الدرس الأول

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

16671 12
الدرس الأول

الأصول من علم الأصول

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أما بعد، فأرحب بكم إخواني الأعزاء من الحاضرين والمشاهدين، ونبتدئ في لقائنا هذا الحديث في علم أصول الفقه، علم الأصول الذي يُمكِّن الإنسان من فهم الأدلة، ويجعله قادرًا على استنباط الأحكام منها، ويتمكن من معرفة أحكام الله -عزَّ وجلَّ- في النوازل الفقهية.
علم الأصول، علمٌ مهمٌ جدًّا، وتبرز أهميته في عددٍ من الأمور:
أولها: أنه يُمكِّن الإنسان من فهم كتاب رب العزة والجلال، وفهم كلام النبي -صلى الله عليه وسلم، وفهم الكتاب والسنة، كما أنه قربةٌ وطاعةٌ لله -عزَّ وجلَّ، وهو من أسباب سعادة المرء في دنياه وآخرته، ومن أسباب إمكانية تطبيق كتاب الله -عزَّ وجلَّ- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29].
والأمر الثاني الذي نعرفه من خلال هذه الدراسة: أن نعرف ما يصح الاستدلال به مما لا يصح، وهناك أشياءٌ كثيرةٌ يتداولها الناس، وقد يستدلون بها، لكنها ليست أدلةً شرعيةً، وبالتالي لا يصح أن نبني حكمًا شرعيًا إلا على دليلٍ، ومن بنى حكمًا شرعيًا على غير دليلٍ، فقد قال على الله بلا علمٍ، ويدخل في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبً﴾ [الأنعام: 21].
ثالثًا: كذلك بهذا العلم نتمكن من معرفة أحكام النوازل الجديدة من خلال تطبيق القواعد الأصولية على الأدلة الشرعية في هذه النوازل الجديدة.
رابعًا: وهكذا علم الأصول يمكننا من فهم الكلام، سواءً في الوصايا، أو صكوك القضاء، أو الأوقاف، أو العقود، أو الأنظمة، أو غيرها من كلام الناس.
خامسًا: هكذا أيضًا علم الأصول يمكننا من المجادلة والمحاجة ومناقشة الآخرين.
سادسًا: هكذا علم الأصول كذلك يعرفنا متى نأخذ الحكم من الدليل؟ ومن هو الشخص المؤهل لأخذ الأحكام من الأدلة؟ ومن هو الشخص غير المؤهل لذلك؟.
ومن هنا كان هذا العلم -علم الأصول- من العلوم المهمة، وعلم الأصول نأخذه من كتاب رب العزة والجلال، وسنة نبيه، ونأخذه كذلك من لغة العرب، فهذه القواعد الأصولية في هذا العلم، نأخذها من هذين المصدرين: الأدلة الشرعية، في مقدمتها الكتاب والسنة، ولغة العرب، فإن القرآن قد نزل بلغة العرب، والذي يريد أن يفهم القرآن فهمًا حقيقيًا صحيحًا فعليه أن يفهمه بلغة العرب، قال رب العزة والجلال: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 2].
إذا تقرر هذا فإن هذا العلم مأخوذٌ من الأدلة، ومأخوذٌ من لغة العرب، وليس علمًا فلسفيًا، ولا علمًا مبنيًا على ما نُقل من الأمم الأخرى، بل هو علمٌ شرعيٌّ إسلاميٌّ حرص علماء هذا الدين على السير عليه، وأول من ألف فيه، هو الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- والإمام الشافعي إمامٌ سلفيٌّ سنيٌّ من أئمة الهدى، وهو من الأئمة الأربعة، الذين يرجع الناس في تعلم الأحكام إلى مذاهبهم.
وبهذا نعلم أن هذا العلم، هذا علمٌ إسلاميٌّ، ولا يوجد عند الأمم الأخرى علمٌ يماثل هذا العلم، بل هذا من العلوم التي استقل بها أهل الإسلام، ووجود بعض من ألف في هذا العلم من أصحاب العقائد الأخرى، لا يعني القدح في هذا العلم، كما أننا نجد في الفقه من ألف فيه من أصحاب العقائد الأخرى، وكذلك في التفسير، نجد بعض المعتزلة، بعض الجهمية، قد ألفوا في التفسير، ولا يعني هذا القدح في علم التفسير، فهكذا أيضًا وجود بعض المؤلفين الذين كتبوا في هذا العلم من أصحاب العقائد الأخرى، لا يعني القدح في هذا العلم.
نحن في هذا الفصل -إن شاء الله- نتدارس كتاب "الأصول في علم الأصول"، وهو من تأليف الإمام العلامة الشيخ/ محمد بن صالح بن عثيمين، وهو من علماء الإسلام، الذين كان لهم أثرٌ عظيمٌ، وكان قد اشتغل اشتغالًا كبيرًا بالتعليم وبالعلم، وألف مؤلفاتٍ كثيرةً في عددٍ من العلوم، ومن هنا كان هذا الإمام الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- من الشخصيات العلمية المعاصرة، التي كان لها أثرٌ عظيمٌ في تطبيق القواعد الأصولية على الوقائع والحوادث الجديدة النازلة بالأمة، ومن ثم فإن دراسة كتاب الشيخ في الأصول يمكننا -بإذن الله عزَّ وجلَّ- من السير على طريقته في استخراج أحكام النوازل الجديدة من الأدلة بواسطة القواعد الأصولية.
وتعرفون أن الشيخ توفي بالخامس عشر من شهر شوال عام إحدى وعشرين وأربعمائة وألف، وكان قد ولد سنة سبعة وأربعين وثلاثمائة وألف، غفر الله له وأسكنه فسيح جناته.
ابتدأ المؤلف كتابه بمقدمةٍ، ابتدأها بالبسملة، والحمد لله عزَّ وجلَّ، وخطبة الحاجة التي رواها ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك بيَّن أن هذه رسالةٌ مختصرةٌ في هذا العلم، يعني: ليست مطولةً، وأن تأليف هذا الكتاب كان من أجل تدريسه في المعاهد العلمية، للسنة الثالثة الثانوية، وابتدأ المؤلف هذا الكتاب بالتعريف.
فقال: (أصول الفقه يعرّف باعتبارين، الأول: باعتبار مفردَيهِ؛ أي: باعتبار كلمة أصول، وكلمة فقه): باعتبار كل كلمةٍ مستقلةٍ، أصول وحدها، وفقه وحدها.
(والاعتبار الثاني): باعتبار كونه علمًا مركبًا من هاتين الكلمتين أصول الفقه.
نبتدئ بالتعريف الإفرادي، بحيث نعرِّف بكل من الكلمتين.
الكلمة الأولى: كلمة أصول، هذه جمع أصلٍ، والمراد بها في اللغة: الأساس الذي يُبنى عليه غيره، ولذلك قيل: أصل الجدار بمعنى أساسه الذي يُبنى عليه الجدار، وقد قال الله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَ﴾ [إبراهيم: 25]، هذا تعريفٌ لغويٌّ لهذه الكلمة.
وأما كلمة أصل عند علماء الشريعة فإنها تطلق بإطلاقاتٍ متعددةٍ، مرةً يطلق لفظ الأصل على الدليل، كما يقال أصل هذه المسألة الكتاب والسنة، أصل حِل البيع، الكتاب في قوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ [البقرة: 275]، والسنة في كون النبي -صلى الله عليه وسلم- اشترى ونحو ذلك من الأدلة، فهذا استخدامٌ للفظة الأصل بمعنى الدليل.
الثاني من استخدامات هذه اللفظة: الأصل، القاعدة المستمرة، فنقول: الأصل في هذا الحكم هو الشيء الفلاني، بمعنى القاعدة المستمرة فيه، مثال ذلك: يقول: الأصل براءة الذمة، الأصل أن المتهم بريءٌ حتى تثبت إدانته، ما معنى الأصل هنا؟ ليس المراد به الدليل، وإنما المراد به القاعدة المستمرة.
الإطلاق الثالث: إطلاق لفظة الأصل بمعنى الأصل الذي يُقاس عليه، أو الأساس الذي يُقاس عليه، فإن القياس مركبٌ من أربعة أشياء: أصلٌ، وهو المحل الذي ورد بحكمه دليلٌ من الشرع، مثل الخمر، وهناك فرعٌ، وهو المسألة الجديدة التي نريد أن نقيسها عليها، سواءً قلنا النبيذ أو الحشيش أو غيره، وهناك علةٌ، وهو المعنى الجامع، والوصف الذي من أجله ثبت الحكم في الأصل، وقد وُجد في الفرع، وهناك الحكم الذي يُراد إلحاق الفرع بالأصل فيه.
هكذا أيضًا من معاني الأصل، ما يُستصحب، فيقال مثلًا: الأصل الشيء الفلاني، بمعنى الأمر الذي نستصحبه، مثال ذلك تقول: من كان متوضئًا فشك هل أحدث، فالأصل أنه متوضئٌ، حتى يثبت ما يخالفه.
وهكذا قد يُطلق الأصل على آباء الإنسان وأجداده، ولذا يُقال: الأصول والفروع، ومن هنا تقول العرب: فلانٌ لا أصل له ولا فصل، فصلٌ يعني ما له لسانٌ فصيحٌ يتكلم به، والأصل يتعلق بالآباء.
هذا الكلمة الأولى، وهي كلمة أصول، الكلمة الثانية، كلمة الفقه، وهي في اللغة الفهم، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ [طه: 28]، أي: يفهموه، أما معناه بالاصطلاح فقد عرفه بأنه معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية، فقيل الأحكام الشرعية، لأن ما ليس بأحكامٍ شرعيةٍ، فإنه لا يُعد فقهًا، فمعرفة الأحكام الشرعية العملية؛ لأن الاعتقادات هذه لها علمٌ آخر، هو علم العقيدة، قال: بأدلتها التفصيلية، يعني الإنسان ما يكون فقيهًا حتى يكون لديه القدرة على معرفة الأحكام من أدلتها.
وحينئذٍ نجد أن علماء الشريعة يستخدمون لفظة الفقه في عددٍ من الاستعمالات، منها: استعمال لفظة الفقه على جميع أحكام الشريعة، ومن هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»، ليس المراد به كما ورد في الصحيحين من حديث معاوية، ليس المراد به الاختصاص بأحكامٍ عمليةٍ فقط، حتى في العقيدة يشمله هذا الخبر، ومنه قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ ليَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122]، وهنا "ليتفقهوا" ليس المراد به جميع أحكام الشريعة، ولذلك يقول الإمام أبو حنيفة: الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها.
كذلك من معاني كلمة الفقه: أن يُراد بالفقه القدرة على استنباط الأحكام، بحيث يكون ملكةً في النفس تؤهلها لاستخراج الأحكام من الأدلة، ولذلك يُقال فقيه، من هو الفقيه؟ ليس المراد بالفقيه من حفظ الأحكام، وحفظ كتب الفقه، هذا ليس بفقيهٍ، هذا حافظٌ، قد يقولون له فروعي، الفقيه هو القادر على استخراج الأحكام من الأدلة، هذا يقال له فقيهٌ، ثم الحافظ لكتب الفقهاء المعرِّف العارف بقواعدهم، وعارف بمواطن بحث المسائل، فهذا لا يقال له فقيهٌ، هذا يقال له باحثٌ، أو يقال له فروعيٌّ، أو حافظٌ، ولا يقال له فقيهٌ.
المعنى الثالث من معاني الفقه: معرفة الأحكام الشرعية العملية، سواءً كانت قطعيةً، أو كانت ظنيةً، مثلًا وجوب الصلاة هذا حكمٌ عمليٌّ، وهو الذي أشار إليه المؤلف هنا، واختاره هنا، وهناك من خصه خص اسم الفقه بالمسائل الظنية فقط.
على كلٍ، هذه إطلاقاتٌ لكلمة الفقه، إذا أردنا أن نعرفها، فإننا حينئذٍ عرفنا معاني هذه الكلمة.
تنتبهون إلى قولي هنا: بأدلتها التفصيلية، لأن الأدلة الشرعية على نوعين: أدلة تفصيلية، مثل الآية الواحدة ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [يونس: 87]، وهناك أدلةٌ كليةٌ أو أدلةٌ إجماليةٌ مثلًا حجية القرآن، هذا ليس دليلًا تفصيليًّا، هذا دليلٌ إجماليٌّ، مثله مثلًا قاعدة الأمر للوجوب، هذا دليلٌ إجماليٌّ، لأنه يصدق على ما لا يتناهى من الصور، أما الدليل التفصيلي، فهو قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾، فالفقيه يعرف الأحكام من الأدلة التفصيلية، من خلال تطبيق القواعد الأصولية على الأدلة الشرعية التفصيلية.
إذن عرفنا الفرق بين الأدلة التفصيلية، وهي التي يبحثها الفقيه، ويدرسها الفقيه، وبين الأدلة الإجمالية التي يدرسها عالم الأصول.
قال: معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها التفصيلية. ثم بدأ يفسر هذا التعريف، فقال: معرفة يدخل فيها العلم والظن؛ لأن الفقه قد يكون ظنيًّا، وقد يكون يقينيًّا، والأحكام الشرعية تُخرج الأحكام العقلية، والأحكام العادية، والمراد بالعملية هي لإخراج الاعتقادية، على ما سبق.
التعريف الثاني، أو الطريقة الثانية: تعريف أصول الفقه باعتباره كلمةً واحدةً، عَلمًا على هذا الفن، باعتباره لقبًا لهذا الفن، فنقول: علم الأصول علمٌ يُبحث فيه عن أدلة الفقه الإجمالية، الأدلة الكلية، وكيفية الاستفادة منها، من طرائق الفهم والاستنباط، وحال المستفيد، بحيث نعرف أوصاف المجتهد، ومن هو المؤهل للاجتهاد، وفي مقابله من الذي يجب عليه أن يراجع الفقيه، ولا يجوز له أن يحكم بالأدلة.
إذن عرفنا أن المراد بالإجمالية الكلية، وهي تقابل التفصيلية، وعمل الأصولي هو في الأدلة الإجمالية، وعمل الفقيه هو في الأدلة التفصيلية.
وقوله: (وكيفية الاستفادة منه)، بحيث يعرف القواعد التي يمكن تطبيقها على الأدلة، وبالتالي يخرج الحكم الشرعي، وبالتالي نعرف أن هذا العلم يكوَّن من ثلاثة أشياء:
الأول: الأدلة الإجمالية.
والثاني: قواعد الفهم والاستنباط.
والثالث: حال المستفيد، يعني أحكام المجتهد، ويقابله المقلِّد، فهذه أركان علم الأصول.
إذن علم الأصول يتكون من ثلاث جزئياتٍ: الأدلة الشرعية، قواعد الفهم والاستنباط، الاجتهاد والتقليد، وهناك مقدمةٌ عن التصور الكلي والإجمالي للأحكام الشرعية.
أما من جهة فائدة علم الأصول، فقد أشرنا إلى شيءٍ منها فيما سبق، وبيَّنا أن أول من ألف فيه هو الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة"، وذلك أن الإمام عبد الرحمن بن مهدي المحدث المعروف، سأل الإمام الشافعي أن يكتب رسالة يتمكن بها من فهم الأدلة؛ لأن الناس قد دخلت عليهم العُجمة، وكتاب الرسالة كتابٌ موجودٌ، لازال بأيدي الناس، وهو كتابٌ أُقيم على طريقةٍ حواريةٍ، قالوا وقلنا كأنه يتناقش مع شخصٍ، وقد بحث في موضوعاتٍ شتى، منها البيان، والتخصيص، ومنها حجية أخبار الآحاد، ومنها حجية الإجماع، ومباحث الاجتهاد والتقليد، ونحو ذلك من المباحث والرسالة رواها عنه تلميذه المزني الربيع بن سليمان، وقد شرحها طائفةٌ من أهل العلم، لكن جميع هذه الشروح ليست مطبوعةً، وبعد الإمام الشافعي وُجدت مؤلفاتٌ كثيرةٌ، ما بين منثورٍ ليس بنظمٍ، وبين ما هو أبياتٌ شعريةٌ، ومنها كتبٌ مختصرةٌ، ومنها كتبٌ مطولةٌ، حتى صار علمًا مستقلًا له أحكامه، وله مباحثه.
والمؤلفات في هذا العلم على صنفين: الصنف الأول: منهج الحنفية، والمراد به: أن فقهاء الحنفية أخذوا من الفروع الفقهية الواردة عن أئمتهم أصولًا وقواعد قالوا بأن أئمتهم قد راعوها في اجتهاداتهم، ومنهج الحنفية له مصطلحاتٌ خاصةٌ به، يسمى بعض الأحكام بأسماءٍ خاصةٍ به، مثلًا في الأحكام التكليفية الحنفية يجعلون الأحكام التكليفية سبعةً، بينما الجمهور يجعلونها خمسةً، وجوبٌ، وتحريمٌ، وكراهةٌ، وندبٌ، وإباحةٌ، الحنفية يزيدون الفرض، والكراهة التحريمية، إذن هذا منهجٌ في المصطلحات يغاير منهج المدرسة الأخرى.
هناك المنهج الثاني: منهج الشافعية أو منهج الجمهور، وقد أخذ فيه تقرير القواعد الأصولية بالنظر لأدلتها، وعندهم -كما تقدم- مصطلحاتٌ تخصهم، وهناك من حاول أن يجمع بين الطريقتين بحيث يجمع بين اصطلاح الحنفية واصطلاح الجمهور.
فمن الأمور التي ننبه هنا إليها، أن هذا العلم يتعلق بقواعد كليةٍ، لا يأتي بمسائل جزئيةٍ وإنما المراد الآن تقرير القاعدة الأصولية.
أول المباحث في هذا العلم: مبحث الأحكام، والمراد بها حكم الله -عزَّ وجلَّ- أو خطاب الله -عزَّ وجلَّ- الذي يتوجه للمكلفين ويطالبهم بفعلٍ أو بتركٍ أو يبيح لهم.
قال: الأحكام جمع حكمٍ، لأن الأحكام هي النتيجة الأخيرة التي سنصل إليها، وبالتالي لابد أن نعرفها من أجل أن نتمكن من الوصول إليها، كيف ستبحث هذا العلم وأنت لا تعرف النتيجة والهدف الذي تريد أن تصل إليه؟
الأحكام جمع حكمٍ، والمراد بالحكم القضاء، لذلك إذا وجدتَ في كلام الفقهاء الحاكم فهم يريدون به القاضي، الإمام الأعظم أو يسمونه ولاة الأمر أو نحو ذلك من الأسماء، إذا تقرر هذا فإن الحكم في الاصطلاح يراد به إثبات أمرٍ لآخر أو نفيٍ عنه، محمدٌ طويلٌ، هذا حكمٌ، إذا قلت ذهب خالدٌ، هذا حكمٌ، لأنك أثبتَّ الذهاب لخالد، وهذا حكمٌ في الاصطلاح العام، لكن عندنا الآن نريد أن نبحث في الحكم الشرعي، لأن الأحكام إما أنها أحكامٌ عقليةٌ وإما أحكامٌ لغويةٌ، ثم تقول الفاعل مرفوعٌ، وهناك أحكامٌ عاديةٌ، وهناك أحكامٌ شرعيةٌ، نريد أن نتكلم عن الأحكام الشرعية.
الأحكام الشرعية: يراد بها خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع، إذًا خطاب من الشارع، أي لا يكون حكمًا شرعيًّا إلا إذا كان هناك خطابٌ إما حديثٌ أو آيةٌ، خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين، أن ما يتعلق بأفعال غيرهم لا يدخل في الحكم الشرعي من الخطاب في خلق السموات أو خطابه في تقدير المقادير، هذا لا يتعلق بالمكلفين.
مثاله أيضًا: خطابه المتعلق بيوم الميعاد، قال: خطاب الشارع المتعلق بأفعال، أما الذي يتعلق بغير الأفعال فلا يدخل معنا في الحكم الشرعي، لأن الذوات ليس لها أحكامٌ وإنما الحكم يتعلق بالأفعال، مثلًا لو قال لك واحدٌ: ما حكم الكتاب؟ نقول: ماذا تريد به؟ تريد قراءته؟ تريد حمله؟ تريد تمزيقه؟ تريد بيعه؟ كل واحدٍ له حكمٌ. إذن الأحكام الشرعية تتعلق بالفعل، ولا تتعلق بالذوات.
عرَّف المؤلف الحكم، فقال: ما اقتضاه، أي ما طلبه خطاب الشارع، خطاب الشارع أي: النصوص الشرعية الواردة في الكتاب والسنة، المتعلق بأفعال المكلفين، إذا كان لا يتعلق بالفعل، ما يدخل معنا في الحكم، وإذا كان يتعلق بأفعال غير المكلفين مثل البهائم، فلا يدخل معنا، من طلبٍ الذي هو اقتضاءٌ، أو تخييرٌ أو وضعٌ، الطلب قد يكون طلب للفعل، جازمًا، وهو الوجوب، وقد يكون طلب للفعل غير جازمٍ، وهو الندب، وقد يكون طلبًا للترك جازمًا، وهو التحريم، وقد يكون طلبًا غير جازمٍ للترك، وهو الكراهة، وقد يكون تخييرًا، وهو الإباحة، وقد يكون وضعًا، أي ربطًا وجعلًا، أي ربط شيءٍ بشيءٍ آخر، بحكمٍ تكليفيٍّ.
إذا تقرر هذا فإن هذا التعريف سار فيه المؤلف على طريقة الفقهاء؛ لأنهم يجعلون الحكم هو أثر الخطاب، بينما عند الأصوليين، أن الحكم هو ذات الخطاب، مثلًا: عند الأصوليين أن قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ هو الحكم، وعند الفقهاء وجوب الصلاة هو الحكم. وهذان منهجان وطريقتان في الاصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح.
ذكر المؤلف محترزات هذا التعريف، وقال: أو وضع الصحيح والفاسد ونحوهما مما وضعه الشارع من علاماتٍ، ثم بيَّن أن الأحكام الشرعية تنقسم إلى قسمين: أحكامٍ تكليفيةٍ، وهي التي قلنا فيها قبل قليلٍ، بالاقتضاء أو التخيير، بحيث الاقتضاء للأحكام الأربعة، والتخيير لحكم الإباحة.
النوع الثاني: الأحكام الوضعية، وليس المراد بها ما وضعه البشر، تلك القوانين الوضعية، نحن نتكلم عن الأحكام الشرعية الوضعية، من الذي وضعها؟ وضعها الله، وقد تكون معرِّفة بالحكم التكليفي، بأن تكون علةً أو سببًا أو شرطًا أو مانعًا أو تكون صفةً له، كما في العزيمة والرخصة والأداء والقضاء، وقد تكون أثرًا له، كما في الصحة والفساد، وسنأتي -إن شاء الله- للأحكام الوضعية بالتفصيل.
الأحكام التكليفية تشمل المباح، مع أنه ليس فيه تكليفٌ، وبعضهم يقول: فيه تكليف الاعتقاد، وبعضهم يقول: بأنه من باب تكميل القسمة، لأنه ما يوجه الخطاب به من الأفعال، لا يخلو من الأقسام الخمسة، السابقة.
إذا تقرر هذا فالأحكام التكليفية خمسة أحكامٍ.
أولها: الواجب، وثانيها: المندوب، وثالثها: المحرم، ورابعها: المكروه، وخامسها: المباح كما تقدم.
نبتدئ بهذه الأحكام واحدًا واحدًا.
الحكم الأول: الواجب، مثال الواجب: وجوب الصلاة، وهذا مثالٌ خاطئٌ، الصلاة واجبةٌ؟ لا، الصلوات الخمس هي الواجبة، لأن كلمة الصلاة تشمل صلاة الليل، وقد تشمل صلوات المبتدعة، حينئذٍ ما هو الواجب؟ نقول: الصلوات الخمس، هي الواجبة. من يأتي بمثالٍ آخر؟
﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185]}.
﴿فَلْيَصُمْهُ﴾ هذا واجبٌ من الواجبات، وهو وجوب صوم شهر رمضان.
هذا الواجب قال في اللغة: الواجب في اللغة الساقط واللازم، ومنه قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا …﴾ [الحج: 36] الآية.
الإبل تُنحر وهي واقفةٌ، فإذا نُحرت وهي واقفةٌ وماتت سقطت، فقال: ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَ﴾ أي سقطت جنوبها على الأرض، فهذا معنى الواجب في لغة العرب.
وأما في الاصطلاح الواجب: ما أمر به الشارع أمرًا على وجه الإلزام، قلنا ما أمر به الشارع ليخرج الحرام، والمكروه، والمباح، لم يأمر بها الشارع، ثم قال: على وجه الإلزام لإخراج المندوب، فإنه مأمورٌ به، لكنه ليس على وجه الإلزام.
ما رأيكم في المثال الذي ذكره الشيخ؟
قال: كالصلوات الخمس، مثالٌ جيدٌ، لو قال: كالصلوات، قلنا: لا، فيه ملحوظة؛ لأن بعض الصلوات ليس بواجبٍ.
ما هو حكم الواجب؟
الواجب يُثاب فاعله، من أدى الصلوات الخمس فله الأجر والثواب، ويُعاقب تاركه، لكن يُلاحظ أن الفاعل لا يُثاب إلا إذا فعله امتثالًا، مثال ذلك: النفقة على الأولاد واجبةٌ، من فعلها طاعةً لله فهو مُثابٌ، من فعلها بغير هذه النية، فلا ثواب له، سداد الدين واجبٌ، من فعلها طاعةً لله، وطلبًا لرضاه، كان ممتثلًا مأجورًا، الوقوف عند الإشارة واجبٌ، من وقف عند الإشارة هل يؤجر، حسب النية، واحدٌ يقول أنا وقفت عند الإشارة أخشى أن تُسجل علي مخالفةٌ مروريةٌ، يؤجر؟ لا، ما يؤجر، واحدٌ يقول: وقفت عند الإشارة لأن السيارات واقفةٌ، يؤجر؟ ما يؤجر، متى يؤجر؟ متى نوى بذلك التقرب بالله، لأن الله أمره بطاعة صاحب الولاية، ما يحقق مصلحة الخلق، وبالتالي وجب عليه أن يمتثل، فمن فعلها لله كان مأجورًا مثابًا ممتثلًا، لكن لو فعلها رياءً صلى ليشاهده الناس، هل يؤجر؟ نقول: لا، لأنه لم يفعلها امتثالًا للأمر الشرعي، إنما فعلها لغرضٍ آخر.
قال: (ويستحق العقاب تاركه)، لأن من تركه فإنه يستحق العقاب، ما قال يُعاقب؛ لأنه قد يتوب، وقد يعفو الله -عزَّ وجلَّ- عنه، فقال: يستحق العقاب تاركه.
الصلوات الخمس قلنا بأنها واجبةٌ، الحائض إذا تركت الصلاة الخمس تُعاقب أو تستحق العقوبة؟ نقول: لا، لماذا؟ لأنها لم تجب عليها، إذن هذا سائرٌ معنا على القاعدة.
الواجب له أسماءٌ كثيرةٌ، منها مثلًا: مكتوبٌ، كما في قوله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتً﴾ [النساء: 103]، ما معنى كتابًا؟ أي واجبةٌ مكتوبةٌ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 183]، وقد يسمى أيضًا فرضًا، «وأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلواتٍ في اليوم والليلة»، وقد يسمى فريضةً، وقد يسمى حتمًا، وقد يسمى لازمًا.
الحنفية يقولون: الفرض ما دل عليه دليلٌ قطعيٌّ، المأمور به أمرًا جازمًا، بدليلٍ قطعيٍّ، والواجب المأمور به أمرًا جازمًا بدليلٍ ظنيٍّ، ويرتبون عليه حكم المخالف فيهما، والجمهور يقولون: كلاهما واجبٌ، والواجب ينقسم إلى ما هو قطعيٌّ، وما هو ظنيٌّ، فالمحصلة تقريبًا واحدةٌ.
قد يكون هناك بعض الثمرات التي تُبنى عليها، هناك عددٌ من الواجبات يراها الحنفية، لا يرون الجمهور وجوبها، مثلًا صلاة الوتر عند الحنفية واجبةٌ، مثلًا الأضحية عند الجمهور مستحبةٌ، وعند الحنفية واجبةٌ، وهكذا بعض الأمثلة الفقهية.
ما هي الصيغ التي تدلنا على أن الفعل واجب؟
هناك صيغٌ كثيرةٌ، منها لفظة كُتب، وكَتب، كما مثلنا قبل قليلٍ، ومنها الأمر، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: 58] الأمر الصريح، هذا يدل على الوجوب، كذلك صيغة افعل، وصيغة الفعل المضارع المسبوق بلام الأمر، فإنها تدل على الوجوب، مثل: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [النساء: 77]، آتوا، صيغة افعل، تدل على الوجوب، هكذا أيضًا في اسم الأمر، مثل: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلً﴾ [آل عمران: 97]، ومثله أيضًا الأخبار التي يمكن ألا تتحقق، فإننا حينئذٍ نحملها على الأمر، مثال ذلك قوله: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228]، هناك خبرٌ، المطلقات: مبتدأ، يتربصن: جملة في محل رفع الخبر، لكن هذا الخبر يمكن أن يتخلف، فبعض النساء لا تتربص، فحينئذٍ نقول: خبر الله لا يتخلف، فنحمله على أنه أمرٌ، فيكون هذا على سبيل الوجوب.
ومثله أيضًا لو قال: ألزمتكم، ونحوها.
الحكم الثاني من الأحكام التكليفية: المندوب، ما مثال المندوب؟
{قيام الليل، صيام النوافل}.
صدقة التطوع، وصيام النوافل.
المندوب في اللغة، هو المدعو، يُقال ندبهم إلى كذا، بمعنى دعاهم، وفي الاصطلاح ما أمر به الشاعر لا على وجه الإلزام، أمر به الشارع وطلبه، لكن ليس على جهة الإلزام.
قولنا: ما أمر به الشارع، يُخرج المحرم والمكروه، والمباح، فإنه لم يأمر بها الشارع، وقوله: لا على وجه الإلزام؛ لإخراج الواجب، فإن الواجب أمر به الشارع على جهة الإلزام، والمندوب يؤجر فاعله امتثالًا، ولا يُعاقب تاركه، من صلى صلاة الليل كان له الأجر والثواب بشرط أن يفعلها لله، وأما إذا ترك قيام الليل، عليه وزرٌ أم لا؟ ليس عليه وزرٌ.
المندوب له أسماءٌ متعددةٌ، من ضمن أسمائه: المستحب، وأيضًا النفل، والرغيبة، وأيضًا السنة، والمسنون عند أكثر العلماء، بعض العلماء يجعل السنة تشمل الواجب، والمندوب، وهذا هو الاصطلاح الشرعي، والأكثر في الفقهاء أنهم يخصصون اسم السنة بالمندوب.
ما هي الصيغ التي تدل على المندوب؟
لو قال: ندبكم إلى كذا، الثناء على الفاعل، إذا أثنى على فاعلٍ، إذا كان أمرًا وصُرف عن الوجوب فإننا نحمله على الندب، وهكذا إذا نُفي الأمر عن الشيء، فإنه يدل على استحبابه، كما قال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاةٍ»، ما نفى أنه مأمورٌ به، حينئذٍ ثبت أنه نفلٌ.
كذلك إذا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلًا عباديًّا، فإنه يدل على أن ذلك الفعل مستحبٌ، ومثله أيضًا إذا فعل الصحابة فعلًا من أفعال الطاعات، وأقرهم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم.
الحكم الثالث من الأحكام التكليفية: المحرم، والمحرم المراد به في اللغة: الممنوع، ويُراد به في الاصطلاح، ما نهى عنه الشارع نهيًا جازمًا، أو على وجه الإلزام، ما نهى عنه الشارع على وجه الإلزام بالترك.
مَن يُمثِّل لنا بالحرام؟
{شرب الخمر، عقوق الوالدين، ترك الصلاة}.
الصلاة واجبةٌ، نريد مثالًا أوضح من هذا.
{أكل مال اليتيم}.
ممتاز، الضرب يدخل معنا؟ فيه تفصيلٌ، مرات قد يكون مشروعًا، ومرات قد يكون محرمًا.
إذن ما نهى عنه الشارع يُخرج الواجب والمندوب والمباح، فإنه لم ينه الشارع عنهما، وعلى وجه الإلزام يُخرج المكروه.
ما حكم المحرَّم؟
فاعله يستحق العقوبة متى قصد الفعل، وتاركه يكون له الأجر متى نوى بذلك الامتثال والتقرب إلى أمر الله -عزَّ وجلَّ.
الحرام يسمى محظورًا، يسمى ممنوعًا، ويسمى حرامًا، ويسمى حرجًا، وهناك عددٌ من الصيغ تدل عليه، مثل صيغة: حرمت، كما في قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة: 3]، وهكذا صيغة النهي الصريحة، إن الله ينهاكم عن كذا، هذه تدل على التحريم، وهكذا صيغة لا تفعل، فإنها تدل على التحريم مثل: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29]، ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: 151]، ومثله أيضًا: صيغة لا يحل ﴿لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ﴾ [النساء: 19]، وهكذا إذا ورد على الفعل وعيد، أو عقوبة في الدنيا أو في الآخرة، أو لعن، فإنه يدل على تحريم ذلك الفعل.
{إذا ورد لفظ صريح في الأمر، أو صريح في النهي والتحريم، مع قرينةٍ صارفةٍ عن الواجب إلى المندوب، أو عن المحرم إلى المكروه}.
عندنا الأصل في دلالة الأوامر أن تكون للوجوب، فإذا وردت قرينةٌ تدل على أنه صُرف عن الوجوب حُمِلَ على ما دلت عليه القرينة، مثال ذلك: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ [البقرة: 282]، ثم وجدنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اشترى ولم يُشهد، فحينئذ نقول: ﴿وَأَشْهِدُو﴾ الأصل هي صيغة أمرٍ، الأصل أنها للوجوب، لكن صرفناها عن الوجوب لوجود هذه القرينة.
الحكم الرابع من الأحكام التكليفية: المكروه، والمكروه في اللغة المُبغض، وهو الذي يقابل المحبوب، وفي الاصطلاح: ما نهى عنه الشارع نهيًا غير جازمٍ، لا على وجه الإلزام، مَن يُمثِّل لنا بمكروهٍ؟
الدخول للمسجد بالرجل اليسرى.
{عدم كظم التثاؤب}.
جيد. المكروه من تركه تقربًا لله فله له الأجر والثواب، ومن فعله فلا وزر عليه، ولا يأثم بذلك.
يبقى معنا الحكم الخامس: وهو المباح، المراد بالمباح في اللغة: المعلن، لذلك باحة البيت، هو المكان المكشوف فيه، وأيضًا يدخل المباح على المأذون فيه، فإنه يُقال له مباح، ولذلك يُقال باح بسره، بمعنى أعلنه، كأنه أذن للناس فيه، والمباح في الاصطلاح ما لا يتعلق به أمر ولا نهي لذاته.
إذن المباح: ما أذن الله بفعله وتركه، غير مقترنٍ بمدحٍ ولا ذمٍ. هذا هو المباح.
مَن يُمثِّل لنا بالمباح؟
{الأكل والشرب واللباس}.
لا، هذه فيها تفصيلٌ، الأكل واجبٌ، لكن أكل التفاح مباحٌ، أكل الأرز مباحٌ، ما يجوز الإنسان يترك الأكل، قال –تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُو﴾ [البقرة: 187] أمر.
اللباس ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: 31] وبالتالي مأمور به، لكن كونه يلبس ثوب أو يلبس قميص، نوع اللباس هذا هو المباح.
مثالٌ آخر في المباح.
{.. على حسب الفعل الذي يُستخدم فيه}.
نعم، نحن نقول لذاته، أصل الاستخدام مباح، لكن لما كان يستخدمه الإنسان في إعلان صوت المعازف، حَرُمَ، لكن لإزالة الاستخدام، وإنما لوجود المعازف، أو لكونه مثلًا يقرأ فيه القرآن، يكون مندوبًا، لا لكونه استعمالاً لمكبر الصوت، وإنما لأنه قرآن وإذاعة ونشر لكتاب الله -عزَّ وجلَّ-، ولذلك قال في تعريف المباح: ما لا يتعلق به أمر ولا نهي لذاته، فإذا تعلق به أمر لغيره، فحينئذ يتغير الحكم. مثال ذلك: النوم، في الأصل مباح، لكن نام مبكرًا ليستيقظ لصلاة الليل، أصبح النوم مبكرًا مستحبًا، ونام من أجل أن يستيقظ للفجر، فأصبح هذا النوم له حكم الوجوب.
إذن ما حكم المباح؟
لا ثواب في فعله لذاته، ولا عقاب فيه، ويسمى حلالًا، ويسمى جائزًا، وبذلك نكون قد انتهينا من الأحكام التكليفية، ولعلنا -إن شاء الله- نتدارس الأحكام الوضعية في الدرس القادم، وفقكم الله لخيري الدنيا والآخرة، وأسعدكم رب العزة والجلال، ورزقكم العلم النافع والعمل الصالح، اللهم أصلح أحوال الأمة، وردهم إلى دينك ردًا حميدًا، اللهم احقن دماءهم، واجمع كلمتهم، وألف ذات بينهم، واكفهم شر أنفسهم، وشر أعدائهم، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك