الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد..
فأرحب بكم في لقائنا الثامن من لقاءاتنا في قراءة كتاب الأصول من علم الأصول
للعلامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى.
كنا تكلمنا عن الأخبار، وقلنا: إن الأخبار تنقسم باعتبار ما تُنسب إليه إلى ثلاثة
أقسامٍ:
النوع الأول من الأخبار: المرفوع، وهو المنسوب للنبي صلى الله عليه وسلم، وحكمُهُ؟
متى كان صحيحًا وجب العمل به، وهو حجةٌ شرعيةٌ لا إشكال فيها.
النوع الثاني من الأخبار: الموقوف، وهو المنسوب إلى الصحابي، والمراد بالصحابي مَن
لَقِيَ النَّبي صلى الله عليه وسلم مُؤمنًا به ومات على ذلك، والصحابة -رضوان الله
عليهم- عدولٌ، خيار الأمة، كما قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ
المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَ﴾ [التوبة: 100] الآية، وكما قال تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ
عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي
قُلُوبِهِمْ﴾ [الفتح: 18]، الآية.
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ
ذهبًا، لم يبلغ مد أحدهم أو نصيفه».
والنصوص في فضل الصحابة كثيرةٌ متتابعةٌ.
وقول الصحابي هل هو حجةٌ أو ليس بحجةٍ؟
أولًا: يعلم بأن لفظة الصحابي في باب الرواية وما ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم
يراد به من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا ومات على ذلك.
ثانيًا: أما في باب حجية قول الصحابي فالمراد به من طالت صحبته وملازمته للنبي -صلى
الله عليه وسلم.
هل قول الصحابة حجةٌ أو ليس بحجةٍ؟
قول الصحابي على أربعة أنواعٍ:
النوع الأول: قول صحابيٍّ له حكم الرفع، فهذا من أقسام السنة، يُحتج به؛ لأنه سنةٌ.
النوع الثاني: قول الصحابي الذي انتشر في الأمة ولم يوجد له معارضٌ، فهذا إجماعٌ
سكوتيٌّ.
النوع الثالث: عند اختلاف الصحابة، لا يحتج بقول بعضهم على بعضٍ، لكن الحق لا يخرج
عن أقوالهم، ولا يجوز أن نأتي بقولٍ جديدٍ لم يقل به أحدٌ من الصحابة في المسائل
التي تَعَرَّضَ لها الصَّحَابة.
النوع الرابع: قول الصحابي ليس له حكم الرفع، ولم ينتشر في الأمة، ولم يوجد له
مخالفٌ، فهذا هو المعني بقول الصحابي هنا.
وقد اختلف العلماء في حُجية قول الصحابي، فقالت طائفةٌ: إن أقوال الصحابة حجةٌ،
لقول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ [لقمان: 15]،
وأفضل من أناب إليه هم الصحابة.
وقال آخرون: قول الصحابي ليس بحجةٍ؛ لأن الله -عزَّ وجلَّ- قال: ﴿فَإِن
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: 59]،
ولم يذكر قول الصحابي، فدل هذا على عدم صحة الاحتجاج بقول الصحابي -رضوان الله
عليه.
والصواب والأرجح الاحتجاج بقول الصحابي؛ لأنه مظنة لوجود النص، لأن الصحابة أعرف
بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم، فقد شاهدوا التنزيل، وعرفوا أسباب نزول الآيات،
وورود الأحاديث، وبالتالي فقولهم مظنةٌ لوجود الحكم الشرعي.
النوع الثالث من الأخبار: المقطوع.
وهو المنسوب إلى التابعين، والتابعون هم مَن لقوا الصحابة، وأقوال التابعين ليست
بحجةٍ، ولا يصح الاحتجاج بها، إنما الخلاف في أقوال الصحابة.
إذن أقوال التابعين تكون حجةً عند وجود الإجماع، إن حصل إجماعٌ، أما إذا لم يكن
هناك إجماعٌ فإنه لا يصح الاحتجاج بأقوالهم.
وهنا أنبه إلى التفريق بين المقطوع والمنقطع، فالمقطوع هو: قول التابعي، والمنقطع
الإسناد الذي سقط بعض أجزائه، وعند المحدثين يريدون به ما سقط منه راوٍ في أثناء
الإسناد؛ لأنه عندهم ما سقط بعض رواته على أنواعٍ:
المرسل: ما سقط منه صحابي.
والمعلق: ما سقط من أول الإسناد.
والمعضل ما سقط راويان على التتابع.
والمنقطع ما سقط راوٍ من رواته في أثناء الإسناد.
وأهل الأصول، الجميع يسمونه مرسلًا.
هذه أقسام الخبر باعتبار من تنسب الأخبار إليهم.
النوع الثاني: أقسام الأخبار باعتبار أسانيدها وطرقها.
فالأخبار باعتبار أسانيدها وطرقها تنقسم إلى قسمين وهما: متواترةٌ، وآحادٌ.
القسم الأول:
المتواتر: ما رواه جماعةٌ كثيرةٌ يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأسندوه إلى أمرٍ
محسوسٍ.
مثال ذلك: هل هناك بلدٌ اسمها الصين؟ أجيبوا.
{نعم}
رأيتموها، ذهبتم إليها، كيف تقولون إن هناك بلد اسمها الصين وأنتم لم تذهبوا إليها؟
{تواترٌ في الأخبار}
نعم، نُقل إلينا بنقلٍ متواترٍ وجود هذا البلد ممن شاهده وزاره، فهذا يقال له:
متواترٌ.
وكما يقع التواتر في الأخبار العامة يقع التواتر أيضًا في الأخبار المنسوبة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة هذا، حديث «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ
مقعده من النار»، هذا متواترٌ.
والتواتر ينقسم إلى تواترٍ لفظيٍّ وتواترٍ معنويٍّ.
فالتواتر اللفظي: أن يشتركوا في نقل لفظٍ واحدٍ كحديث «من كذب عليَّ متعمدًا
فليتبوأ مقعده من النار».
والتواتر المعنوي: أن يشترك جماعةٌ كثيرةٌ في معنًى معينٍ، مثلًا كون النبي صلى
الله عليه وسلم مسح على خفيه، نقله جماعةٌ كثيرةٌ من الصحابة ونقله عن الصحابة كثر،
فهذا يقال له: متواترٌ معنويٌّ، وليس بمتواترٍ لفظيٍّ.
ما حكم المتواتر؟
حجةٌ، ويقطع به، ويجزم به، والجزم به على سبيل الاضطرار.
ومن أمثلة المتواتر: ما ورد في الأخبار من إثبات الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم
يوم المعاد، حيث يجتمع العباد فيذهبون للنبي صلى الله عليه وسلم فيطلبون منه أن
يسأل الله أن يقضي بينهم.
ومن ذلك: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، فإن هذا من الأخبار
المتواترة.
القسم الثاني:
الآحاد: وهو ما لم يصل إلى درجة التواتر؛ لأن المتواتر له ثلاثة شروطٍ:
الشرط الأول: أن يرويه جماعةٌ كثيرةٌ، يستحيل تواطؤهم على الكذب.
الشرط الثاني: أن يسندوه إلى أمرٍ محسوسٍ.
الشرط الثالث: أن تكون هذه الكثرة في جميع طبقات الإسناد.
إذا انتفى أحد هذه الشروط الثلاثة، كان الخبر آحادًا.
والآحاد لماذا سمي بهذا الاسم؟
مأخوذ من الأحد؛ لأنه نقل عن الواحد أو الجماعة القليلة الذين لم يصل خبرهم إلى
درجة التواتر.
وحينئذٍ الآحاد هذا ينقسم إلى ثلاثة أقسامٍ من حيث القبول والرد:
النوع الأول: الصحيح، وهو ما رواه العدل الضابط عن مثله متصل الإسناد وخلا من
الشذوذ والعلة.
خمس صفاتٍ: رواته ثقاتٌ، رواته ضابطون، متصل الإسناد، خلا من الشذوذ والعلة.
ما المراد بقولنا ثقةٌ؟ المراد به من يكون عدلًا مقبول الرواية، مقبول الشهادة، لم
يجرَّب عليه كذبٌ، ولم يُعرف بفعل كبيرةٍ ولا استمرارٍ على صغيرةٍ.
قوله: ضابط، من الضابط؟ تام الحفظ، الذي ينقل الخبر كما سمعه، أو شاهده.
أما من خَفَّ ضبطه فإن حديثه لا يكون من قبيل الصحيح.
والشرط الثالث: اتصال الإسناد، بحيث لا يكون فيه انقطاعٌ.
والشرط الرابع: أن يخلو من الشذوذ، المراد بالشذوذ؟ مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه،
إذن إذا خالف الثقة من هو أوثق منه يسمى الخبر شاذًّا.
والعلة، العلة أمرٌ خفيٌّ قادحٌ في الرواية يعرفه أهل الاختصاص، ومن أمثلة العلة،
أن يكون الخبر في روايته راوٍ قد اختلطت عليه أحاديث شيخٍ من الشيوخ، عندنا راوٍ
ثقةٌ عدلٌ، لكنه في أحد الشيوخ اختلطت عليه الرواية، فهذه علةٌ قادحةٌ، مثل سفيان
بن حسين ثقةٌ، لكن أحاديث الزهري اختلطت عليه، فهذه علةٌ، رواه عدلٌ، لأن هذا عدلٌ،
وهو ضابطٌ، وإسناده متصلٌ، لكن فيه علةٌ عرفها أهل الاختصاص.
إذن هذا هو القسم الأول الصحيح، من يمثل له؟
{حديث: «إنما الأعمال بالنيات»}
أحاديث البخاري، وأحاديث صحيح مسلم، منها حديث «إنما الأعمال بالنيات».
النوع الثاني من أنواع الحديث من جهة القبول والرد: الحسن.
الحديث الحسن: هو ما رواه الثقة الذي خف ضبطه بسندٍ متصلٍ وخلا من الشذوذ والعلة.
فهو مماثلٌ للخبر الصحيح في الشروط السابقة، إلا فيما يتعلق بالضبط، فقد خف ضبطه،
ما معنى خف ضبطه؟ وجدناه يخطئ في بعض المواطن، مثل راوٍ روى ألف حديثٍ، أخطأ في
عشرةٍ، هذا قيل خف ضبطه بسبب هذه الأخبار العشرة، وحينئذٍ نقول روايته أقل من رواية
من لم يعرف بخطأٍ في روايته.
ليس المراد أن الراوي لا يخطئ أبدا، قد يوجد من الراوي خطأً لكن لا يكون غالبًا
عليه.
إذن عرفنا الحسن والصحيح.
الحديث الضعيف: هو ما خلا من الشروط السابقة، إما بأن يكون الراوي ليس بثقةٍ، وإما
أن يكون الراوي لا يضبط الحديث، فيكون سيء الحفظ، وإما أن يكون الخبر لم يتصل
إسناده، وإما أن يكون فيه شذوذٌ، وإما أن يكون فيه علةٌ.
لكن تلاحظون أنه عند اعتضاد الرواية يترقى الخبر، فلو ورد الخبر بطرقٍ متعددةٍ كلها
حسنةٌ، فإنه حينئذٍ يترقى إلى أن يكون صحيحًا لغيره.
وهكذا لو ورد بطرقٍ ضعيفةٍ ليس ضعفها شديدًا، فإنه يترقى الخبر لأن يكون حسنًا
لغيره.
الحسن لغيره والحسن لذاته والصحيح لذاته والصحيح لغيره، كلها أحاديث صحيحةٌ
مقبولةٌ.
أما الحديث الضعيف فإنه غير مقبولٍ ولا يصح لنا أن نثبت بناءً عليه حُكمًا شرعيًّا،
ولا أن نقرر عبادةً بناءً على حديثٍ ضعيفٍ، لكن لا بأس بروايته في الشواهد.
للحديث تحملٌ وأداءٌ، التحمل وقت رواية الراوي للخبر، هذا يقال له: تحملٌ، ووقت
الأداء وقت رواية الراوي للخبر، إذن وقت السماع يقال له: تحملٌ، ووقت البلاغ يقال
له: وقت الأداء.
الأداء له ثلاث صيغٍ:
قال: الصيغة الأولى أن يقول: حدثني.
والصيغة الثانية: أن يقول: أخبرني.
والصيغة الثالثة: أن يقول: أجازني.
رواية الراوي للخبر على أربعة أنواعٍ:
الرتبة الأول: أن يتكلم الشيخ بالحديث، تسمى قراءة الشيخ، وهذه أعلى الرتب.
الرتبة الثانية: أن يقرأ التلميذ والشيخ سامعٌ حاضرٌ، فيقرأ تلميذه، ويقال لها
العرض.
الرتبة الثالثة: الإجازة، والمراد بها الإذن بأن يأذن الشيخ للراوي أن يروي هذا
الخبر، سواءً كانت إجازةً عامةً أو إجازةً خاصةً، ومنه المناولة، من أنواع الإجازة
المناولة، يعطيه الكتاب ويقول له ارو هذا الكتاب عني.
الرتبة الرابع: الوجادة، بأن يجد الراوي خط شيخه الذي يعرفه، فيقول وجدت بخط شيخي
كذا، والوجادة ليس طريقًا صحيحًا للرواية لكنه يُعمل بها.
قال المؤلف: (والإجازة إذنه للتلميذ أن يروي عنه ما رواه، وإن لم يكن بطريق
القراءة).
وأما لفظة العنعنة، فهي طريقٌ من طرق الخبر، الذي يمكن أن يكون بالسماع من الطريقين
الأول، قراءة الشيخ والعرض، وقد يكون بطريق الإجازة، وقد يكون بواسطةٍ، يقول: قال
فلانٌ كذا، إذن العنعنة صيغةٌ محتملةٌ للانقطاع، يقول عن فلانٍ، ومثلها ما لو قال:
قال فلانٌ.
هل العنعنة مقبولةٌ؟ نقول ننظر في حال الراوي، فإن كان ممن يدلس ويسقط شيوخه فلا
نقبل عنعنته، وإن كان ممن لا يدلس فحينئذٍ نقبل عنعنته، ونجعلها مثل اللفظ المتصل
الذي ليس فيه انقطاعٌ.
مثال ذلك: الإمام مالك لا يدلس، فإذا قال: قال شيخي أو عن فلانٍ فحينئذٍ يقبل خبره،
بينما الإمام الأعمش يدلس، فلا يقبل من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع.
وحينئذٍ هل إسقاط الراوي يكون قادحًا في الخبر؟، نقول: من كان لا يسقط إلا الثقات،
فلا يقدح هذا في الخبر، ومن كان قد يسقط الضعفاء فهذا لا يُقبل مرسله ولا انقطاعه.
والمرسل قد يكون من مراسيل الصحابة فهذا مقبولٌ؛ لأن الصحابة عدولٌ، وأما إذا كان
من مراسيل غير الصحابة فيشترط فيه الشرط السابق، لأن المراسيل على نوعين:
من كان لا يُسقط إلا الثقات، فيقبل إرساله. ومن كان قد يُسقط الضعفاء فإنه لا يُقبل
إرساله.
هذا ما يتعلق بالدليل الثاني وهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
الدليل الثالث من الأدلة: دليل الإجماع.
والإجماع في اللغة يراد به الاتفاق أو العزم، أجمع على كذا بمعنى عزم عليه، واتفقوا
عليه.
والمراد به في الاصطلاح: إجماع المجتهدين من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم في عصرٍ
من العصور على حكمٍ شرعيٍّ.
فقولنا: اتفاقٌ ينفي وجود الاختلاف، لو كان هناك خلافٌ لواحدٍ من العلماء فلا يكون
هناك إجماعٌ، ولا عبرة بأقوال العوام، العبرة بأقوال أهل الاجتهاد هم الذين لهم
تأثيرٌ في مسائل الإجماع.
وقوله: (على حكمٍ شرعيٍّ)، لأنهم لو اتفقوا على مأكلٍ أو مشربٍ أو مركبٍ أو مسكنٍ
فهذا ليس بإجماعٍ، الإجماع إنما يكون على الأحكام الشرعية، سواءً كانت الأحكام
التكليفية أو الأحكام الوضعية.
وأيضًا لابد أن يكون الإجماع من هذه الأمة، أما إجماع الأمم السابقة فإنه لا يحتج
به، وليس بحجةٍ، لماذا؟ لأن النصوص إنما دلت على حجية إجماع هذه الأمة.
الإجماع حجةٌ شرعيةٌ، ويدل على كونه حجةً شرعيةً، النصوص الواردة في حجية الإجماع
ومنها قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [البقرة: 143]، فقوله: ﴿شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ يدل
على الاحتجاج بأقوالهم.
ويدل عليه قوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: 59]، معناه إذا لم يحصل تنازعٌ فلا حاجة للرد إلى
الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومنه قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى
وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِير﴾ [النساء: 115].
ورد أيضًا أحاديث تدل على حجية الإجماع، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا
تجتمع أمتي على ضلالةٍ»، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفةٌ من
أمتي على الحق»، فإذا أجمعوا على قولٍ معناه أن ذلك القول الذي أجمعوا عليه هو
الحق، واستدل عليه المؤلف بأن قال: إجماع الأمة على شيءٍ إما أن يكون حقًا وإما أن
يكون باطلًا، فإن كان حقًا دل على حجيته، وإن كان باطلًا فكيف يجوز أن تجمع هذه
الأمة التي هي أكرم الأمم على الله منذ عهد نبيها إلى قيام الساعة على أمرٍ باطلٍ
لا يُرضي الله. فكأنه استدل بفضيلة هذه الأمة ومكانتها على حجية أقوال هذه الأمة.
ويلاحظ أن الإجماع ينعقد بالاتفاق في عصرٍ واحدٍ، إذا تقرر هذا فقد يقول قائلٌ: كيف
يجمعون مع اختلاف بلدانهم وتعدد مواطنهم، ومشاربهم، واجتهاداتهم، ومذاهبهم؟
فنقول: النصوص دلت على حجية إجماعهم، ولا يمكن أن تحيلنا النصوص على شيءٍ مستحيلٍ،
لابد أن يكون له وقعٌ، ويمكن أن يكون واقعًا، كما أننا وجدنا أن هذه الأمة قد أجمعت
على عددٍ من الأحكام، هذه الأقلام الحبر -التي بين أيديكم- أجمع العلماء على جواز
استخدامها، استخدام الورق في هذه الكتب والطباعة، طباعة كتب أهل العلم، أجمع
العلماء عليها، وهكذا وجدنا وسائل كثيرةً وأساليب كثيرةً في أزمنتنا الحاضرة أجمع
العلماء عليها.
أجمعوا على فرش المساجد بهذه الفرش، وعلى وضع مكبرات الصوت فيها، وعلى أمورٍ كثيرةٍ
اتفقوا عليها في هذه العصور، إذن هناك مسائل كثيرةٌ وقع إجماعٌ من هذه الأمة عليها.
وحينئذٍ نقول: إنه إذا وجد قولٌ واشتهر هذا القول في الأمة، ولم يوجد ما يقابله،
فإنه يكون حجةً، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفةٌ من أمتي على
الحق ظاهرين»، فقول الحق لابد أن يكون ظاهرًا في الأمة، ولا يصح أن يكون قول الحق
غير ظاهرٍ فيها.
واضح ما يتعلق بمباحث الإجماع، إذن هذا دليلٌ ثالثٌ من الأدلة الشرعية.
صهيب عندك سؤالٌ.. طيب، نعم أحمد.
{هل انعقد الإجماع في الوقت الراهن ؟}
صهيب أجب.
{نعم، دكتور}
مثل ماذا؟
{مثل هذه الكتب وهذه الأقلام}
الآن هذا الذي في يدك ما هو؟
{ميكرفون}
يجوز استعماله؟
{نعم، يجوز استعماله}
أجمع العلماء عليه ولا ما أجمعوا؟
{أجمعوا على جواز استعماله}
إجماعٌ فعليٌّ، ولم يوجد من ينكره في الأمة، فدل هذا على أن في عصرنا الحاضر مسائل
كثيرةً وقع إجماعٌ من العلماء عليها، فحينئذٍ الإجماع موجودٌ في عصرنا الحاضر.
أقسام الإجماع:
الإجماع ينقسم إلى قسمين:
إجماعٌ قطعيٌّ، وإجماعٌ ظنيٌّ.
والإجماع القطعي الذي يعلم وقوعه بالضرورة، ومن أمثلة ذلك الإجماع على الصلوات
الخمس، وعلى تحريم الزنا، فهذه مسائل ظاهرةٌ، عُلم وقوع الإجماع فيها يقينًا،
وجزمًا، وبالتالي فإننا ننكر على منكرها، ولا نرضى بقوله، بل قد قال طائفةٌ: إن
منكر الإجماع في المسائل الإجماعية الظاهرة يحكم عليه بالخروج من الملة إلا أن يكون
جاهلًا يعذر مثله.
وهذا ما ذكره المؤلف هنا بقوله: (فالقطعي ما يعلم وقوعه من الأمة بالضرورة،
كالإجماع على وجوب الصلوات الخمس وتحريم الزنا، وهذا النوع لا أحد ينكر ثبوته، ولا
كونه حجةً، ويكفر مخالفه إذا كان ممن لا يجهله).
والنوع الثاني: المسائل الخفية.
والإجماع فيها يكون خفيًّا، مثال ذلك، إذا مات ميتٌ عن عمٍ وبنتٍ وبنت ابنٍ، فإن
البنت لها النصف بدلالة الآية، والعم أقرب الورثة له الباقي، طيب بنت الابن لها
السدس تكملة الثلثين، هل فيها خلافٌ؟
نقول: أجمع العلماء على ذلك، لكنه إجماعٌ خفيٌّ، وحينئذٍ هذا إجماعٌ ثابتٌ وقد يكون
قطعيًّا، لكنه خفيٌّ لا يطلع عليه كثيرٌ من أفراد الأمة.
وهناك إجماعٌ ظنيٌّ، وهو الذي لم يجزم بوجود الإجماع فيه، أو كان منقولًا بطريق
الآحاد، أو كان عدد أهل الإجماع قد قل عددهم، قال المؤلف: (والإجماع الظني ما لا
يُعلم إلا بالتتبع والاستقراء)، أي: بتتبع أقوال العلماء والنظر في أقوالهم، وقد
اختلف العلماء في إمكان ثبوته، ثبوت ماذا؟ ثبوت الإجماع، وأرجح الأقوال في ذلك رأي
شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: والإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح إذ
بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة.
كما تقدم أن وسائل التواصل اليوم يسرت اتصال الناس بعضهم ببعضٍ، وهناك وسائل اتصالٍ
ووسائل إعلامٍ ووسائل أيضًا تواصلٍ، وبالتالي فانتقال القول واشتهاره يعلم في الوقت
القصير، وقد مثَّلنا لعددٍ من الأمثلة التي وقع فيها اتفاقاتٌ في عصرنا الحاضر،
وهناك إجماعاتٌ مماثلةٌ في العصور السابقة.
قال المؤلف: (واعلم أن الأمة لا يمكن أن تجتمع على خلاف دليلٍ صحيحٍ صريحٍ غير
منسوخٍ).
إذا وجد إجماعٌ ووجد في مقابلته دليلٌ صحيحٌ صريحٌ، فحينئذٍ لابد أن ننظر لأحد هذين
الأمرين: إما أن يكون الإجماع لا يصح ولم ينعقد إجماعٌ، وإما أن يكون الدليل الذي
عارضه دليلًا غير صحيحٍ، أو غير صريحٍ.
مثال ذلك: ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر فاجلدوه،
ثم إذا شرب الخمر فاجلدوه»، قال في الثالثة أو الرابعة: «فإذا شرب الخمر فاقتلوه»،
ثم وقع إجماعٌ على أن شارب الخمر في الرابعة لا يقتل، ماذا نفعل؟
نقول: لابد أن ننظر إما أن يكون الدليل منسوخًا، أو غير صحيحٍ، الحديث صحيحٌ لكننا
وجدنا في الحديث الآخر أن رجلًا كان يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم مراتٍ
عديدةً في الخمر فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلده، فقال رجلٌ: لعنه الله، ما
أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تكونوا عونًا للشيطان على
أخيكم»، فدل هذا على أن هذا الخبر ناسخٌ للخبر السابق، وبالتالي الدليل المعارض
للإجماع منسوخٌ في هذه المسألة.
وهناك أيضًا بعض المسائل التي قيل بأنه قد وقع إجماعٌ على خلاف الخبر، فحينئذٍ إما
أن يكون الإجماع لا يصح، وإما أن يكون الدليل منسوخًا، وإما أن يكون غير صحيحٍ،
وغير ثابتٍ في الشرع.
يشترط للإجماع ثبوته بطريقٍ صحيحٍ، بأن يعرف من طريق العلماء، أو بأن يكون مثبت حكم
الإجماع ممن يصح الاستناد إلى قوله، في مراتٍ قد يحكى وجود إجماعٍ لكن من شخصٍ لا
يعرف أقوال العلماء في المسائل، وبالتالي لا يعول على قوله، كذلك يُشترط في الإجماع
أو في ناقل الإجماع أن يكون ممن عرف أقوال العلماء واستقرأها، وسبرها، قد يكون
فقيهًا يستطيع أخذ الحكم من الدليل، لكنه لم يسبر جميع أقوال العلماء، وبالتالي لا
يقبل نقله للإجماع.
قال المؤلف: (أيضًا يشترط ألا يكون هناك خلافٌ سابقٌ)، في مراتٍ يكون فيه اختلافٌ
بين الصحابة، فيقع بعد ذلك اتفاقٌ بين التابعين، فالمؤلف يقول حينئذٍ لا ينعقد
الإجماع ولا يثبت إجماعٌ، وغيره من العلماء يرى أنه ينعقد الإجماع في هذه الصورة؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق»، فمعناه أنه
لابد في كل زمانٍ من قائلٍ بالحق، ففي الزمان الثاني لما لم يوجد قائلٌ بالقول
الآخر، دل ذلك على أن القول الحق هو القول الأول.
ومن أمثلة هذا: اختلف الصحابة في المتوفى عنها الحامل، كيف تعتد؟
فقال طائفة: تعتد بوضع الحمل مطلقًا، سواءً قلت المدة أو كثرت، وقال آخرون: إن
الحامل المتوفى عنها تعتد بأطول الأجلين، إما بوضع الحمل، أو بأربعة أشهرٍ وعشرة
أيامٍ.
ثم في عهد التابعين اتفقوا على أن الحامل تعتد بوضع الحمل، لقوله تعالى: ﴿وَأولًاتُ
الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 4]، فهنا إجماعٌ في
العصر الثاني سبقه خلافٌ، فالمؤلف يقول لا ينعقد هذا الإجماع ولا يعتبر إجماعًا
صحيحًا.
والقول الثاني من أقوال الأصوليين أن هذا إجماعٌ صحيحٌ ويجوز الاستناد إليه؛ لأنه
يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تجتمع أمتي على ضلالةٍ».
قال المؤلف بناءً على اختياره، الإجماع: (لا يرفع الخلاف السابق، وإنما يمنع من
حدوث خلافٍ)، هذا هو القول الراجح، لقوة مأخذه، وقيل: لا يشترط ذلك، أي: لا يشترط
في الإجماع ألا يسبقه خلافٌ سابقٌ، فيصح أن ينعقد الإجماع في العصر الثاني على أحد
الأقوال السابقة ويكون حجةً على من بعده.
من المسائل المتعلقة بهذا مسألة انقراض العصر، هل بمجرد اتفاق العلماء في لحظةٍ،
نقول انعقد الإجماع، أو يشترط انقراض العصر وموت علماء ذلك الزمان؟
على القول الأول، إن قلنا: لا يشترط انقراض العصر فيقع اتفاقهم في لحظةٍ، وبالتالي
لا يجوز لأحدٍ منهم أن يرجع فيخالف ما اتفق عليه مع الجماعة.
وعلى القول الثاني: أنه يشترط انقراض العصر فلا ينعقد الإجماع إلا بعد موت
المجمعين، وبالتالي يمكن لأحد المجمعين أن يرجع عن قوله.
وهذه المسألة من مواطن الخلاف بين العلماء.
قال المؤلف: (ولا يشترط على رأي الجمهور انقراض عصر المجمعين، فينعقد الإجماع من
أهله بمجرد اتفاقهم، ولا يجوز لهم ولا لغيرهم مخالفته بعد، لأن الأدلة على أن
الإجماع حجةٌ ليس فيها اشتراط انقراض العصر، ولأن الإجماع حصل ساعة اتفاقهم فما
الذي يرفعه).
وذكر المؤلف بعد ذلك مسألة الإجماع السكوتي، الإجماع مرةً يكون إجماعًا نطقيَّا،
بأن يتكلم الجميع بالقول، فهذا إجماعٌ قوليٌّ، وهو إجماعٌ صريحٌ يجب العمل به.
ومرةً يكون إجماعًا فعليًّا، بأن يفعلوا كلهم فعلًا واحدًا.
ومرةً يجتمع فيه قولٌ وفعلٌ، قولٌ من بعضهم وفعلٌ من بعضهم، وهذا أيضًا حجةٌ.
هناك نوعٌ رابعٌ هو الإجماع السكوتي، بأن يتكلم البعض ويسكت البقية، فحينئذٍ هذا
يقال له الإجماع السكوتي، وجمهور أهل العلم على أنه إجماعٌ صحيحٌ ويجب العمل به،
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق ظاهرين» فلابد
من ظهور قول الحق في الأمة.
وهناك من قال بأنه لا يكون حجةً ولا إجماعًا، لأن الإجماع اتفاق من الجميع ولم يحصل
اتفاقٌ من الجميع إن سكت بعضهم.
قال بعض العلماء: لا نعتبره إجماعًا لكننا نعتبره حجةً شرعيةً، والأظهر هو القول
بحجية الإجماع السكوتي للحديث الذي ذكرناه قبل قليلٍ.
قال المؤلف في هذه المسألة: وإذا قال بعض المجتهدين قولًا، أو فعل فعلًا، واشتهر
ذلك بين أهل الاجتهاد، ولم ينكروه مع قدرتهم على الإنكار، فقيل يكون إجماعًا، وقيل
يكون حجةً لا إجماعًا، وقيل ليس بإجماعٍ ولا حجةً، وقيل إن انقرضوا قبل الإنكار فهو
إجماعٌ، لأن استمرار سكوتهم إلى الانقراض مع قدرتهم على الإنكار دليلٌ على
موافقتهم.
وهذا أقرب الأقوال، فكأن اختيار المؤلف هو القول بأن الإجماع السكوتي حجةٌ متى
انقرض عليه العصر.
هناك من مباحث الإجماع المهمة مسألة إحداث قولٍ جديدٍ، هل يجوز لنا أن نحدث أقوالًا
جديدةً في المسائل الخلافية أو لا؟
هناك مسألةٌ اختلف فيها المتقدمون على قولين، فهل يجوز لي أن أُحدث قولًا جديدًا لم
يقل به أحدٌ من السابقين؟
مثال ذلك: في مسألة الجد والإخوة، اختلف فيها الصحابة، فقال طائفةٌ الجد يحجب
الإخوة، ولا يرث الإخوة شيئًا، وقال طائفةٌ: يشتركون الجد والإخوة، فلو جاءنا فقيهٌ
فقال أنا أقول: الجد لا يرث شيئًا، والإخوة يحجبونه ويستقلون بالميراث، فهذا قولٌ
جديدٌ لم يقل به أحد من القائلين في هذه المسألة من الصحابة فمن بعدهم، فهل يجوز
لنا أن نحدث أقوالًا جديدةً أو لا؟
الصواب من أقوال أهل العلم أنه لا يجوز أن نحدث أقوالًا جديدةً، لأن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: «لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق» معناه أنه في ذلك الزمان الحق في
أحد هذين القولين، والحق في أحد الأقوال، وما عداه من الأقوال فإنه ليس بحقٍ، إذن
الصواب في أحدٍ من الأقوال، فالصواب أحد القولين السابقين، أما القول الثالث هذا
الذي معنا فليس صوابًا ومن ثم لا يجوز لنا أن نقول به.
إذن هذا المبحث متعلقٌ بمبحث الإجماع، وهو من المباحث المهمة، ويترتب عليه تقرير
أحكامٍ شرعيةٍ، ويؤدي إلى اتفاق الأمة، ونلاحظ هنا أن الشريعة تسعى إلى تقليل
الاختلاف، ولا تسعى في تكثيره، كما قال تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ﴾ [آل عمران:
105].
وكما قال تعالى: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ
وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118، 119]، معناه أن الرحمة تتنافى مع الاختلاف،
وقوله: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ ليس للاختلاف وإنما ليرحمهم، ﴿وَلاَ يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾.
إذن هذا هو الدليل الثالث من الأدلة الشرعية وهو دليل الإجماع.
واضح مباحث الإجماع، هل فيها إشكالٌ.
ننتقل إلى الدليل الآخر، دليل القياس.
دليل القياس يعول عليه كثير من الأصوليين، ويقولون: إنه يُرتب عليه كثيرٌ من
الأحكام الفقهية، والناظر في كتب الفقهاء يجد أن الأقيسة عندهم كثيرةٌ متعددةٌ،
ويسوقون هذه الأقيسة بصيغٍ متعددةٍ، مرةً في إثبات حكمٍ ابتداءً، ومرةً في إثبات
شرطٍ من شروط الحكم، أو مانع له، أو شيئًا متعلق بالحكم، أو أثرًا من آثاره.
ولذلك الناظر في كتب الفقهاء يجد أنهم يستعملون القياس كثيرًا جدًا، ومع أهمية مبحث
القياس وكثرة استعمال الفقهاء له، وترتب عددٍ كبيرٍ من الفروع الفقهية عليه، إلا
أننا نجد أن مبحث القياس، يكتنفه إهمالٌ أو عدم رغبةٍ في التعلم من كثيرٍ من الناس،
بسبب إما صعوبة الألفاظ والمصطلحات التي ترد فيه، وإما بسبب عدم تعودهم على الحديث
فيه والكلام عنه.
ولذلك من المناسب أن يدرس الإنسان مبحث القياس وأن يركز عليه، وأن يعرف الأحكام
والشروط الشرعية المتعلقة به.
إذن مبحث القياس مبحثٌ مهمٌ من جهة عموم نفعه، خصوصًا في المستجدات الحديثة التي
يمكن أن ندخل أو نعرف أحكامها بواسطة القياس، وأيضًا من جهة أن كثيرًا من الفروع
الفقهية والكتب الفقهية تبني مسائلها على القياس، ففهم مباحث القياس يؤدي إلى فهم
كلام الفقهاء، ثم إن مباحث القياس فيها مصطلحاتٌ يكثر ورودها عند العلماء، فإذا
عرفت معاني هذه المصطلحات فهمت كلام الفقهاء والعلماء في المسائل الفقهية التي
يوردونها.
ثم إن القياس يعوِّد الإنسان على تركيب الأدلة، وكيفية استخراج النتائج منها.
ثم القياس يعرفك بمناط الحكم، أو بالأوصاف التي يرتب عليها الحكم، من عرف الوصف
الذي يرتب عليه الحكم فهم مسائل الشرع، أما من لا يعرف الوصف الذي يناط به الحكم
ويعلق عليه الحكم فحينئذٍ سيكون كلامه خبط عشواء، ولم يصيب حقيقة المسألة.
كذلك مباحث القياس فيها فائدةٌ من جهة أنها تدرب الإنسان على المناقشة والحوار،
وكيف يقدح في دليل خصمه، وكيف يتمكن من استنتاج النتيجة والحكم من تركيب الكلام.
ولذلك مباحث القياس مباحث مهمةٌ، وفيه كما تقدم أن هذه المباحث يغفل عنها الناس،
وبالتالي لا يعرفون فيها شيئًا، وتكون صعبةً عليهم، ومن ثم فإن دراسة هذا المبحث له
أهميته.
ما هو القياس؟
أجيبوا؟
{هو تعريف بالمفهوم يا شيخ}
نعم.
{هو أن تحدث نازلةٌ أو حادثةٌ فيستنبط العالم حكمها بناءً على أصل مسألةٍ ورد فيها
نصٌ شرعيٌّ، فألحق الفرع بالأصل}
إذن بالإلحاق.
{أي نعم}
إذن إلحاق مسألةٍ مسكوتٍ عنها في الحكم بمسألةٍ منصوصٍ على حكمها، بناءً على وجود
معنى الحكم أو علة الحكم.
من يمثل لهذا بمثال؟
{تحريم المخدرات قياسًا على الخمر}
نأتي بشيءٍ أسهل، لو قلت مثلًا: قياس ركوب السيارة على ركوب الجمل، في مثالك أين
الأصل؟
{الأصل في مثالي أنا، حرمة}
ليست حرمة، الأصل الخمر.
الفرع
{المخدرات}
الحكم
{التحريم}
العلة
{ذهاب العقل}
الإسكار
{نعم الإسكار}
إذن هذا مثالٌ ولعلنا إن شاء الله تعالى أن نتوسع في مباحث القياس فيما يأتي ونذكر
شروط القياس وأحكامه، وصفات كل ركنٍ من أركان القياس، والقوادح التي يمكن أن يُقدح
بها في القياس، في لقائنا اللاحق، أسأل الله جلَّ وعلَا أن يوفقكم لكل خيرٍ، أسأل
الله لكم أيها المشاهدون توفيقًا لما يوصلكم إلى رضا رب العزة والجلال، اللهم أصلح
أحوال الأمة، واجمع كلمتها، وألف ذات بينها، واحقن دماءها، هذا والله أعلم، وصلى
الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.