الدرس السادس

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

16671 12
الدرس السادس

الأصول من علم الأصول

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد..
فأرحب بكم في لقاءٍ جديدٍ من لقاءاتنا في مقرر الأصول، نتباحث فيه في شرح كتاب الأصول من علم الأصول للشيخ العلامة محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى.
وتقدم معنا البحث في المطلق والمقيد والعام والخاص، واليوم نبحث درسًا جديدًا نذكر فيه أحكام المجمل والمبين.
الكلام الذي في النصوص الشرعية ينقسم إلى نوعين: قسمٍ مبينٍ واضحٍ، يعرف المراد منه، ومن أمثلة ذلك ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ [البقرة: 196]، عشرةٌ واضحةٌ أو غير واضحةٍ؟ واضحةٌ، والمبين قد يكون نصًّا لا يحتمل غير المذكور كما في قوله: ﴿عَشَرَةٌ﴾، وقد يكون ظاهرًا بحيث يدل على معنييْن، لكن الدلالة على أحد المعنيين أقوى وأرجح، فحينئذٍ نحمله على الراجح كما سيأتينا إن شاء الله في مبحث التأويل.
النوع الثاني من أنواع الكلام: المجمل، وهو الذي لا يعرف المراد منه، وهذا على أنواعٍ: لفظٌ لا يعرف المراد منه بالكلية، ما ندري ما هو، أي: ما المقصود بهذا اللفظ؟
فهذا مجملٌ، مثاله: قوله: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: 141]، حقه ما ندري كم؟ ما معنى حقه؟ حتى يأتينا الدليل الذي وضح في قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء العشر».
وقد يكون اللفظ مجملًا لتردده بين معنييْن، كما في قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228]، فإن لفظة ﴿قُرُوءٍ﴾ قد يراد بها الحِيَض، وقد يراد بها الأطهار، فنحتاج إلى دليلٍ يبين لنا ما هو المراد من هذا اللفظ.
وقد يكون الإجمال في صفة اللفظ المجمل، مثلًا في قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [البقرة: 43]، ما هي صفة الصلاة؟ نحتاج إلى الدليل الذي ورد في بيان الصلاة من السنة الفعلية كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي».
إذن المجمل هو الذي يتوقف فهم المراد منه على غيره، سواءً في تعيينه، لتردده بين معنييْن، أو في بيان صفته؛ لأنه لا يعرف ما حقيقة صفته حتى يأتي المبين، أو في مقداره، مثال ذلك في قوله: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43]، كم مقدارها؟ نقول هذا مجملٌ، وبالتالي نحتاج إلى دليلٍ يوضح المراد منه.
الإجمال في مراتٍ قد يكون في حرفٍ، مثلًا في قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَ﴾ [آل عمران: 7]، الواو في (والراسخون) هل هي عاطفةٌ بحيث يكون الراسخون في العلم يعلمون تأويله، أو أن الواو استئنافية، ومن ثم لا يكون الراسخون في العلم ممن يعلم تأويله، هنا ترددٌ، بالتالي نحتاج إلى دليلٍ يبين ويوضح المراد منه، ومثله في قوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ [البقرة: 237]، فإن الذي بيده عقدة النكاح مترددٌ بين الزوج وبين الولي، وبالتالي نحتاج إلى دليلٍ يوضح المراد منه.
ماذا نفعل بالمجمل؟
نقول: نبحث له عن مبينٍ يوضح المراد منه، قد يقول قائلٌ: ما الفائدة في وجود أشياءٍ مجملةٍ في الكتاب والسنة؟
فنقول: هذا له فوائد، منها:
تنشيط البحث.
ومنها: ربط المسائل بعضها ببعضها الآخر.
ومنها: أن يحصل فيه نقاشٌ وسؤالٌ عن بعض هذه الألفاظ.
والمبين قد يكون سبب تبيينه أصله اللغوي، فيكون مبينًا بأصله اللغوي مثل: لفظة السماء، هذه في اللغة معروفةٌ، الأرض في اللغة معروفةٌ، بينت بواسطة اللغة، ولا تحتاج إلى غيرها في بيان معناها، وهناك أشياءٌ لا تفهم إلا بعد وجود التعيين وتوضيح المراد منها.
إذن المبين ما حكمه؟
يجب العمل به، والمجمل يجب رده إلى المبين ليوضح لنا ما المراد من المجمل.
الشريعة ليس فيها شيءٌ مجملٌ، قد يكون في بعض الأدلة الجزئية مجملًا من أجل أن نرده إلى أدلةٍ أخرى، لكن لا يكون هناك شيءٌ مجملٌ في جميع الأدلة، ولذا قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89]، فهو واضحٌ ومبينٌ، وأصول هذا الدين وفروعه مبينةٌ من عند الله -عزَّ وجلَّ.
بيان الأحكام مرةً قد يكون بدليلٍ آخر من الكتاب، كما في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: 67]، بينتها الآية التي بعدها: ﴿بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: 68]، ﴿بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَ﴾ [البقرة: 69]، ﴿بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ﴾ [البقرة: 70] الآيات، إذن هنا آيةٌ قرآنيةٌ بينتها آيةٌ قرآنيةٌ أخرى.
وقد يكون البيان بواسطة حديثٍ نبويٍّ، فيأتينا لفظٌ مجملٌ في القرآن، فيفسره حديثٌ واردٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60]، فسرها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن القوة الرمي»، فهذه سنةٌ قوليةٌ بينت الكتاب، ومثله أيضًا: إخباره عن أنصبة الزكاة ومقاديرها.
وقد يكون البيان بواسطة الفعل، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أحكام المناسك بفعله لها، فهذا بيانٌ بالفعل، مثل ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة»، ثم جاءنا في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على طريقةٍ معينةٍ، فالفعل النبوي هذا بيانٌ لتلك السنة القولية.
وقد يجتمع بيانٌ فعليٌّ مع بيانٍ قوليٍّ، كما في قوله للمسيء في صلاته: «إذا قمت إلى الصلاة ..» الحديث، وهو قد بين الصلاة بفعله أمامهم، فكان هذا بيانًا لقوله ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [البقرة: 43]، البيان بالقول ولا بالفعل؟
بالقول وبالفعل، القول في حديث ذي اليدين، وبالفعل في صلاته أمامهم صلى الله عليه وسلم.
هل يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؟
نقول لا يجوز، لأن الشريعة قد جاءت لبيان أحكام الحاجة، لكن يمكن أن يؤخر البيان عن وقت الخطاب، لا عن وقت الحاجة.
إذن تقدم معنا أن الكلام ينقسم إلى مبينٍ ومجملٍ، وأن المبين على نوعين، نصٌ هو الصريح في معناه بلا احتمالٍ، والثاني الظاهر وهو الدال على معنييْن هو في أحدهما أرجح، ماذا نفعل بالظاهر؟ نحمله على المعنى الراجح، ولا يجوز لنا أن نصرفه إلى المعنى المرجوح إلا بدليلٍ وإذا صرف اللفظ الظاهر عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح هذا يقال له تأويلٌ، فإن كان بدليلٍ فهو تأويلٌ مقبولٌ، وإن كان بدون دليلٍ فهذا تأويلٌ مردودٌ.
مثال ذلك: الأصل في حرف الفاء أن تكون للتعقيب، كما في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُو﴾ [المائدة: 38]، كما في قوله: سها فسجد، لكنها تحتمل ألا يراد بها التعقيب أو الترتيب، ويراد بها مطلق الجمع، فلما جاءنا في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ [النحل: 98]، الفاء الأصل أن تكون للتعقيب، فعلى هذا يكون معناها أنك تقرأ أولًا فإذا فرغتَ من القراءة تستعذْ، هذا أحد المعنيين للآية، أن يراد بالفاء التعقيب.
وقد يراد بالفاء مطلق الجمع، فحينئذٍ لا يكون فيها معنى التعقيب، فالفاء هنا في قوله: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ [النحل: 98]، هل هي للتعقيب بحيث تكون القراءة أولًا ثم تكون الاستعاذة، أو تكون لمطلق الجمع، وبالتالي يمكن أن تتقدم الاستعاذة.
الأول أظهر، وأرجح في الفاء، لكن عندنا هنا دليلٌ دل على صرف اللفظ الظاهر من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ أولًا ثم يقرأ، فدل هذا على أن الفاء ليست لترتيبٍ ولا تعقيبٍ.
مثَّل المؤلف بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دُعي أحدكم فليجبْ، فإن كان مفطرًا أكل، وإن كان صائمًا فليصلِّ»، هذا اللفظ «فليصلِّ» يحتمل أن المراد الصلاة المعهودة وهو الراجح، ويحتمل أن يراد بها الدعاء أو الثناء، إذا ذهبت معزومًا وأنت صائمٌ، تقف في نصف المجلس وتصلي، نقول لا، المراد هنا الدعاء والثناء، قال: لماذا صرفتها عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح؟ قلنا لوجود الدليل الصارف الذي صرفنا لأنهم لا ينتفعون بصلاته، وإنما ينتفعون بدعائه وثنائه، الداعي لا ينتفع بصلاة المصلي، فحينئذٍ حملناه على المعنى اللغوي، مع أنه مرجوحٌ لوجود الدليل.
مثَّل له بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «توضئوا من لحوم الإبل»، فإن لفظة الوضوء الأصل أن يراد بها الوضوء الشرعي بغسل الأعضاء الأربعة، ولذلك قال أحمد وبعض الشافعية بأن من أكل لحم الإبل فليتوضأ، قال بأن أكل لحم الإبل ناقضٌ، بينما قال آخرون: بأن المراد بالوضوء هنا هو النظافة، غسل الوجه فقط، فلفظة «توضئو» في لسان الشرع الراجح أن تكون للوضوء المعهود الوضوء الشرعي، ومن معانيها النظافة، لكنه لابد له من دليلٍ، هذا معنى مرجوحٌ، فلا يصح حينئذٍ أن نحمل فليتوضأ على المعنى المرجوح إلا بدليل، فنقول إن الأصل بقاؤها على معناها الأصلي.
إذا عرفنا ما هو التأويل؟ التأويل هو صرف اللفظ عن المعنى الظاهر إلى المعنى المرجوح لوجود الدليل.
النص يجب العمل به في محله، والظاهر يجب أن يُعمل به في المعنى الراجح، إلا إذا ورد دليلٌ يدل على أن المعنى الراجح لا يُعمل فيه باللفظ الظاهر.
ولا يجوز أن نصرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى المعنى المرجوح إلا بدليلٍ وإلا لعد هذا من التحريف، لأن العرب في كلامها إذا تكلمت بمثل هذه الألفاظ فإنها تحمل هذه الألفاظ على المعنى الظاهر الراجح دون المعاني المرجوحة.
وبهذا نعرف ما هو التأويل، ما هو التأويل؟ صرفُ اللفظ الظاهر عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح، هل التأويل مقبولٌ ولا مردودٌ؟ متى يكون مقبولًا يا صهيب..
{إذا كان معه الدليل}
نعم، التأويل يكون مقبولًا إذا كان معه دليلٌ، أما إذا لم يكن مع التأويل دليلٌ فإننا حينئذٍ لا نقبله، ومن أمثلة ذلك: نصوص الصفات، الأصل أن نحملها على المعنى الراجح، وألا نحملها على المعنى المرجوح إلا لورود دليلٍ صارفٍ، لكن في مراتٍ قد يُفهم من اللفظ غير مراد المتكلم به، وبالتالي لابد أن نعرف المعنى الحقيقي لذلك اللفظ وألا نستند إلى أذهاننا.
{هل يشترط أن يكون الدليل والقرينة الصارفة عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح أن يكون دليلًا وقرينةً شرعيةً}
الدليل الشرعي قد يكون دليلًا عقليًّا في نفس الوقت، فاستحالة الشيء دليلٌ على أنه لا يراد باللفظ المعنى الراجح، وأنه يراد به المعنى المرجوح، كما مثلًا في قوله: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ﴾ [الملك: 16]، في الأصل أن تكون للظرفية، هذا المعنى الراجح، ولكنها تطلق مراتٍ بمعنى على.
﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه: 71]، هل شق الجذوع ووضعهم فيها، أو أن المراد "على"؟
المراد "على"، فهنا أوَّلنا لمطابقة الواقع، ومراتٍ نؤول لاستحالة المعنى الراجح، فإن السموات لا تحوي رب العزة والجلال، ولذلك قلنا على السموات وبعضهم قال في السموات يعني في العلو، وليس المراد به البناء المعهود.
مثَّل المؤلف بقوله -عزَّ وجلَّ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، فإن كلمة استوى في لغة العرب يُراد بها العلو والارتفاع، فمن جاء وفسرها بأن المراد بها "استولى"، نقول: هذا غير مقبولٍ لماذا؟
لأنه صرف للفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح بدون دليلٍ، بل الدليل يدل على بطلان هذا التأويل، لماذا؟
لأن استيلاءه على العرش سابقٌ، ليس بعد خلق السموات والأرض، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ﴾ [الفرقان: 59].
ثم الاستيلاء ليس خاصًّا بالعرش، هو سبحانه مستولٍ على جميع الكائنات، فلمَ خصّ العرش، لو كان بمعنى استولى لما كان معنًى جديدًا.
عرفنا إذن أنه يجب أن نصرف اللفظ الظاهر إلى معناه الراجح، ولا يجوز أن نصرفه إلى المعنى المرجوح إلا لدليلٍ، وأن صرف اللفظ الظاهر عن معناه الراجح للمعنى المرجوح بدليلٍ يسمى التأويل الصحيح، وأن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح بدون دليلٍ يقال له: تأويلٌ باطلٌ، تأويلٌ فاسدٌ.
ما الدليل على هذا؟
نقول هذه طريقة أهل اللغة في استعمالهم وتفسيرهم للألفاظ. واضح هذا، فيه إشكال؟ ننتقل إلى الدرس الذي يليه..
الدرس الذي يليه يتعلق بالنسخ.
يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَ﴾ [البقرة: 106]، ويقول: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 101]، إذن هناك نسخٌ، بإلغاء الحكم الأول الثابت بخطابٍ متقدمٍ.
ما هو النسخ؟
النسخ رفع حكمٍ ثابتٍ بخطابٍ متقدمٍ بواسطة خطابٍ متأخرٍ.
مثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروه»، هذا يعد نسخًا، لماذا؟ لأنه رفع حكمٍ شرعيٍّ ثابتٍ بدليلٍ متأخرٍ، بواسطة دليلٍ متقدمٍ.
هل تحريم الخمر يعد نسخًا؟
كان الخمر في أول الإسلام حلالًا، ثم حرم، نقول لا يعد نسخًا، لماذا؟ لأن ثبوت الحكم في الزمان الأول ليس بنصٍّ بخطابٍ متقدمٍ، وإنما ثبت بواسطة الإباحة الأصلية.
فالمراد بقولنا رفع حكمٍ، أي: تغييره من إيجابٍ إلى إباحةٍ، أو من إباحةٍ إلى تحريمٍ مثلًا.
فخرج بذلك تخلف الحكم لفوات شرطه. هنا ليس فيه رفعٌ للحكم
وقد يكون لوجود مانعٍ مثل: عدم وجوب الزكاة لوجود مانعٍ من الموانع، قال والمراد بقولنا: أو لفظة، رفع حكمٍ شرعيٍّ أو لفظ الشارع، لأن مراتٍ قد تنسخ التلاوة فقط؛ لأن النسخ على ثلاثة أنواعٍ:
مرةً ينسخ الحكم مع بقاء التلاوة، كما في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ [الأنفال: 65]، ثم الآية التي بعدها قال: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ [الأنفال: 66]، في الأول أوجب المصابرة لعشرةٍ ثم خفف عليهم وأوجب المصابرة لاثنين فقط، فهذا نسخٌ للحكم مع بقاء التلاوة.
في مراتٍ تنسخ التلاوة مع بقاء الحكم، من يذكر له مثالًا؟
في آية الرجم، قال عمر: وعيناها وقرآناها، لكنها نسختْ، النسخ هنا للتلاوة فقط وليس للحكم.
وفي مراتٍ يكون النسخ للتلاوة وللحكم معًا، كما في قول عائشة كان فيما أُنزل عشر رضعاتٍ محرماتٍ، فنُسخن بخمسٍ، فهنا كان هناك آيةٌ وكان هناك حكمٌ، فرفع اللفظ والرسم ورفع الحكم كذلك.
قال: (والنسخ جائزٌ عقلًا وواقعٌ شرعً)، فالنسخ جائزٌ، وهناك أدلةٌ كثيرةٌ تدل على وجود النسخ، وهناك آياتٌ منسوخةٌ، وأما الجواز العقلي قال فلأن الله له أن يتصرف بما شاء، يحكم ما يريد وينسخ ما يريد، فالحكم له سبحانه وتعالى.
والأمر الثاني: أن مصلحة العباد قد تكون في تقرير حكمٍ في زمانٍ، ورفعه في الزمان الثاني، ولا يمتنع هذا.
والأمر الثالث: أنه لا يوجد مانعٌ، ما المستحيل؟ ولله أن يحكم ما شاء، وله فوائد من البحث والتحليل ونحوهما.
ويدل على ذلك أيضًا: أن الله -عزَّ وجلَّ- قد يحقق مصلحة العباد بمثل هذا النسخ، وأما الأدلة الشرعية فذكرنا قبل قليلٍ قوله: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَ﴾ [البقرة: 106]، وما ورد في آية المصابرة ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْف﴾ [الأنفال: 66]، وما ورد في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وما ورد أيضًا في وجوب تقديم صدقةٍ بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، ثم رفع هذا الحكم، فهذا من النسخ.
بعض المعتزلة ينفي وجود النسخ، يقول: لعدم وجود مصلحةٍ من إبقاء حكمٍ ولكن مثل هذا القول يناقض حقيقة الأمر، بل هناك مصالح كما تقدم.

ما الذي يمكن أن يرد عليه النسخ؟
هناك أشياءٌ لا يرد عليها نسخٌ، مثل:
الأخبار الماضية، لا يرد عليها نسخٌ، قد يرد إليها تخصيصٌ وتوضيح المراد، لكن ما يرد إليها نسخٌ، لأن خبر الله لا يكون كذبًا.
إلا أنه في بعض المرات يأتيك الحكم بصورة الخبر، فيتخلف فحينئذٍ نعرف أنه ليس خبرًا، مثلًا في قوله: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ [البقرة: 233]، خبرٌ، لكننا نجد بعض الوالدات لا يرضعن أولادهن حولين كاملين، فحينئذٍ نقول: ليس المراد الخبر وإنما المراد الأمر، كأنه يأمر أو يرشد الوالدات إلى الإرضاع لهذه المدة.
كذلك الأصول الباقية في الدين لا يرد عليها النسخ، ما يأتينا واحدٌ يقول: التوحيد وإفراد الله بالعبودية منسوخٌ، لا، هذا فوق النسخ، ما يرد النسخ إلا لما يكون فيه مصلحةٌ عند تغير الأحكام، مثال ذلك: مكارم الأخلاق، مثال ذلك أيضًا: أصول العبادات، فهذه لا يمكن أن يكون فيها نسخٌ.
كذلك أيضًا النهي عما يكون قبيحًا في اختلاف الأزمان والأماكن، كالشرك، ما يأتي واحدٌ يقول النهي عن الشرك منسوخٌ.
يشترط للقول بالنسخ أحد أمرين، أو يثبت النسخ بطريقين:
الطريق الأول: عند التصريح بالنسخ، «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروه»، ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ﴾ [الأنفال: 66]، فيه تصريحٌ بالنسخ.
الحالة الثانية: عند التعارض وعدم إمكان الجمع، فإذا تعارض عندنا دليلان فحينئذٍ نحاول الجمع بينهما، لحمل أحدهما على محلٍ، والآخر على محلٍ آخر، فإذا لم نتمكن من الجمع وعرفنا التاريخ، ذهبنا إلى باب النسخ، فعملنا بالخبر والدليل المتأخر.
أما إذا لم نعرف التاريخ فحينئذٍ نرجح بين الدليلين المتعارضين، إذن عندنا طريقان: الطريق الأول: التصريح بالنسخ، والطريق الثاني: عند التعارض وعدم إمكان الجمع.
يشترط أن يكون الناسخ متأخرًا، لو ورد الخطاب مع معارضه في زمانٍ واحدٍ فلا يمكن أن يقال بوجود النسخ، هكذا أيضًا مثلًا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاثٍ، من أجل الدافة، ألا فكلوا وادخرو»، هذا نسخٌ، كان في أول الإسلام يقول: الذبيحة التي يذبحونها في الأضحية ما يبقى منها شيءٌ بعد ثلاثة أيامٍ، ثم بعد ذلك نُسخ هذا الحكم.
المؤلف مثَّل لنا بمثالٍ، «كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة»، هذا في نكاح المتعة، هل هذا من النسخ؟ كيف كان من النسخ؟
{كان مباحًا ثم حُرم، ألا إن الله حرمه}
هنا الإباحة الأولى ثبتت بدليلٍ شرعيٍّ ولا بخطاب الإباحة الأصلية؟ إباحة نكاح المتعة في أول الإسلام... هذا الحديث فيه أنه أباحه لهم، بمقتضى الإباحة الأصلية، العلماء في مسألة نكاح المتعة لهم قولان، قول يقول: بأنها كانت مباحةً بالإباحة الأصلية، فحرمت في يوم خيبر، وبقي التحريم، فحينئذٍ لا يوجد نسخٌ، لأن الحكم الأول وهو الإباحة لم يثبت بخطابٍ شرعيٍّ وإنما ثبت بالإباحة الأصلية.
والقول الثاني: يقول: بأنه كان مباحًا، فمنع منه في يوم خيبر، ثم أبيح فمنع فيه في يوم فتح مكة، وعلى هذا القول الثاني يكون فيه نسخٌ، بخلاف القول الأول.
على العموم هذه مسألةٌ جزئيةٌ، أهم شيءٍ أن تعرف أن النسخ لا يكون لحكمٍ ثابتٍ بالإباحة الأصلية، وإنما يكون لحكمٍ ثابتٍ بخطابٍ شرعيٍّ.
قال: قد يُعلم تأخر الناسخ إما بالنص كما في حديث: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروه»، أو بخبر الصحابي، يأتينا الصحابي ويقول هذا هو المتأخر، كما في قول عائشة: كان فيما أنزل عشر رضعاتٍ محرماتٍ، فنُسخن بخمسٍ.
كذلك يمكن أن يعرف النسخ بواسطة التاريخ عند وجود التعارض العام، إذن عندنا الآن نتكلم عن مواطن النسخ، تقدم معنا، ما الذي يدخله النسخ؟ يبقى معنا مسألة الأخبار، الأخبار الماضية قلنا إنه لا يدخلها نسخٌ، لأن خبر الله لا كذب فيه.
يبقى الأخبار المستقبلية، بعض العلماء قال: هذا قد ينسخه الله، خصوصًا في باب الوعيد، مثلًا في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة: 284]، هذا خبرٌ متعلقٌ بأمرٍ مستقبليٍّ أنه سيحاسبهم الله بجميع ما في قبولهم، ثم نزل بعدها في الآية التي تليها: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَ﴾ [البقرة: 286]، فنُسخ ما في الخبر الأول.
وبعض أهل العلم أخذ خطابًا وسطًا، وقال: النسخ ليس لذات الخطاب وإنما لما تضمنه من الأمر والنهي.
إذن قد يُعلم النسخ بواسطة الدليل، كقوله: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ﴾ [الأنفال: 66]، وقد يعلم بخبر الصحابي كما في قول عائشة الذي ذكرنا قبل قليلٍ، وقد يعلم بواسطة التاريخ، يتعارض عندنا دليلان فنعرف المتقدم من المتأخر بالتاريخ، وبالتالي نقول بأن المتأخر ينسخ المتقدم.
من أمثلة هذا: مسألة قطع الخف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في المحرم: «فمن لم يجد نعلين، فليلبس الخفين»، في الطريق قال: «ولقطعهما أسفل من الكعبين»، ولما وصل إلى عرفة لم يذكر هذا اللفظ: «ولقطعهما أسفل من الكعبين»، هنا تعارضٌ، هل يمكن أن نقول خطاب عرفة متأخرٌ فيكون ناسخًا للمتقدم؟
نقول هنا يشترط فيه ألا يمكن الجمع بينهما، بعض أهل العلم يمكن الجمع بين الدليلين بأن نحمل المطلق على المقيد، فيكون وجهًا من أوجه الجمع.
لابد أن يكون الناسخ ثابتًا ما ترفع حكمًا بدليلٍ غير ثابتٍ، حتى تتيقن وأنه الدليل حديثٌ صحيحٌ، أو آيةٌ مفهومها أو دلالاتها واضحةٌ وجليةٌ، بعضهم يقول: لابد أن يكون الناسخ أقوى من المنسوخ أو على الأقل يكون مماثلًا له، ورتبوا عليه أن المتواتر لا ينسخ الآحاد.
ذكر المؤلف بعد ذلك أقسام النسخ، وقال: (منها ما نسخ حكمه وبقي رسمه ولفظه)، وقد تقدم معنا مثل آية المصابرة، قال: والحكمة من هذا النوع بقاء ثواب القراءة، وتذكير الأمة بحكمة النسخ، ليعرفوا فضل الله عليهم لما خفف عنهم في الحكم.
الثاني: ما نسخ لفظه وبقي حكمه، مثل آية الرجم، لماذا ينسخ اللفظ مع بقاء الحكم؟ لاختبار الأمة، هل يعملون بمثل ذلك؟، ولتحقيق إيمانهم بكونهم يعملون بدليلٍ لم يبق ثابتًا في القرآن.
النوع الثالث: ما نسخ لفظه وتلاوته، مثل: حديث عائشة الذي ذكرناه قبل قليلٍ.
كذلك ينقسم النسخ باعتبار الناسخ والمنسوخ إلى أقسام:
الأول: نسخ القرآن بالقرآن، مثل آية: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ﴾ [الأنفال: 66].
الثاني: نسخ السنة بواسطة القرآن، فاستقبال بيت المقدس ثبت بالسنة، فنسخ وجعلت القبلة الكعبة بواسطة القرآن، فهنا نسخٌ للسنة بواسطة القرآن.
الثالث: وهناك نسخٌ للقرآن بواسطة السنة، آيةٌ قرآنيةٌ تنسخها سنةٌ، بعضهم يمثل لهذا بقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ﴾ [البقرة: 180]، قالوا هذه نسخت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث».
النوع الرابع: نسخ السنة بالسنة، وهذه أمثلتها كثيرةٌ، «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروه»، مثالٌ آخر .
{حديث المتعة}
جيد، غيره، قال المؤلف: «كنت نهيتكم عن النبيذ في الأوعية، فاشربوا فيما شئتم ولا تشربوا مسكرً».
ما هي الحكمة من النسخ؟ ولماذا شرع النسخ؟
قال هناك حكمٌ: منها: مراعاة مصالح العباد، لأن مصالحهم متفاوتةٌ، وبالتالي يشرع لهم ما يكون نافعًا لهم.
وهكذا من حكم النسخ: التدرج في التشريع، خصوصًا للناس في أول الإسلام لأن قلوبهم ما زالت متعلقةً بحالهم الأول.
هكذا أيضًا من حكم النسخ: اختبار العباد هل يقبلون أو لا؟.
كذلك من حكم النسخ: أن نعرف فضل الله علينا، عندما يحصل تخفيفٌ نعرف فضل الله عزَّ وجلَّ علينا.
عقد المؤلف بعده مبحثًا في الأخبار.
والمراد بالأخبار سنة النبي صلى الله عليه وسلم سواءً القولية أو الفعلية.
إذن ما هي الأخبار؟
ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى صحابته.
قد يقول قائلٌ: البحث في السنة موجودٌ هناك في المصطلح وفي الحديث، فلماذا يا علماء الأصول تبحثونه أنتم؟ فنقول: الوجه الذي يبحث فيه مختلفٌ، هناك يبحثون من أجل التصحيح والتضعيف، وهنا يبحث من أجل فهم المراد من ذلك الخبر، وليس المراد بهذا البحث هو التصحيح والتضعيف.
ثم هذه المباحث أول ما كتب فيها في علم الأصول، لأن أول من كتب في هذه المباحث هو الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، النظر الأصولي من أجل إيجاد ملكةٍ في ذهن الدارس يتمكن بها من استخراج الأحكام الشرعية من الأدلة.
الأمر الآخر: أن علماء المصطلح يعنون بالتقسيمات والمصطلحات، بينما علماء الأصول يعنون بتحقيق القول في هذه الأسانيد وأخذ الأحكام منها، ولذلك نجد أن أهل المصطلح يأخذون هذه القواعد كقواعد مسلمةٍ ولا يبحثون في أدلتها، قواعد المصطلح، لكن عندنا هنا في الأصول نجد أنهم يعنون بالاستدلال لها، والجواب عن أدلة المخالف، ويذكرون من يخالفهم، وبالتالي هناك فرقٌ بين البحث الأصولي والبحث الحديثي لمبحث الأخبار.
الخبر في اللغة: النبأ، تقول: جاءني خبرٌ، يعني جاءني نبأٌ.
وأما المراد به هنا: هو ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأقوال والأفعال والتقريرات، بعضهم يزيد أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم.
السنة حجةٌ، وقد تقدم معنا بيان الأدلة الدالة على حجية السنة، لكن الآن نبحث عن الفعل، لأنَّا قلنا إن السنة إما قولٌ وإما فعلٌ وإما تقريرٌ، بالنسبة تقدم معنا الحديث فيها، أخذنا العام والخاص والأمر والنهي والمطلق وبالتالي نحيل البحث هناك، لكن يبقى الآن معنا الأفعال النبوية.
أفعال النبي صلى الله عليه وسلم على أنواعٍ:
النوع الأول: ما فعله -صلى الله عليه وسلم- جبلةً، أو فعله لعادة أهل زمانه، فهذا لا يُقال فيه بالسنية.
مثال ذلك: كونه يلبس إزارًا، نقول: هذا فعله لأنه وجد أهل زمانه يفعلونه، لبس الخاتم، سنة ولا ما سنة؟ النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قيل له: إن ملوك زمانه لا يقبلون الكتاب إلا إذا كان مختومًا، فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم الخاتم.
إذن هل اتخاذه للخاتم عبادةٌ، أو اتخذه لعادة أهل زمانه الذين لا يقبلون الكتاب إلا إذا كان مختومًا؟
لعادته، وبالتالي لا يكون هذا الفعل من السنة، ولذلك مثلًا كون النبي بال في بعض المواطن، هل يجب أن أقتدي به وأبول في محاله، لم يختر هذا المكان لذاته، ولم يتقرب لله عزَّ وجلَّ بقضاء حاجته في ذلك المكان.
مثالٌ آخر: جاء حمود وقال أنا أطبق السنة في الحج، كيف يا حمود؟
قال: أحج بإبل، أركب البعير لأكون مقتديا بالسنة، نقول هذا بدعةٌ، لماذا؟
لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقصد التقرب لله به، وأنت تقصد التقرب لله بذلك، فأنت وإن وافقت في الظاهر، لكنك في الباطن مخالفٌ، غير موافقٍ لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم، وبالتالي نقول: لا يشرع هذا الفعل، ما يأتينا أحدٌ بجمله يركب ويتنقل بين المشاعر.
إذن هذا النوع الأول، ما فعله بمقتضى الجبلة، وما حكمه؟ هذا دليلٌ على إباحته، لا يكون مأمورًا به، ولا منهيًّا عنه إلا لورود دليلٍ آخر، واضح يا سمير، متى حلقت شعرك؟
{بالأمس}
بالأمس القريب، النبي -صلى الله عليه وسلم- كان له شعره طويلًا، لماذا لم تفعل السنة؟
{لأن الشعر يشوش عليَّ فلذلك أنا ..}
نقول ليس هذا من السنة، إنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لأن عادة أهل زمانه يتركونه، لم يتركه تقربا لله تعالى، وبالتالي لا يكون هذا من السنة، أو لا يكون أمرا مستحبًا.
إذن الأفعال الجبلية أفعال العادات هذه ليست شرعًا يتقرب به لله جلَّ وعلَا.
النوع الثالث من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم الأفعال الخاصة به صلى الله عليه وسلم، من أمثلة ذلك: أنه كان تزوج بتسعٍ، بينما قال لغيلان الثقفي لما أسلم وعنده عشر، قال: «أمسك أربعًا وفارق سائرهن».
فحينئذٍ هل يشرع لنا أن نقتدي به صلى الله عليه وسلم في الأفعال الخاصة به، نقول لا يجوز، ومن أمثلته: ﴿وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ [الأحزاب: 50].
مثالٌ آخر: في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَد﴾ [الأحزاب: 53]، فهنا هذا دليلٌ على أن هذا الحكم خاصٌّ به صلى الله عليه وسلم، أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا يتزوجن بعده صلى الله عليه وسلم، فهذا حكمٌ خاصٌ به.
ما الحكم في الفعل الخاص؟
نقول: يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، لكن يلاحظ أننا لا نحكم على فعلٍ بأنه خاصٌّ به، إلا إذا قام الدليل عليه، لأن الأصل هو أننا نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأننا نتأسى به صلى الله عليه وسلم.
النوع الرابع: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على جهة العبادة والقربى، يتقرب به لله عزَّ وجلَّ، فهذا يشرع لنا أن نقتدي به فيه، ويجب ويؤجر من فعله اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الوضوء يخلل لحيته، فنقول هذا فعلٌ يؤجر العبد عليه.
وهناك نوعٌ خامسٌ وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في توضيح حكمٍ شرعيٍّ، فيأخذ فعله حكم ذلك المحل، مثال ذلك: خطبة الجمعة واجبةٌ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقف ثم يجلس ثم يقف في الخطبة الثانية، ما حكم هذا الجلوس؟ نقول واجبٌ، لماذا؟ لأن الحديث الوارد فيه جاء بيانًا للدليل الدال على وجوب خطبة الجمعة، فيكون هذا الجلوس من الواجبات.
قال مثال ذلك في قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [البقرة: 43]، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم أفعالًا فالأصل أن تدل على الوجوب.
قال ومثاله في المندوب: صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين خلف المقام بعد أن فرغ من الطواف بيانًا لقوله تعالى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: 125]، فصلى هذه الصلاة، فقلنا بأنها مشروعةٌ وهذا بيانٌ له، وقوله: ﴿وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ﴾ قد جاءنا الصارف الذي يدل على صرفه عن الوجوب، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
النوع الثالث من أنواع السنة: السنة الإقرارية.
لعلنا إن شاء الله نأتي لتفصيلها في المستقبل، لكن نريد أن نرسخ ما أخذناه هذا اليوم.
أول مبحث أخذناه: المجمل والمبين.
ما حكم المبين؟ يجب العمل به.
ما أقسامه؟ نص يدل على معناه صراحةً بلا احتمالٍ، وظاهرٌ يدل على معنيين هو في أحدهما أرجح، ماذا نفعل به؟ يجب حمله على المعنى الأرجح.
الثاني: المجمل، سواءً كان مجملًا في حقيقته، أو في عدده، أو في صفته.
ما حكمه؟
نبحث له عن مبينٍ يوضح المراد منه.
المبحث الثاني: في الظاهر والتأويل.
الأصل في الألفاظ الظاهرة أن تحمل على المعنى الراجح، ولا يجوز حملها على المعنى المرجوح إلا بدليلٍ، وحمل اللفظ على معناه المرجوح يسمى تأويلًا، فإن كان لغير دليلٍ فهو تأويلٌ فاسدٌ وباطلٌ، وإن كان التأويل لدليل فحينئذٍ يكون تأويلًا صحيحًا مقبولًا.
ثم أخذنا ما يتعلق بالأخبار، وذكرنا حقيقة لماذا يبحث علماء الأصول الأخبار وما الفرق بين المبحث الأصولي والمبحث الحديثي، ثم تكلمنا عن أنواع السنة، قلنا إنها ثلاثة أنواعٍ: سنةٌ قوليةٌ، وسنةٌ فعليةٌ، وسنةٌ تقريريةٌ.
السنة القولية: تقدمت معنا.
باقي معنا السنة الفعلية، السنة الفعلية على أنواعٍ، المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم من أفعاله على أنواعٍ:
الأول: أفعال الجِبلة، مثلها أفعال العادات وهذه لا يشرع لنا أن نقتدي به فيها، الاقتداء به فيها نوعٌ من أنواع الابتداع إذا لم يكن الناس يفعلونها.
الثاني: أفعاله الخاصة تختص به.
الثالث: ما كان بيانًا لواجبٍ، فيأخذ حكم الواجب.
الرابع: ما فعله على جهة التقرب لله عزَّ وجلَّ فيشرع لنا أن نقتدي به فيها.
أسأل الله جلَّ وعلَا أن يرزقنا وإياكم علما نافعًا، وعملًا صالحًا، اللهم وفقهم لتوفيقك، واهدهم بهدايتك، اللهم يسر لهم أمور دنياهم وآخرتهم، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك