الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد..
فأرحب بكم أيها الحاضرون الكرام، وأيها المشاهدون عن بعدٍ، وأسأل الله -جلَّ وعلَا
-لكم التوفيق لخيري الدنيا والآخرة.
كنا فيما مضى أخذنا ما يتعلق بالتكليف، ومن الذي يوجه الخطاب بالأمر والنهي،
وابتدأنا بالحديث عن العموم،حيث ذكرنا أن الألفاظ من الأسماء على ثلاثة أنواعٍ:
النوع الأول: ألفاظٌ عامةٌ مستغرقةٌ لجميع أفراد الجنس، كقولك: الرجال، الناس.
النوع الثاني: الألفاظ المعينة، أو الخاصة، كقولك: زيد، ومحمد، وخالد، ونحوها من
الأعلام.
النوع الثالث: المطلق، وهو الذي يشمل جميع الأفراد ليس على سبيل الاستغراق، وإنما
على سبيل البدل، كما لو قال: أكرم مسكينًا، فإن كلمة مسكينًا هنا نكرةٌ في سياق
الإثبات فتكون مطلقةً، شائعةً في جميع أفراد الجنس، ويتحقق الامتثال بفعل هذا
الواجب، مع أحد هذه الأفراد.
إذن العام هو لفظٌ مستغرقٌ لجميع أفراد الجنس، وحكم العام يثبت لكل فردٍ من أفراده،
كما لو قال: "يا أيها الناس"، كأنه قال: أنادي كل فردٍ من الناس على سبيل الانفراد
نداءً يشمل جميع الأفراد.
ومثل هذا أيضًا لما قال: الذين يقيمون الصلوات، فالصلوات جمعٌ معرف بـ"ال" فتكون
عامةً وتشمل جميع أنواع الصلوات المفروضة.
والعموم له ألفاظٌ معينةٌ، متى نقول عن اللفظ بأنه عامٌ يشمل جميع أفراد الجنس؟
إذا كان من أنواعٍ معينةٍ.
النوع الأول: لفظة "كل وجميع"، وما ماثلهما.
فإذا جاءتنا لفظة "كل" فإنه حينئذٍ نستفيد أنَّ الحكم عامٌ، وأنه يشمل كل فردٍ على
سبيل الاستقلال، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً
لِّلنَّاسِ﴾ [سبأ: 28]، كافةً هنا تُفيد العموم، للناس أيضًا تفيد العموم.
﴿قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيع﴾ [الأعراف:
158]، الناس من ألفاظ العموم، وجميعًا من ألفاظ العموم، فجميع هنا تفيد العموم.
ومن أمثلته أيضًا في قول الله تعالى: ﴿فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ
أَجْمَعُونَ﴾ [الحجر: 30].
النوع الثاني من صيغ العموم: الأسماء المبهمة.
لاحظوا أنها أسماءٌ وهي مبهمةٌ، سواءً كانت اسم شرطٍ، أو كانت اسمًا موصولًا، أو
كانت استفهاميةً، مثال ذلك في لفظة ما، مثلًا في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [النساء: 170]، ما بمعنى لفظٌ عامٌ شمل جميع الأفراد،
ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ [البقرة:
197]، أي جميع ما تفعلونه فإن الله مطلعٌ عليه.
ومثله: لفظة من، كما في قوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً
يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، وكما
في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الرعد: 15]،
ونحو ذلك من صيغ الأسماء المبهمة.
وبالتالي تدخل أسماء الاستفهام وأسماء الشرط في هذا النوع.
النوع الثالث من ألفاظ العموم: المعرف بـ "ال" الاستغراقية، سواءً كان من الأسماء
الموصولة كقولك: "الذين"، أو كان من الجموع كقولك: الناس جمع تكسيرٍ، أو كان من
الألفاظ المفردة، كما في قوله: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ
آمَنُو﴾ [وَالعصر: 3] أي كل واحدٍ من أفراد الناس في خسارةٍ.
وهكذا من أنواع ألفاظ العموم النكرة في سياق النفي، وما ماثله، كما في قولك: لا إله
إلا الله، إله نكرةٌ في سياق النفي، فتكون عامةً، لو قلت: ما عندي رجلٌ، رجلٌ نكرةٌ
في سياق النفي فتفيد العموم والاستغراق كأنك نفيتَ جميع الأفراد.
ومن صيغ العموم أيضًا المضاف إلى معرفةٍ من أسماء الأجناس ومن أسماء الجمع، أو من
أسماء الجنس.
مثال ذلك: إذا قلت: ماء البحر، هنا ماء اسم جنس، أضيف إلى معرفةٍ فيفيد العموم.
وهذا خلاصة ما أخذناه في ما سبق من جهة ألفاظ العموم.
ماذا نفعل بالعام؟
يجب العمل بالعام، ويجب حمله على جميع أفراده، ولا يجوز إخراج بعض الأفراد من هذا
اللفظ العام، إلا بقرينةٍ مخصِّصةٍ، مثال ذلك: لو جاءنا آتٍ وقال: إن التكاليف
ارتفعت عنه، كما يقول بعض الطوائف، وبالتالي لم يعد مُطالبًا بشيءٍ من الواجبات،
فنقول: الله -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [البقرة: 43]، وواو
الجماعة هنا من صيغ العموم، قال: أنا مخصوصٌ، وأنا من أولياء الله، قيل: هاتِ
الدليل على تخصيصك، إذا لم يكن عندك دليلٌ صحيحٌ صريحٌ في هذا، فإنه يرد.
ولذلك لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- مع علو مرتبته، ورفعة شأنه عند الله -عزَّ
وجلَّ، يدعي بأنه قد وصل إلى مرحلةٍ رفعت فيها التكاليف عنه.
في مراتٍ قد يرد اللفظ عامًّا، في سببٍ خاصٍ، تأتي واقعةٌ خاصةٌ في ظروفٍ معينةٍ،
فينزل الوحي بخطابٍ عامٍ، فنقول حينئذٍ هذا الأصل والعبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص
السبب.
ومن أمثلة هذا مثلًا في حادثة الرجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول
الله إنا نركب البحر، ولا نجد الماء ونحتاج إلى الماء، أفنتوضأ بماء البحر، فقال
النبي -صلى الله عليه وسلم- عن البحر: « هو الطهور ماؤه، الحل ميتته ».
فحينئذٍ يكون هذا اللفظ ظاهره أو سببه كان في واقعةٍ خاصةٍ، عند وجود الحاجة، لكن
الحديث، اللفظ النبوي عامٌ، فنقول هنا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، حتى ولو
كان أصلها في قضيةٍ خاصةٍ بشخصٍ معينٍ، فإننا نقول العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص
السبب.
مثال ذلك في حديث: « ليس من البر الصوم في السفر »، فإنه كان قد قاله النبي -صلى
الله عليه وسلم- بسبب أن رجلًا صام في السفر فأجهد وتعب وسقط واجتمع الناس عليه،
فحينئذٍ هل نقول العبرة بعموم اللفظ في السفر، أو نخصه بحالةٍ مماثلةٍ لحالة
الصحابي الذي قيلت هذه اللفظة فيه؟
نقول: الصواب أن العبرة بعموم اللفظ وليست بخصوص السبب.
إذا تقدم معنا الكلام عن العام ننتقل إلى الكلام عن الجزء الآخر وهو الخاص، والمراد
بالخاص هو المحصور، هو الخطاب أو الكلمة المحصورة بعددٍ، سواءً كانت كلمةً مفردةً،
أو كانت جمعًا لا يصل إلى درجة العموم والاستغراق.
والتخصيص يراد به أن بعض الأفراد لم تدخل أصلًا في الخطاب العام، يراد به أن بعض
الأفراد لم تدخل فيه، إذن عندنا حقيقة التخصيص.
هل التخصيص هو إخراج بعض أفراد العام بعد أن دخلت فيه؟ أو أن التخصيص هو بيان أن
تلك الأفراد لم تدخل أصلًا في الخطاب العام؟
عند الأصوليين يقولون: التخصيص بيان أن بعض الأفراد لم تدخل في الخطاب العام.
وعند النحاة يقولون: التخصيص إخراجٌ لبعض أفراد العام من حكمه.
والأصوليون نظروا إلى أنه في الغالب هذا خطاب شارعٍ، وخطاب الله -عزَّ وجلَّ- لا
يتخلف، وبالتالي فإنه لما تكلم الله -عزَّ وجلَّ- بالخطاب الأول، يعلم بأنه سيخصص
الحكم بالخطاب الثاني.
قال المؤلف: (والمخصِّص بكسر الصاد فاعل التخصيص)، من الذي فعل التخصيص؟ الشارع هو
الذي خصص الحكم، ومراتٍ قد يطلق المخصص على الدليل؛ لأن هو الذي حصل به التخصيص.
المخصصات على نوعين:
هناك مخصصاتٌ متصلةٌ، وهناك مخصصاتٌ منفصلةٌ.
المخصصات المتصلة: تكون مع الخطاب العام في سياقٍ واحدٍ، كما لو قال له: أكرم بني
تميم، ثم قال: إلا من كان خارج هذه البلاد، فنقول حينئذٍ: "إلاط حصل بها التخصيص،
وهذا التخصيص قد جاء في جملةٍ واحدةٍ مع المخصص.
إذن عندنا النوع الأول التخصيص بواسطة المخصص المتصل، ما هو المخصص المتصل؟
هو الذي لا يستقل، وإنما لابد أن يكون معه المخصوص.
نأتي بأمثلةٍ للتخصيص بالمتصل:
أولها الاستثناء: فلما قال تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: 2]،
ظاهره أن المراد جميع أفراد الناس، فلما قال: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [وَالعصر: 3]،
يكون هذا تخصيصًا من الحكم الذي يليه.
والتخصيص كأنه عاد إلى بعض أفراد جملته، ومن أمثلة التخصيص بالمتصل، قوله عزَّ
وجلَّ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيل﴾ [آل عمران:97]، فإن كلمة الناس عامةٌ تشمل جميع الأفراد بلا استثناءٍ،
فلما قال: ﴿ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيل﴾، قلنا: هذا تخصيصٌ متصلٌ؛ لأنه جاء
في نفس السياق الذي جاء فيه العام.
وقد يأتي المخصص المتصل متقدمًا، وقد يأتي متأخرًا، والمخصصات المتصلة تعود إلى
اثنين: استثناءٍ وصفةٍ، الاستثناء ما هي أداته؟ إلا، وأخواتها، حاشا وكلا، وما عدا،
ونحو ذلك.
والمخصصات المتصلة يثبت الحكم في بقية الأفراد غير المخصوصة، وتبقى الأفراد
المخصوصة في عدم دخولها في حكم العام، وبهذا نعرف حقيقة التخصيص، ونعرف المراد
بالخاص.
ومن أمثلة ذلك ما ورد في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228]، ثم خصصتها الآية التي في سورة
الطلاق: ﴿وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق:
4]، ﴿ وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ [الطلاق: 4]، فهؤلاء
أصناف قد خرجت من العموم الأول.
إذن عندنا النوع الأول من المخصصات: المخصصات المتصلة التي تأتي في خطابٍ واحدٍ مع
العام، والمخصصات المتصلة على أنواعٍ:
أولها: الاستثناء، وأداته إلا وأخواتها، وحكمه أنه يثبت الحكم في المستثنى حسب ما
ورد الحكم فيه، وبقية الأفراد يحكم عليها بالحكم العام.
يشترط للاستثناء عددٌ من الشروط، حتى يكون الاستثناء صحيحًا معتبرًا.
الشرط الأول: الاتصال.
لو قال: له علي ألف ريال، وبعد سنةٍ إلا خمسين ريالًا.
نقول هذا الاستثناء غير مقبولٍ لماذا؟ لأنه غير متصلٍ، وفي هذه الحال نلغي
الاستثناء ويبقى الحكم على عمومه.
وقد يكون هناك فاصلٌ يسيرٌ كسعالٍ أو كلامٍ من تتمة الكلام، فهذا لا يؤثر.
وبعض أهل العلم قالوا بأن الاستثناء يصح لو كان في المجلس، وقد يستدلون عليه بحديث
ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح عن مكة: « لا يعضد شوكه ولا
يختلى خلاه » أي لا يؤخذ الحشيش، فقام العباس فقال يا رسول الله: إلا الإذخر، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: « إلا الإذخر » فهنا فاصلٌ يسيرٌ لم يؤثر.
وهنا أيضًا إثبات أن الاستثناء والتخصيص لابد له من دليله.
الشرط الثاني: أن يكون المستثنى من النصف فأقل، فلو قال له عليَّ سبعة آلافٍ إلا
ستة ألف وتسعمائة، مقبولٌ؟ نقول هذا لكنةٌ في الكلام ولم تتوعد العرب على الكلام
بمثل هذا، فهم لا يستثنون إلا ما هو أقل، ومثال ذلك لو قال: له عليَّ عشرة إلا
ثلاثةً، يصح الاستثناء أو لا يصح؟ نقول: نعم يصح، لماذا؟ لأنه استثناءٌ أقل من
النصف.
ويشترط أيضًا في الاستثناء شروطٌ أخرى، منها: أن يكون من جنسٍ واحدٍ، طيب قبل أن
ندخل إلى هذا، نقول إن الاستثناء بالنسبة للأقل والأكثر على أنواعٍ:
النوع الأول: الاستثناء الذي يكون لكل المستثنى منه، فهذا لا يعتبر، كما لو قال: له
عليَّ عشرةٌ إلا عشرةً، نقول الاستثناء غير معتبرٍ، وبالتالي تثبت العشرة كاملةً.
والنوع الثاني: استثناءٌ أقل من النصف، فهذا أيضًا جائزٌ وصحيحٌ، مثاله، أحمد.
{لك علي عشرة دراهم إلا ثلاثةً}
هذا استثناءٌ لأي شيءٍ، للأقل، وهو محل اتفاقٍ أنه جائزٌ.
النوع الآخر: استثناء النصف، وهذا قد خالف فيه بعض الفقهاء، وإن كان الجمهور
يجيزونه.
النوع الأخير: استثناء الأكثر: كما لو قال ماذا؟ أحمد هزاع..
{لك علي عشرة دراهم إلا تسعة دراهم}
نعم، هذا استثناء للأكثر، فحينئذٍ نقول هذا الاستثناء لا يصح عند كثيرٍ من أهل
اللغة، وبالتالي يسقط الاستدلال بمثل هذا.
إذن تلاحظون هنا أن الاستثناء قد يكون للأكثر وقد يكون للأقل وقد يكون للجميع، وقد
يكون متوسطًا.
وهذا كله من التخصيص بالمتصل.
النوع الثاني من المخصصات المتصلة: التخصيص بالصفة.
الأول: التخصيص بالاستثناء.
والآن عندنا: تخصيص بالصفة.
الصفة عند الأصوليين لا يراد بها النعت الذي عند النحاة، وإنما يراد بها كل وصفٍ
يكون مشتملًا على بعض أفراد الخطاب العام، فإنه يفهم منه أن ما لم يكن كذلك فإنه لا
يدخل في حكمه، ونأتي لذلك بأمثلةٍ.
في باب الحال في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيل﴾ [آل عمران: 97]، من استطاع إليه سبيلًا صفةٌ للناس،
بدل، وهذا يدل على تخصيص اللفظ العام، ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ﴾ هذا عامٌ، فخُصص
بهذه الآية.
إذن عندنا التخصيص بالمتصل: قد يكون بالاستثناء وقد يكون بالصفة.
تلاحظون أن الصفة لا يراد بها هنا النعت فقط، بل تشمل كل مقيِّدٍ.
والنوع الثالث: من أنواع المخصصات المتصلة: الشرط.
فإنه إذا قيد الحكم بشرطٍ نفهم منه أنه إذا لم يوجد ذلك الوصف لم يوجد الحكم، مثال
ذلك: لو قال: ﴿ وَإِن كُنَّ أُوْلاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ [الطلاق: 6]،
هذه في المطلقة البائن، المطلقة بالثلاث، في هذه الآية اشترطت للنفقة عليهن وجود
الحمل، فإذا لم يوجد حملٌ، سقط الحكم، إذن نعيدها مرةً أخرى.. من يعيدها منكم..
صهيب نعم.
{المطلقة البائن إذا كانت حاملًا تجب النفقة عليها، أما إذا لم تكن حاملًا سقط
الحكم}
إذا لم تكن حاملًا المطلقة بالثلاث، فإنه حينئذٍ لا يجب لها نفقةٌ بدلالة هذه
الآية، هذا يسمى تخصيصٌ بواسطة الشرط، ﴿ وَإِن كُنَّ﴾ ، إنْ هذه أداةٌ من أدوات
الشرط.
وقد يكون الشرط في مراتٍ متقدمًا، مثل الآية التي قبل قليلٍ، ﴿ وَإِن كُنَّ
أُوْلاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ﴾، فهنا فإنْ تقدمت، فتقدم الشرط، ومراتٍ
قد يتأخر الشرط عن الحكم، كما لو قال: أعطِ بني تميم إن كانوا شجعانًا، فهنا تأخر
الشرط عن المشروط، والشرط مخصصٌ من مخصصات العموم، مخصصٌ متصلٌ ولا منفصلٌ؟ مخصصٌ
من المخصصات المتصلة.
مثَّل المؤلف، قال مثال المتقدم ﴿فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة: 5]، شرطٌ متقدمٌ ولا متأخرٌ؟ متقدمٌ،
نعم.
ومثَّل للمتأخر بقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيل﴾ [آل عمران: 97].
إذن عندنا ثلاث مخصصاتٍ.
الأول: الاستثناء.
الثاني: الصفة.
الثالث: الشرط.
هذه الصفة يدخل فيها عند الأصوليين عددٌ من المباحث، عند النحاة، مثل ماذا؟ قلناه
قبل قليلٍ، باب النعت، باب الإضافة، المضاف يعتبر بمثابة الصفة عند الأصوليين،
والحال، والبدل، كل هذه تدخل في هذا الباب، مثلًا في قوله تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ
مُؤْمِناً مُّتَعَمِّد﴾ [النساء: 93]، فهذا متعمدٌ حالٌ تأخر، وبالتالي قد نثبت
الحكم له.
النوع الثاني من أنواع المخصصات، المخصصات المنفصلة.
ما هي المخصصات المنفصلة؟
هي التي تأتي بخطابٍ آخر مغايرٍ لخطاب العام، كما في قوله عزَّ وجلَّ:
﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228]،
بينما ورد في نصوصٍ أخرى أنَّ كبيرة السن، وصاحبة الحمل، والصغيرة، ليس لهن هذه
العدة بتمامها، وإنما لهم حكمٌ آخر.
{هل يشترط أن يكون العموم متقدمًا على الخاص، حتى يخص العام، وإن كان منفصلًا كما
هو الحال في الناسخ والمنسوخ؟}
هذه المسألة لها وجهان، إذن عندنا عامٌ وخاصٌ منفصلٌ في دليلٍ مستقلٍ، لها وجهان:
الوجه الأول: أن يأتي العام أولًا ثم يأتي الخاص، ما الحكم؟ نقول بالتخصيص، فنعمل
بالخاص في محل الخصوص، ونعمل بالعام فيما عدا ذلك.
الوجه الثاني: أن يكون المخصص متقدمًا، فماذا نعمل؟
الجمهور يقولون بالتخصيص، وبالتالي نعمل بالخاص في محل الخصوص، ونعمل بالعام فيما
عدا ذلك.
وهناك من يقول: إن هذه المسألة تعتبر من مسائل النسخ، وبالتالي نعمل بالمتأخر ونترك
المتقدم، نعمل بالمتأخر ونعتبره بمثابة الناسخ، حتى ولو كان عامًا، وهذا القول ينسب
للإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
ولذلك أمثلةٌ كثيرةٌ، مثلًا: في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ
الأَرْضِ﴾ [البقرة: 267]، ففي هذه الآية وجوب زكاة الخارج من الأرض، أليس كذلك؟! ثم
جاءتنا النصوص تدل على التخصيص.
مثال ذلك: في قول النبي -صلى الله عليه وسلم: « ليس في ما دون خمسة أوسقٍ صدقةٌ »،
قال الجمهور: نقول بالحديث فنعمل في الخاص فيما هو أقل من خمسة أوسق، ونعمل ببقية
الأدلة فيما كان أعلى من ذلك.
إذن هذا قول الجمهور، الحنفية يقولون: نعمل بالمتأخر، والمتأخر إيجاب الزكاة،
وبالتالي نعتبر الخبر الذي ورد بخمسة أوسقٍ نعتبره بمثابة المنسوخ.
هناك عددٌ من المخصصات المنفصلة التي ليست مع الخطاب العام.
أولها: التخصيص بالحس، فقد ذكر الله عزَّ وجلَّ في قصة قوم عاد بأنهم قد جاءتهم
الريح، وأنها تدمر كل شيءٍ بأمر ربها، كل شيءٍ هذه من ألفاظ العموم، تدمر كل شيءٍ،
دمرتك يا صهيب، دمرتك يا سمير، ما دمرتكم، إذن هناك دليلٌ حسيٌّ يدل على أن المدمر
ليس الجميع، لذلك السموات بقيت والأرض بقيت، إذن هذا عامٌ ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ
بِأَمْرِ رَبِّهَ﴾ [الأحقاف: 25] وقد ورد عليه التخصيص فنعمل بالتخصيص في محل
الخصوص، ونعمل بالعام فيما عدا ذلك.
النوع الثاني من المخصصات: التخصيص بالعقل.
وهناك طائفةٌ قالوا: إن العقل يمكن أن يخصص اللفظ العام، وقالوا: إن هذا التخصيص له
مسوغاته وتوجد فيه شروط التخصيص فيأخذ حكمه.
هناك طائفةٌ من أهل العلم قالوا: لا، قالوا: إنَّ العقل لا يخصص الخطاب العام،
لماذا؟
لأن الخاص الذي ورد عليه عقلٌ هذا أحد أمرين:
إما أن يكون هذا العقل فيه لوثةٌ وفيه خطأٌ، وبالتالي لا نقول: إنه يخصص اللفظ
العام، فما دام مترددًا بين كونه صحيحًا أو لا، فإننا نطرحه.
إذن الصواب أنه يمكن تخصيص العموم بواسطة العقل.
النوع الثالث من أنواع المخصصات: التخصيص بالشرع، بدليلٍ خاصٍ وقد مثلنا له في قوله
عزَّ وجلَّ: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ﴾ [البقرة: 228] مع قوله: ﴿وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ﴾
[الطلاق: 4] فخصصنا عموم الآية الأولى بالمحل الثاني.
ومن أمثلته أيضًا في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ
فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَ﴾ [الأحزاب: 49]، فهذه الآية
نزلت في من لم يتم قربانها، طُلقت قبل الدخول بها.
وفي النص الآخر ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228]،
نقول هذا عامٌ، المطلقات جمعٌ معرفٌ بـ "ال" فبالتالي يكون عامًا يشمل جميعهن.
في هذه الحال نقول بأن الكتاب يتم تخصيصه بواسطة الكتاب.
طيب.. هكذا مراتٍ قد يأتي تخصيص كتابٍ بكتابٍ، وقد يأتي تخصيصٌ لكتابٍ بسنةٍ، ونأتي
لها بأمثلةٍ.
المثال الأول: تخصيص الكتاب بواسطة الكتاب.
وهذا له نماذج في كتاب الله، منها مثلًا في قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْر﴾ [البقرة: 234]، ثم بعد ذلك جاءنا نصٌ من القرآن بأن
أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن، فنقول حينئذٍ: تنتهي عدتها بوضع الحمل لأنه
أقرب.
إذن هذا تخصيص الكتاب بواسطة الكتاب.
وقد يكون هناك أمثلةٌ مثلًا: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ﴾ [النساء: 11]،
أولادكم جمع مذكر فيفيد العموم، ثم جاءنا في قول النبي -صلى الله عليه وسلم: « لا
يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم ».
ففي هذا الحديث تخصيصٌ للعموم السابق، بحيث يشترط في إرث القرابة للوالدين ألا
يكونا مختلفا الدين غير مسلمٍ، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم: « لا يرث المسلم
الكافر ».
إذن هذا تخصيصٌ بأي شيءٍ، تخصيص للكتاب بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
النوع الرابع من أنواع المخصصات التخصيص بواسطة الإجماع، فإذا وردنا لفظٌ عامٌ ثم
جاءنا دليلٌ خاصٌ يدل على خروج بعض أفراد هذا العام فحينئذٍ نقول بمدلول الإجماع
ونخصص العموم به، نضرب لذلك مثالًا.
جاءنا في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الماء طهورٌ لا ينجسه شيءٌ»،
هذا من ألفاظ العموم أو لا؟ نقول: نعم، أين لفظ العموم؟ الماء، اسم جنسٍ معرف بـ
"ال" ففي هذه الحال نقول: إن الأصل في المياه أنها طاهرةٌ، ولا نحكم بنجاستها، لكن
جاءنا إجماعٌ على أن النجاسة إذا خالطت الماء فغيرته فحينئذٍ يحكم بنجاسته وعدم
طهارته لماذا؟ مع أن الحديث قال: « الماء طهورٌ » الماء، يشمل جميع أنواع المياه
بما فيها هذا الماء الذي خالط النجاسة ولم تغيره.
في مثل ذلك نقول: إن هناك إجماعًا دل على تخصيص بعض أفراد هذا العموم في بعض صوره.
كذلك ذكر المؤلف من تخصيص الكتاب بالإجماع، قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوَهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: 4]، جاءنا إجماعٌ على أن المملوك الرقيق، إذا قذف
يجلد أربعين فقط، فعندنا الآية عامةٌ تشمل الحر والمملوك، ثم جاءنا في الحديث في
السنة التقريرية ما يتعلق أن القاذف المملوك لا يجلد ثمانين وإنما يجلد أربعين
جلدة، فحينئذٍ نقول بتخصيص العموم بواسطة الإجماع.
في مرات قد لا يكون الإجماع، ولا يوجد إجماع حقيقة، هل يمكن أن يخص النص كتابًا أو
سنةً بواسطة القياس، أو لا؟
القياس عندنا مبحثٌ أصوليٌّ، يكون فيه أصلٌ وفرعٌ، هناك جامعٌ، وهناك محلٌ، بالتالي
هل نقول: إن الكتاب يخص بالقياس؟
قالت طائفةٌ نعم؛ لأنَّ القياس دليلٌ صحيحٌ وبالتالي يمكن أن يخصص عموم الكتاب به،
وقال آخرون: لا، لا يصح لماذا؟ لأنَّ النَّص يقولون أعلى من أن يكون محلًا
للاجتهادات.
على كلٍ نرى مثالًا للمسألة..
قبل قليلٍ ذكرنا أن النص قد جاء بأن القاذف يجلد (ثمانين)، ثم جاءنا اتفاقٌ على أن
المملوكة لا تجلد كاملةً، وإنما ينصف عليها، فنقيس على الأمة الرقيق، فنقول: إنه
عند القذف لا يجلدون ثمانين وإنما يجلدون أربعين.
مثَّل المؤلف لتخصيص السنة بالكتاب، عندنا سنةٌ عامةٌ، وعندنا آيةٌ من القرآن
خاصةٌ، فحينئذٍ نقول بالتخصيص.
ومن أمثلة ذلك، قول النبي صلى الله عليه وسلم: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن
لا إله إلا الله »، أن يقاتلوا الناس، لفظة الناس عامةٌ أو ليست عامةً؟ عامةٌ، ثم
جاءنا في النصوص الأخرى، تقييد هذا اللفظ، فإنه لما قال أبو بكر الصديق -رضي الله
عنه- إنه سيقاتل من امتنع من الزكاة، خاطبه عمر، فرد عليه، وحاجَّه بقول النبي -صلى
الله عليه وسلم: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا
رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله إلا بحقها
»، فجاء عمر واعترض، ما ذكر في الحديث أنهم يجوز قتالهم من أجل ترك الزكاة، هنا حتى
يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ما ذكرت زكاةٌ، فقال أبو بكر ر-ضي
الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إلا بحقها » والزكاة من حقها.
ننتقل إلى تخصيص السنة بواسطة السنة.
تأتينا سنةٌ عامةٌ وسنةٌ خاصةٌ، فنقول بالتخصيص.
وقد تقدم معنا حديث «في ما سقت السماء العشر»، في ما، ما هذه من ألفاظ العموم،
فقالوا هذا يدل على وجوب الزكاة في القليل والكثير، ثم جاءنا في الحديث أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة»، فحينئذٍ نقول بأن اللفظ
العام مخصصٌ.
كذلك قال: تخصيص السنة بالإجماع، قد تأتينا سنةٌ ثم يأتينا إجماعٌ يخصصها، ومثَّلنا
لها له قبل قليلٍ، بحديث الماء طهورٌ لا ينجسه شيءٌ، هذا عامٌ، ثم جاءنا إجماعٌ على
أن الماء إذا تغيرت إحدى صفاته فحينئذٍ ينجس، فهنا خصصنا عموم الحديث بواسطة
الإجماع.
قال المؤلف: ومثال تخصيص السنة بالقياس قوله صلى الله عليه وسلم: « البكر بالبكر
جلد مائةٍ، وتغريب عامٍ»، فإنه إذا زنت الأمة لا تجلد مائةً وإنما تجلد على النصف..
{الأمة لا تغرب؟}
لا تغرب، لأنه يفوت حق سيدها، إذن عرفنا عددًا من أحكام المخصصات، وأن التخصيص قد
يكون بطريقٍ متصلٍ بحيث يكون المخصص والمخصوص كلاهما في خطابٍ واحدٍ، وقد يفرقون
ويكون المخصص منفصلًا.
طيب.. فيه إشكالٌ؟ سمير واضح.. أسألك.. هل يشترط تقدم المخصص؟
{لا يشترط}
لا يشترط، طيب.. عندنا الآن مبحثٌ جديدٌ وهو مبحث المطلق والمقيد.
المطلق هو الذي يدل على حقيقةٍ شاملةٍ لجميع أفراد الجنس من غير أن يُخص واحدٌ
منها، كما لو قلت: يقوم أحد الطلاب فيمسح اللوح، هنا هل الخطاب يشملكم؟ شمولٌ
بدليٌّ وليس شمولًا استغراقيًّا، وهل هذا معينٌ لأحدكم؟ نقول لا، فهذا يسمى مطلقًا،
فالمطلق شائعٌ في أفراد جنسه، ليس مستغرقًا لهم وليس دالًّا على فردٍ واحدٍ بعينه،
هو دالٌ على فردٍ واحدٍ لكن ليس بعينه، وإنما على سبيل البدلية.
ومثَّل له بقوله تعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّ﴾
[المجادلة: 3]، رقبةٌ نكرةٌ في سياق الإثبات، فتكون من ألفاظ الإطلاق، لأن النكرة
في سياق النفي عمومٌ، والنكرة في سياق الإثبات إطلاقٌ، وهذه فائدةٌ كبيرةٌ طبقها
على القرآن، تفهم شيئًا كثيرًا من أحكام القرآن بإتقان هذه القاعدة.
{العلاقة بين المطلق والعام، يعني أحيانا يشتبه على طالب العلم خاصةً طالب العلم
المبتدئ، لكن الحد هنا يوضح}
نحن الحين عرفنا ثلاثة أشياءٍ الأمر الأول: أن هناك فرقًا بين المطلق والعام من جهة
الصيغة، فصيغة المطلق نكرةٌ في سياق الإثبات، وصيغة العام الصيغ الخمس السابقة،
ومنها النكرة في سياق النفي.
إذن عرفنا هذا الفرق الأول، فرقٌ من جهة الصيغة.
الثاني: من جهة المعنى، فالمطلق يشمل جميع الأفراد أو لا يشملهم؟ يشملهم على سبيل
البدل، وليس على سبيل الاستغراق، بخلاف العام فإنه يشمل أفراده على سبيل الاستغراق.
واضح الفرق الثاني، لما قال: جاءني ناسٌ، هل معناه كل الناس، نقول لا، بينما لو
قال: خلق الله الناس، فهو يشمل جميع الأفراد.
هناك فرقٌ ثلاث بين المطلق والعام: أن المطلق يرد عليه التقييد، والتقييد في
الصفات، بينما العام يرد عليه تخصيص، والتخصيص يرد على الأفراد.
واضح هذا الكلام، إذن التقييد يرد على الصفات، قال: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾
[المجادلة: 3]، ثم قال: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: 92]، نقول هذا
تخصيصٌ ولا تقييدٌ؟ تقييدٌ، لماذا؟ ناظر الصيغة ناظر المعنى، والاستثناء هنا لا
يشمل بقية أفراده.
واضح.. طيب.
يقابل المطلق المقيد.
والمراد بالمقيد ما دل على الحقيقة بقيدٍ، يعني ليس مستغرقًا للأفراد، وليس شائعًا
في الجنس، مثال ذلك: لما قال: إذا جاءك مسكينٌ فأكرمه، أو أول مسكينٍ يأتيك أكرمه،
ثم قال بعد ذلك: أول مسكينٍ طويلٍ، هذا تقييدٌ، فالتقييد يتعلق بالصفات، وليس
متعلقًا بذواته.
ما حكم المطلق؟
الأصل في المطلق أنه يجوز أن يعمل بحكمه في أي فردٍ من أفراده، إلا إذا ورد دليلٌ
يدل على التقييد، لأن الأصل أننا نعمل بالنصوص ونركب بعضها على بعضها الآخر.
يبقى عندنا مسألةٌ وهي: إذا ورد نصان أحدهما مطلقٌ، والآخر مقيدٌ، فماذا نفعل؟
نقول هذا لا يخلو من ثلاث صورٍ:
الصورة الأولى: إذا كان الحكم مختلفًا فلا يصح حمل المطلق على المقيد، مثال ذلك: في
كفارة الظهار، عتق رقبة، 2: صيام شهرين، 3: إطعام ستين مسكينا، بينما في كفارة
القتل، ذكر الرقبة ثم الصيام صيام شهرين متتابعين، ولم يذكر الإطعام، وجوب الإطعام
هذا حكمٌ يختلف من محلٍ إلى آخر وبالتالي نقول لا يحمل المطلق في كفارة القتل على
المقيد في كفارة الظهار، ومن ثم من لم يجد الرقبة، ولم يستطع الصيام ممن قتل خطأً،
فإنه لا يطالب بالإطعام هو الحين لا يستطيع الصوم، لا يطالب بالإطعام، لماذا؟ لأننا
لا يصح أن نحمل كفارة القتل على كفارة الظهار، لماذا؟ لأن الحكم مختلفٌ.
إذن الحالة الأولى عند اختلاف الحكم.
الحالة الثانية: عند اتحاد الحكم واتحاد السبب، فحينئذٍ يحمل المطلق على المقيد،
كما في حديث: « لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه » مطلقٌ، ثم قال في الحديث الآخر: « لا
يمسن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول »، فقيدنا الحكم الأول المطلق، بحالةٍ واحدةٍ، وهو
حال كونه يبول.
النوع الثالث: إذا اتحد الحكم واختلف السبب: مثال ذلك: في كفارة الظهار قال: فتحرير
رقبةٍ مؤمنةٍ، وفي كفارة القتل قال: فتحرير رقبةٍ، فحينئذٍ هل نحمل المطلق على
المقيد، هنا الحكم واحدٌ وهو وجوب إعتاق الرقبة، لكن السبب مختلفٌ، الجمهور يقولون:
نعم، يحمل المطلق على المقيد هنا.
هذا من مواطن الخلاف بين العلماء، والأظهر أنه يحمل المطلق على المقيد لأن كلام
الشارع يضم بعضه إلى بعضه الآخر.
إذن خلاصة هذا: أننا اليوم أخذنا ألفاظ العموم وذكرنا أنها خمسةٌ، ثم أخذنا مخصصات
العموم، وذكرنا أنها مخصصاتٌ متصلةٌ كالاستثناء والشرط والصفة، وهناك مخصصاتٌ
منفصلةٌ، تأتي في خطابٍ مستقلٍ، ومن أمثلته: قد تكون بالحس وقد تكون بآية بالنص
الخاص، ثم انتقلنا إلى الكلام عن المطلق، وذكرنا أن المطلق هو الشائع في جنسه على
سبيل البدلية، ما حكمه؟ أنه يحصل الامتثال بأقل مقدارٍ ممكنٍ منه.
إذن الفرق بين العام والمطلق، العام يستغرق جميع الأفراد والمطلق يصدق على أقل
مسمى.
إذا ورد مطلقٌ ومقيدٌ لا يخلو الحال من ثلاثة أحوالٍ:
إذا اتحد الحكم والسبب، فحينئذٍ نقول بحمله عليه.
والحالة الثانية: إذا اختلف الحكم فلا يحمل المطلق على المقيد.
والثالثة: إذا اتحد الحكم واختلف السبب، وقع اختلافٌ، والأرجح أنه يحمل المطلق على
المقيد، أسأل الله جلَّ وعلَا أن يوفقنا وإياكم لكل خيرٍ، وأن يجعلنا وإياكم هداةً
مهتدين، كما أسأله سبحانه أن يصلح أحوال الأمة، هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على
نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.