله -عزَّ وجلَّ-، والأمر بالاستعداد ليوم المعاد، ونحو ذلك.
ومما يتعلق بهذا: أن يُلاحظ، أن بعض الناس قد يغلب على ظن الفقيه تحايله في الحكم الشرعي، وبالتالي ما يفتيه في مسألته؛ لئلا يتخذها سُلَّمًا لتحقيق أغراضه ومقاصده المخالفة لمقاصد الشرع.
فمثلًا: السفر بالأخت من الرضاعة، الأخت من الرضاعة يكون الإنسان مَحرمًا لها، لقوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ﴾ [النساء: 23]، لكن إذا كان ذلك الرجل غير مأمونٍ، وقد عُرِفَ بالفسق وعدم التزام أحكام الشرع، ففي هذه الحال يمتنع الفقيه من فتواه في هذه المسائل؛ لئلا يتخذها سُلَّمًا لمخالفة المقصد الشرعي بسفره بها، ثم تخليه بها، ثم قد يخالف أمر الشرع بتعامله معها، ومن ثَمَّ لابد أن يكون ملاحظًا لهذه المعاني.
ومن الأمور التي أيضًا ينبغي أن تُلاحظ في هذا الجانب: أن يُلاحظ التَّرفُّق مع الناس في الخطاب، حتى ولو أفتيتَ بالمنع، أن تترفق معه بالخطاب، وانظر إلى حادثة ذلك الشاب الذي جاء يستأذن النبي -صلى الله عليه وسلم-، في فعل الفاحشة، فقال له: «هل ترضاه لأمك؟ هل ترضاه لأختك؟ هل ترضاه لقرابتك؟»، قال: لا، قال: «فكذلك الناس لا يرضونه»، فخاطبه بما يعرفه بأسلوبٍ فيه رِفْقٌ ولينٌ؛ ليكون هذا أدعى لقبوله للحكم الشرعي.
وهناك أيضًا بعض الفقهاء يقول: بأن المُقدِم على الطاعة، التائب من المعصية، يُرقق له في الخطاب، ويُخاطب للترغيب، وأما المُعرِض عن الطاعة، المُقبِل على المعصية، فإنه يخوَّف بالله -عزَّ وجلَّ-، ويُحذَّر من سوء العاقبة دنيا وآخرةً؛ ليُخاطب كل إنسانٍ بما يناسبه.
وفي هذا إشارةٌ إلى معنًى، وهو: أن الخطاب الشرعي ينبغي أن يتضمن التخويف من الله، والطمع في فضله، والتحذير من أمور الآخرة، والتحذير من العقوبات الدنيوية، فهذه الأمور لابد أن يشتمل عليها الخطاب؛ لأنك ما تعطيهم الأحكام مجرَّدةً، وإنما تخاطبهم بما يحرِّك ضمائرهم وقلوبهم إلى الله -جلَّ وعلَا-.
هذه قواعد في هذا الباب، ولعلنا -إن شاء الله- أن نتكلم عن باب الفتوى في لقائنا القادم، وأن نشير إلى بعض القواعد الأخرى المتعلقة بهذا الجانب، بحيث يكون عندنا دُربةٌ في كيفية التعامل مع الفتوى سواءً كانت الفتوى صادرةً من غيرنا، أو كانت الفتوى يُصدرها طالب العلم المتأهل لإصدار الفتوى، ممن وُجِدَتْ فيه شروط الاجتهاد السابقة.
بارك الله فيكم، ووفقكم الله للخير، بارك الله فيكم أيها المشاهدون الكرام، أسأل الله أن يرزقكم العلم النافع والعمل الصالح، كما أسأله -جلَّ وعلَا- أن يُصلح أحوال الأُمَّة، وأن يردَّهم إلى دينه ردًّا حميدًا.
اللَّهمَّ يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، مُنَّ بفضلك على المسلمين بجمع كلمتهم، وحقن دمائهم، وتآلف قلوبهم. اللَّهمَّ وفِّق ولاة أمورنا لكل خيرٍ، واجعلهم من أسباب الهدى والصلاح والسعادة. هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك