الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد.
فأسأل الله -جلَّ وعلَا- أن يوفقنا وإياكم لخيري الدنيا والآخرة، وبعد، أخذنا في
لقاءاتٍ سابقةٍ، عددًا من المسائل المتعلقة بالاجتهاد والتقليد والفتوى، والبحث
الفقهي في هذه المسائل، والبحث الأصولي فيها، ولعلنا -إن شاء الله- أن نستكمل شيئًا
مما يتعلق بهذه المباحث.
من الأمور التي يذكرها العلماء: أن الأصل في المستفتي إذا سمع الفتوى، فحكم الله في
حقه أن يعمل بتلك الفتوى؛ لأنه يغلب على ظنه أن ذلك الحكم الذي تكلم به المفتي هو
حكم رب العزة والجلال، ومن ثَمَّ يلزمه العمل بالحكم، ويكون عمله هذا طاعةً لله،
وطاعةً لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه لم يؤمر بسؤال العلماء، إلا ليأخذ
بأقوالهم، ويستند إلى فتاواهم.
وبالتالي لا يجوز له أن يتركها، إلا إذا ظنَّ أن فتوى المفتي ليست هي شرع رب العزة
والجلال، وبالتالي عليه أن يتحقق بسؤالٍ عالمٍ آخر، وثالثٍ، ورابعٍ، حتى يغلب على
ظنه أنَّ ذلك الحكم هو شرع الله -سبحانه وتعالى-.
من المسائل المتعلقة بهذا الباب: ما يتعلق بارتباط الفتوى بصاحب الولاية، وصاحب
الولاية العامة مسئولٌ عن تقرير أمر الأُمَّة في الأمور العامة، وهو مسئولٌ عن
إيجاد الاستقرار في أحوال الأُمَّة، وبالتالي عليه أن يستعمل الفتوى لتكون مقررةً
لهذا المقصد الشرعي.
ومن ذلك: أن يهيئ الظروف التي توجد الفقهاء والعلماء، الذين يصلون إلى رتبة
الاجتهاد والفتوى؛ لأن هذا مما تحتاج إليه الأُمَّة.
وهكذا أيضًا يقوم بالتمييز بين من هو صالحٌ للفتوى، ومن هو غير صالحٍ لها؛ لئلا
يُعطى عمل الفتوى لمن لم يكن صالحًا لها.
وهكذا أيضًا لابد أن ينظر في مآلات الأمور، ويكون عمل ولي الأمر بضبط هذه الفتوى؛
لئلا تؤدي إلى سفك دماءٍ، واختلاف كلمةٍ، وتمكن العدو من أهل الإسلام بسبب إشاعة
فتوى غير صحيحةٍ، ونحو ذلك.
وكذلك أيضًا يكون عند صاحب الولاية من السلطة المتعلقة بمنع نشر الفتوى، التي لا
تصح نسبتها للمفتي، بحيث تكون كذبًا وزورًا، أو تلك الفتوى التي يُخشى من مآلاتها،
أن تكون مخالفةً لمقاصد الشريعة، فإن صاحب الولاية عليه مسئوليةٌ، ولذا قال النبي
-صلى الله عليه وسلم-: «كلكم راعٍ، وكلكم مسئولٌ عن رعيته، فالإمام راعٍ في رعيته،
ومسئولٌ عن رعيته»، ومن ذلك ما يتعلق بأمور الفتوى العامة.
وبالتالي لابد من الالتزام بما يصدره ولي الأمر في تنظيم هذا الباب، ولا يجوز
للإنسان أن يخالفه، ولو قُدِّرَ أن المتأهل مُنع من الفتوى، وتمكن من رد المفتين
إلى من يُفتي غيره، فحينئذٍ يقوم بردهم، ولا يتوانى في مثل ذلك، ولا حرج عليه في
هذا، بل له الأجر والثواب، ويُكتب له أجر الفتوى، وأجر الالتزام بأمر ولي الأمر
والسمع والطاعة له؛ لأن هذا مما أمر الله -جلَّ وعلَا- به.
ولذلك لما منع بعض الخلفاء بعض الصحابة من الفتوى، التزموا بذلك، ولم يعودوا
يُفتون، لكونهم قد مُنعوا، إما منعًا عامًّا، وإما منعًا من الفتوى في بعض الأبواب
التي أُمروا بأن يسكتوا فيها، وأن لا يتكلموا فيها.
وبالتالي ليس على ذلك المفتي، أو ذلك المجتهد أي حرجٍ في الالتزام بما أصدره ولي
الأمر في هذا، حتى لو قُدِّرَ أن صاحب الولاية عنده شيءٌ من مخالفة أحكام الشريعة،
أو شيءٌ من أعمال المعاصي، فإن هذا لا يعني بحالٍ من الأحوال جواز مخالفة أمره، في
ما يتعلق بتقرير هذه الأبواب، وبالتالي يكتفي بالفتوى الصادرة من غيره، وتبرأ ذمته
من مثل ذلك، ولا يقع عليه شيءٌ من الحرج.
من الأمور المتعلقة أيضًا بالفتوى:
أنَّ المفتي قد يرجع عن الفتوى، حيث يكون له نظرٌ واجتهادٌ في المسألة، ثم يأتيه
مَن يستفتيه؛ فيفتيه بناءً على اجتهاده، ثم بعد ذلك يتغير اجتهاد المجتهد، فيرى
رأيًّا آخرًا، فحينئذٍ نقول:
مَن أفتاهم سابقًا بقولٍ، فلا حرج عليهم في أن يعملوا بذلك القول، متى كان ذلك
القول ناشئًا عن اجتهادٍ في المسألة؛ لأنه في الحال الثاني لا يجزم بخطئه في فتواه
الأولى، وإنما يَغلب على ظنه، ويقول: بأنه يحتمل أن تكون الفتوى صوابًا.
أمَّا إذا جزم بخطأ الفتوى الأولى، إما لكونه لم يتصور المسألة تصورًا حقيقيًّا،
وإما لكون المسألة فيها دليلٌ قاطعٌ خفيَ عليه، فحينئذٍ نقول:
يجب عليه أن يصحح الفتوى، وأن يُصدر بيانًا؛ لتوضيح أنه قد رجع عن الفتوى الأولى،
ويأمر مَن عمل بالفتوى الأولى أن ينتقل عنها؛ لأنه لا يصح العمل بها، وذلك لأنها
خالفتْ الدليل القطعي، أو بُنيتْ على تصورٍ غير صحيحٍ للمسألة.
إذن، فرَّقنا بين مسائل الاجتهاد، التي ليس فيها قاطعٌ، وبين مسائل نجزم بخطأ
الفتوى الأولى، فحينئذٍ ما لم نجزم بخطأ الفتوى الأولى فيه، فإننا نقول للمستفتين:
استمروا على ما أنتم عليه، ولا يلزمكم العمل بالفتوى الجديدة.
أما إذا جَزم القاضي بخطأ فتواه السابقة، لكون تصوره للمسألة لم يكن تصورًا صحيحًا،
أو لكونه قد غاب عليه دليلٌ قطعيٌّ من أدلة الشريعة في هذه المسألة، ففي هذه الحال
نقول: يجب عليه أن يبين للناس أن الفتوى السابقة خطأٌ، وأنه يلزم المستفتين الذين
عملوا بالفتوى الأولى أن يرجعوا عنها، وأن يعملوا بالفتوى الثانية.
ومن الأمور التي تتعلق بهذا: ما يتعلق بالفتوى في المسائل النازلة الجديدة، فإنه
لازالت المسائل تستجد في أحوال الناس، وتتغير وقائع الناس، وكل يومٍ يأتينا شيءٌ
جديدٌ، ومغايرةٌ للأمر السابق، فنقول في مثل هذا:
إنه يلزم أن يكون في الأُمَّة من يجتهد؛ لاستخراج أحكام هذه النوازل؛ لأن بيان
الحكم الشرعي واجبٌ شرعيٌّ، وبالتالي على الفقهاء واجبٌ على الكفاية أن يكون منهم
من يجتهد في معرفة حكم هذه النوازل، سواءً كانت في القضايا العامة، أو في ما يتعلق
بخصوص المسائل المتعلقة بالأفراد، ولهذا أمر الله -جلَّ وعلَا- بمراجعة العلماء في
ما يحدث على الأُمَّة من وقائع ونوازل، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ
مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ
مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83]، أي: المجتهدون الذين يستخرجون الأحكام مِن الأدلة، ثم قال:
﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ
إِلَّا قَلِيلً﴾ [النساء: 83]، أي: لتركتم أقوال العلماء، وأصبحتم تعملون بأهوائكم
التي تكونون بها متبعين لعدوكم الشيطان الرجيم.
ومن ثَمَّ لابد مِن النظر في هذه النوازل الجديدة مِن قِبَل الفقهاء، ولابد أن
يبينوا للناس أحكام هذه النوازل.
مِن الأمور التي ينبغي أن تلاحظ: مسألةٌ متعلقةٌ بحكم ذكر الخلاف في الفتوى.
الأصل أن المفتي يُفتي بما هو راجحٌ لديه، وبما يغلب على ظنه أنه حكم رب العزة
والجلال، فهذا هو الذي ينطلق فيه المفتي، (القول الراجح).
ولذلك العلم الصحيح يكون بمعرفة الراجح من المرجوح، مَن عَرف الأقوال، ولم يميِّز
راجحها من مرجوحها، فهذا ليس عنده علمٌ، وإنما عنده حفظٌ لهذه المسائل، وليس
بعالمٍ؛ لأنه لم يتوصَّل إلى معرفة ما يغلب على ظنه من أحكام الله -جلَّ وعلَا-،
والحكم الشرعي يكون بمعرفة حكم الله، لا بمعرفة أقوال الناس.
إذا تقرر هذا، فإن الأصل أن الفتوى تكون بالقول الراجح، لكن هناك مسائل يكون الخلاف
فيها مشتهرًا بين الناس، ومن ثَمَّ يحتاج المفتي في بعضها أن يذكر هذا الخلاف، من
أجل أمورٍ:
أولها: مخاطبة الناس بما يعرفون.
وثانيها: من أجل أن لا يُحتج بوجود الخلاف في هذه المسائل، ليبين للناس أن الواجب
هو اتباع الكتاب والسُّنة، وليس الأخذ بأقوال الفقهاء، وتتبع شواذ أقوالهم، ومن
ثَمَّ يبين ضعف ذلك القول، وعدم استناده إلى أدلةٍ.
فيه مراتٌ بعض المفتين، يضع في فتواه جملةً تبين أنه عارفٌ للأقوال، بحيث لا يتهم
بعدم معرفةٍ بها، ولذلك مثلًا أن يقول: الواجب على الصحيح هو الفعل الفلاني، كلمة
على الصحيح تشير إلى وجود الخلاف في هذه المسألة، ومن ثَمَّ هو في الحقيقة لم يذكر
إلا القول الراجح، في إشارةٍ قليلةٍ أو يسيرةٍ لذلك القول المرجوح.
إذن، فالأصل عدم ذكر الخلاف في فتوى المفتين، لماذا؟
لئلا يكون هناك ذبذبةٌ في الفتوى، ولئلا يكون هناك هوًى في نفوس المستفتين،
وبالتالي يأخذون من الأقوال ما تشتهيه نفوسهم، ويرغبون فيه، ولا يراعون الحكم
الشرعي؛ لأن حكم الله -جلَّ وعلَا- في المسائل واحدٌ، قد يصيبه المجتهد، وقد لا
يصيبه، وبالتالي لابد من أن يكون هذا الحكم هو الذي نعمل به، والخلاف الفقهي الذي
فيه أقوالٌ متعددةٌ، الحق في أحد هذه الأقوال، والمجتهد يجب عليه أن يُعمل اجتهاده؛
لينظر ما هو الذي يغلب على ظنه منها.
من الأمور التي نذكرها: أن الفتوى مبنيةٌ على أربعة أركانٍ:
هناك المفتي، ذكرنا شيئًا من شروطه، وهناك المستفتي السائل، وهناك موضوع الفتوى،
وهناك ذات الفتوى.. إذن هذه أركان الفتوى.
هذه الأمور الأربعة لها أحكامٌ، ولها آدابٌ.
فمثلًا في المفتي، قلنا: أنه لابد فيه من شيئين: الاجتهاد، والعدالة، هذا من جهة
الحكم، لكن هناك آدابٌ متعلقةٌ به، عليه أن يلاحظها، قيل للإمام أحمد في هذا، قال:
لا يُفتي حتى يكون له نيةٌ، وكفايةٌ، ووقارٌ، وسكينةٌ، وقوةٌ، ومعرفةٌ بالناس. كم
أدبٍ؟ ستة آدابٍ.
الأدب الأول: أن يكون عنده نيةٌ، بحيث ينوي بهذه الفتوى شيئين: أن يرضي الله، وأن
ترتفع درجته في الآخرة، ليس مقصوده إرضاء الخلق، وليس مقصوده أن يكون مشتهرًا
بينهم، وليس مقصوده أن يكون مرجعًا يرجع الناس إليه، وإنما يريد بذلك أن يرضي الله،
وأن ترتفع درجة في الآخرة، إذا لم يكن له نيةٌ، ينبغي به أن لا يدخل هذا الباب، حتى
يصحح نيته، وإلا لكانت وبالًا عليه؛ لأنه لم يؤدِّ هذا العمل العبادي على الوجه
الصحيح، ولذا تستحضرون ما ورد من النصوص فيمن أراد بعمله الأخروي الدنيا، ولهذا قال
النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن أول من تُسَعَّرُ بهم النار ثلاثةٌ»، وذكر منهم
القارئ الذي تعلَّم القرآن وعلَّمه، فيؤتى به يوم القيامة فيسأله الله: ما عملت
بنعمي التي أعطيتك إياها؟ فيقول الرجل: تعلَّمتُ العلم فيك، وقرأتُ القرآن وأقرأته،
فيقول الله -جلَّ وعلَا- له: كذبتَ، إنما فعلتَ ذلك ليُقال قارئٌ، ليكون لك سمعةٌ،
وتشتهر بين الناس، ويعرفونك، ما عمله لله -جلَّ وعلَا-، ثم أمر به فطُرح في نار
جهنم، والعياذ بالله.
وأما الأدب الثاني: فأن يكون له كفايةٌ، بحيث لا يكون محتاجًا إلى الخلق في أموره،
فإنه متى كان محتاجًا إلى الخلق في أموره، تنقص درجته عندهم، وكذلك في نفسه، تضعف
نفسه في مقابلتهم؛ لاحتياجه إليهم، ومن ثَمَّ عليه أن يحرص أن يكون له كفايةٌ؛ لئلا
يحتاج إلى أحدٍ من الخلقِ، وليكون حينئذٍ صاحب اليد العليا.
أما الأدب الثالث: أن يكون عنده وقارٌ.
والرابع: السكينة، وقارٌ وسكينةٌ.
السكينة والوقار هاتان صفتان متعلقتان بالتأني، ومتعلقتان بعدم العجلة والطيش،
إحداهما متعلقةٌ بالأمر الباطن، والأخرى متعلقةٌ بالأمر الظاهر، وهاتان الصفتان
مطلوبتان، لذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا مشيتم إلى الصلاة، فامشوا
وعليكم السكينة والوقار»، إذن السكينة شيءٌ، والوقار شيءٌ آخر، وإلا لما قرن النبي
-صلى الله عليه وسلم- بينهما.
لماذا يكون عليه الوقار؟
من أجل أن يكون مقبولًا عند الخلق، من أجل أن تُقبل فتواه، ويوثق بها.
لماذا يُطلب أن يكون عنده سكينةٌ؟
لتستقر نفسه، وتهدأ، وبالتالي ما يُصدر الحكم الشرعي إلا في محلِّه، فلا يجيب
بجوابٍ ليس متوافقًا مع الحكم الشرعي.
وأما الصفة الأخرى: فهي القوة، يكون قويًّا في إظهار الحق، لا يجامل في ذلك أحدًا،
يخشى الله -جلَّ وعلَا- وحده، ولذا قال الله -جلَّ وعلَا-: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ
رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيخْشَوْنَهُ ولَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾
[الأحزاب: 39].
والقاعدة الشرعية: "أن من التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه، وأرضى عنه
الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس".
من الأمور والصفات التي ينبغي أن تكون في المفتي: أن يكون عارفًا بالناس، والمعرفة
بالناس تكون في عددٍ من الأمور:
أولها: أن يعرف عوائدهم، بحيث يعرف العوائد التي لها تأثيرٌ في الأحكام، فإن عددًا
من الأحكام رُبطت بعوائد الناس.
والثاني: أن يعرف معاني كلامهم ومصطلحاتهم، كم من مرةٍ أن يفتي مفتٍ بدون أن يعرف
معاني كلام الناس، فيكون كلامه مغايرًا لحكم الله -سبحانه وتعالى-.
الأمر الثالث: أن يعرف حيالاتهم وتحيلاتهم.
والأمر الرابع: أن يعرف مدى انتشار الفسق فيما بينهم.
ولذلك مثلًا الأخ من الرضاعة مَحرمٌ في أصل الشريعة، ويجوز له أن يسافر بأخته من
الرضاعة، ولكن إذا جاءه المستفتي، سأل عن حال هذا الأخ من الرضاعة، فإن عرفه من
الفسَّاق، لا يوثق به، ولا يؤتمن على محارمه، لم يفتِ بجواز سفره مع هذه المرأة.
من أين نشأ هذا؟
من معرفته بأحوال الناس.
وهكذا لابد من النظر في مآلات الأفعال، ومقاصد الخلق، ولابد من النظر في الذرائع،
سواءً كانت مؤديةً للمفاسد أو المصالح؛ حتى يكون حكم الإنسان في محله.
ما حكم بيع السكين؟
انتظر، دعنا ننظر، هذا الذي سيشتري السكين، ما مراده بها؟
الاعتداء على الخلق أو لا؟ هل نحن في وقت فتنةٍ أو في غيره؟ في أي شيءٍ ستستعمل هذا
السلاح؟ وبالتالي لابد من النظر في هذه الأمور.
هناك أيضًا صفاتٌ ينبغي للمفتي أن يكون من أهلها، من ذلك:
أن يكون رفيقًا بالمستفتي، ما يتعجَّل عليه، ولا يرفع الصوت عليه، يرفق به.
وهكذا أيضًا من الصفات: أنه ينبغي للمفتي أن يمهِّد للحكم الغريب على المستفتي
بممهداتٍ، تجعله يقبل الحكم الشرعي، ويلتزم به.
فهذه آدابٌ للمفتي، وهكذا المستفتي السائل عليه أن يلتزم بعددٍ من الآداب الشرعية،
فالمفتي مبلِّغٌ عن الله، ناقلٌ لحكم رب العزة والجلال، ومن ثَمَّ هو من علماء
الشريعة، الذين رفع الله شأنهم، وأوجب توقيرهم واحترامهم، والصدور عن أقوالهم، ومن
هنا عليه أن يراعي جانب الأدب مع المفتي، ما يرد على كلامه، ولا يقاطعه في الكلام،
كثيرٌ من الناس عندما يأتي المفتي يريد أن يفصِّل، يقول: هذه المسألة فيها أربعة
أحوالٍ، فبمجرد أن يذكر الحال الأول، قال: لا، أنا ما أريد هذا الحال، أنا أريد
حالًا آخر، قال: يا أخي، سؤالك عامٌّ، وبالتالي جوابي لابد أن يكون في جميع الأحوال
التي يحتملها سؤالك، حتى يكون جوابي صحيحًا، في محله، فإما أن تذكر لي التفصيل
كاملًا في سؤالك، وإلا لا تعترض عليَّ وتقاطعني كلما تكلمت بكلمةٍ أو كلمتين، ومن
ثَمَّ عليه أن يستمع لكلام المفتي حتى ينهي كلامه.
نحن نستمع في بعض البرامج التلفزيونية، يقاطع المفتي عند الكلام، لأنه يقرر الآن،
المفتي يقرر حكمًا عامًا، ويمهِّد للمسألة، ويذكر القاعدة العامة، فتجد المستفتي
يقاطعه، ومن ثَمَّ حسُن أن يُقال للمستفتي أعط سؤالك كاملًا، ثم يوقف الاتصال،
ويُقال: استمع للجواب من وسيلة الإعلام، لا من الهاتف؛ حتى نأمن من مثل هذه
المقاطعات؛ لأن المفتي يراعي في هذه الحال أن الجواب لن يخصص بهذه الواقعة التي
استفتى عنها المستفتي، وأنه سيستمع إليه خلقٌ كثيرٌ، فيزِّلونها في مسائل متعددةٍ،
وبالتالي لابد أن يذكر جميع المسائل التي لها صلةٌ بهذه المسألة؛ حتى يُنزَّل كلامه
في مراده، لا في غيره.
من الأمور التي ينبغي أن تُلاحظ بالنسبة لآداب المستفتي: أن يكون استفتاؤه للآخرة.
كثيرٌ من الناس يستفتي؛ لتحصيل الأمر الدنيوي، ليس مقصوده أن يحصِّل الآخرة، وأضرب
لكم مثالًا.
هذا الأخ مختلفٌ مع زوجته، وطلقها، وجاء يستفتي، لماذا تستفتي؟
هو فقط يريد يرجعها، لا يريد حكم الله، ولا إرضاء رب العزة والجلال، كيف ترجع؟
ومن ثَمَّ ينبغي بالمستفتي أن يغيِّر نيته، بحيث يجعل نيته تصحيح أوضاعه على ما
يُرضي رب العزة والجلال، لا تحقيق مراده الدنيوي.
كيف أكسب؟ لا، كيف يكون كسبي متوافقًا مع شرع رب العزة والجلال؟
ومتى سعى الإنسان لتحصيل الآخرة في أمور استفتائه، جاءته الدنيا تبعًا، كما ورد في
الأحاديث «تأتيه الدنيا وهي راغمةٌ»، يجمع الله شمله، كما ورد في الحديث الوارد عن
النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبالتالي ينبغي بالمستفتي أن يريد بالاستفتاء تصحيح
أمره الأخروي، ليس مقتصرًا على تصحيح أمره الدنيوي.
من الأمور المتعلقة بالفتوى: ما يتعلق بكتابة الفتوى.
بعض الناس يحتاج إلى أن تُكتب الفتوى له، إما لتكون هذه الفتوى باقيةً، وإما أن
تكون هذه الفتوى ليُعمل بها على سبيلٍ أوسعٍ، ونحو ذلك، فلابد من مراعاة أن تكون
الفتوى التي تُكتب، تُنتقى ألفاظها، وتُصاغ بالصياغة الصحيحة، المحققة لمقاصد
الشريعة، في تبليغ الأحكام الشرعية، وهكذا يُحذر من أن تُستغل هذه الفتوى المكتوبة
في غير تحقيق المقصود الشرعي، سواءً بجعل الناس يفهمونها على غير مراد المفتي منها،
أو بإدخال بعض الكلام فيها مما ليس منها.
المفتي يوسِّع خطه، أو يضع فراغاتٍ، فيُدخل بعض الألفاظ، مثل: " تُكتب بدل ما هي
يجوز"، يكتب: "لا يجوز"، وبالتالي يتغير الحكم تغيرًا كاملًا.
ومما يتعلق بهذا: أنه لابد أن تُراجع هذه الفتاوى المكتوبة، بحيث يقلِّب الإنسان
المفتي النظر فيها؛ لئلا تُستعمل في غير مراده، ويمكن أن يكون هناك تفصيلاتٌ
وأجزاءٌ لم تُذكر في هذه الأنواع.
هكذا أيضًا: لابد أن يكون طرح المستفتي لسؤاله واضحًا، ما يُخفي بعض كلامه، ولا
يُخفي بعض وقائع مسألته، وإنما لابد أن يكون واضحًا، متكلِّمًا عن أمرٍ، يكون كلامه
مستوعبًا لجميع الوقائع المتعلقة بهذه المسألة.
أيضًا من الأمور التي ينبغي أن تُلاحظ في هذا: ما يتعلق بأن بعض الناس يأتي يريد أن
يستفتي المفتي، فيجد عنده من يستفتيه قبله، فتجده يزاحم الناس، ويغالطهم، وقد يدخل
في استفتاء غيره، ومن ثَمَّ يشوِّش ذهن المستفتي الأول، ويشوِّش ذهن المفتي، وقد لا
تُنزَّل كلمات المفتي في مراده ومقصوده من تقرير الحكم الشرعي المتعلقة بكلام
المستفتي، لذلك لابد من أن يرتَّب وينظَّم ما يتعلق بأمور المستفتين، الذين يردون
على صاحب الفتوى.
من الأمور التي أيضًا ينبغي أن تُلاحظ:
إذا كانت أمور الناس مستقرةً على فتوًى معينةٍ، وكان إصدار اجتهادٍ آخر في هذه
المسألة سيورث الناس بلبلةً وزعزعةً واختلافًا، فحينئذٍ يحسن بالإنسان أن لا يصدر
الفتوى، وأن يحيل المستفتي إلى غيره، وبالتالي ينبغي بالمستفتي أن لا يجد أي حرجٍ
في كونه يُحال إلى غير ذلك المفتي الذي جاء إليه.
يقول: أنا أثق فيك، قال: طيب، وحتى ولو وثقت فيَّ، أرى ما لا تراه، يمكنك ما اجتهدت
في المسألة بعد، أو أني أرى أن مخالفة ما يعمُّ في الناس من الفتوى قد يورث
اضطرابًا، وعدم استقرارٍ في أحوال الناس، وبالتالي أحيلك إلى غيري؛ من أجل أن
تسأله، ومن ثَمَّ لا ينبغي بالمستفتي أن يكون في نفسه أي حرجٍ، أو أي توقُّفٍ
وترددٍ في ما يتعلق بذلك.
من المسائل أيضًا التي ينبغي أن تُلاحظ في هذا الأمر: حفظ مكانة المفتين، حتى ولو
أخطأ في اجتهاده، حتى ولو استعمل لفظًا قد لا نرى مناسبته، فالمفتي مهما يكن بشرٌ،
قد يرد عليه من الخطأ ما يرد على غيره، وبالتالي لابد من مراعاة هذا الجانب.
من الأمور التي تتعلق بهذا الأمر: أن يُلاحظ أن علماء الشريعة هم المبلغون لشرع
الله ولدينه، وبالتالي التشكيك فيهم، والتشكيك في مقاصدهم، يورث الناس شكًّا في ما
يحملونه، فهذا العلم الذي لم يؤثر عليهم، قد يكون من أسباب تشكك الناس في ذلك
العلم، وفي تلك الديانة، ومن ثَمَّ لابد من ملاحظة حسم هذا الموضوع، فإذا كانت
الغيبة محرَّمةً بالكلام في معايب أفراد الناس، فالكلام في معايب أصحاب الفضل،
وأصحاب العلم، وأصحاب الولاية أعظم إثمًا، وأكبر جرمًا، وبالتالي لابد من الحذر من
الدخول في هذا الباب.
من الأمور التي لابد من ملاحظتها في مسائل الفتوى: أن صاحب الولاية قد يخص بعض
الأبواب الفقهية بمن يفتي الناس لتنتظم أحوال الخلق. كانوا في الزمان السابق يصيح
الصائح في المشاعر، لا يفتي إلا فلانٌ وفلانٌ، لا يفتي إلا عطاء بن أبي رباح، من
أجل أن تنتظم أحوال الناس، ويكونوا على طريقةٍ واحدةٍ، ومن ثَمَّ تظهر أحكام هذه
الشعيرة، ولا يكون هناك اضطرابٌ.
فهكذا لو جاء صاحب الولاية، ورأى أن مصلحة الخلق، وأن انتظام أحوالهم يكون بالإلزام
بفتوى في مسائل اجتهاديةٍ، فإنه حينئذٍ من رأى ذلك أفتى به، ومن لم يره أحال إلى
غيره؛ لتبرأ ذمته بمثل ذلك، ولا يجوز للإنسان أن يقف معاندًا في وجه صاحب الولاية،
الذي يرى أن أحوال الناس تستقر وتنضبط، وتتحقق مصالحهم بمثل ذلك.
من الأمور التي تتعلق أيضًا بباب الفتوى: مسألة الأخذ بفتاوى المجتهدين الأموات،
وهذه المسألة على نوعين:
النوع الأول: أن يكون المجتهد الميت قد استفتاه المستفتي مباشرةً، رحت للشيح،
وسألته، وبعد سنةٍ توفي، فحينئذٍ يجوز العمل بفتواه، لأنك أخذتها منه مباشرةً، ولأن
ذلك المفتي قد نزَّل كلامه على مسألتك بعينها.
النوع الثاني: إذا كان المستفتي لم يأخذ من المفتي الميت مباشرةً، وإنما كان ذلك
بواسطة النقل، إما النقل الشفاهي، أو النقل الكتابي، فحينئذٍ هل يجوز تقليد ذلك
المجتهد الميت أو لا؟
للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوالٍ مشهورةٌ:
الجمهور يمنعون من مثل ذلك، ويستدلون عليه بثلاثة أدلةٍ.
الأول: قالوا: إن الله -جلَّ وعلَا- قال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن
كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، ولم يقل: راجعوا كتبهم، أو مؤلفاتهم، أو
اعملوا بما نُقِلَ عنهم.
والثاني: أن مصطلحات الناس تختلف ما بين وقتٍ وآخر، فقد يكون الفقيه الأول قد أطلق
الفتوى في اسمٍ تغيَّر مدلوله عند الناس، وبالتالي ننزِّل كلامه في غير مراده.
والأمر الثالث: أن وقائع الناس تتعدد وتختلف، وكم من مرةٍ نظن أن الفتوى تصدق على
هذه الواقعة بهذه الكيفية، ولا يكون الأمر كذلك.
القول الثاني يقول: بأنه يجوز الأخذ بفتاوى المجتهدين الأموات، قالوا: لأنهم علماء،
يوثق في علمهم ودينهم، فجاز الأخذ بأقوالهم، كالأحياء، وقالوا بأن هؤلاء المجتهدين
الأموات قد يكونون أفضل من الأحياء، فالأخذ بأقوالهم، يكون أخذًا بالأفضل، وقالوا
بأن من المقرر أن أقوال العلماء لا تموت بموت أصحابها.
لكن هذه الاستدلالات هي تمنع من قول من يقول بأن المجتهد لا ينظر في أقوالهم، أما
إذا قلنا بأن المجتهد ينظر في أقوالهم، ويعرف أدلتهم، واستدلالاتهم، وبالتالي يقارن
بين هذه الأقوال، فحينئذٍ لم تمت الأقوال بموت أصحابها، وإنما العامي الذي لا يُدرك
حقائق الأمور، وتفاصيلها، ولا يعرف وجه مراد الإمام منه، قلنا: لابد أن يراجع
الفقيه الحاضر؛ من أجل أن يتحقق من فهمه لكلامه، لكلام الفقيه، وليتحقق أن كلام
الفقيه واردٌ في مسألته.
وهناك من يقول: أن تقليد المجتهدين الأموات، إنما هو من مواطن الضرورات، إذا لم نجد
الفقيه الحي المعاصر، فحينئذٍ لا بأس من مراجعتهم، وهذا كما تقدَّم بحثٌ فيما يتعلق
بعمل العامي بأقوال المجتهدين الأموات، وليس في نظر طالب العلم، أو الفقيه في أقوال
الفقهاء المتقدمين، فإن هذا أمرٌ مطلوبٌ؛ لأنه يستفيد الإنسان به، ويتعلم كيفية
النظر في الأدلة، ويتدرَّب على استخراج الأحكام من المصادر، وبالتالي يكون له فوائد
عظيمةٌ، النظر في كتب المتقدمين، وفي أقوالهم، واستدلالاتهم، واستنباطاتهم.
من الأمور أيضًا المتعلقة بجانب الفتوى:
أن يلاحظ أن دلالة الإنسان، أو دلالة الفقيه على رجلٍ متَّبعٍ، تبرأ به ذمته،
خصوصًا إذا أرشده إلى من يختص بمثل ذلك الموضوع، هناك أبوابٌ معينةٌ، هذه الأبواب
المعينة قد يختص بها أشخاصٌ معروفون، ويكون عندهم من التدقيق والتمحيص فيها ما ليس
عند غيرهم، ومن ثَمَّ يقوم الإنسان بإرجاع من جاءه يستفتيه في هذه الأبواب إلى
أولئك الذين يختصون بمثل هذه المسائل، وهذا فيه احتياطٌ لعمل الإنسان، وفيه أيضًا
إسناد الأمور إلى أهلها. ومن أمثلة هذا: مثلًا في عددٍ من الأبواب التي قد يختص بها
أناسٌ دون غيرهم.
من الأمور المتعلقة بهذا: أن أبواب العقيدة تؤخذ بالنسبة للعوام بباب الفتوى؛ لأن
بعض الناس يقول: أبواب العقيدة لا نأخذها من باب الفتوى، وإنما بعضهم يوجب النظر،
والتدبر، والتفكر، ومثل هذا يعني أولًا: لم نجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر
به، وثانيا: نجد أن مقصود الشارع تحصيل التَّوحيد، فبأي طريقٍ حصل التَّوحيد حينئذٍ
يتحقق مقصود الشرع، ولذلك لما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذًا إلى اليمن،
قال: «إنك تأتي قومًا أهل كتابٍ، فليكن أول ما تدعوهم إليه: إلى أن يوحِّدوا الله»،
هل هو بالاستدلال، أو بالنظر، أو بالتقليد، ما ذكر هذا، أهم شيءٍ أن يصل إلى
المعتقد الصحيح، ولذلك الذين يأتون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويعلنون
إسلامهم، لم يكن يمتحنهم ويختبرهم من أين أخذتم هذه العقيدة، التي تريدون الدخول
فيها، بل إن بعض الناس في عهد النبوة قال لهم قريبهم: لن أخاطبكم حتى تدخلوا في
ديني، فدخلوا في دينه، فأقرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحح إسلامهم، وبالتالي
لا ينبغي أن يُقال بعدم صحة استفتاء المفتين في هذه الأبواب، بل باب المعتقد يُرجع
فيه إلى النص، والنص يفهمه الفقيه المجتهد، وبالتالي نرجع إليه؛ لاستخراج هذه
العقائد من كتاب الله -جلَّ وعلَا-، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فإن من المقرر
عندنا: أن أحكام العقيدة تؤخذ من الكتاب والسُّنة.
فإن قال قائلٌ: كيف يُستدل بالكتاب والسُّنة على أصل الدين؟ الذي يتوصل به إلى
تصحيح الاحتجاج بالكتاب والسُّنة؟
فنقول حينئذٍ: بأن دلالة الكتاب والسُّنة في مثل هذه المسائل ليست دلالةً نقليةً
مجردةً، بل قد اشتملت على أعلى أنواع الأدلة العقلية، ولذلك لو نظرت في القرآن
الكريم لوجدت أن تقرير أحكام العقائد جاء بالأدلة العقلية عالية المستوى، انظر إلى
قضية التَّوحيد، وإفراد الله بالعبادة، في مثلًا: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان: 25] ثم عاب عليهم؛
لأنهم كيف لا يتفكرون في ذلك، إذا كان الله هو الخالق، فحينئذٍ يستدل به على وجوب
إفراده بالعبادة، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً …﴾ [البقرة: 21، 22] إلى آخر الآيات التي
وردت في تقرير هذا المعتقد الصحيح، بطريقةٍ عقليةٍ، تُذعن لها العقول، وتسلِّم لما
فيها.
ومن ثَمَّ، فإن باب الاستفتاء قد يدخل في مسائل العقائد، ويمكن للإنسان أن يمحِّص
العقيدة من خلال هذه الفتاوى، خصوصًا أن العلماء الراسخين في العلم، نجدهم يقررون
في فتاواهم العقدية من الأدلة النقلية المشتملة على الدلالة العقلية، ما يُذعن إليه
الخلق، ويسلِّمون بما لديهم.
هذه المسائل التي طرحناها، هذا اللقاء، والذي قبله، والذي قبله، متعلقةٌ بأحكام
الفتوى، وفصَّلنا فيها تفصيلًا كبيرًا، يبقى عندنا بابٌ متعلقٌ بالخلاف الفقهي، ما
موقنا منه؟ ما هي أنواعه؟ ما هي ضوابطه؟ ما هي التقريرات الشرعية المتعلقة به؟
كيفية التعامل مع المخالف، فإن النظر في هذه مما يحتاج إليه طالب العلم، ويحتاج إلى
تمييزه تميزًا كاملًا، ولعلنا -بإذن الله جلَّ وعلَا- أن نجعل الكلام في ذلك للقاء
القادم.
بارك الله فيكم، ووفقكم الله لخيري الدنيا والآخرة، وجعلكم الله من الهداة
المهتدين، ووفق الله كل من شاهدنا؛ ليكون إمامًا يُقتدى به في الخير، وأسأله -جلَّ
وعلَا- أن يُصلح قلوبنا جميعًا، وأن يجعل نياتنا خالصةً لوجه الله، لا نريد شيئًا
من أمور الدنيا، كما أسأله -جلَّ وعلَا- أن يصلح أحوال الأُمَّة، وأن يردهم إلى
دينه ردًّا حميدًا، وأن يوفِّق ولاة أمرها لكل خيرٍ، وأن يجمع بهم الكلمة، وأن
يؤلِّف بهم القلوب، كما أسأله -سبحانه وتعالى- لإخواني وزملائي ممن يشاركنا في
ترتيب هذا اللقاء التوفيق لكل خيرٍ، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ،
وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.