الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ أ.د. سليمان بن عبدالعزيز العيوني

إحصائية السلسلة

15357 11
الدرس الحادي عشر

ملحة الإعراب (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وحياكم الله وبياكم، في هذه الليلة الطيبة، ليلة الأربعاء، الثاني والعشرين من ربيع الأول، من سنة ثمانٍ وثلاثين وأربعمائة وألفٍ؛ لنعقد فيها الدَّرس الحادي عشر من دُرُوسِ شرح "مُلْحَةُ الإِعرَابِ" للحريري البصري -عليه رحمة الله.

ونحن في الأكاديمية الإسلامية المفتوحة، وهذا الدَّرسُ يُعقد في مدينة الرياض -حرسها الله.

في الدَّرسِ الماضي، تكلمنا على بعض الأبواب التي علامات إعرابها علاماتٌ ليست أصليةً ظاهرةً، وذلك أن الحريري -رحمه الله- بعد أن ذكر علامات الإعراب الأصلية الظاهرة، ذكر الأبواب التي فيها علامات إعرابٍ ليست أصليةً ظاهرةً، إما فرعيةٌ، وإما علامات إعرابٍ مقدرةٌ، فتكلمنا في الدرس الماضي على باب "المثنى"، و "جمع المذكر السالم"، و "جمع المؤنث السالم"، ودرسنا ما فيها من علامات إعرابٍ فرعيةٍ.

الليلة -إن شاء الله- سنتكلم على علامات إعراب "جمع التكسير" تبعًا لشيخنا الحريري -رحمه الله تعالى- في ملحة الإعراب.

نبدأُ الدَّرس بقراءة ما ذكره الحريري في باب "جمع التكسير"، فلنستمع من أخينا هذه الأبيات:

{أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، قال المصنف -رحمه الله وإيانا:

وكل ما كُسِّرَ في الجموعِ
 

 

كالأُسدِ والأبياتِ والربوعِ
 

فهو نظير الفرد في الإعراب
 

 

فاسمع مقالي واتبع صوابي}
 

تكلم -رحمه الله تعالى- على جمع التكسير، وبيَّن علامات إعرابها.

سبق أن ذكرنا عندما تكلمنا على جمع المذكر السَّالم، أنَّ الجموع نوعان:

إما جموعٌ صحيحةٌ، وتسمى سالمةٌ، وهذه على نوعين؛ لأنها إمَّا أن تكون جمعًا مُذكرًا سَالمًا، وإمَّا أن تكون جَمعًا مُؤنثًا سَالمًا.

والنوع الثاني من الجموع، نُسميها جموع التَّكسير، الفرق بين جمع السلامة أو الصحة، أي: الجمع السالم أو الصحيح- وبين جمع التكسير، أي: الجمع المكسر، هو في سلامة مفرده، إذا كان لفظ المفرد سالمًا لم يتغير، فنقول: إنَّ الجمع جمعٌ سالمٌ أو صحيحٌ، فإذا تغيرت صورة المفرد، فنقول: إنَّ الجمع جمعٌ مكسرٌ، أو جمع تكسيرٍ.

فتكلمنا على جمع المذكر السالم، وجمع المؤنث السالم في الدرس الماضي، واليوم نتكلم على جمع التكسير.

إذن جمع التكسير هو: ما تغيرت فيه صورة المفرد بأي تغييرٍ كان، إما بتغير الحروف، مثل: "رجلٌ، رجالٌ، زدنا ألفًا"، أو بتغيُّر الحركات، كانت الراء مثلا: مضمومةً صارت مكسورةً، بأي تغيُّر يكون في صورة المفرد.

وجموع التَّكسير لها أوزانٌ كثيرةٌ، وليس الدرس معقودًا لبيان أوزان جموع التكسير، وسيأتي لها بابٌ -إن شاء الله- في "مُلْحَةُ الإِعرَابِ"، وإنما الباب هذا معقودٌ لبيان علامات إعرابها، فمن جموع التكسير التي ذكرها الحريري في هذين البيتين:

"الأُسْد"، وهو على وزن "فُعْل"، وهو جمع "أَسد".

و "الأبيات"، وهو على وزن "أفعال"، وهو جمع "بيت".

و "الربوع"، على وزن "فعول"، وهو جمع "رَبع"، و "الربع" هو المنزل في الربيع، ويُطلق على المنزل عمومًا.

ومن جموع التكسير "رجال" جمع "رجل"، و "أطفال" جمع "طفل"، و "قلوب" جمع "قلب"، و "أسلحة" جمع "سلاح"، و "أبحر" أو "بحور" جمع "بحر"، و "أعين" و "عيون"، جمع "عين"، وهكذا.

وقد بيَّن الحريري -رحمه الله تعالى- علامات الإعراب في جمع التكسير، فبين أنها تُرفع بالضمة، وتُنصب بالفتحة، وتُجر بالكسرة، يعني: إنَّ علامات إعرابها علاماتٌ أصليةٌ، وهذا هو معنى قول الحريري عن جمع التكسير: "فهو نظير الفرد في الإعراب"، يعني: أن علامات إعراب جمع التكسير كعلامات إعراب المفرد، التي ذكرها في بابٍ سابقٍ، وهي علامات الإعراب الأصلية.

ففي الرفع نقول مثلًا: "جاء رجالٌ" "رجال": فاعلٌ مرفوعٌ، وعلامة رفعه الضمة.

وفي النصب نقول: "أكرمت رجالاً" "رجالًا": مفعولٌ به منصوبٌ، وعلامة نصبه الفتحة.

وفي الجر نقول: "سلمتُ على رجالٍ" "على": حرف جرٍّ، و "رجالٍ": اسمٌ مجرورٌ، وعلامة جره الكسرة.

إذن علامات الإعراب في جمع التكسير علامات إعرابٍ أصليةٌ، لكن نستثني من ذلك ما كان من جموع التكسير ممنوعًا من الصَّرفِ، فقد درسنا من قبل أنَّ الاسم الممنوع من الصرف يُرفع بالضمة، علامةٌ أصليةٌ، ويُنصب بالفتحة، علامةٌ أصليةٌ، ولكنه يُجر بالفتحة، علامةٌ فرعيةٌ.

جمع التكسير هل يكون ممنوعًا من الصرف؟ نعم، مثل ماذا؟

مثلًا: جموع التكسير التي على وزن "مفاعل"، أو "مفاعيل"، مثل: "مساجد"، و "مصانع"، و "منازل"، ومثل: "مصابيح"، و "قناديل"، و "مناديل".

وأيضًا من جموع التكسير التي تُمنع من الصرف: جموع التكسير المختومة بألف التأنيث الممدودة، كـ "علماء"، و "أصدقاء"، و "أنبياء"، فهذه ممنوعةٌ أيضًا من الصرف، وكذلك جمع التكسير المختوم بألف التأنيث المقصورة، كـ "جرحى" و "مرضى" فهذه كلها تُمنع من الصرف.

إذن جموع التكسير علامات إعرابها علامات أصليةٌ، إلا الممنوع من الصرف، فإنه يأخذ حكم الممنوع من الصرف.

نقول مثلًا في مساجد: "هذه مساجدُ كثيرةٌ"، "مساجدُ" خبرٌ مرفوعٌ، وعلامة رفعه الضمة، لكن لا ننون؛ لأنه ممنوعٌ من الصرف.

وفي النصب: "بُنيتُ مساجدَ كثيرةً"، "مساجد" مفعولٌ به منصوبٌ، وعلامة نصبه الفتحة، ولكنه لا ينون؛ لأنه ممنوعٌ من الصرف.

وفي الجر "صليتُ في مساجدَ كثيرةٍ"، "مساجد" اسمٌ مجرورٌ بـ"في" وعلامة جره الفتحة؛ لأنه ممنوعٌ من الصرف.

وتكلمنا من قبل على الممنوع من الصرف وإعرابه.

فإن قلت: لماذا لم يذكر الحريري إعراب الممنوع من الصرف هنا؟

ما تكلم على الممنوع من الصرف وإعرابه هنا، وهذا تقصيرٌ.

فالجواب: نعم، هذا صحيحٌ، هذا تقصيرٌ من الحريري، كان ينبغي أن يذكر علامات إعراب الممنوع من الصرف في كلامه على علامات الإعراب، لكنه أشار إلى ذلك في أول البيت التالي لأبواب علامات الإعراب الفرعية، وهو كما سيأتي في باب مواضع جر الاسم، فقال:

والجرُّ في الاسم الصحيحِ الْمُنْصَرِفْ
 

 

بأحرفٍ هُنَّ إذا ما قيلَ صِفْ
 

فقال: "في الاسم الصحيح المنصرف" فنص على أنَّ غير المنصرف لا يُجر بالكسرة، وأيضًا صرَّح بذلك، ولكن في باب ما لا ينصرف، في البيت الحادي والثمانين بعد المائتين، يعني بعد منتصف الملحة، بقوله:

هذا وفي الأسماءِ مَا لا يَنْصَرِفُ
 

 

فَجَرُّهُ كَنَصْبِهِ لا يَخْتَلِفْ
 

يعني: أنه يُنصب بالفتحة، ويُجر بالفتحة.

نقول أيضًا: والحريري -رحمه الله تعالى- في هذه الأبواب التي ذكرها لعلامات الإعراب الأصلية والفرعية والمقدرة، ذكر أنَّ علامات الإعراب المقدرة تكون في الاسم المنقوص، والاسم المقصور فقط، ولم يذكر الاسم المضاف إلى ياء المتكلم، فعلامات إعرابه أيضًا علاماتٌ أصليةٌ مقدرةٌ، وشرحنا ذلك من قبل، نحو: "كتابي" و "صديقي"، تقول: "جاء صديقي"، "صديقي" مرفوعٌ بضمةٍ مقدرةٍ، و "أكرمت صديقي"، "صديقي" منصوبٌ بفتحةٍ مقدرةٍ، و "سلمت على صديقي"، "صديقي" مجرورٌ بفتحةٍ مقدرةٍ، فكان ينبغي أيضًا على الحريري أن يذكر ذلك في علامات الإعراب.

بذلك نكون قد انتهينا مع شيخنا الحريري -رحمه الله تعالى- من الكلام على علامات الإعراب الأصلية، سواءً كانت ظاهرةً أو مُقدرةً، وعلامات الإعراب سواءً كانت أصليةً أم فرعيةً.

نلخص الكلام في علامات الإعراب، بعد أن انتهينا من قراءة أبيات الملحة وشرحناها:

 

 

 

الخلاصة في علامات الإعراب:

علامات الإعراب تكون في كل الأسماء سوى خمسة أسماءٍ، فإن فيها علامات غير أصليةٍ، تدخل في أبواب العلامات الفرعية.

هذه الأبواب الخمسة هي: الأسماء الستة، والمثنى، وجمع المذكر السالم، وجمع المؤنث السالم، والاسم الممنوع من الصرف.

وعلامات الإعراب الظاهرة، أين تكون؟

تكون في كل ما يُعرب بالحركات، سوى الاسم المقصور، درسناه، والاسم المنقوص درسناه، والاسم المضاف إلى ياء المتكلم، ودرسناه، ولم يذكره الحريري، وكذلك المضارع المعتل الآخر، درسناه، ولم يذكره الحريري هنا، ولكن ذكره في آخر الملحة.

هذا هو الكلام على علامات الإعراب، وبه يكون الحريري -رحمه الله تعالى- انتهى من الكلام على الأحكام النحوية الإفرادية.

فقد ذكرنا من قبل أنَّ الأحكام النحوية نوعان: إما إفراديةٌ، وإما تركيبيةٌ، أحكام النحو الإفرادية، يعني: الأحكام التي تكتسبها الكلمة بصفتها مُفردةً، مهما كانت الكلمة سواءً كانت في جملةٍ، أو لم تكن في جملةٍ، يعني: مفردةٌ، فهذه الأحكام ثابتةٌ لها، الأحكام الثابتة للكلمة على كل حالٍ، سواءً كانت في جملةٍ أو لم تكن في جملةٍ، نسميها أحكام النحو الإفرادية، وقد درسناها، وهي ثلاثةٌ:

الحكم الأول: انقسام الكلمة إلى اسمٍ وفعلٍ وحرفٍ، وانقسام الكلمة إلى مُعربٍ ومبنيٍّ، وانقسام الاسم إلى نكرةٍ ومعرفةٍ، هذه نسميها الأحكام الإفرادية، درسناها.

النوع الثاني من الأحكام النحوية: قلنا هي أحكام النحو التركيبية.

ما معنى التركيبية؟ يعني: الأحكام التي لا تكتسبها الكلمة حتى تدخل في تركيبٍ، أي: الأحكام التي لا تكتسبها الكلمة حتى تدخل في جملةٍ، (تركيبٌ يعني: جملةٌ)، الكلمة التي درسنا قبل قليلٍ، أحكامها الإفرادية وانتهينا منها، الكلمة إذا أدخلتها في جملةٍ، فإنها تكتسب أحكامًا جديدةً لم تكن لها من قبل، تستجد لها أحكام لا تكتسبها إلا من دخولها في التركيب في جملةٍ، هذه الأحكام التركيبية التي تكتسبها الجملة بعد دخولها في جملة، كثيرةٌ، تتلخص في: أن الاسم إذا أدخلته في جملةٍ، فإنه إما أن يكون حكمه الرفع، أو النصب، أو الجر، والمضارع إذا دخل في جملةٍ، فإن حكمه إما أن يكون الرفع أو النصب أو الجزم.

الأحكام التركيبية تبين لك متى يكون حكم الاسم الرفع؟

يقول في سبعة مواضع.

ومتى يكون حكم الاسم الجر؟

يقول: في ثلاثة مواضع.

ومتى يكون حكم الاسم النصب؟

يقول لك: في مواضع كثيرةٍ، هذه المواضع مواضع رفع الاسم، ونصب الاسم، وجر الاسم، ستأتيك -إن شاء الله- في أحكام النحو التركيبية.

والمضارع متى يكون حكمه الرفع؟ يقول: إذا لم يُسبق بناصبٍ ولا بجازمٍ.

ومتى يكون حكمه النصب؟ إذا سُبق بناصبٍ.

ومتى يكون حكمه الجزم؟ إذا سُبق بجازمٍ.

ندرس النواصب، وندرس نواصب المضارع وجوازم المضارع -إن شاء الله- في آخر الملحة.

هذه أحكام النحو التركيبية، إذا انتهى من أحكام النحو التركيبية، التي تبين مواضع الرفع والنصب والجر والجزم، سيذكر في آخر الملحة بعض أبواب الصرف، وإن شاء الله سنشرح ما المراد بالصرف عندما نصل إليه -إن شاء الله.

نفهم من ذلك أننا انتهينا الآن من الأحكام الإفرادية، وسننتقل إلى أحكام النحو التركيبية.

الحريري الآن سيبدأ بالكلام على أحكام النحو التركيبية، يعني بيان مواضع الرفع والنصب والجر والجزم.

طبعًا سيبدأ بأحكام الاسم أم بأحكام المضارع؟ سيبدأ بأحكام الاسم، أحكام الاسم سيبين مواضع رفعه، ومواضع نصبه، ومواضع جره.

ما الباب التالي؟

قال: (باب حروف الجر)، المعتاد في كتب النحو أنهم يبدءون ببيان مواضع رفع الاسم، ثم ينتقلون إلى بيان مواضع نصبه، وفي الأخير يذكرون مواضع جره، أما الحريري بدأ بمواضع جر الاسم، لماذا خالف النحويين في ذلك؟

نقول: ربما فعل ذلك؛ لأن مواضع الجر قليلةٌ، فإن جر الاسم -كما سيأتي- يكون في ثلاثة مواضع فقط: إن سُبق بحرف جرٍّ، إن وقع مضافًا إليه، إذا صار تابعًا لمجرورٍ، فأراد أن يبدأ بها؛ لأنها قليلةٌ وينتهي منها، ثم ينتقل إلى مواضع الرفع، وهي أكثر من مواضع الجر، سبعةٌ، فإذا انتهى من مواضع الرفع، سينتقل أخيرًا إلى مواضع نصب الاسم، وهي كثيرةٌ.

إذن ننتقل إلى كلام الحريري على جر الاسم، ونقرأ ما قاله الحريري -رحمه الله تعالى- في باب حروف الجر، فنستمع إلى أخينا.

{باب حروف الجر:

والجرُّ في الاسم الصحيحِ الْمُنْصَرِفْ

 

بأحرفٍ هُنَّ إذا ما قِيلَ صِفْ
 

من وإلى وفي وحتى وعلى
 

 

وعن ومنذ ثم حاشا وخلا
 

والباء والكاف إذا ما زِيدا
 

 

واللام فاحفظها تكن رشيدا
 

وربَّ أيضًا ثم مُذ في ما حضر
 

 

من الزمان دونما منه غبر
 

تقولُ ما رأيتُهُ مُذْ يَوْمِنَا
 

 

ورُبَّ عبدٍ كيِّسٍ مرَّ بِنَا
 

ورُبَّ تأتي أبدًا مُصَدَّرَةْ
 

 

ولا يَليها الاسمُ إلا نَكِرَةْ
 

وتارةً تُضَمُر بعدَ والواوَ
 

 

كقولِهِم ورَاكِبٍ بَجَاوي
 

ثم تَجُرُ الاسم باءُ القسمِ
 

 

وواوه والتاءُ أيضًا فاعلمِ
 

لكن تخصُّ بالتاءِ باسمِ اللهِ
 

 

إذا تعجَّبتَ بلا اشتباهِ
 

إذن ذكر الحريري -رحمه الله تعالى- الكلام على حروف الجر، معنى ذلك أنه بدأ بالكلام على مواضع جر الاسم.

الاسم يُجر في كم موضعٍ؟ في ثلاثة مواضع، سندرسها -إن شاء الله- كلها في ملحة الإعراب.

الموضع الأول: إذا سُبق بحرفٍ من حُروف الجَرِّ، وسندرس ذلك في هذا الباب.

والموضع الثاني: إذا وقع مضافًا إليه، وسيأتينا -إن شاء الله- في الباب التالي.

والموضع الثالث: إذا وَقَعَ تابعًا للمجرور، وهذا سيأتينا -إن شاء الله- في باب التَّوابع، وهي: النعت، والعطف، والتوكيد، والبدل.

فنبدأ بالكلام على حروف الجر، وسنشرح -إن شاء الله- هذا الباب في هذه الليلة، وهذا الدرس آخر درسٍ في هذه المرحلة في هذا الفصل -إن شاء الله، وسنكمل شرح ما بقي من مُلحة الإعراب في الفصل القادم، وسنبدأ الشرح -إن شاء الله- بالكلام على باب الإضافة، فلا تنسوا حينذاك الربط بين البابين.

قرأنا ما ذكره -رحمه الله- في باب حروف الجر، فكم حرفًا من حروف الجر ذكر؟

ذكر من حروف الجر ستة عشر حرفًا، وهي: "من، وإلى، وفي، وحتى، وعلى، وعن، ومنذ، وحاشا، وخلا، والباء، والكاف، واللام، وربَّ، ومُذ، وواو القسم، وتاء القسم"، ستة عشر حرفًا، طيب والباء باء القسم، هي باء الجر، لكن مع الجر دلت على القسم، يعني أن الباء الجارة مذكورةٌ، فهذه ستة عشر قولًا حرفًا، وذلك في قوله:

والجرُّ في الاسم الصحيحِ الْمُنْصَرِفْ

 

بأحرفٍ هُنَّ إذا ما قِيلَ صِفْ
 

مِن وإلى وفي وحتى وعَلى
 

 

وعَن ومنذُ ثم حَاشَا وخَلا
 

والباءُ والكافُ إذا ما زِيدَا
 

 

واللامُ فاحفْظَهْاَ تكنْ رَشِيْدَا
 

ورُبَّ أيضًا ثُمَّ مُذْ فيما حَضَرْ
 

 

مِن الزَّمانِ دونَ ما منهُ غَبَرْ
 

ثم قال:

ثم تَجُرُ الاسم باءُ القسمِ
 

 

وواوه والتاءُ أيضًا فاعلمِ
 

ستة عشر حرفًا، مع أن كثيرًا من النحويين يذكرون أن حروف الجر عشرون حرفًا، يعني كم بقي عليهم من حرفٍ من حروف الجر؟

بقي عليه أربعة أحرفٍ، أما ثلاثةٌ من هذه الأربعة فالجر بها شاذٌّ، أو قليلٌ، فحقها أن تُهمل في منظومةٍ وضعت للمتوسطين، وأحسن الحريري حين أهملها في منظومته -رحمه الله.

كم يبقى من الحروف؟ يبقى حرفٌ واحدٌ، كان حقه أن يذكره الحريري في حروف الجر، وخاصةً أنه ذكر أخويه، وهما: خلا، وحاشا.

ما هو حرف الجر الذي لم يذكره؟

هو: "عدا"، وهو أخو "خلا" و "حاشا" في الجر، فيكون مجموع حروف الجر التي سنتكلم عليها -إن شاء الله- سبعة عشر حرفًا.

في أول الأبيات نجد أنَّ الحريري -رحمه الله تعالى- قيَّد الاسم الذي تجره حروف الجر بقوله: "والجر في الاسم الصحيح المنصرف" قيَّده بالصحيح المنصرف، ماذا يعني بالصحيح؟

الصحيح ماذا يُخرج؟

الاسم الصحيح يُخرج الاسم المعتل الآخر، الاسم الصحيح يعني: صحيح الآخر، يُخرج الاسم المعتل الآخر.

ماذا يقصد بالاسم المعتل الآخر؟

الذي ينتهي بألفٍ أو ياءٍ، فالذي ينتهي بألفٍ نسميه المقصور ودرسناه من قبل، والذي ينتهي بياء قبلها كسرةٌ يُسمى منقوصًا، ودرسناه من قبل.

يريد أن يقول -رحمه الله: إن الاسم المعتل الآخر، سواءً أكان مَنقوصًا أم مَقصورًا لا يُجر بالكسرة الظاهرة، وإنما يُجر بالكسرة المقدرة.

وقوله: "المنصرف" ماذا يُخرج؟

واضح أنه يُخرج الاسم غير المنصرف، الممنوع من الصرف، لا يُجر بالكسرة، ولكنه يُجر بالفتحة، فنفهم أنه -رحمه الله- لا يريد أن الاسم المعتل الآخر المنقوص والمقصور، والاسم غير المنصرف لا يريد أن هذه الأسماء لا يدخلها الجر؛ لأننا عرفنا من قبل أن الأسماء يدخلها الرفع والنصب والجر، لابد، يدخلها واحدٌ من هذه الثلاثة بحسب العوامل الداخلة، لماذا هو أخرج الاسم المعتل، وأخرج الاسم غير المنصرف؟ هنا أخرجها من حيث علامات إعرابها، ولم يُخرجها من حيث الحكم الإعرابي، فالأسماء كلها يدخلها الجر، لكنه يقول: الاسم المعتل لا يُجر بالكسرة الظاهرة، بل يُجر بالكسرة المقدرة، والممنوع من الصرف، يقول: لا يُجر بالكسرة، يُجر بالفتحة.

ولم يكن هناك حاجةٌ في الحقيقة إلى هذا التقييد؛ لأن كلامه هنا على علامات الإعراب أم كلامه هنا على الحكم الإعرابي الجر؟

كلامه هنا ليبين عمل حروف الجر، وهو الجر، الجر يدخل على الأسماء، المنصرفة وغير المنصرفة، ويدخل على الأسماء الصحيحة الآخرة ومعتلة الآخر، أما علامات إعرابها فسبق بيانها من قبل، فلا حاجة إلى إعادة ذلك، فهذان القيدان لا حاجة لهما.

أما حروف الجر السبعة عشر التي سنتكلم عنها، ذكر الحريري منها ستة عشر، ونحن زدنا واحدًا وهو: "عدا" فالتمثيل عليها واضحٌ، ولكن سنذكر بعض أحكامها المهمة، وأكثر هذه الأحكام ذكرها الحريري في هذه المنظومة، وبعض هذه الأحكام يعرفها العربي الآن بسليقته، لكن لابد من النص عليها، فنقول:

عشرةٌ من حروف الجر تجر الأسماء الظاهرة والمضمرة، تجر كل الأسماء، سواءً كانت أسماء ظاهرةً، أم أسماء مضمرةً.

ماذا نريد بالأسماء المضمرة؟

الضمائر.

ماذا يريد بالأسماء الظاهرة؟

ما سوى الضمائر، الاسم إما ظاهرٌ وإما مضمرٌ، يعني: إما ضميرٌ، وإما ليس بضميرٍ، فالضمير يسمى ضميرًا أو مُضمرًا، وغير الضمير يسمى ظاهرًا.

هذه الحروف العشرة تجر كل الأسماء، ظاهرةً أو مُضمرةً، وهي: "من، وإلى، وعن، وعلى، وفي، والباء، واللام، وعدا، وخلا، وحاشا".

تقول: "أخذت من زيدٍ ومنكَ"، جرت "زيد" الظَاهِر، وَجَرَت "كاف الخطاب" الضمير.

وتقول: "سافر أهلي عدا أخي"، و "سافر أهلي عداي"، فـ "عدا" دخلت على الاسم الظاهر "أخ"، وعلى الضمير "ياء المتكلم"، وهكذا في البقية.

فعشرةٌ تدخل على الأسماء الظاهرة والمضمرة، كم يبقى من الحروف التي ذكرناها؟

يبقى سبعة أحرفٍ، هذه لا تدخل إلا على الاسم الظاهر، دون الضمير، وهي: "حتى، والكاف، وواو القسم، وتاء القسم، وربَّ، ومنذ، ومُذ"، هذه سبعةٌ.

تقول: "سهرت حتى الفجرِ"، تقول: "أنت كالأسد"، لكن ما تقول: "أنت كِي"، كما تقول: "أنا كزيد"، ما يدخلها ياء المتكلم، ولا تقول: "أنا كك"، تُدخل الكاف على كاف المخاطب.

هذا حكمٌ، عرفنا أن بعض حروف الجر تدخل على كل الأسماء ظاهرةً أو مضمرةً، وبعضها يختص بالدخول على الأسماء الظاهرة.

نأخذ حكمًا آخر أيضًا من أحكام حروف الجر، "رُبَّ".

رُبَّ حرفٌ يأتي للتكثير وللتقليل، بحسب المعنى، يعني: ليس للتكثير دائمًا، وليس للتقليل دائمًا، واختلف العلماء هل هو يأتي للتكثير أكثر أم للتقليل أكثر؟

لكنهم متفقون على أنه يأتي للتكثير أو للتقليل بحسب المعنى.

إذا قلت: يا رُبَّ صائمٍ لرمضان لن يصومه هذه السنة، هذه للتكثير.

لو قلت: رُبَّ إنسانٍ ليس له أبٌ أو أمٌّ، هذا للتقليل، إذا أردت يعني ليس له أبٌ حقيقيٌّ، مثل آدم، ما فيه إلا آدم، وعيسى، عيسى له أمٌّ، آدم -عليه السلام- ليس له أب أو أم.

إذا قلت: رُبَّ أخٍ لك لم تلده أمك، هذا للتكثير، وهكذا.

والجر بـ "رُبَّ" ليس مُطلقًا، الجر بـ "رُبَّ" له شرطان:

الشرط الأول: أن تكون رُبَّ مُصَدَّرَةً، فرُبَّ من الحروف التي لها الصدراة.

والشرط الثاني: أنها تجر النكرات دون المعارف، إذن هي خاصةٌ بجر النكرات دون المعارف، وتلزم التصدير، تقول: "رُبَّ أخٍ لك لم تلده أمك"، "رُبَّ عجلةٍ تهب ريثى"، "رُبَّ طالبٍ كَيِّسٍ رأيته"، أو "رُبَّ طالبٍ مجتهدٍ نجح بتفوق"، وهكذا.

رُبَّ يجوز أن تُحذف بعد واوٍ يسمونها واو رُبَّ، تقول: رُبَّ كتابٍ قرأته البارحة ولم أستفد منه، قد تحذف رُبَّ وتأتي مكانها بواوٍ، تقول: وكتابٍ قرأته البارحة لم أستفد منه، قال امرؤ القيس:

وليلٍ كموجِ البحرِ أرخى سدوله
 

 

عليَّ بأنواعِ الهمومِ ليبتلي
 

فقلتُ له لما تَمَطَّى بِصُلْبِهِ
 

 

وأردفَ أعجازًا وناءَ بِكَلْكَلِ
 

ألا أيُّها الليلُ الطويلُ ألا انْجَلِي
 

 

بِصُبْحٍ وَمَا الإِصْبَاحُ مِنْكَ بأمثَلِ
 

قال: "وليلٍ" يعني: رُبَّ ليلٍ، طيب "ليلٍ" هذا اسمٌ مجرورٌ، مجرورٌ برُبَّ المحذوفة؟ أم بالواو النائبة عن رُبَّ؟ قولان للنحويين.

وقال الشاعر الآخر:

وبلدةٍ ليسَ بِها أنيسُ
 

 

إلا اليعافيورُ وإلا العيسُ
 

قال: "وبلدةٍ" أي: رُبَّ بلدةٍ.

وقال الشاعر:

ووادٍ كجوفِ العَيْرِ قَفْرٍ قَطَعْتُهُ
 

 

بِهِ الذِّئبُ يَعوي كالخليعِ المُعَيَّلي
 

قال: "ووادٍ" أي: رُبَّ وادٍ.

ما ذكرناه من أحكم رُبَّ ذكره الحريري -رحمه الله- بقوله:

 

 

 

ورُبَّ عبدٍ كيِّسٍ مرَّ بِنَا
 

ورُبَّ تأتي أبدًا مُصَدَّرَةْ
 

 

ولا يَليها الاسمُ إلا نَكِرَةْ
 

ما معنى تُضمر؟ يعني تُحذف.

وتارةً تُضَمُر بعدَ والواوَ
 

 

كقولِهِم ورَاكِبٍ بَجَاوي
 

يعني رُبَّ راكبٍ بجاوي.

ومن أحكام حروف الجر: الكلام على "منذ ومذ"، فهما حرفان من حروف الجر، إلا أنهما لا يجران إلا أسماء الزمان، لا يجران إلا الأسماء التي تدل على زمان، "منذ و مذ"، نبدأ بمنذ.

"منذ" أوسع من "مذ"، منذ تجر الزمان الماضي، والزمان الحاضر، تقول: "ما رأيتُ زيدًا منذُ يومينِ" هذا ماضٍ أم حاضرٌ؟ ماضٍ.

"ما رأيتُ زيدًا منذُ اليومِ" حاضرٌ، جرتْ الماضي والحاضر.

ويجوز أن ترفع الاسم الذي بعد "منذ"، يجوز، تقول: "ما رأيته منذ يومان"، و"ما رأيته منذ اليومُ" يجوز الرفع.

فإذا جررت كان حرف جرٍّ، وما بعده اسمٌ مجرورٌ، وإذا رفعت صارت منذ خبرًا مقدَّمًا، والمرفوع الذي بعدها مبتدأٌ مؤخرٌ.

وأما "مذ"، فالأكثر فيها أنها تجر الزمان الحاضر، يعني تقول: "ما رأيتهُ مُذُ اليومِ" ويجوز أن يُرفع "مُذُ اليومُ"، وأما الزمان الماضي فبالعكس، الأكثر في مذ أن يكون الزمان الماضي بعدها مرفوعًا، تقول: "ما رأيته مُذ يومانِ" خبرٌ ومبتدأٌ، ويجوز أن تجر "ما رأيته مُذ يومينِ"، يعني: أن "منذ ومذ" كلاهما يجوز أن تجعلهما حرف جرٍّ، وتجر الاسم الذي بعدهما، ويجوز أن تجعلهما اسمًا على أنه خبرٌ مقدَّمٌ، والاسم الذي بعدهما مرفوعًا على أنه مبتدأٌ مؤخرٌ؛ لأن ما بعدهما سُمع فيه الرفع والجر عن العرب، وإنما هذه التفاصيل في الأكثر والأحسن.

وهذا هو قول الحريري: "ثم مُذ في ما حضر" يعني: في الزمان الحاضر "من الزمان دونما منه غبر" يعني الماضي، تقول: "ما رأيته مذ يومنا".

ومن أحكام حروف الجر: الكلام على "خلا وعدا وحاشا"، وهم من أدوات الاستثناء، وسيأتي الكلام عليها في باب الاستثناء، فيجوز فيها وجهان:

الأول: أن تجعلها حروف جرٍّ؛ فتجر الاسم الذي بعدها.

والثاني: أن تجعلها أفعالًا ماضيةً، فتنصب الاسم الذي بعدها.

تقول: "حضرَ الضيوفُ عدا عاصمٍ"، "عدا" حرف جرٍّ، و"عاصمٍ" اسمٌ مجرورٌ، وتقول: "جاءَ الضيوفُ عدا عاصمًا" "عدا" فعلٌ ماضٍ وفاعله ضميرٌ مستترٌ تقديره هو، يعود إلى مفهومٍ سابقٍ، و"عاصمًا" مفعولٌ به منصوبٌ.

إلا إذا دخلت "ما" عليها، فإنها حينئذٍ لا تكون إلا أفعالًا ماضيةً، فإذا كانت أفعالًا ماضيةً لا يجوز في الاسم الذي بعدها إلا النَّصب، تقول: "جاءَ الضيوفُ ما عدا عاصمًا"، "جاءَ الضيوفُ ما خلا عاصمًا"، وذلك أن "ما" هنا لا تدخل إلا على الأفعال، لا تدخل على حروف الجر.

ومن أحكام حروف الجر: حروف القسم الثلاثة، وهي: الباء، والواو، والتاء، وهي من حروف الجر، وقد ذكرها الحريري في فصلٍ خاصٍّ، بعد حروف الجر فقال:

ثم تَجُرُ الاسم باءُ القسمِ
 

 

وواوه والتاءُ أيضًا فاعلمِ
 

لكن تخصُّ بالتاءِ باسمِ اللهِ
 

 

إذا تعجَّبتَ بلا اشتباهِ
 

أما الباء و الواو، فتجران كل مُقْسَمٍ به، تقول: واللهِ، باللهِ، والرحمنِ، بالرحمنِ، والليلِ، والضحى، والعصر، والقمر، هكذا.

أما التاء فلا تجر إلا اسم الله -سبحانه وتعالى، هذا المشهور فيها، والأغلب في التاء عرفنا أنها تجر اسم الله، والأغلب أنها تتضمن مع ذلك معنى التعجب، يعني لا تستعمل تاء الجر في القسم غالبًا إلا مع التعجب، عندما تتعجب ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ [الأنبياء: 57]، هذا فيه تعجبٌ منهم ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ﴾ [يوسف: 73] تعجبوا من اتهامهم إياهم بالفساد، ومع ذلك قد تخلو من التعجب قليلا، فتقول: "تاللهِ لأجتهدنَّ" كقولك: "واللهِ لأجتهدنَّ".

ومن أحكام حروف الجر: أن لحروف الجر معانٍ كثيرةٌ ومختلفةٌ، حروف الجر عرفنا عملها، أنها تعمل الجر، لكن معانيها مختلفةٌ، كل حرفٍ له معنى، وليس الكلام على ذكر هذه المعاني لأنها كثيرةٌ، لكن ينبغي على الطالب الاهتمام بها، وخاصةً طالب النحو المتقدم، وكذلك طلاب الشريعة في التفسير، في الفقه في الحديث، هذا يهمهم كثيرًا.

أنا سأذكر فقط مثاليْن لبيان أهمية معاني حروف الجر.

المثال الأول: قوله تعالى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ [المائدة: 6]، كان ظاهر اللغة أن يُقال: امسحوا رءوسكم؛ لأن الرءوس ممسوحةٌ، فلماذا أتى بالباء؟ ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾، هنا سنأتي إلى معاني حروف الجر لنعرف لماذا أتى بالباء.

المعنى الأصلي للباء الجارة الإلصاق، الدلالة على الإلصاق، فمعنى الآية -والله أعلم- امسحوا رءوسكم ملصقين بها أيديكم، يعني: من مسح رأسه وبينهما حائلٌ، أو مرر يده فوق رأسه دون إلصاقٍ، هذا لا يُعد ماسحًا، ويرى بعض الفقهاء أن الباء هنا للتبعيض، يعني: امسحوا بعض رءوسكم، وهذا المعنى لا يعرفه النحويون وأهل اللغة، وبعضهم يراه معنى قليلًا لها، أو من مجازاتها.

المثال الثاني لمعرفة أهمية حروف الجر: قوله تعالى: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة: 6] "إلى المرافق"، "إلى" هذه حرف جرٍّ، ما معناه؟

قالوا: معناه الغاية، أي: الدلالة على الغاية، المغسول غايته المرافق، المرافق تدخل أو لا تدخل في المغسول؟ يعني الغاية التي بعد حرف الجر، هل تدخل في المغيَّا؟ الغاية هنا المرافق؟ المغيَّا المغسول من اليد، هل الغاية تدخل في المغيَّا أو لا تدخل؟

هنا خلافٌ في معنى حرف الجر "إلى"، فبعضهم قال: لا تدخل، إذن المرافق لا تدخل، لا يجب أن تُغسل، وبعضهم قال: تدخل، إذن المرافق يجب أن تدخل.

هذا بغض النظر عن وجود أدلةٍ أخرى، إن كانت هناك أدلةٌ أخرى في هذه المسألة بالذات فيُصار إليها، إن كان هناك أدلةٌ أو قرائن، يجب أن يُصار إليها، لكن إن لم تكن هناك أدلةٌ أخرى أو قرائن، فليس لك إلا أن تتعامل بمقتضى اللغة، واللغة هنا تدل على أن "إلى" للغاية، والغاية تدخل أو لا تدخل في المغيَّا؟ فيه خلافٌ بين أهل اللغة، فبعضهم قال: لا تدخل، إذن فالأصل أن المرافق لا تدخل في المغسول إلا إن جاء دليلٌ آخر يدل على ذلك، وآخرون من أهل اللغة قالوا: لا، قالوا: إن الغاية التي بعد إلى إن كانت من جنس المغيَّا تدخل، وإذا كانت من غير جنس المغيَّا ما تدخل، فإذا قلت مثلًا: لك هذا النخل إلى النخلة العاشرة، فالنخلة العاشرة داخلةٌ في المُعطى أو غير داخلةٍ؟ داخلةٌ لأنها من جنس المغيَّا، من جنس المُعطى.

لكن لو قيل لك: هذا النخل إلى الساقي الثاني، فالساقي الثاني داخلٌ في المُعطى أو غير داخلٍ؟ الأصل أنه غير داخلٍ؛ لأنه ليس من جنس المُعطى، وعلى ذلك فالمرافق داخلةٌ أو غير داخلةٍ في المغسول؟ الأصل أنها داخلةٌ؛ لأن المرافق من جنس اليد، إلا إن جاء دليلٌ يدل على أنها غير داخلةٍ، أنا لا أقرر مسألةً فقهيةً، وإنما أبيِّن أثر وأهمية معرفة هذه المعاني في مثل هذه الأدلة الشرعية.

مثلًا قوله تعالى: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: 6]، هنا داخلةٌ، من قال: إنها من جنس المغيَّا داخلةٌ.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: 187]، الليل داخلٌ أو غير داخلٍ؟ غير داخلٍ؛ لأنه ليس من جنس النهار المصوم.

بهذا نكون قد انتهينا بحمد الله من الكلام على حروف الجر، أما الباب التالي وهو باب الإضافة، فإن شاء الله ننتظركم ونحن على شغفٍ وترقبٍ للقائكم إن شاء الله في الفصل القادم لنُكمل بإذن الله تعالى شرح ملحة الإعراب للحريري البصري، أشكركم في البداية وفي النهاية على حسن استماعكم، وأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعل هذا الشرح شرحًا واضحًا مفيدًا نافعًا إنه على كل شيءٍ قديرٌ، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك