الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد..
فأرحب بكم في لقاءٍ جديدٍ من لقاءاتنا في الأكاديمية، نتدارس فيه علم الأصول، كنا
في اللقاء السابق تحدثنا عن دليل القياس، وذكرنا حقيقة هذا القياس، وَمَثَّلنَا له
بأمثلةٍ وبينَّا أركانه، وذكرنا شروط القياس، وكان من الشروط التي ذكرنا للقياس عدم
مُصادمته للنص أو الإجماع؛ لأن القياس المصادم لأحدهما يعد فاسد الاعتبار.
والشرط الثاني ثبوت حكم الأصل، إما بنصٍّ أو بإجماعٍ.
والشرط الثالث: أن يكون حكم الأصل معللًا معلوم العلة، وحتى نتمكن من الإلحاق به.
والشرط الرابع: أن تكون العلة أو الوصف الجامع مشتملًا على مناسبةٍ لتشريع الحكم.
والشرط الخامس: أن تكون العلة موجودةً في الفرع كوجودها في الأصل.
صهيب كان عندك سؤالٌ نعم.
{جزاكم الله خيرا، هل يجوز قياس الغبار على المطر للجمع بين الصلاتين؟
السؤال الثاني: هل يجوز للمريض الجمع بين الصلاتين قياسًا على أنه يجد مشقةً في
جسمه؟}
عندنا إذن مسألتان، المسألة الأولى في الجمع، أين الأصل: المطر، أين الفرع: الغبار،
أين الحكم: جواز الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء. أين العلة الجامعة؟
{المشقة}
المشقة لا يصح أن نقيس بناءً عليها؛ لأن وصف المشقة ليس وصفًا منضبطًا، ما معنى
كونه وصفًا منضبطًا؟ أن نعرف بالتحديد ما يدخل فيه وما لا يدخل فيه، وبالتالي لا
يصح أن نجعله وصفًا جامعًا.
مثلًا لما يقول في المطر: كلاهما يؤثر على الثياب أو يؤثر على الرؤية أو يعجز من
الوصول إلى المسجد، هذا قياسٌ بوصفٍ منضبطٍ وبالتالي يصح التعليل به، أما وصف
المشقة فهذا لا يصح أن يعلل به، لماذا؟ لأنه وصفٌ غير منضبطٍ وغير معروف المعالم
والحدود، ولذلك قد يأتينا بعض الناس ويرجئ الصيام بناءً على ربط الفطر بالمشقة.
مثال ذلك: يقول: المسافر يفطر لوجود المشقة، فحينئذٍ يأتي شخصٌ ويقول: الذي يبني
العمارة في الدور خمسة وثلاثين والدور ستة وثلاثين عليه من المشقة ما ليس على
المسافر، لو ربطنا الحكم بالمشقة لقلنا: يفطر.
فيقول الآخر: الخباز الذي يواجه حرارة الفرن هذا عليه مشقةٌ أعظم، فيفطر.
ويقول الآخر: سائق التاكسي عليه مشقةٌ كبيرةٌ في الصيام في الصيف وبالتالي يفطر.
ويقول الآخر: لاعبوا الكرة أو الممثلون عليهم مشقةٌ من الصيام أثناء أداء عملهم في
رمضان فيفطرون.
ويأتينا واحدٌ آخر ويقول: الموظفون مساكين عليهم مشقةٌ، فيفطرون.
ويأتي آخر ويقول: المعلم مسكينٌ يصالي أسئلة الطلاب وعدم انضباطهم وحاجتهم للتقويم
والتسديد، فيفطر، والطلاب أيضًا عليهم مشقةٌ في التعلم فيفطرون.
هل يبقى أحدٌ بعد ذلك ممن يصوم؟
{لا}
إذن هذا يؤدي إلى إلغاء الأحكام الشرعية، لماذا؟
لأننا ربطنا الحكم بوصفٍ غير منضبطٍ، لابد أن يكون الوصف الذي يعلل الحكم به وصفًا
منضبطًا.
واضح يا شيخ أحمد.
المسألة الثانية: تقول جمع المريض، قستها على ماذا؟ هل قستها؟ أم أخذتها من الحديث
الذي فيه أنه جمع بين الظهر والعصر ثمانية، وبين المغرب والعشاء سبعة، أراد ألا
يحرج أمته، أو مما ورد في المستحاضة، إذن الأول استدلال بعموم، لا يدخل معنا في
مبحث القياس، الثاني: قياسه على المستحاضة هذا قياسٌ، الأصل: المستحاضة.
الفرع: المريض.
الحكم: جواز الجمع.
العلة: مشقة التطهر، أو صعوبة التطهر، هناك مشقةٌ بشكل العموم، لكن صعوبة التطهر.
إذن واضح جواب الأسئلة.
ننتقل إلى ما نحن فيه، يقول: (القياس ينقسم إلى جليٍّ وخفيٍّ)،
النوع الأول من القياس:
القياس الجلي: ما معنى كلمة جلي؟ واضحٌ، والقياس الجلي له ثلاثة أنواعٍ:
- النوع الأول من القياس الجلي: إذا كانت العلة ثابتةً بواسطة النص أو الإجماع، فما
كانت علته منصوصةً فإننا حينئذٍ نقول: القياس فيه جليٌّ.
مثال ذلك: هل يجوز الاطلاع بمكبر الرؤية على ما في المنازل؟ نقول: لا، طيب هل فيه
حديثٌ يمنع من ذلك؟ نقول: جاء الحديث بتحريم الدخول قبل الاستئذان، فبالتالي نقيس
عليه هذه المسألة.
إذن الأصل: الدخول بدون استئذانٍ.
الفرع: المشاهدة بواسطة مكبر الرؤية.
الحكم: المنع.
التعليل: فيه مشاهدة أهل البيت بدون إذنهم.
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر»، فهنا العلة
من أجل البصر منصوصةٌ في الحديث، فيكون القياس قياسًا جليًّا.
مثالٌ آخر: الاطلاع بآلات المراقبة، أو يأتيك واحدٌ ويأخذ جهاز الكمبيوتر ويدخل على
جهاز كمبيوتر آخر يشاهد من يطالعه، فهذا نقول ما حكمه؟
ما حكم الاطلاع على بيوت الآخرين بواسطة الحاسب، أو بواسطة أجهزة المراقبة؟
نقول: لا يجوز، لماذا؟ قياسًا على منع الدخول قبل الاستئذان.
ما الجامع بينهما؟ البصر، أن فيه مشاهدة بيوت الآخرين بدون إذنهم، وهذه علةٌ
منصوصةٌ في الحديث، فيكون هذا القياس قياسًا جليًّا.
واضح؟ مثال ذلك أيضًا: في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقضي القاضي
حين يقضي وهو غضبان»، وقع إجماع العلماء على أن العلة هي تشوُّش الذهن، فبالتالي
نقيس على الغضب كل ما يشوش الذهن من مثل: كونه حاقنًا أو حاقبًا أو جائعًا فهنا
العلة مجمعٌ عليها، وبالتالي يكون القياس قياسًا جليًّا.
- النوع الثاني من أنواع القياس الجلي: إذا كنا نجزم بعدم وجود فارقٍ بين الأصل
والفرع، فحينئذٍ نلحق الفرع بالأصل بالقياس الجلي.
ومن أمثلة ذلك: جاءنا في النص ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى
ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَار﴾ [النساء: 10]، تفيد تحريم
أكل الولي لمال اليتيم، مثل لو جاءنا الولي فأخذ مال اليتيم فألقاه في البحر، بدون
أن يأكله، ما حكمه؟ قال الولي: النص إنما جاء بتحريم الأكل، وأنا لم آكله، فنقول
هنا: نلحقه بالمنصوص عليه لعدم وجود الفارق، فهذا ماذا يسمى؟ إلحاقٌ بنفي الفارق،
ما حكمه: قياسٌ جليٌّ.
مثال ذلك: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ،
ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى
رَكْعَتَيْنِ، كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ»، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَامَّةٍ، تَامَّةٍ، تَامَّةٍ»، طيب
والنساء؟، النساء في معنى الرجال، لا يوجد فرقٌ هنا، فبالتالي يكون هذا قياسًا
جليًّا؛ لأنه إلحاقٌ بنفي الفارق وبالتالي نحن أصلًا لا نحتاج إلى إثبات العلة.
وبالتالي عرفنا أنواع القياس الجلي، إما أن تكون العلة منصوصةً، وإما أن يكون
القياس بنفي الفارق.
النوع الثاني من القياس:
القياس الخفي: وهو الذي لم يُنص على علته، ولم يكن الإلحاق فيه بنفي الفارق، مثال
ذلك: جاء في الحديث: «البر بالبر ربا إلا هاء وهاء»، لماذا جعل الربا في البر؟
قلنا: لأنه مكيلٌ مطعومٌ، هل هذه العلة منصوصٌ عليها، نقول: ليست منصوصًا عليها.
فألحقنا به الذرة، وألحقنا به الرز، وقلنا: الذرة والرز يجري فيهما الربا، هل نحن
نجزم بعدم وجود فارقٍ بين الذرة والرز وبين البر؟
لا نجزم بذلك، هناك فروقاتٌ، البر يطحن ويخبز، والرز والذرة لا يفعل بهما ذلك،
فهناك فروقاتٌ، فنحن لا نجزم بنفي الفارق، وبالتالي لا يكون هذا الإلحاق إلحاقًا من
باب القياس الجلي، وإنما هو من باب القياس الخفي.
وهذا يجعلنا نتحدث عن طرق أخذ العلة، إذن عندنا الأصل من أين أخذناه، لأنه منصوصٌ
عليه، منصوصٌ على حكمه، أو مجمعٌ عليه، الفرع: هو المسألة التي حدثت عندنا ونريد
معرفة حكمها.
الحكم: ثابتٌ في الأصل.
العلة من أين أخذناها؟
نقول: أخذ العلة له طرقٌ، منها:
مرات يكون منصوصًا عليها، صراحةً أو إيماءً، مثل قوله قبل قليلٍ: «إنما جعل
الاستئذان من أجل البصر»، كلمة من أجل تفيد أن ما بعدها للتعليل، هناك أدواتٌ
معينةٌ للتعليل، مثال ذلك مثلًا: (اللام) التي للتعليل، هذه تفيد التعليل،
﴿وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 122].
كذلك من الأدوات (إنَّ)، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها من الطوافين
عليكم والطوافات»، إن هنا أداة تعليلٍ.
كذلك هناك طرقٌ تسمى طريق الإيماء، من أمثلته أن يأتي الحكم معطوفًا على الوصف
بالفاء، كقوله: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَ﴾ [المائدة:
38]، الحكم: اقطعوا، أتي به بعد الوصف، عقب عليه بحرف الفاء، فدل هذا على أن السرقة
علةٌ للقطع.
سها فسجد، هذا دليلٌ على أن سجود السهو معللٌ بالسهو، وهكذا هناك طرائق متعددةٌ
معروفةٌ عند الأصوليين منصوصةٌ لاستخراج العلة.
وقد تستخرج العلة بواسطة إجماعٍ، يجمع العلماء كما في الحديث السابق، «لا يقضي
القاضي حين يقضي وهو غضبان»، ما العلة؟ نقول أجمع العلماء على أن علة هذا الحكم هو
تشوش الذهن، فهذه علةٌ مجمعٌ عليها.
وقد يكون استخراج العلة بواسطة الاستنباط، والاجتهاد، وهذا له طرائق أشهرها ثلاثةٌ.
أولها: السبر والتقسيم، بأن نجمع جميع الأوصاف الموجودة في محل الحكم ثم نبطل
التعليل بها إلا وصفًا واحدًا فيكون هو العلة.
مثال ذلك، قال: «البر بالبر رب»، ما العلة؟ يحتمل للونه، يحتمل لحجمه، يحتمل لأنه
يؤكل، ويحتمل لأنه مطعومٌ، ويحتمل لأنه قوتٌ، ثم يبدأ ويفسدها واحدةً واحدةً حتى لا
يبقى معه إلا وصفٌ واحدٌ، فهذا يسمى السبر والتقسيم.
من طرائق استخراج العلة ما يسمى بالدوران، بحيث أننا إذا وجدنا وصفًا مُقترنًا
بحكمٍ يوجد بوجوده وينتفي بعدمه نجعل ذلك الوصف علةً.
مثال ذلك: العصير حلالٌ أم حرامٌ؟ حلالٌ؛ لأنه ليس بمسكرٍ، الخمر حرامٌ لأنها
مسكرةٌ، الخل حلالٌ لأنه غير مسكرٍ، فدل ذلك على أن الحكم وهو التحريم يدور مع
الوصف الذي هو الإسكار وجودًا وعدمًا، فكانت هي العلة.
كما أن الأطباء يستخدمون هذا في التجارب أو غيرهم، فيثبتون بالدوران الحكم.
أيضًا هناك من الطرق ما يتعلق بالمناسبة، إذا وجدنا هناك وصفًا مناسبًا لتشريع
الحكم مقترنًا بمحل الحكم، فحينئذٍ نقول هذا الوصف هو العلة.
- النوع الثاني من أنواع القياس هو القياس الخفي.
وهو الذي استنبطت علته، ليست منصوصةً وإنما بطرائق الاستنباط، سواء بالسبر والتقسيم
أو الدوران أو المناسبة، ولم نقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع.
مثال ذلك: في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ولغ الكلب في إناء
أحدكم فليغسله سبعًا إحداهن بالتراب».
هل نقيس الخنزير على الكلب؟
قالت طائفة: نعم، هذا القياس ليس منصوصًا على علته، ونحن لا نجزم بنفي الفارق بين
الكلب والخنزير، فبالتالي فمن ألحق الخنزير بالكلب هنا فإن قياسه قياسٌ خفيٌّ، وليس
قياسًا جليَّا، قال: «إحداهن بالتراب»، طيب الصابون، بعض العلماء قال: الأشنان تلحق
بالتراب، فهنا العلة غير مجزومٍ بها وغير منصوصةٍ ولا مجمعٌ عليها، ولا يجزم بنفي
الفارق بين الأصل والفرع، فيكون هذا قياسًا خفيًّا.
هناك نوعٌ من أنواع القياس يقال له: قياس الشبه.
قياس الشبه يطلق على ثلاثة مسمياتٍ، وهي:
الأول: أن يراد به الشبه في الصورة، يقول: أكل لحم الإبل ينقض الوضوء، والزرافة
صورتها قريبةٌ من صورة الإبل، فبالتالي أكل لحمها ينقض الوضوء، نقول هذا قياسٌ لا
يعول عليه؛ لأن الشبه في الصورة لا قيمة له.
لو جاءنا واحدٌ وقال: المني يشابه المذي، والمذي نجسٌ فيكون المني نجسًا، لوجود
الشبيه بينهما، نقول هذا الشبه لا قيمة له؛ لأن الشبه في الصورة لا يُبنى عليه
حكمٌ، الحُكم يُبنى على العِلل والمعاني، إذن هذا هو النوع الأول الشبه في الصورة.
المعنى الثاني: القياس الشبهي.
بحيث نلحق محلًا بمحلٍ بأوصافٍ لا مدخل لها في الحكم، بأوصافٍ طرديةٍ، مثال ذلك:
مثلنا بمسألةٍ لو قال قائلٌ: مس الذكر لا ينقض الوضوء، قياسًا على مس الفأس، قال:
بجامع أن كلًا منهما آلة حرثٍ، نقول: هذا الوصف وصفٌ طرديٌّ لا يصح بناء الحكم
عليه.
أو جاءنا شخصٌ وقال: كل من اسمه ماعز، نرجمه قياسًا على ماعز الوارد في الحديث،
نقول: هذا القياس جمعٌ لوصفٍ طرديٍّ وهو المشابهة في الاسم، وبالتالي هذا قياسٌ
شبهيٌّ، لا يبنى عليه حكمٌ ولا يصح أن يعول عليه.
النوع الثالث: قياس الأشباه، أو قياس غلبة الأشباه، ويسميه بعضهم قياس الشبه.
ما هو قياس الشبه هذا؟ أن يوجد عندنا فرعٌ يتردد بين أصلين، يمكن أن يلحق هنا ويمكن
أن يلحق هنا، وبالتالي ننظر أيهما أكثر شبهًا به، فنلحقه به.
مثال ذلك: عندنا المغمى عليه، هل هو كالمجنون أو هو كالنائم؟، يعني شخصٌ عندنا الآن
أغمي عليه يومًا وليلةً، يقضي الصلاة ولا ما يقضي؟
إن قلنا: هو كالمجنون فإنه لا يقضي الصلاة؛ لأنه غير مخاطبٍ، وإن قلنا: هو كالنائم،
فإنه يقضي الصلاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاةٍ أو نسيها
فليصلها إذا ذكره»، ماذا تقولون؟
نأتي بأوصاف النائم، وأوصاف المجنون، ونرى المغمى عليه، أيهما شبهه أكثر بالنائم أو
بالمجنون؟
يأتينا واحدٌ ويقول: المجنون لا يمكن إفاقته كالمغمى عليه، بخلاف النائم توقظه
يستيقظ.
يأتينا واحدٌ آخر ويقول: الجنون لا يجوز على الأنبياء، والإغماء يجوز على الأنبياء،
وبالتالي نلحقه بالنوم، هكذا نبحث عن أيهما أكثر شبهًا به.
ولذلك ذهب أحمد إلى أن الإغماء نومٌ، فيجب القضاء معه، وذهب الإمام مالك والإمام
الشافعي إلى أنه جنونٌ، وبالتالي قالوا: إنه لا يقضي الصَّلاة.
الإمام أبو حنفية توسط، إن كان إغماؤه يومًا وليلةً فأقل فهو بمثابة النوم يقضي،
وإن كان إغماؤه أكثر فإنه لا يقضي إلحاقًا له بالمجنون، ومذهب أبي حنفية في هذه
المسألة أقوى.
نأتي بمثالٍ آخر: عندنا التيمم له شبهٌ بالوضوء، وله شبهٌ بإزالة النجاسة، وبالتالي
يبقى مترددًا في عددٍ من الأحكام هل هو يلحق بالوضوء أو يلحق بإزالة النجاسة؟ مثلًا
هل يشترط فيه نيةٌ؟ مثلًا هل يشرع له تسميةٌ؟ نقول: إنه إزالة نجاسة لا يشرع له
تسميةٌ.
مثال آخر: مثلًا في الكفارات هل هي عباداتٌ أو عقوباتٌ؟ يبقى ترددًا، وبالتالي يقع
اختلافٌ في كثيرٍ من مسائلها بناء على الاختلاف في ذلك.
مثال آخر: نفقة المطلقة الحامل، هل هي نفقة زوجةٍ، أو نفقة قريبٍ؟
إذا كانت نفقة زوجةٍ فتجب ولو مع غناها، إن كانت نفقة قريبٍ فلا تجب مع غنى الجنين،
ممكن يصير وارثًا، نفقة الزوجة لا تسقط بالتقادم، ونفقة القريب تسقط بالتقادم، طيب
نفقة المطلقة الحامل البائن هل هي مما يسقط بالتقادم أو لا بناءً على ذلك الأصل؟
مثلها أيضًا في الخلع، هل هو طلاقٌ أو فسخٌ؟
هناك طائفةٌ يقولون: هو طلاقٌ؛ لأنه يحصل به فرقةٌ، ويكون بلفظٍ من الزوج، بينما
آخرون قالوا: هو فسخٌ، ماذا يترتب على ذلك؟ هل نحسب الخلع في عدد مرات الطلاق،
طلقها مرتين وخلعها الثالثة، ثم أرادا أن يتراجعا، يرجع أم لا يرجع؟ إن قلنا: الخلع
طلاقٌ فلا يرجع، وإن قلنا: الخلع فسخٌ، فإنه يرجع.
مثالٌ آخر: صلاة الجمعة، هل هي صلاةٌ مستقلةٌ أو بدلٌ؟ أي: صلاةٌ مستقلةٌ مثل: صلاة
العيد، أو هي بدلٌ عن صلاة الظهر؟
ترددٌ، فحينئذٍ نلحقها بأكثرها شبهًا، ولذلك فسر قياس الشبه بأن يتردد فرعٌ بين
أصلين مختلفي الحكم، وفيه شبهٌ بكلٍ منهما، فيلحق بأكثرهما شبهًا.
مثال ذلك: البغل هل هو حمارٌ أو فرسٌ؟ الفرس هل نلحقه بالحمار أو نلحقه بالجمل؟
يترتب على ذلك مسائل.
لذلك الحنفية يرون أنه لا يجوز أكله، إلحاقًا له بالحمار، والجمهور يرون جواز أكله
إلحاقًا له بالجمل، فهذا كله يسمى ماذا؟ قياس الأشباه، أو قياس الشبه.
مثَّل له المؤلف: بالمملوك هل يملك بالتمليك، أو لا؟ عندما مملوك يباع ويشترى، قال
له سيده: تملك، فهل يملك أو نقول: لا يملك، من قال: نلحقه بالحر قال يملك، ومن قال:
نلحقه بالبهيمة، قال: لا يملك.
فحينئذٍ العبد مترددٌ بينهما، فله شبهٌ بالحر من أنه يُثاب وأنه إنسانٌ، وأنه
عاقلٌ، وأنه يعاقب، وأنه ينكح، ويطلق، بينما هناك أوجه شبهٍ له بالحيوان من جهة أنه
يباع وأنه يوقف ويوهب ويورث، ولا يُضمن بالدية، فحينئذٍ يأتي الفقيه ويجتهد في
إلحاق هذا الفرع بأيهما.
قياس غلبة الأشباه هذا كثيرٌ من العلماء يرون أنه من أنواع القياس الضعيف، وهو
اختيار المؤلف، وقال: (وهذا القسم من القياس ضعيف، إذ ليس بين الفرع وبين الأصل
علةٌ مناسبةٌ سوى أنه يشبهه في أكثر الأحكام مع أنه ينازعه أصلٌ آخر).
وبعض العلماء يقول: إذا كانت المعاني التي وجد الشبه فيها بين هذا الفرع وبين ذلك
الأصل، من العلل المؤثرة في الحكم، فحينئذٍ نجري القياس ولعله هذا القول أقوى.
إذن أخذنا الآن قياس الشبه، وهو نوع من أنواع القياس، هناك نوعٌ آخر يقال له قياس
العكس.
أغلب القياسات الموجودة يقال لها: قياس الطرد، بمعنى أن الأصل والفرع حكمهما واحدٌ
لاشتراكهما في العلة.
المخدرات ما حكمها؟ حرامٌ، قياسًا على الخمر، هنا العلة واحدةٌ، الإسكار، والحكم
واحدٌ، فيقال له: قياس الطرد.
في مقابله قياس العكس، وهو أن نثبت للفرع حكمًا مقابلًا لحكم الأصل، لتنافيهما في
العلة، واضحٌ، إذن قياس العكس إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع لماذا؟ لتنافيهما في
العلة.
من أمثلة ذلك: في قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ
لَفَسَدَتَ﴾ [الأنبياء: 22]، لكنهما لم يفسدا وبالتالي فلا يوجد إله إلا الله،
فهنا أخذنا من أنهما لم تفسدا معنًى جديدًا وهو أن الإله واحدٌ.
مثلوا له بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقةٌ»، قالوا: يا رسول
الله أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجرٌ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«أرأيتم إذا وضعها في حرامٍ أكان عليه وزرٌ»، قالوا: نعم، قال: «فكذلك إذا وضعها في
حلالٍ يكون له أجرٌ».
أين الأصل: الوضع في حرامٍ، الفرع: الوضع في حلالٍ، الحكم: الحكم في الأول التحريم
الأصل أو العقوبة، وفي الثاني: الأجر، لماذا؟ لتنافيهما في العلة، فيه حلالٌ وفيه
حرامٌ.
فحينئذٍ أثبت النبي صلى الله عليه وسلم للفرع وهو الوطء الحلال نقيض حكم الأصل وهو
الوطء الحرام لوجود نقيض علة حكم الأصل فهنا حلالٌ وهنا حرامٌ.
فهذا النوع يُسمى قياس العكس، وقياس العكس حجةٌ عند جماهير العلماء، إذن هذه أنواع
من أنواع الأقيسة التي يكون فيها الأحكام الشرعية.
هناك كان الأخ أحمد عنده سؤال كنت تسأل عن قياس الدلالة.
قياس الدلالة، الجمع بين الأصل والفرع بلازم العلة أو بأثرٍ من أثارها، ما نجمع
بينهما بذات العلة إما لخفائها أو لغير ذلك، وإنما نجمع بشيءٍ من لوازمها، فهذا
يسمى قياس الدلالة.
وقياس الدلالة من مواطن الاختلاف بين العلماء، وأضرب لذلك من الأمثلة:
مثلًا، أن يقول: صلاة العيد صلاةٌ يجهر بقراءتها في النهار، فيجوز فعلها قبل
الزوال، فكذلك صلاة الجمعة، فالجهر بالقراءة، هذا ليس له مدخلٌ ولا مناسبةٌ له في
كونها تفعل قبل الزوال أو بعد الزوال، ولكنه يدل على أن الوقت معتبرٌ، صلاة الليل
يجهر فيها، وصلاة النهار لا يجهر فيها، مما يدل على أن الوقت مؤثرٌ في هذا الأمر.
إذن عرفنا نوع قياس الدلالة، قياس الدلالة يمكن أن يكون في الكفارات، ويمكن أن يكون
في الحدود، ويمكن أن يكون في جميع الأحكام الشرعية، بعض الناس يقول: بأن العبادات
لا قياس فيها، نقول: لا، بل يمكن أن تقاس عبادةٌ على عبادةٍ أخرى، ولذلك مثلًا: لما
يأتينا إنسانٌ ويقيس لنا العمرة على الحج، في بعض المسائل، نقول هذا قياسٌ صحيحٌ
متى وجدت شروطه وأركانه.
المبحث الآخر الذي ذكره المؤلف هنا: مبحث التعارض.
المراد بالتعارض في اللغة التقابل والتمانع، يقال: تعارض الدليلان أي: تقابلا
وتمانعا، وأما في الاصطلاح، فالمراد به تقابل دليلين بحيث يخالف أحدهما الآخر.
هل يوجد في الشريعة تعارضٌ؟
نقول: لا يوجد في الشريعة تعارضٌ، لكن أذهاننا قد يخفى عليها بعض أحكام الشريعة
فنظن وجود التعارض فيها.
ما الدليل على أنه لا يوجد تعارضٌ في الشريعة؟
قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ
غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِير﴾ [النساء: 82].
فلما كانت من عند الله لا يمكن أن يوجد فيها تعارضٌ، لكن فيه مرات يقع تعارضٌ في
أذهاننا نحن، لأننا لم نعرف حقيقة الأمر، إذن التعارض في نفس الأمر لا يمكن أن يوجد
في الأدلة الشرعية، لأنها من عند الله، وقد تكفل الله عزَّ وجلَّ بعدم وجود
الاختلاف فيها، لكن التعارض قد يقع في أذهاننا لعدم معرفتنا بحقيقة الأمر.
ولا يوجد تعارضٌ إذا وجدت شروطٌ معينةٌ، منها:
الشرط الأول: صحة الدليلين، لو جاءنا واحدٌ بدليلٍ ضعيفٍ لا يصح أن يعارض به الدليل
القوي، مثال ذلك: جاءنا في الحديث: «ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه
فاقبلوه، وما لم يوافقه فلا تقبلوه»، هذا حديثٌ، ثم جاءنا في القرآن، يقول رب العزة
والجلال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُو﴾
[الحشر: 7]، ولم يُشترط وجوده في القرآن.
هنا تعارضٌ، الحديث الأول يقول: لا تقبلوا من الأحاديث إلا ما كان في القرآن،
والآية تقول: اقبلوا كل ما جاءكم به الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما ننظر للدليل
الأول نجده حديثًا ضعيفًا جدًا، وبالتالي لا يصح أن يُعول عليه أو يُبنى عليه حكم؟
إذن الشرط الأول من شروط التعارض: صحة الدليلين.
الشرط الثاني: أن يتحدا في محلٍ واحدٍ، لابد من اتحاد الزمان والمحل.
مثال ذلك: جاءنا في الحديث أن المرأة الحائض لا تصلي، وجاءنا الأمر بالصلوات،
فحينئذٍ جاءنا في الحديث: «دعي الحديث أيام أقرائك»، وجاءنا ﴿وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ﴾ [البقرة: 43]، فنقول هنا: المحل مختلفٌ، وبالتالي لا يوجد تعارضٌ.
مثال ذلك: جاءنا في الحديث الأمر بصلاة الليل، وفي الحديث الآخر: جاءنا بالنهي عن
الصلاة بعد الفجر، يأتينا واحدٌ يقول هنا تعارضٌ، نقول لا، لا يوجد تعارضٌ، الزمان
مختلفٌ، هذا متعلقٌ بالليل، وهذا متعلقٌ بما بعد طلوع الفجر، وبالتالي لا يوجد هنا
تعارضٌ.
الشرط الثالث: أن يوجد تقابلٌ بين الدليلين، لو اتحدا في المدلول لا يوجد تعارضٌ،
جاءنا قال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [البقرة: 43]، وفي الحديث صلوا الفجر، كيف نجمع
بينهما؟ نقول: أصلًا لم يوجد هنا تعارضٌ، كلاهما يدل على مدلولٍ واحدٍ، وبالتالي لا
يوجد تعارضٌ.
ماذا نفعل عند وجود التعارض؟
التعارض الذهني، كيف نفعل؟ كيف نتعامل؟
هناك طرائق:
الطريقة الأولى لدفع التعارض: هو بالجمع بين الدليلين.
فإذا استطعنا أن نجمع بين الدليلين فحينئذٍ هذا أولى من أخذ أحدهما وترك الآخر،
والجمع بين الأدلة له طرائق منها: بحمل أحد الدليلين على محلٍ، وحمل الآخر على محلٍ
آخر.
مثاله: مثلًا لما جاءنا قال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [البقرة: 43]، وجاءنا في
الحديث الآخر: «دعي الصلاة أيام أقرائك»، فنحمل هذا الحديث على الحائض، والآخر على
غير الحائض، فهذا جمع بين الدليلين المتعارضين.
ومن أمثلة ذلك في قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ
عَمَلُهُ﴾ [المائدة: 5]، ظاهره أنه يحبط عمله بالردة والكفر، ثم جاءنا في النص
الآخر: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ
فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ [البقرة: 217]، فحينئذٍ نقول: نحمل أحد
الدليلين على الآخر وبالتالي نقول: إن حبوط العمل إنما يكون عند الموت على الردة
والكفر، فلو جاءنا شخصٌ مسلمٌ حج ثم ارتد ثم عاد للإسلام لا نطالبه بحجٍ آخر؛ لأنه
لم يبطل عمله لأن من شرط بطلان العمل الموت على الردة والكفر.
ومثله قد يأتي مرةً دليلٌ عامٌ ودليلٌ خاصٌ، فحينئذٍ نحمل العام على عمومه، ونحمل
الخاص على محل الخصوص، ونستدل بالعام على بقية المسائل.
مثال ذلك: قال: «فيما سقت السماء العشر»، يشمل الكثير والقليل، ثم جاءنا في الحديث:
«ليس فيما دون خمسة أوسقٍ صدقةٌ»، فنقول: ما دون خمسة أوسقٍ نعمل فيه بالحديث
الثاني، فلا صدقة فيه، وما عدا نعمل فيه بالحديث العام.
كذلك من أمثلة الجمع أن نحمل أحد الدليلين على محلٍ والآخر على محلٍ، مثلًا جاءنا
في أحاديث، النهي عن استقبال القبلة حال البول والغائط، وجاءنا في أحاديث الجواز،
فنقول أحاديث النهي يراد بها حال الفضاء، وأحاديث الجواز يراد بها حال البناء.
مثالٌ آخر: جاءنا في أحاديث النهي عن قبلة الصائم، وجاءنا في أحاديث أخرى إباحة
القبلة للصائم، فقال بعض الفقهاء: النهي يراد به الشباب، أو من لا يملك نفسه،
وأحاديث الجواز في الكبير أو فيمن يملك نفسه.
طيب إذن هذه الطريقة الأولى أن نحاول الجمع بينهم، من طرائق الجمع التأويل، مثلًا:
﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ [البقرة: 282]، ظاهره الوجوب، لكن جاءنا في
الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اشترى ولم يُشهد، فحينئذٍ قلنا: إن الأمر في
قوله: ﴿وَأَشْهِدُو﴾ نحمله أو نؤوله فنجعله ليس للوجوب وإنما نجعله للاستحباب.
هذه هي الطريقة الأولى، محاولة الجمع بين الأدلة المتعارضة.
الطريقة الثانية: بالنسخ، بحيث نعرف التاريخ فنجعل المتقدم منسوخًا ونجعل المتأخر
ناسخًا، وكان من شأن الصحابة أنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر النبي صلى
الله عليه وسلم.
ومن أمثلته مثلًا، ورد في حديث طلق أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عَمَّن مَسَّ
ذَكَرَه في الصَّلاة، فقال: «إنْ هو إلا بضعةٌ منك»، طلق جاء إلى النبي صلى الله
عليه وسلم وهم يبنون المسجد النبوي بعد الهجرة، ثم جاء في حديث أبي هريرة وحديث
بسرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مس ذكره فليتوض»، فحينئذٍ قلنا: يوجد
تعارض، لكن حديث أبي هريرة وبسرة هؤلاء لم يسلموا إلا بعد السنة السابعة، فحديثهم
متأخرٌ، فيكون حديثهم ناسخًا للحديث الأول.
إذا لم نعرف التاريخ فحينئذٍ نرجح بين الدليلين فنأخذ الدليل الأقوى، وهناك طرائق
للترجيح بين الأدلة، مثلًا الدليل من القرآن أقوى من الدليل من السنة، والحديث
المتواتر أقوى من الحديث الآحاد، والحديث المخالف للأصل أقوى من الموافق للأصل،
الأصل يعني الإباحة الأصلية، كذلك كثرة الرواة تدل على رجحان الخبر.
من أمثلة ذلك: الحنفية يقولون لا يرفع يديه إلا في تكبيرة الإحرام، أما تكبيرة
الركوع وتكبيرة الرفع من الركوع فلا يرفع يديه، والجمهور يقولون: يشرع رفع اليدين
عند تكبيرة الإحرام وعند تكبيرة الركوع وعند الرفع من الركوع.
ما دليلكم يا أيها الحنفية؟ قالوا: دليلنا حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يرفع يديه في تكبيرة الإحرام ثم لا يعود، طيب يا أيها الجمهور ما دليلكم؟
قالوا: ورد عندنا من خمسة عشر صحابيًّا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه
في هذه المواطن، فرواية خمسة عشر صحابيًّا أقوى من رواية الفرد الواحد.
فهذه التقوية بسبب الإسناد، مرةً نقوي بسبب معاضدته بسببٍ آخر أو دليلٍ آخر.
مثال ذلك: الجمهور يستحبون تبكير صلاة الفجر؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان
يصلي الفجر بغلسٍ، وكانت المرأة تنصرف فلا تُعرف من الغلس، والحنفية يستحبون تأخير
الفجر حتى الإسفار، ويستدلون على ذلك بحديث: «أسفروا الفجر فإنه أكثر في الأجر».
فكثيرٌ من العلماء رجحوا الأول؛ لأنه يوافق قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿فَاسْتَبِقُوا
الخَيْرَاتِ﴾ [المائدة: 48]، وقوله: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن
رَّبِّكُمْ﴾ [آل عمران: 133]، ونحو ذلك من النصوص.
والترجيحات بعضها يكون عائدًا للسند وبعضها يكون عائدًا للحكم وبعضها يكون عائدًا
لموافقته لدليلٍ آخر وهناك وسائل للترجيح.
طيب إذا لم يتمكن الفقيه من دفع التعارض بهذه الطرق، لم يتمكن من الجمع ولم يعرف
التاريخ، ولم يتمكن من الترجيح، فحينئذٍ نقول: لا تُفتِ في هذه المسألة، ولو كنت
تعرف الأقوال كلها، ولو كنت تعرف جميع الأدلة في المسألة، يجب عليك التوقف ما تفتِ
ولا تقضِ، أما في خاصة نفسه فإنه يعمل بالاحتياط أو يقلد عالمًا غيره، فيعمل بقوله.
ولا يجوز أن يفتي في المسائل إلا أهل الاجتهاد، الذين توصلوا إلى حكمٍ في المسألة،
ولذلك بعض الفقهاء قد يكون عرف المسألة وعرف تحريرها ومحل النزاع فيها، وعرف
الأقوال، وعرف الأدلة، لكن لا يجوز له أن يفتي فتجده يقول لا أعلم لأنه لم يتمكن من
الترجيح أو من دفع التعارض.
بعض الناس قد يقول هذه مسألةٌ الكل يعرفها الصبيان والصغار، لكن الفقيه يقول لا
أعلم لأنه لم يصل إلى الراجح، أما في نفسه فإنه يحتاط أو يسأل أحد علماء زمانه، لأن
هذا غاية ما يتمكن من الوصول إليه، وقد قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16].
إذن مبحث التعارض هذا مبحثٌ مهمٌ، ويتمكن الإنسان به من معرفة الراجح من المرجوح من
أقوال أهل العلم، ويتمكن الإنسان من دفع التعارض إما بالجمع بين الأدلة أو بمعرفة
المتأخر أو بالترجيح، والترجيح له طرائق متعددةٌ، وقد يوجد في المسألة الواحدة عددٌ
من المرجحات بعضها يرجح الدليل الأول، وبعضها يرجح الدليل الثاني، فيقارن ويوازن
بين مجموع المرجحات للأول مع مجموع المرجحات للدليل الثاني، وحينئذٍ يخرج بمعرفة
راجحٍ من مرجوحٍ.
وكما تقدم أن هذا المبحث من أهم ما يبحثه علماء الأصول وهو الذي يحتاج إليه الفقهاء
في نظرهم في الأدلة، وله أثرٌ كبيرٌ، وهذا مما يفرق العالم عن العامي، القدرة على
دفع التعارض بين النصوص.
وبعض العلماء يشتغل لدفع هذا التعارض؛ لأن هناك من يحاول أن يشكك الناس في دين الله
بادعاء وجود التعارض، ولذلك بعض العلماء قد ألف في بيان أن ما يتوهم أنه تعارضٌ
فليس بتعارضٍ في حقيقة الأمر.
واضح مبحث التعارض والترجيح، ما فيه إشكال، ولا سؤال، طيب..
يبقى عندنا البحث في التعارض بين العام والخاص، مراتٍ يأتينا تعارضٌ عامٌ مع عامٍ،
ومراتٍ عامٌ مع خاصٍ، ومراتٍ خاصٌ مع خاصٍ، لعلنا إن شاء الله أن نتباحثه في لقائنا
القادم، أسأل الله جلَّ وعلَا أن يوفقنا وإياكم لخيري الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا
وإياكم من الهداة المهتدين، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله
وصحبه أجمعين.