الدرس الثاني عشر

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

13376 12
الدرس الثاني عشر

الأصول من علم الأصول

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد..
فأرحب بكم في هذا اللقاء من لقاءاتنا في قراءة كتاب الأصول، وهو اللقاء الثاني عشر، أسأل الله -جلَّ وعلَا- أن يتقبل منا ومنكم وأن يفهمنا وإياكم.
كنا نتحدث عن ما هي المسائل التي لا يجب على المفتي أن يجيب فيها، ويجوز له أن يعتذر عن الجواب.
هناك روايةٌ تترد بين كثيرٍ من الناس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من سُئل عن علمٍ فكتمه، أُلجم بلجامٍ من نارٍ»، هذه الرواية لا تثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإسنادها ضعيفٌ، وإذا تتبع الإنسان المسائل التي يجب على المفتي أن يفتي فيها، وجد أنها المسائل التي لا يستطيع العباد أن يعملوا بالشرع إلا عند وجود هذه الفتوى، وبالتالي هناك عددٌ من الشروط التي تشترط لوجوب الفتوى على المفتي:
الشرط الأول: أن تكون المسألة واقعةً، فإن كانت المسألة غير واقعةٍ لا يلزم المفتي أن يجيب عنها، وجاز له أن يعتذر عن الإجابة.
الشرط الثاني: أن تكون المسألة مما يتعلق بعمل السائل؛ لأنها إذا كانت تتعلق بعمل السائل، فهو محتاجٌ إلى حكمٍ شرعيٍّ، أما إذا كانت من عمل غيره، فحينئذٍ لا يوجد هناك حكمٌ شرعيٌّ متعلقٌ بهذا، وسيترتب عليه عملٌ شرعيٌّ.
الشرط الثالث: أن يكون قصد السائل حسنًا، أما إذا كان قصده سيئًا، فإنه لا يلزم المفتي أن يجيب، ويجوز له أن يعتذر، والأولى أن ينصح السائل في مثل هذا كما لو كان قصده التعنت، أو كان يبحث عن الرخصة، أو كان يريد ضرب أقوال العلماء بعضهم مع بعضٍ، أو كان يريد أن يشكك الناس في الفتوى وأهل الفتوى.
الشرط الرابع: اعتبار المآلات، بحيث ينظر المفتي إذا كانت الفتوى سيترتب عليها ضررٌ، فحينئذٍ يتوقف عن الفتوى في هذه المسألة، ويمسك عنها دفعًا لأعلى المفسدتين.
الشرط الخامس: وهو أن لا يوجد في البلد إلا ذلك المفتي؛ لأنه لو وجد في البلد مفتٍ آخر جاز له أن يقول: اذهب اسأل فلانًا، ولا يلزمه أن يجيب في هذه المسألة.
الشرط السادس: أن يكون ذهن المستفتي يتمكن من استيعاب هذه المسألة، في مراتٍ قد يكون أذهان بعض السائلين لا يستوعب هذه المسألة، وبالتالي الأولى أن لا يجيب، وقد ورد في بعض الآثار: لا تحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم، إلا كان فتنةً لهم، إذا تكرر هذا فحينئذٍ يجب على أن يعرف مقدار المفتي، وأن المفتي يُبلِّغ شرع رب العزة والجلالة، وبالتالي يجب حفظ الأدب معه، وأن يُتقرب إلى الله -عزَّ وجلَّ- بفعل كل ما يتناسب مع مقداره، ومن ثم يختار له من ألفاظ السؤال ما يتناسب مع حاله، لا يرفع معه الصوت، لا يُساء معه الأدب، لا يُسأل في أوقاتٍ غير مناسبةٍ للسؤال، لا يتصل عليه في أجهزته الخاصة التي لا يريدها إلا لحوائجه الخاصة.
كذلك بعض المستفتين إذا عرض سؤاله قال يا شيخ ما تفهم، هذا ليس مناسبًا، وليس من الأدب مع العالم، كذلك لا يصح أن يلح على المفتي بالجواب، أجب، وبالتالي أي طريقةٍ متعلقةٍ بالأدب فلابد أن يلتزمها.
إذن يلزم المستفتي أن يحفظ جانب الأدب مع المفتي.
الشرط الثاني فيما يتعلق بالمستفتي: أن يكون قصده الحق والعمل بالفتوى، ما يكون له مقاصد سيئةٌ، بعضهم يقصد إفحام المفتي، وبعضهم يقصد دعايةً لشركات أو الدعاية ضد شركاتٍ، ما يريد الفتوى وإنما يريد أن يُرغب الناس في شراء سلعةٍ، هذا لا يجوز له، فهذا مقصدٌ غير المقاصد التي يجب أن يكون عليها المستفتي، يجب أن يقصد التقرب إلى الله -عزَّ وجلَّ- والرغبة في تعلم العلم الشرعي.
كذلك من ما يتعلق بالمستفتي أن لا يستفتي إلا العلماء، ليس كل من تصدر للفتوى يكون أهلًا لها، وليس كل من جاء في قنوات التلفزيون في برامج الفتوى يكون مؤهلًا للفتوى، لابد أن يكون مَن يستفتى ممن يغلب على الظن أنه من العلماء أو يجزم الإنسان بذلك.
كيف يعرف المستفتي آلية المفتي؟
هناك طرائق:
الطريق الأول: رجوع أهل العلم إلى عالمٍ، معناه أنه من أهل العلم الذين يجوز الرجوع إليهم.
الطريق الثاني: أن يكون متوليًّا للفتوى ويفتي الناس بحضرة العلماء، ولا يوجد من ينكر عليه، ولا من يبين عدم أهليته للفتوى.
الطريق الثالث: بدلالة عالمٍ من العلماء، ولاحظ العلماء المعتبرين اسأل فلانًا، هذا معناه أنه من أهل الفتوى، وأنه يجوز أن يرجع إليه.
يبقى عندنا مسألتان مهمتان:
المسألة الأولى: إذا تعدد العلماء في البلد، فماذا نفعل؟ نقول الأفضل أن يُسأل الأعلم، الأفضل، لكنه لا يجب عليه ذلك، لو سأل الأقل جاز له ما دام عالمًا، فإنه في عهد الصحابة كان يُسأل المفضول مع وجود الفاضل، وقد قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43] معناها أنه إذا سأل أي واحدٍ من أهل الذكر، جاز له ذلك ولم يخصص أحدًا دون أحدٍ، هذا إذا لم يعلم بأقوالهم، أما لو قُدر أن العلماء قد أفتوا في مسألةٍ، واحدٌ يقول بالجواز وواحدٌ يقول بالمنع، فحينئذٍ ماذا يفعل المستفتي؟
نقول: يرجح بينهما، لأن مراد المستفتي ليس العمل بقول فلانٍ أو فلانٍ، مراده العمل بشرع رب العزة والجلالة، وبالتالي لابد أن يعمل بما يغلب على ظنه أنه شرع الله، كيف يرجح بينهم؟ بحسب ثلاث صفاتٍ.
الصفة الأولى: العلم، فإذا علم منهم الأعلم منهما، فقوله الذي يجب عليه أن يعمل به، إذا لم يعلم أو ظن تساويهما، فحينئذٍ يسأل الأورع منهما، لأن صاحب الورع والتقوى يُوفق للصواب، فإذا لم يتمكن من معرفة الأورع منهما، فحينئذٍ يسأل عالمًا ثالثًا فيعمل بقول الأكثر، لأنه يغلب على ظنه أن قول الاثنين أقرب إلى أن يكون هو شرع رب العزة والجلال.
من آداب المستفتي أيضًا: أن يسأل المسألة على حقيقتها، بعض المستفتين يخفي في بعض المسائل لتأتي الفتوى على ما يريده وما يهواه، حينئذٍ لا يكون عاملًا بالشرع، هذا عاملٌ بالهوى وليس استفتاؤه على حقيقته، وليست فتوى المفتي له، لماذا؟ لأنه خف بعض الجزئيات في المسألة.
كذلك من آداب المستفتي أن ينتبه لدلالات ألفاظ المفتي، عند التفصيل ترى ما يتعلق به مما لا يتعلق به، لأن المفتي دقيقٌ في ألفاظه وبالتالي لابد أن يتفهم كلام المفتي، وأن يعرف الحكم الذي قاله، وأن يعرف الشروط المتعلقة بذلك الحكم والموانع منه.
كذلك في كثيرٍ من المرات بعض المستفتين يسمع فتوى متعلقةً بغيره، فيظنها له، ويكون هناك فارقٌ بينه وبين فتوى مسألة الشخص الآخر، فبالتالي لا تكون الفتوى تنطبق عليه، ومن ثم ينبغي للإنسان أن يستفتي عن مسألته التي تقع به، ولو وجد أناسٌ استفتوا فظن أنها مثل هذه المسألة، فلا يكتفي بفتواهم، لأن المسائل تختلف وقد تتشابه في الصورة، ولكنها تختلف في حقيقتها وفي حكمها.
كذلك نلاحظ ما يتعلق بنقل الفتوى، الذي ينقل الفتوى عاميٌّ، بالتالي قد ينزل المسألة في غير محلها، قد يكون لها شروطٌ وضوابط لم ينتبه لها ناقل الفتوى، ومن ثم الأصل أن الفتوى لا يُسأل عنها إلا العالم الفقيه، أما غير الفقيه فإنه لا يُسأل عن تلك المسألة، ناقل الفتوى بمثابة من ينبه الناس لهذه المسألة، وبالتالي يسألون العالم الفقيه المجتهد عن الحكم.
هل يُعمل بالنقل؟
نقول: الأصل أنه لا يُعمل؛ لأنه قد ينقل المسألة في غير محلها، وقد تفهم في غير المراد منها، ومن ثم العمل بنقل الفتوى لا يكون إلا عند الضرورات، إذا لم نجد فقيهًا.
{جزاكم الله خيرًا، شيخنا الفاضل، نقول: إن هناك مجتمعاتٍ لا يوجد فيها العالم المجتهد والذي تتوفر فيه الشروط التي أسلفتم ذكرها، وهناك أيضًا من يتصدر لا أدري أن أقول للنقل أو للفتوى، بل هو قد يكون حافظًا لكتاب الله -عزَّ وجلَّ- ولكنه ليس ملمًا دائمًا بالمسائل الفقهية، يطرقون الناس بابه لأنهم يعتبرونه في نظرهم هو العالم والمجتهد، لكنه بحسب المعيار الذي أسلفتم ذكره، لم يتوفر فيه الشروط كاملةً أو بعضها، فنريد أن توضح المسألة لنستفيد ويستفيدون هم، ونصيحتك أيضًا لمن يتصدر مثل هذه الأمور، وقد رأينا أن بعضهم أحيانًا يلصق ما بين المذهب هذا والمذهب هذا، مما يدل على أن المادة الشرعية عنده ليست متوفرةً بالقدر الكافي، الذي يؤهله لأن يكون مجتهدًا، جزاك الله خيرًا}.
هذا السؤال سؤالٌ مهمٌ ويحتاج الناس إليه كثيرًا، الأصل أن الفتوى مخصوصةٌ بأهل الاجتهاد، ومن لم يكن مجتهدًا فلا يجوز له أن يفتي، من لم يكن من أهل الاجتهاد يمكن أن ينقل الفتوى، وحينئذٍ يبين أنه ناقلٌ لها، ويقول: سمعت العالم الفلاني يفتي بكذا.
ما يتعلق بهذا قد لا يكون في البلد مجتهدٌ، نقول: يجب عليه مراجعة هذه الفتوى، الأوائل يقولون: كل بلدٍ ليس فيها مجتهدٌ يلزم أهلها أن يهاجروا منها، كلام الأوائل من الفقهاء، ولكن في مثل عصرنا الحاضر بتوفر وسائل التواصل والاتصال، سهل على الناس التواصل بالمفتين وعرض مسائلهم عليهم، حينئذٍ يبعد الحرج عن النفس، هذا الناقل للفتوى يجب عليه أن يبين أنه ناقلٌ، ومن ثَم فالأمة في حاجةٍ شديدةٍ لزيادة المجتهدين في الذين يفتون بناءً على اجتهادهم، ولو اختلفت الاجتهادات، لكن الإشكالية أن تصدر الفتوى ممن ليس مؤهلًا لها، كما تقدم أن أهل الاجتهاد الذين يؤهلون للفتوى لابد فيهم من أربعة شروطٍ:
معرفة الأدلة، بحيث من لا يعرف الأدلة لا يجوز له أن يفتي.
الثاني: معرفة مواطن الاتفاق من الاختلاف، على مدى العصور كلها.
الثالث: أن يعرف قواعد الأصول ويتمكن من تطبيقها، واستخراج الأحكام من الأدلة بواسطتها.
الرابع: أن يعرف من لغة العرب ما يمكنه من فهم الأدلة.
فمن وجدت فيه هذه الشروط الأربعة، جاز له أن يفتي، وجاز للناس أن يرجعوا إليه، وأما من كان حافظًا للقرآن لكنه لا يعرف استخراج الأحكام من الدليل، لا يجوز له الفتوى، ولا يجوز له أن ينسب الحكم إلى الله وهو لم يتأكد منه، ينسبه إلى من سمعه منه، ويمكن أن سماعه للفتوى من المفتي قد نزلها في غير ما يريد المفتي.
وهنا ننبه إلى شيءٍ وهو أن بعض الناس قد يأتي ليلفق، مرةً يأتي بجزءٍ من قول فلانٍ، وجزءٍ من قول فلانٍ ويركب عليه بأقوالٍ لم يقل بها، وبالتالي يخترع لنا اختراعاتٍ في المسائل الفقهية لا يوجد لأحدٍ كلامٌ سابقٌ فيها، وهذا نوعٌ من أنواع إضلال الخلق، وهذا هو شاهد قول النبي -صلى الله عليه وسلم- «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالمٌ اتخذ الناس رءوسًا جهالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلو».
إذن ذكر المؤلف هنا الاجتهاد، وبين أن المراد به بذل الجهد لإدراك أمرٍ شاقٍّ في اللغة، وفي الاصطلاح بذل الجهد لإدراك الحكم الشرعي، بذل الجهد من المؤهل لاستخراج الحكم من الأدلة، والمجتهد من يبذل جهده لاستخراج الأحكام من الأدلة، وذكر منها الشروط التي يجب أن تكون في المجتهد، وهي تعود إلى الأربعة شروطٍ السابقة، معرفة الأدلة الشرعية كآيات الأحكام وأحاديثها، صحة الحديث وضعفه، سواءً عرفه بنفسه أو بسواء أهل الاختصاص، معرفة الناسخ والمنسوخ، معرفة مواقع الإجماع، معرفة ما يختلف فيه الحكم، هو قواعد الأصول التخصيص والتقييد ونحو ذلك، أن يعرف من اللغة وأصول الفقه ما يتعلق بدلالات الألفاظ، كذلك يكون عنده قدرةٌ يتمكن بها من استخراج الأحكام من أدلتها.
بعض الناس قد يصل إلى الترجيح في جميع المسائل، وبعضهم قد يكون قادرًا على الترجيح في بعضها دون جميعها، مراتٍ يوجد من يتقن بابًا معينًا مثل باب الفرائض أو أبواب النكاح، لكن لو سألته في أبواب المعاملات المالية، ما يصير عنده تصورٌ، وهذا ممكن قد وجد من الأوائل من كان كذلك، ولذلك الناظر في أحوال المجتهدين يجد أنهم خمسة أقسامٍ، منهم المجتهد المطلق الذي لا يتقيد بمذهبٍ لا في الأصول ولا في الفروع، هذا يسمونه المجتهد المطلق، وهذا في الناس قليلٌ.
ومنهم من يتقيد بأصول مذهبٍ معينٍ، لكنه في الفروع لا يتقيد بها، وبالتالي قد يختار أقوالًا خارج مذهبه، ومنهم من يتقيد بأصول مذهبٍ ولا يخرج عن الروايات الواردة في المذهب، ويسمونه أصحاب الترجيح، ومنهم من يتمكن من تخريج أحكام للمسائل الجديدة من خلال أقوال الأئمة السابقين، أصحاب التخريج هؤلاء ليسوا من أهل الاجتهاد، هؤلاء يقيسون المسائل الجديدة على المسائل السابقة، فهؤلاء هم معلمون ولكنهم لا يصلحون للفتوى، ما يفتي إلا المجتهد المطلق أو أصحاب الوجوه أو أصحاب الترجيح، أما أصحاب التخريج فهم لا يفتون.
هناك من يحفظ المذاهب، أصحاب الحفظ يسمونهم الفروعيون، فهؤلاء يعلمون ويدرسون ولكنهم ليسوا من أهل الفتوى إلا في مواطن الضرورات، المجتهد يجب عليه أن يبذل ما يستطيع للوصول إلى الحكم الشرعي، فإذا بذل كان من أهل الفتوى، وبذل جهده فإن وصل إلى الحق وإلى الصواب كان له أجران، وإن أخطأ كان له أجرٌ واحدٌ، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ، فله أجرٌ واحدٌ»، والله -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16].
وهذا، الصواب أنه حتى في المسائل القطعية على الراجح من قولي أهل العلم، بشرط أن لا يكون هناك تفريطٌ أو عدم قدرةٍ على النظر في الأدلة، من لم يتمكن من الوصول للحق، وجب عليه التوقف في الفتوى كما تقدم معنا في مباحث التعارض والترجيح، وبالنسبة لعمله في نفسه إما أن يحتاط وإما أن يقلد.
إذن المجتهد الأصل أنه يجب عليه أن يجتهد في المسائل، وأن يعمل باجتهاده إلا إذا عجز عن الوصول للحكم الشرعي، ففي هذه الحال نقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾، أما إذا كان قادرًا على الاجتهاد وجب عليه أن يجتهد، ولا يجوز له أن يسأل غيره، أو أن يعمل بفتوى غيره.
في مقابلة الاجتهاد هناك ما يسمى بالتقليد، والتقليد في اللغة هو مأخوذٌ من القلادة، وضع الشيء على العنق محيطًا به، وأما في الاصطلاح فهو التزام قول من ليس قوله حجةٌ أو اتباع من ليس قوله حجةٌ، فالتزام قول أو مذهب من ليس قوله بدليلٍ، فهذا يسمى تقليدًا، وحينئذٍ اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا عملٌ بالدليل، اتباع الإجماع هذا عملٌ بالدليل ليس من التقليد، هكذا اتباع الصحابي هذا لا يسمى تقليدًا، هذا يسمى عملًا بالدليل.
ما حكم التقليد؟
نقول: المؤهل للاجتهاد لا يجوز له التقليد إلا في مواطن الضرورات، أما من عاداه فإنه يجوز له أن يقلد، لأن هذه قدرته واستطاعته، والله -عزَّ وجلَّ- قد أمره بذلك، كما قال -تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، كما قال -تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ ليَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122]، إذن هناك فقهاء وهناك غير فقهاء يرجعون إلى الفقهاء ويعملون بأقوالهم، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83] فوجب عليهم الرجوع إلى العلماء، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «أَلا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شَفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ»، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاء الرجل الذي في حديث العسيف الذي زنى قال أحدهم: وإني سألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني الجلد، وتغريب عامٍ.
فلم ينكر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذه بأقوال أهل العلم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يرسل العلماء والفقهاء في زمانه إلى البلدان، فيسألونهم ويستفونهم فيقر النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك، ولذلك هناك معلمون، وهناك مفتون وهناك قضاة.
من الذي يستفي؟ من هو المقلد؟
العامي الذي لا يتمكن من أخذ الأحكام الشرعية من الأدلة، هذا الذي يجوز له أن يقلد، أما المجتهد فالأصل أنه لا يجوز له أن يقلد، لقوله -تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ يعني من يعلم أو كان من أهل الذكر، فهو مسئولٌ وليس بسائلٍ.
قد يكون هناك مواطن ضروراتٍ يعجز المجتهد عن الوصول إلى الحق فيها، فحينئذٍ يستفتي أو لا يتمكن من النظر في المسألة.
هل مسائل العقائد يجوز التقليد فيها، أو لا يجوز التقليد فيها؟
أكثر العلماء أو أكثر المصنفين في الأصول يقولون: لا يجوز التقليد في مسائل العقائد؛ لأنه يطلب فيها اليقين، والتقليد لا يُحصِّل اليقين، وهناك من يقول: يجوز ذلك، وقد اختاره المؤلف، قال: لأن الله -تعالى- قال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ وهذه الآية عامةٌ، ولأنها وردت في سياق إثبات الرسالة وهو من مسائل العقائد، ثم العامي ما يتمكن من معرفة الحق بأدلته وبالتالي ما يستطيع إلا سؤال العلماء، ولذلك كان في عهد النبوة يأتي الرجل ويسلم قومه بناءً على إسلامه، تقليدًا له، يقول عمرو بن الطفيل: لا أكلمكم حتى تدخلوا فيما دخلتُ فيه، فيؤمنون، كما فعل أيضًا أسعد بن زرارة وسعد بن معاذ وغيرهم، فأقرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك ولم ينكر عليهم.
يُشترط في التقليد أن يكون من يُقلَّد مؤهلًا لأن يقلَّد، وعالمًا مجتهدًا من أهل الفتوى الذين تقبل فتواهم، ويكون من أهل العدالة، إذن لابد أن يكون مجتهدًا وأن يكون عدلًا، لأنه من غير العدل لا يقبل خبره، وهل يلزم أن يكون السؤال لأفضل أهل زمانه؟ بل هذا أحسن لكنه لا يلزم -كما تقدم- أنه كان يُسأل المفضول مع وجود الفاضل.
أركان الإسلام، يجوز مثلًا في بعض البلدان ما يكون يعرف أركان الإسلام، فلو أخذ بقول فقيهٍ وعمل فيها بمثل ذلك، فجاز له ذلك.
التقليد على نوعين:
تقليدٌ بقول عالمٍ معينٍ، يعني: تأخذ أقواله في كل شيءٍ، هذا تقليدٌ عامٌ، وهناك تقليدٌ خاصٌ بحيث كل مسألةٍ تعرض لك، فإنك تعمل بقول الفقيه الذي تقابله.
يبقى عندنا التزام المذاهب الفقهية أو التمذهب، عندنا المذاهب الأربعة، المذهب الحنفي، المذهب المالكي، المذهب الشافعي، والمذهب الحنبلي، هذه المذاهب الأربعة هي طرائق للتعلم، ليست للعمل ولا للفتوى، ما يأتي واحدٌ يأخذ كتابًا فقهيًا ويعمل به، نقول لا، الناس على صنفين: عالمٌ يأخذ العلم من الدليل، ومقلدٌ يسأل مفتي زمانه، وبذلك يقرر العلماء يقولون مذهب العامي مذهب مفتيه، والمفتي يجب عليه أن يجتهد وتكون فتواه بحسب اجتهاده، وبالتالي الالتزام أو الانتساب إلى هذه المذاهب الفقهية باعتبار أنها طرائق للتعلم وليست للفتوى.
نقل المؤلف قال: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن في القول بوجوب طاعة غير النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل أمره ونهيه، هو خلاف الإجماع وجوازه فيه ما فيه، وقال: من التزم مذهبًا معينًا ثم فعل خلافه من غير تقليدٍ لعالمٍ آخر أفتاه ولاستدلالٍ بدليلٍ يقتضي خلاف ذلك، ولا عذرٍ شرعيٍّ يقتضي حل ما فعله، فهو متبعٌ لهواه، فاعلًا للمحرم بغير عذرٍ شرعيٍّ، وهذا منكرٌ، وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قولٍ على قولٍ، إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها، وإما بأن يرى أحد الرجلين أعلمَ بتلك المسألة من الآخر، وهو أتقى لله فيما يقوله، فيرجع من قولٍ إلى قولٍ لمثل هذا، فهذا يجوز، بل يجب، وقد نص الإمام أحمد على ذلك.
إذن عندنا تقليد ، وهو التزام التمذهب، هذا له، نقول هذا التمذهب المراد به التعلم، ولا يراد به العمل، وهذا التقليد لابد أن يلاحظ فيه مثل هذا التمذهب يلاحظ هنا طرائق للتعلم، وليست للعمل.
وهناك اختلافاتٌ فقهيةٌ أوضعها العلماء، قال المؤلف: (النوع الثاني: التقليد الخاص، أن يأخذ بقولٍ معينٍ في قضيةٍ معينةٍ، فهذا جائزٌ بالنسبة للمستفتي العامي، إذا عجز عن معرفة الحق بالاجتهاد، سواءً عجز عجزًا حقيقيًّا بأن يكون عاميًا، أو استطاع ذلك مع المشقة العظيمة).
تكلم المؤلف بعد ذلك عن فتوى المقلد، الأصل أنَّ المقلد يستفتي لا يفتي، لقوله -عزَّ وجلَّ: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، إذن عندنا أهل الذكر، هم أهل الفتوى وأهل الاجتهاد، وعندنا سائلٌ، هم الذين وصفوا بقوله: ﴿إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وبالتالي من لا يعلم فوظيفته السؤال، وليس وظيفته الجواب والفتوى.
قال أبو عمر ابن عبد البر وغيره: أجمع الناس على أن المقلد ليس معدودًا من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله.
قال ابن القيم: وهذا كما قال أبو عمر: فإن الناس لا يختلفون في أن العلم هو المعرفة الحاصلة عن الدليل، وأما بدون الدليل فإنما هو تقليدٌ.
ونقل -ابن القيم- ثلاثة أقوالٍ، وهي:
أحدها: لا تجوز الفتوى بالتقليد؛ لأنه ليس بعلمٍ، والفتوى بغير علمٍ حرامٌ، قال: وهذا قول أكثر الأصحاب، وجمهور الشافعية.
الثاني: أن ذلك جائزٌ فيما يتعلق بنفسه، لكنه لا يجوز أن يقلد فيما يفتي به غيره، هذان القولان مرجعهما إلى شيءٍ واحدٍ.
الثالث: أن ذلك جائزٌ عند الحاجة، عند عدم وجود العالم المجتهد، وعليه العمل.
حينئذٍ نقرر أن المقلد لا يجوز له أن يفتي؛ لأن الفتوى لا تكون إلا باجتهادٍ، ولأن المقلد إنما يسمع قول العالم، ولا يدري هل هذا هو حكم الله، أو ليس بحكم الله، والعالم قد يخطئ، وبالتالي لا يجوز له أن ينسب قول ذلك العالم إلى الله -عزَّ وجلَّ، فيقول: حكم الله في هذه المسألة كذا، وهو إنما سمع ذلك العالم.
إذن يجوز للمقلد أن ينقل الفتوى إذا بيَّن أنه نقلٌ، بحيث لا ينسبه إلى الله، وإنما ينسبه إلى قائله، فيقول: سمعت العالم الفلاني يقول كذا، ولا يقول حكم الله في المسألة كذا، نقل الفتوى بأن يبين من هي منقولةٌ عنه، فحينئذٍ يجوز، وأما الآخر إذا قال: الحكم كذا، أو حكم الله كذا هذا فتوى، والعامي ليس من أهلها، فلا يجوز له ذلك.
ونقل الفتوى له شروطٌ:
الأول: فهم كلام المفتي ومعرفة شروطه وضوابطه.
الثاني: التيقن بأن تلك الفتوى تنطبق على ما يحدث إليه.
الثالث: التأكد من نسبة الفتوى إلى ذلك العالم.
في مراتٍ كثيرةٍ نجد أحوالًا كثيرة يُنقل عنا وعن غيرنا فتاوى لم نقل بها، خصوصًا في وقتنا الحاضر، يأتي يسمع التلفزيون دقيقةً، يسمع نصف الكلمة، أو نصف الجملة، ويركب عليها أشياءً في ذهنه، ويكون يسولف مع جماعةٍ، وبالتالي يظن أن ذلك المفتي أفتى بخلاف ما قاله حقيقةً، مرات نقول قولًا على جهة الإنكار له، فيأتي شخصٌ ما سمع منا إلا هذه الجملة التي أنكرناها، فيظن أننا نقول بها، فينسب إلينا، أو إلى المفتي أيًا كان كلامًا لم يقله، ولم يتكلم به، وبالتالي لابد من التأكد من مثل هذا، والحذر من قضية الكذب، والزور، ونسبة أشياءٍ إلى الفقيه لم يقل بها، مراتٍ بسوء قصدٍ، ومراتٍ بحسن نيةٍ، مع سوء عملٍ، لوجود سوء الفهم.
هل يجوز لمقلدٍ آخر أن يعمل بما نقله المقلد الأول؟
نقول: الصواب أنه لا يعمل بنقله؛ لأن الله قال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾، هذا ليس من أهل الذكر، هذا ناقلٌ، أهل الذكر هم أهل الدليل، الذين يعرفون الحكم من الدليل، وبالتالي لا يعمل بنقله، إلا في مواطن الضرورات، مثل الذي ضل في الصحراء ما يجد إلا أدنى نورٍ يتمسك به.
متى موطن الضرورة؟
إذا لم يجد فقيهًا يأخذ الأحكام من الأدلة، أما إذا وجد الفقيه، وجد عليه أن يعود إلى ذلك الفقيه؛ لأن الله -عزَّ وجلَّ- قال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾، ما قال من ينقلون كلام أهل الذكر، ولأن في مراتٍ كثيرةٍ قد يجعلون أو يُنزلون المسألة في غير محلها، ومن الأمور المتعلقة بهذا أنه في مراتٍ كثيرةٍ قد يحصل خلطٌ للمسائل بعضها ببعضٍ، يتعلق بهذا أيضًا أنه لا يصح للإنسان أن يفتي في مسألةٍ بناءً على ما يشاهده في بعض هذه الكتب، بعض الكتب قد يُراد بها ألفاظٌ ومصطلحاتٌ مغايرةٌ لما يتداوله الناس، يعني مثلًا نجد كلمة التأمين عندنا يأتيك واحدٌ يقول: التأمين يرحب به الأئمة، ويقولون: التأمين مستحبٌ، ويكون مقصودهم هناك كلمة آمين، وهذا يريد التأمين الذي يتعامل به الناس بالتأمين على السيارات، أو غيرها، ويكون قد أنزل كلام الأئمة على غير مرادهم، وأنا أستحضر مثلًا قضية جاء واحدٌ وذهب من عرفة إلى مزدلفة في الحج، فلما صلى الفجر، أو قبيل الفجر، ذهب إلى الحرم مباشرةً، فطاف وسعى ثم قصر ثم ذهب إلى شقته في مكة هو وزوجته فجامعها قبل أن يرمي، فأخذ كتابًا من كتب الفقه، وهو مختصر الخرقي أو شرحه المغني، فوجد فيه من جامع أهله قبل أن يرمي فسد حجه، وعليه بدنةٌ، وعليه أن يتم مناسكه، وعليه أن يحج من قابلٍ، فلو طبقها على نفسه، لكان حينئذٍ مخالفًا للحكم الشرعي؛ لأن من جامع بعد التحلل الأول، لم يفسد حجه، وهو هنا التحلل الأول يحصل باثنين من ثلاثة، الرمي، والطواف، والحلق، وهذا قد طاف وحلق، وبالتالي حل التحلل الأول، ومن ثم لم يفسد حجه بهذا الجماع، ولم يجب عليه حجٌ من قابلٍ، ولم يجب عليه بدنةٌ، لماذا؟ من أين نشأ هذا؟ لأنهم في زمانهم لا يتصورون أن أحدًا سيمر بمنى، ويترك الرمي، ويذهب إلى الحرم ليطوف، وهذه في طريقه، ما علموا أنه سيكون هناك وسائل اتصالٍ حديثةٌ، وسيكون هناك طرقٌ معبدةٌ، وسيكون هناك اختلافٌ للوضع الأول بشكلٍ كاملٍ، هكذا فيه هناك مسائل كثيرةٌ، قد يتكلمون بناءً على وجود أشياء في عصرهم، وقد يكون هناك مصطلحاتٌ يتغاير مفهوم الناس فيها، وفي مراتٍ قد يأخذ بعض العوام لفظةً، وينزلونها بمفهوم العامة في مثل زماننا الحاضر، وبالتالي نؤكد على أن أخذ الفتوى لا يكون من هذه الكتب الفقهية، وهذه الكتب الفقهية لها قيمتها، ولها منزلتها، باعتبارها طرائق للتعلم؛ لأن طريقة الأئمة الأوائل قد ضبطت، وعُرف ما يكون موافقًا لها في الحكم، وجُعل هذه المذاهب من أجل أن تكون أحكامها متناسقةً، وألا يوجد فيها شيءٌ من الاضطراب.
{الناقل المقلد في القرى لا يوجد علماء، فيأتي واحدٌ من القرية، ويتعلم من البلد ويعود إلى القرية، فهل لا يصلح أن يكون أهل القرية الذين لم يتمكنوا من الحضور أن يأخذوا منه؟}.
هناك فرقٌ بين الفتوى والتعليم، هو الآن سيذهب إليهم، وسيقوم بتعليمهم الصلوات، سيقوم بتعليمهم ماذا يجب عليهم شرعًا، هذا تعليمٌ، فرقٌ بين التعليم وبين الفتوى، ولذلك لما جاء مالك بن الحويرث ومن معه من الشببة المتقاربين، فجلسوا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بضعة عشر ليلةً، ثم أمرهم أن يعودوا إلى أهليهم، وأن يعلموهم أن يصلوا صلاة كذا لوقت كذا، وبالتالي هذا تعليمٌ، ليس مما نحن فيه، نحن الآن نتكلم عن الفتوى، وهذه الفتوى قد يكون فيها مسائل متعلقةٌ بحقوقٍ وبدماءٍ، وبمحارم، وبأعراضٍ، وبالتالي لابد أن نضبط حكم الله -عزَّ وجلَّ- فيها، وهناك ما يتعلق بالتعليم.
ولذلك هذا يبرز لنا حاجة أن يوجد في الأمة علماء مجتهدون، ولابد أن نسعى إلى تسهيل هذا الاجتهاد، وأن يكثر هؤلاء المجتهدون، لا نريد هذا الذي تعلم التعليم الشرعي، وأخذ سنواتٍ عديدةً، يعود مرةً أخرى ليصبح مقلدًا، نريده أن يكون مجتهدًا عنده الأدوات، عندنا مثلًا قواعد علم الأصول التي أخذناها، هذا درسها وكررها، وطبقها، فنحتاج منه أن ينشط ذهنه، وبالتالي كلما وردت عليه مسألةٌ يبحث في المسألة من جديدٍ، وينظر في الأقوال والأدلة، وينظر لما يترجح لديه منها، وبالتالي أوجدنا شخصيةً فقهيةً، وأوجدنا عالمًا مجتهدًا، لكن الإشكالية أن هؤلاء الذين يتعلمون يعودون مرةً أخرى ويصبحون عوامًا بتركهم لهذا الاجتهاد، يصبح مجرد ناقلٍ للفتوى، وهذا مسئولية هؤلاء الذين يأتون يؤجلون سنواتٍ طويلةً عليهم أن يتقوا الله -عزَّ وجلَّ-، عندهم الأهلية، وبالتالي لا يجوز لهم أن يقلدوا، يجب عليهم أن يُعملوا علومهم التي درسوها.
وهذا الذي جعل هناك تبلدًا عند الناس، أنهم يبدؤون يتركون الجهاد في المسألة، هؤلاء ما يجوز لهم أن يقلدوا، الذين تأهلوا، الذين وجدت فيهم الشروط الأربعة التي ذكرت قبل قليلٍ.
أسأل الله -جلَّ وعلَا- أن يتقبل منا ومنكم، وأن يستعملنا جميعًا وإياكم في طاعته، كما نسأله -جلَّ وعلَا- أن ينشر العلم في الأمة، وأن يوجد فيها الفقهاء المجتهدون، أن يوجِد في الأمة علماء فقهاء مجتهدين، يقودون الأمة، ويعيدونها إلى كتاب الله -عزَّ وجلَّ-، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم، كما أسأل الله -جلَّ وعلَا- أن يجزي القائمين على هذه الأكاديمية، وأن يوفقهم لخيري الدنيا والآخرة، كما أسأله -جلَّ وعلَا- لمخرجنا، والفنيين التوفيق لما يحب ويرضى.
اللهم اجعل عملهم خالصًا لوجهك، اللهم ارزقهم توفيقًا، واملأ قلوبهم سرورًا وتقوى، اللهم أصلح أحوال الأمة، وردهم إلى دينك ردًا حميدًا، اللهم اجعلهم متآلفين فيما بينهم، اللهم احقن دماءهم، اللهم اجمع كلمتهم على الحق، كما نسأله -جلَّ وعلَا- أن يوفق ولاة أمور المسلمين للحكم بشريعته، وأن يجعلهم من أسباب الخير والهدى والتقى وصلاح الناس، اللهم أصلحهم وأصلح بهم، اللهم أصلحهم وأصلح بهم، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك