الدرس السابع

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

16525 12
الدرس السابع

الأصول من علم الأصول

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد..
فأرحب بكم في لقاءنا السابع من لقاءاتنا في الأكاديمية في مقرر علم الأصول، نشرح فيه كتاب الأصول من علم الأصول للشيخ العلامة محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى.
تقدم معنا أنه لا يوجد تعارضٌ حقيقيٌّ في الشريعة، وذلك أن الشريعة يصدق بعضها بعضًا، ولكن قد يقع تعارضٌ في ذهن المجتهد ومن ثم نحتاج إلى معرفة طرق درء التعارض.
فأول ذلك: أن نحاول الجمع بين الدليلين المتعارضين، فإذا أمكن الجمع بالتخصيص أو بالتقييد أو بالتأويل أو بحمل أحد الدليلين على محلٍ والآخر على محلٍ آخر عملنا به، فإن لم نتمكن من ذلك نظرنا في التاريخ، فجعلنا المتأخر ناسخًا للمتقدم، فإن عجزنا نظرنا للترجيح فنأخذ بالأقوى الأرجح.
وتكلمنا فيما مضى عن طرائق الجمع، وابتدأنا في الحديث عن الطريق الثاني من الطرق، ألا وهو الكلام عن النسخ.
والنسخ قد يكون فيه دليلٌ واضحٌ، يدل على ثبوت النسخ، وقد يكون باجتهاد المجتهدين من خلال النظر في تعارض الأدلة وعدم القدرة على الجمع بينها ومعرفة التاريخ، فنجعل المتأخر ناسخًا للمتقدم.
وذكرنا أن النسخ رفع حكمٍ ثابتٍ بخطابٍ متقدمٍ بخطابٍ متراخٍ عنه.
وحينئذٍ نعرف أن النسخ يتكون من رفع حكمٍ ثابتٍ بخطابٍ متقدمٍ، ومن ثم فهناك عددٌ من الشروط في النسخ.
الأول: أن يكون الحكم الأول ثابتًا بواسطة نصٍ متقدمٍ، فإن ثبت بالإباحة الأصلية فإنه لا يعد نسخًا، مثال ذلك:
جاء في أول الإسلام تحليل الخمر، ثم جاء تحريمه في آخر الأمر، فحينئذٍ نقول إباحة الخمر في أول الإسلام لم تثبت بنصٍ، وإنما ثبتت بالإباحة الأصلية، فمن ثم دليل تحريم الخمر لا يعد ناسخًا للدليل المتقدم عليه.
الشرط الثاني أن يكون هناك رفعٌ للحكم بالكلية، أما إذا كان تخصيصًا أو تقييدًا، أو بيانًا لمجملٍ، فهذا لا يعد نسخًا.
والأمر الثالث: أن يتعذر الجمع بين الدليلين، فإن أمكن الجمع بينهما فحينئذٍ نكتفي بالجمع لأن إعمال الدليلين أولى من ترك أحدهما.
والشرط الرابع: أن يكون الناسخ متأخرًا، فإن كان الناسخ متقدمًا لم يصح أن يكون ناسخًا، لأن حقيقة النسخ رفع حكمٍ شرعيٍّ ثابتٍ بخطابٍ متقدمٍ بواسطة خطابٍ متراخٍ عنه.
ولابد أن يكون الحكم الآخر الناسخ أيضًا ثابتًا بواسطة خطابٍ، وحينئذٍ نقول بأن هناك حالتين للنسخ، الأولى: عند وجود التعارض الذهني، وعدم إمكان الجمع.
والثانية: في حالة وجود دليلٍ يدل على وجود النسخ.
النسخ على أنواع:
منها: ما نسخ رسمه وتلاوته وبقي حكمه، ومن أمثلة ذلك آية الرجم، فقد نسخ رسمها وبقي حكمها.
والنوع الثاني: ما نسخ حكمه وبقيت قراءته، ومن أمثلة ذلك قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ [الأنفال: 65]، نسخت بالآية التي بعدها: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ [الأنفال: 66].
والنوع الثالث: أن ينسخ الحكم وكذلك الرسم والتلاوة، ومن أمثلة ذلك ما ورد في الحديث، حديث عائشة قالت: كان فيما أنزل عشر رضعاتٍ محرماتٍ فنسخن بخمسٍ.
إذن هذه أنواع النسخ، وحينئذٍ لابد أن نعرف أن الناسخ لابد أن يكون ثابتًا، لا يصح أن يكون النسخ بدليلٍ ضعيفٍ، ولا باجتهاداتٍ لكن هل يشترط التساوي في الناسخ والمنسوخ، هنا قد يرد حكمٌ في القرآن يُنسخ بحكمٍ في القرآن، مثل آية المصابرة التي ذكرنا قبل قليلٍ.
وقد يرد حكمٌ في السنة فينسخه دليلٌ من القرآن، كمثل التوجه إلى بيت المقدس في الصلاة، ثبت بالسنة في أول الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك بقوله جلَّ وعلَا: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ﴾ [البقرة: 144].
والنوع الثالث: أن يأتي دليلٌ في السنة فينسخه دليلٌ في السنة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروه».
والنوع الرابع: نسخ حكمٍ ثابتٍ في القرآن بدليلٍ من السنة، وهذا قد وقع فيه اختلافٌ بين العلماء، والجمهور يقولون بوجوده، وقد يمثلون بقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ﴾ [البقرة: 180]، نُسخ بما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا وصية لوارث».
وهكذا في مثل قوله تعالى: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [الأنعام: 145]، فهنا الحكم ثبت بالقرآن بحصر المحرمات في المذكور، ثم بعد ذلك جاءنا في السنة تحريم بعض الأشياء الأخرى من مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية»، وحديث نهى عن كل ذي نابٍ من السباع.
إذن عرفنا ما يتعلق بأنواع المنسوخات.
كذلك يمكن تقسيم النسخ إلى: نسخ متواترٍ بمتواترٍ كنسخ القرآن بالقرآن.
ونسخ آحادٍ بآحادٍ كالحديث السابق.
ونسخ آحادٍ بمتواترٍ.
ونسخ متواترٍ بآحادٍ، وقد وقع خلاف في هذا القسم الأخير.
هكذا أيضًا يمكن أن نتطرق إلى جزئيةٍ مهمةٍ وهي قد يكون فيها بعض الالتباس، يقول بعض الناس ما فائدة النسخ، ولماذا لم يقرر الحكم ابتداءً، ولم نحتج إلى النسخ؟
فنقول هذا له فوائد: منها التدرج في زمن التشريع، لأن الأحكام أول ما تقرر تحتاج النفوس إلى تهيئةٍ من أجل قبولها، وبالتالي يكون هناك تدرجٌ.
والشيء الثاني أنه قد يكون هناك رغبةٌ في إظهار التخفيف في حكم الشرع، وإظهار حكمة أحكام الشرع، وهكذا أيضًا من الفوائد اختبار العباد، هل يقبلون ويرضون ما جاء عن الله عزَّ وجلَّ، وكذلك اختبار الإيمان عند الإنسان، هل يقبل بالحكم ولو نسخت التلاوة، أو لا.
وهكذا أيضًا فيه بيان فضل هذه الأمة على الأمم السابقة، من حيث نسخ هذه الشريعة للشرائع السابقة.
ومن الأمور التي تتعلق بهذا الجانب أن من فوائد النسخ مراعاة مصالح الخلق، قد يحتاج الناس إلى أحكامٍ جديدةٍ تتعلق بتحقيق مصالحهم، هكذا لأنه قد يصلح لأحوال الناس، وقد يصلحهم شيءٌ في وقت لكنهم لا يصلح لهم في وقتٍ آخر.
كذلك من المصالح ومن حكم النسخ جعل العباد يشكرون الله على ما يقرره عليهم من الأحكام.
فيه إشكال في وسائل النسخ، واضح.
إذن ننتقل إلى موضوعٍ جديدٍ، وهو موضوع الأخبار.
المراد بالأخبار ما نقل بواسطة الإسناد، وهناك أخبارٌ منقولةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك أخبارٌ منقولةٌ عن الصحابة رضوان الله عليهم.
البحث في الإسناد يبحثه علماء الأصول ويبحثه علماء المصطلح، لكن علماء الأصول يبحثونه من جهة تقرير عددٍ من الأمور:
أولها: تقرير أخذ الأحكام، كيفية أخذ الأحكام من هذه الأخبار.
والأمر الثاني: في النظر في حجية هذا الخبر، المحدث ينظر في التصحيح والتضعيف، لكن عند الأصولي ينظر في صحة الاحتجاج بهذا الخبر وحكم أخذ الأحكام من هذا الخبر.
الأمر الثالث الذي يعنى به الأصولي: ما يتعلق النظر في تقرير الحكم من جهة أيها أقوى من الآخر، عند المحدث ينظر في التصحيح والتضعيف، عند الأصولي يبحث أيضًا في النظر في الأقوى منها من أجل أن يرجحه عند وجود التعارض.
وبذلك نعرف التمايز بين البحث الحديثي وبحث علماء الأصول فيما يتعلق بالخبر، إذن هناك فرقٌ بين الطريقتين.
ما هو الخبر؟
الخبر في اللغة النبأ، تقال هذه نشرة الأخبار، يعني التي فيها ذكر للأنباء والوقائع التي حصلت بين الناس.
والمراد بالخبر هنا عند الأصوليين هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ، وعلماء الحديث يزيدون: أو وصفٍ، أما علماء الأصول لا يذكرون هذه اللفظة، لماذا؟ لأن علماء الأصول يعنون بالأخبار التي يؤخذ منها أحكامٌ، وأما علماء الحديث فيعنون بكل ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بناءً على ما سبق نعرف أنه ثلاثة أنواعٍ:
النوع الأول: ما يتعلق بالأقوال.
مثل، أحمد.
{حديث أبي حفص عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمال بالنيات» هذا قول}
نعم، هذا مثالٌ جيد.
مثال للأفعال، صهيب..
{كيفية أدائه صلى الله عليه وسلم مناسك الحج}
جيد، سمير.. السنة التقريرية.
{أكل لحم الضب}
إذن تقدم معنا الكلام في القول وعرفنا أحكامه وكيف تؤخذ منه الأحكام، وأنواع الألفاظ، فيطبق على السنة القولية، أما السنة الفعلية فإن الأفعال النبوية تنقسم إلى عددٍ من الأقسام.
الأول: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم جِبلةً، أو عادةً، فهذا يؤخذ منه إباحة هذا الفعل، ولا يؤخذ استحباب هذا الفعل، مثال ذلك: ركوب النبي صلى الله عليه وسلم على الجمل، هل هو عبادةٌ، نقول لم يفعله عبادةً، وبالتالي هذا فعله عادةً، لأن هذا شأن أهل زمانه، وبالتالي نقول هذا مباحٌ، لأنه من أفعال العادات، كونه مشى أو نام أو جلس هذه أفعالٌ جبليةٌ، وبالتالي لا يؤخذ منها استحباب هذه الأفعال، مثل هذا أيضًا كونه صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء، هذا فعل جبليٌّ، وبالتالي لا نأخذ منه استحباب هذا الأمر، وإنما يؤخذ منه إباحته.
هكذا أيضًا كونه صلى الله عليه وسلم كان يربي شعره، هذا فعله عادةً، لأن عادة أهل زمانه يفعلونه، ففعله لفعلهم، فنقول هذا مباحٌ، أيضًا كونه صلى الله عليه وسلم اتخذ الخاتم، لماذا اتخذ الخاتم؟ قيل له بأن أهل زمانك لا يقبلون الكتاب إلا إذا كان مختومًا، فاتخذ صلى الله عليه وسلم الخاتم.
إذن هذا هو النوع الأول، ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم جبلةً أو عادةً، ما الحكم فيه؟ أنه مباحٌ، ما الدليل على أن الخاتم من أفعال العادات؟ لأنه لم يتخذه إلا لما قيل له بأن ملوك زمانك لا يقبلون الكتاب إلا إذا كان مختومًا.
وما حكم هذا الفعل؟ نقول هذا الفعل يكون على الإباحة، وليس على الاستحباب ولا على الوجوب.
قد يقول قائلٌ: فعله النبي صلى الله عليه وسلم فنفعله تأسيًّا به، فنقول النبي صلى الله عليه وسلم فعله عادةٌ، وأنت يا أيها الإنسان تفعله عبادةً، فأنت وإن وافقته في الفعل الظاهر، لكنك تخالفه في النية الباطنة، والموافقة في النية أولى من الموافقة في الأمر الظاهر.
واضح هذا القسم الأول.
القسم الثاني: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
هناك أفعالٌ اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه تكون خاصةً به صلى الله عليه وسلم، من يمثِّل له بمثالٍ؟ أحمد
{كزواجه صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربعٍ، وتحريم نسائه على المؤمنين}
نعم، زواج النبي صلى الله عليه وسلم بتسعٍ، مع قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: 3]، فدل هذا على أنه لا تجوز الزيادة على أربعٍ، وجاء في حديث غيلان الثقفي أنه لما أسلم وكان معه عشر نسوةٍ أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسك أربعًا، وأن يفارق سائرهن، فدل هذا على أن الزواج بأكثر من أربعٍ من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
ومثله في قوله تعالى: ﴿وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ [الأحزاب: 50]، فالزواج بمن تهب نفسها هذا خاصٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم، ما يأتينا أحدٌ منكم ويقول أنا وهبتني فلانة نفسها وسأتزوجها، نقول لابد من مراعاة شروط الزواج، لابد من وليٍّ، لابد من شهودٍ، لابد من جميع شروط النكاح وأركانه.
وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا خاصٌّ به، ومن أمثلة عدم زواج زوجاته بعده صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَد﴾ [الأحزاب: 53]، فدل هذا على عدم جواز الزواج بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم.
النوع الثالث من الأفعال النبوية: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لبيان واجبٍ، أو بيان أمرٍ مشروعٍ، فيأخذ حكم ما هو بيانٌ له، مثال ذلك: خطبة الجمعة واجبةٌ، جاء النبي صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر وسلم ثم جلس ليؤذن المؤذن، ثم قام للخطبة الأولى ثم جلس بين الخطبتين ثم قام وخطب الخطبة الثانية، وكانت خطبه مشتملةً على حمدٍ وثناءٍ على الله، وصلاةٍ على نبيه، ودعاءٍ وموعظةٍ، فنقول هذه الأفعال وقعت بيانًا للواجب في الأمر بإقامة صلاة الجمعة، فبالتالي تكون هذه الأفعال واجبةً، لأنها وقعت بيانًا لواجبٍ شرعيٍّ.
إذا تقرر هذا فإن هذا النوع له أمثلةٌ كثيرةٌ فكل ما وقع كذلك فإنه يكون له حكم ما هو بيانٌ له، لكن في بعض المرات قد يأتي الفعل ثم يأتينا قولٌ يدل على عدم وجوب ذلك الفعل، مثلًا الصلاة واجبةٌ وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة هنا نقول الأصل أن تكون واجبةً لأنها بيانٌ للصلاة الواجبة، لكن هناك أشياءٌ لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته، فدل هذا على عدم وجوبها، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعلها، فنحملها على الاستحباب.
الأصل أن نحملها على الوجوب، لكن لورود هذا الدليل قلنا بأنها ليست على الإيجاب.
ومثل هذا أيضًا ما يتعلق بمناسك الحج، الأصل أن أفعاله صلى الله عليه وسلم على الوجوب في أمور المناسك، ولكن هناك أفعالٌ رخص فيها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ومن ثم قلنا بأنها ليست على الوجوب.
النوع الآخر من الأفعال النبوية ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عبادةً، وتقربًا لله جلَّ وعلَا، فهذا النوع قد اختلف العلماء فيه فقالت طائفةٌ بأنه على الوجوب، لأن الله عزَّ وجلَّ قال: ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158]، والأصل في الأمر (اتبعوه) أن يدل على الوجوب، ثم علق الهداية به ونحن مأمورون بأن نسلك طريق الهداية، والجمهور على أن هذا النوع من الأفعال ليس على الوجوب وإنما على الاستحباب.
استدلوا على ذلك بأن بعض الصحابة قد ترك شيئًا من الأفعال النبوية، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان اتباع الأفعال النبوية العبادية على جهة الوجوب، لأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم.
إذن هذه المسألة وهي أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي يتقرب بها لله ويعبده هل هي على الوجوب أو على الاستحباب من مواطن الخلاف.
فهناك طائفةٌ قالوا هي على الوجوب، هذا قولٌ قويٌّ عن الأصوليين، والقول الآخر بأنه على الاستحباب وليس على الوجوب، ولعل هذا القول أظهر من القول الآخر.
ذكر المؤلف هنا عددًا من المباحث ومنها مثلًا ما ذكره، قال المؤلف رحمه الله: الفعل فإن فعله أنواعٌ، الأول: ما فعله بمقتضى الجبلة كالأكل والشرب والنوم، فلا حكم له في ذلك، قلنا فيكون مباحًا.
الثاني: ما فعله بحسب العادة، كصفة اللباس، فيكون مباحًا في حد ذاته، إلا أن يأتي له دليلٌ أو سببٌ ينقل هذا الحكم.
والثالث: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوصية، فيكون مختصًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة ذلك الوصال في الصوم، والنكاح بالهبة، امرأةٌ وهبت نفسها للنبي، ولا يحكم بالخصوصية إلا بدليلٍ، الأصل أن كل حكمٍ ثابتٍ للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يكون شاملًا لأمته، فلا يقال بأن هذا الحكم من خصائصه إلا إذا قام الدليل على ذلك.
الرابع: ما فعله تعبدًا، فيكون واجبًا عليه صلى الله عليه وسلم حتى يحصل البلاغ لوجوب التبليغ عليه، أما في حقنا فقد اختار المؤلف فإنه يكون على الاستحباب على أصح الأقوال، لأن فعله تعبدًا يدل على مشروعيته، والأصل عدم العقاب على الترك فيكون مشروعًا مستحبًا لا عقاب في تركه.
ومثَّل لذلك بما ورد من حديث عائشة أنها سئلت بأي شيءٍ كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ إذا دخل بيته، قالت رضي الله عنها: بالسواك، فهنا فعلٌ نبويٌّ، لكن نقول هذا الفعل من العبادات، فالأصل أن يكون مندوبًا.
إذن ليس في السواك عند دخول المنزل دليلٌ إلا هذا الفعل النبوي، فيدل هذا على استحباب هذا الفعل.
ومن أمثلته ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته في الوضوء، فتخليل اللحية ليس داخلًا في غسل الوجه، ليكون بيانًا لمجملٍ، وبالتالي يكون فعلًا مجردًا فيكون مندوبًا.
قال القسم الخامس: ما فعله بيانًا لمجملٍ من نصوص الكتاب أو السنة، فواجبٌ على النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن يحصل البيان بفعله ولوجوب التبليغ عليه، ثم بعد ذلك يكون له حكمٌ مماثلٌ لحكم النص والدليل الذي ورد في بيانه.
فإن كان الأصل في الفعل واجبًا، كان ذلك البيان من الفعل النبوي على الواجبات وإن كان مندوبًا كان من المندوبات.
مثَّل له المؤلف بأفعال الصلاة الواجبة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا لمجمل قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [البقرة: 43]، فهذا دليلٌ على وجوب هذه الأجزاء المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومثَّل للمندوب بقوله: صلاته ركعتين خلف المقام بعد أن فرغ من الطواف، بيانًا لقوله تعالى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: 125].
فقالوا بأن صلاته هنا ليست على سبيل الوجوب، لماذا؟ لأنه كان بيانًا لمندوبٍ، ولكن الطواف واجبٌ، ولقوله تعالى: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ﴾ [الحج: 29]، فيكون بيانه بهذه السنة الأصل أن يكون على الوجوب، لكن صرفناه عن الوجوب لدليلٍ آخر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الواجب من الصلاة قال: «خمس صلواتٍ في اليوم والليلة»، إذن هذه أنواع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم.
إذا وردنا فعلٌ وقولٌ يعارضه فماذا نفعل؟
نقول نحاول الجمع، فإن تمكنا من الجمع تعيَّن الجمع، فإن لم نتمكن من الجمع رجحنا القول على الفعل، لأن الفعل يحتمل أن يكون خاصَّا به، مثال ذلك: نهى عن الوصال فكان يواصل، فقالوا: يا رسول الله إنك تواصل، إذن عارضوا بين القول والفعل، ما قال لهم: لا حق لكم في المعارضة، وإنما بيَّن لهم سببًا آخر، فقال: «إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني»، فهناك سببٌ وعلةٌ خاصةٌ بهذا الأمر.
ونورد مثالًا للتعارض، ورد في الحديث، حديث أنس أن ثوب النبي صلى الله عليه وسلم انحسر عن فخذه، مع أنه قد ورد في أحاديث أنه قال: «غط فخذك فإن الفخذ عورةٌ»، فماذا نفعل عند هذا التعارض؟
نقول نحاول الجمع، من أوجه الجمع مثلًا، أن يقال: بأن قوله انحسر عن فخذه يحتمل أن يراد به الساق، لأن الساق أو أعلى الساق قد يسمى في لغة العرب فخذًا، ويمكن أن نقول مثلًا: قوله انحسر ثوبه عن فخذه يعني بغير قصدٍ منه، وأنه إنما انكشف بغير اختيارٍ، بخلاف الحديث الآخر فمراده فيمن كان مختارًا متعمدًا.
وهناك طرائق أيضًا من طرق الجمع غير ما ذكرنا.
النوع الثالث من أنواع السنة النبوية التقرير.
فإذا قرر النبي صلى الله عليه وسلم أحد الناس على فعلٍ مباحٍ كان ذلك الفعل مباحًا، ومن أمثلته الإقرار على أكل لحم الضب، فنقول هذا يدل على إباحته لأنه قد أُكل على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم بحضرته، وإقراره، فيكون مباحًا.
والنوع الثاني إذا أقر على عبادةٍ، فإن هذا يدل على استحباب هذه العبادة، ومن أمثلة هذا سنة القتل، فإن خبيب بن عدي لما أراد أهل مكة أن يقتلوه، طلب منه أن يمهلوه ليصلي ركعتين، فصلاها، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وأقره، فدل هذا على استحباب هذا الفعل، إذن الإقرار إما أن يكون على فعلٍ مباحٍ فيكون مباحًا، وإما أن يكون على عبادةٍ فيكون ذلك الفعل من المستحبات.
مثَّل المؤلف بالإقرار قال: الإقرار ينقسم إلى قولين: إقرارٌ على قولٍ وإقرارٌ على فعلٍ.
ومثَّل له بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم للجارية لما سئلت أين الله؟ قالت: في السماء، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليها.
وأما النوع الثاني فالإقرار على الفعل كما لو شاهد أحدًا يفعل فعلًا فأقره عليه، ومن أمثلة هذا مثلًا ما ورد في الحديث أن رجلًا قام بعد صلاة الفجر فصلى سنة الفجر، فنقول هذا دليلٌ على جواز وعلى مشروعية أداء سنة الفجر بعدها، لمن فاته فعلها قبل أو في أثناء الوقت.
ومن أمثلته ما ذكره المؤلف هنا بصاحب السرية، الذي كان يقرأ لأصحابه فيختم بقل هو الله أحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سلوه لأي شيءٍ يصنع ذلك»، فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأها، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبروه بأن الله يحبه.
مثالًا آخر في الحديث أن الحبشة لما دخلوا المسجد كانوا يلعبون فيه بالدراق وما معهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم سكت عنهم وأقرهم ولم ينكر عليهم.
ومن أمثلة ذلك ما ورد في الخبر أيضًا بأن رجلًا صلى الفجر وهو جنبٌ، من غير وضوءٍ، لما خشي على نفسه، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وأمره في مثل هذه الحال بأن يتيمم.
ومن أمثلة هذا لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سريةً فيهم أبو سعيد فوجدوا رجلًا من المشركين لديغًا فقرأوا عليه، فدل هذا على أن الرقية على الكافر جائزةٌ ولا حرج في مثل ذلك.
لكن هناك أشياءٌ وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل عنه أنه أقرها، أو رضي بها، فحينئذٍ ما حكم هذه الأفعال؟
مثال ذلك: جاء في حديث جابر قال: كنا نعزل والقرآن ينزل، ولو كان شيءٌ ينهى عنه لنُهي عنه، فحينئذٍ نقول هذه سنةٌ إقراريةٌ، لأن الله أقرها وليس لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها، وهذا النوع حجةٌ لإقرار الله عزَّ وجلَّ له، وقد استدل عددٌ من الصحابة بمثل هذا فاستدلوا بحديث العزل وأنهم قالوا: كنا نعزل والقرآن ينزل، قالوا: بأن الله عزَّ وجلَّ أقرهم على ذلك ولم ينكر عليهم.
قال: ولو كان شيءٌ ينهى عنه لنهانا عنه القرآن.
لماذا قلنا بأن ما فُعل في عهد النبوة حجةٌ لأن الله لا يسكت عن شيءٍ من الأحكام الشرعية إلا لدليلٍ شرعيٍّ، فإقرار الله على هذا الفعل حجةٌ، وأما ما كان ليس كذلك، ولا يتوافق مع المقصود الشرعي فإنه لا يكون حجةً شرعيةً.
وقد ورد أن المنافقين قد يخفون الآية فيُبنها رب العزة والجلال، وينكرها عليهم، فدل هذا على أن إقرار الله عزَّ وجلَّ جائزٌ، وأنه يدل على جواز ذلك الفعل بشرط أن يكون الفاعل من أهل الإسلام وممن يتورع عن المحرمات.
نتكلم الآن عن طريقة الرواية.
الصحابي قد يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم بطرقٍ متعددةٍ.
الطريق الأول: ما صُرح فيه بالاتصال تصريحًا صريحًا، كما لو قال: سمعت فلانًا يقول، رأيت فلانًا يفعل كذا، فهذا له حكم الرفع صراحةً ولا إشكال فيه.
النوع الثاني: أن يأتي الصحابي بلفظةً تحتمل الانقطاع، ومن أمثلته لو قال الصحابي عن رسول الله، أو إن رسول الله، أو نحو ذلك، فهذا النوع أيضًا يجزم بنسبته للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان الأولى أن يأتي ويحكي اللفظ الوارد عنه.
وأما المرتبة الثالثة: فأن يأتي الصحابي وينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعلًا بنوع فهمٍ له، يعني الصحابي يشارك في الفهم، كما لو قال قضى رسول الله بالشفعة، فالصحابي فهم، رخص في كذا، نهى عن كذا، قد يكون فيها مشاركةٌ في الفهم، فهذا أيضًا النوع، الصواب أنه حجةٌ ويحكم بأنه مرفوعٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي مراتٍ قد يؤتى بهذه الصيغ بطريقة مفهوم المبني على المجهول، كما لو قال: قيل عن رسول الله، وبُلِّغ عن رسول الله، ونحو ذلك، فهذه الرتبة أقل.
إذن عندنا خمس رتبٍ، نعيدها من جديدٍ.. انتبهوا معي.
واحد صريح في نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم وصريحٌ في معناه، قال: سمعت رسول الله يقول: «إنما الأعمال بالنيات».
النوع الثاني: صريحٌ في معناه لكنه يحتمل الانقطاع من جهة سنده، كما لو قال الصحابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فهذا أقل رتبةٍ من الأول.
الثالث: نسبة فعلٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بنوع فهمٍ، كما لو قال: قضى بالشفعة، هذا أصله قضيةٌ واحدةٌ في الشفعة، فحورها اللفظ، وهذا أيضًا حجةٌ ويصح الاستدلال به.
والنوع الآخر: الإتيان بهذه الصيغ السابقة بصيغة البناء على المجهول، لو قال: قيل عن رسول الله كذا، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فإذا قال: أُمرنا بكذا، وقُضي بكذا، فإذا جاء الصحابي وقال هذه اللفظة فإننا نحملها على أن المراد بها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد يكون هناك بعض من يجد شيئًا من السنن فيقول من السنة كذا، فإنه يحمل على هذا النوع لأن الراوي قد اجتهد في فهم هذه السنة.
وأما الرتبة الخامسة: فإذا قال الصحابي كانوا يفعلون، فهذا على أي شيءٍ نحمله، هل هو إجماعٌ، أو فعلٌ لبعض الصحابة، فنقول إذا قال: كانوا يفعلون فإننا نحمله على عهد النبوة، ونصرفه إليه صلى الله عليه وسلم.
إذن هذه خمسة أقسامٍ من أقسام خبر الواحد، فإننا نحكم بصحتها ونحكم بأنها مما يعد من المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكرنا أيضًا ما وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بهل هو حجةٌ أو لا، قلنا الصواب أنه حجةٌ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطلٍ.
إذن هذا تقسيمٌ للخبر، كذلك يمكن أن يقسم الخبر ثلاثة أقسامٍ:
أخبارٌ منسوبةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم يقال لها المرفوع.
الثاني: أخبارٌ موقوفةٌ على الصحابي، يقال عنها: الموقوف.
الثالث: ما يروى عن من بعدهم، يسمى المقطوع.
تفرقون بين المقطوع والمرسل، المقطوع من كلام التابعي، والمرسل منسوبٌ للنبي صلى الله عليه وسلم بدون ذكر الصحابي الراوي.
قال المؤلف: فالمرفوع ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم حقيقةً أو حكمًا، هناك المرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم على نوعين:
مرفوعٌ حقيقةً، كما لو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات» هذا مرفوعٌ حقيقةً.
وهناك ما يرفع حكمًا، المرفوع حكمًا، كما لو ذكر الصحابي أشياءً تتعلق بالجنة، وهذا الصحابي لا يعرف بالإسرائيليات، لا يمكن أن يأتي الصحابي بهذا من كيسه، فحينئذٍ هذا يدل على أنه منقولٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف: فالمرفوع حقيقةً قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وإقراره، والمرفوع حكمًا ما أضيف إلى سنته، من أمثلته ما أضيف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الصحابي من السنة كذا.
وهكذا ما أضيف إلى عهد النبوة، من أنواع المرفوع ما لو قال الصحابي أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، فهذا ظاهر كلام المؤلف أنه مرفوع حكمًا، والجمهور يقولون بأنه مرفوعٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم حقيقةً وليس حكمًا.
ومثَّل له بحديث: أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، فكلمة أُمر هنا من هذا القسم، تعد من المرفوع حكمًا، وليس المرفوع حقيقةً.
ذكر المؤلف قول أم عطية: نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا، فقولها: نهينا يحمل على من؟ ولدها أو والدها أو أحد الصحابة؟ تقول: نهينا عن اتباع الجنائز، هي صحابيةٌ، إذن النهي هنا ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم على وفق الأحكام السابقة.
هل يعطى حكم المرفوع؟ جاءتنا أم عطية وقالت: نهينا عن اتباع الجنائز، وجاءنا مثلًا الحسن البصري فروى عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرًا بدون ذكر الصحابي، هل هما في مرتبةٍ واحدةٍ، نقول: لا، الأول متصلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف الثاني فإنه مرسلٌ قد سقطت بعض طبقات الإسناد فيه.
إذن هناك ترددٌ فيما لو قال: نهينا أو أمرنا، فطائفةٌ تقول هذا من المرفوع حقيقةً، وليس من المرفوع حكمًا.
إذن هذا القسم يحتاج إلى زيادة ترتيبٍ مرةً أخرى.
هذا كله في المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
القسم الثاني: الموقوف.
وهو قول الصحابي الذي اشتهر في الأمة ولم يوجد له مخالفٌ، سنأتي عند الحديث عن الصحابي، بيان أحكامه وما يتعلق بهذا الجزء، إذن النوع الثاني الموقوف وهو المضاف إلى أحدٍ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس له حكم الرفع، وهو حجةٌ، يعني أن الموقوف الذي هو قول الصحابي حجةٌ، المؤلف يختار أنه حجةٌ ودليلٌ شرعيٌّ، إلا أن يخالف نصًّا أو صحابيًّا آخر، فحينئذٍ يقولون نقدم المرفوع عليه.
فإن خالف نصًّا، أُخذ بالنص وإن خالف قول صحابيٍّ، أُخذ بالراجح منهما.
هذا قول من؟ هذا قول طائفةٍ من أهل الحديث، يقولون: بالاحتجاج بخبر الواحد.
من هو الصحابي؟
{الصحابي هو الذي عاشر النبي صلى الله عليه وسلم، لقي النبي صلى الله عليه وسلم}
لقيه أم عاشره.
{لقيه وصاحبه}
يعني على هذا ابن أم مكتوم ليس صحابيًّا، ولا صحابيٌّ؟
{ فيه خلافٌ في تعريف الصحابي لبعض أهل العلم}
هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم، بعضهم يقول: رأى، نقول: لا، من لقي أحسن، لكي ندخل ابن أم مكتوم ومن ماثله من مكفوفي البصر.
إذن نقول الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، ومات على ذلك.
من لقيه وهو كافرٌ فإنه لا يعد صحابيًّا، ولو أسلم بعد ذلك، ما لم يلقه حالة كونه مؤمنًا، ومات على ذلك، فأما من لم يمت على الإسلام فإنه حينئذٍ ليس من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
هناك من أسلم ولقيه في الكفر، لكنه لم يلقه في الإسلام، فهذا ليس بصحابيٍّ، إذن الشرط في الصحابي أن يكون قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وهو مؤمنٌ فمات على ذلك.
ورد في الحديث أن قومًا يغزون البحر، فيقال: هل فيكم من رأى النبي صلى الله عليه وسلم، في روايةٍ: هل فيكم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم، فدل هذا على أن الرؤية والصحبة مشتركةٌ.
وهناك مصطلحان عند الأصوليين في كلمة صحابي، ففي باب حجية قول الصحابي، يقولون: الصحابي لابد أن يكون قد لازم النبي صلى الله عليه وسلم مدةً، بخلاف ما في باب الرواية، يقولون: يكفي لحظةً واحدةً في لقيا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جاءت النصوص باحترام الصحابة، وبيان صدقهم، ورفعة شأنهم، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿قَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: 18]، وقال جلَّ وعلَا: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [التوبة: 100].
ولعلنا إن شاء الله نكمل ما يتعلق بهذا في اللقاء القادم بإذن الله عزَّ وجلَّ.
الأُصُولُ مِنْ عِلمِ الأُصُولِ

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك