الدرس الثامن

فضيلة الشيخ د. مضحي بن عبيد الشمري

إحصائية السلسلة

12495 9
الدرس الثامن

نخبة الفكر

{بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله معاشر طُلاب العلم في المستوى الثاني من برنامج (جادة المتعلم) ، والذي نشرح فيه كتاب (نُخبة الفكر) ، للإمام أحمد بن حجرٍ العسقلاني -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ مُضحي بن عبيد الشمري.
باسمكم جميعًا نُرحب بفضيلة الشيخ، حياكم الله شيخ}
الله يحييك ويبارك فيك.
{نستأذنكم في إكمال القراءة}.
استعن بالله.
{قال -رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ رَوَى عَن اثْنَيْنِ مُتَّفِقَيِ الاسْمِ وَلَمْ يَتَمَيَّزَا؛ فَبِاخْتِصَاصِهِ بِأَحَدِهِمَا يَتَبَيَّنُ المُهْمَلُ) }.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: (وَإِنْ رَوَى) يعني: الراوي، (عَن اثْنَيْنِ) من الرواة، (مُتَّفِقَيِ الاسْمِ) يعني: يروي الراوي مثلًا عن حماد، قال: حدثنا "حماد"، هناك حماد بن سلمة، وهناك مثلًا "حماد بن زيد".
قال: (وَإِنْ رَوَى عَن اثْنَيْنِ مُتَّفِقَيِ الاسْمِ وَلَمْ يَتَمَيَّزَا) ، لم نعرف نحن من حماد هذا؟ هل هو حماد بن زيد أو حماد بن سلمة؟
قال: (فَبِاخْتِصَاصِهِ بِأَحَدِهِمَا يَتَبَيَّنُ المُهْمَلُ) ، عندنا مُهمل وعندنا مُبهم، والمبهم هو الذي لا يُذكر اسمه يقال: حدثنا فلان، أو أخبرني رجل، أو ما شابه ذلك، هذا "مبهم".
وهناك "مهمل"، يُذكر اسمه ولكن تُهمل النسبة مثلا، أو تُهمل العلامة التي تحدد من هو هذا الرجل؟
والمثال على ذلك: "حماد" كما ذكرنا قبل قيل.
ابن حجر -رحمه الله- يقول: (وَلَمْ يَتَمَيَّزَا) ، قال: (فَبِاخْتِصَاصِهِ بِأَحَدِهِمَا يَتَبَيَّنُ المُهْمَلُ) ، ننظر إلى هذا الراوي الذي قال مثلًا: حدثنا "حماد"، وليكن مثلًا: أبو سلمة التَّبُوْذَكِيُّ -رحمه الله- وهو شيخ من شيوخ أبي داود -رحمه الله- يقول مثلًا: حدثنا "حماد"، من هو حماد هذا؟!
قال: (فَبِاخْتِصَاصِهِ بِأَحَدِهِمَا يَتَبَيَّنُ المُهْمَلُ) ، ننظر إلى أبي سلمة التَّبُوْذَكِي، هو مختص بالرواية عن من الحمادين؟!
الحافظ المزي -رحمه الله- في كتابه: "تهذيب الكمال" يُكثر من ذِكر الضوابط، ثم يقول الحافظ المزي: إذا قال فلان: حدثنا فلان، فالأصل أنه فلان، وإذا قال فلان مثلًا: حدثنا سفيان، فالأصل أنه الثوري، أو الأصل أنه سفيان بن عُيينة، وما إلى ذلك.
أبو سلمة التَّبُوْذَكِي قال: حدثنا حماد، فنظرنا من هو حماد هذا؟ فوجدنا أنَّ الأصل في أبي سلمة التَّبُوْذَكِي أنه يروي عن "حماد بن سلمة". وقد قال الحافظ المزي -رحمه الله-: يقال إنه لم يروِ عن "حماد بن زيد" إلا مرة واحدة.
إذًا نقول: الأصل أنه إذا قال: حدثنا "حماد" فهو "حماد بن سلمة"، وهكذا.
والعلماء -رحمة الله عليهم- يعتنون بهذه الضوابط، ومن أفضل من وجدته يعتني بهذه الضوابط فيما يتعلق برجال البخاري وتعيين المهملين؛ لأنَّ البخاري -رحمه الله- يُكثر من إهمال نسبة شيوخه، ويقال: إنَّ البخاري -رحمه الله- يتعمد ذلك لشحذ أذهان الطلاب، ولذلك كان كتاب (صحيح البخاري) كتابٌ للأذكياء، يأتي بعجائب وغرائب فيما يتعلق بالرواة والتراجم، وكيف يتبين المقصود من هذه الترجمة، أو من هذا الحديث الذي في الباب.
فالعناية بالرجال المهملين في صحيح البخاري، وتحديد من هم؟ يعني إذا أراد الإنسان أن يتبين فالمعروف أنه يرجع إلى الشروح، ماذا قال ابن حجر؟ ماذا قال فلان؟ وابن حجر -رحمه الله- له عناية شديدة في هذا الباب، وممن له عناية ولم يشتهر بهذا الباب: برهان الدين الحلبي -رحمه الله- صاحب كتاب (التلقيح لفهم قارئ الصحيح) ، فهو يعتني بهذا الباب عناية شديدة؛ حتى إنه أحيانًا يقول مثلًا: إذا قال فلان: حدثنا فلان فالأصل أنه فلان، إلا في موضعين من صحيح البخاري:
الموضع الأول: كذا.
والموضع الثاني: كذا.
فله عناية وتدقيق في هذا الباب -رحمه الله-.
فيعرف الإنسان هؤلاء المهملين بالنظر في كتب العلماء، والشروح، ومقارنة المرويات.
وأحيانًا تجد راوٍ مُهمل، كأن يقول أحد الرواة مثلًا: حدثنا "حماد"، وهذا الراوي حدّث عن حماد بن سلمة وحدّث كذلك عن حماد بن زيد، فتقول: من هو هذا؟
وحينما تجمع الطرق تجد أنه في بعض الطرق سُمي، فقيل مثلاً: حماد بن سلمة، أو قيل: حماد بن زيد.
وأحيانًا تعرف هذا من قرائن أخرى، ومثال على ذلك: الإمام البخاري -رحمه الله- فهو لا يروي لحماد بن سلمة شيئًا مُسندًا، فإذا جاء "حماد" في البخاري فالأصل أنه "حماد بن زيد"، هذا هو الأصل، بينما في صحيح مسلم فأحيانًا يراد به حماد بن سلمة.
وهناك ضوابط كثيرة، والطالب إذا اطلع، وقارن الروايات، وجمع، وتمرس في هذا الفن، يصل إلى مرحلة بعد ذلك يعرف من هو هذا المهمل دون رجوعٍ إلى الكتب غالبًا، ولكن هذا إذا تمرس في هذا الفن كما أسلفت.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ جَحَدَ مَرْوِيَّهُ جَزْمًا رُدَّ، أَو احْتِمَالاً قُبِلَ في الأَصَحِّ) }.
يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: (وَإِنْ جَحَدَ) ، يعني: الراوي حدّث تلميذًا له بحديثٍ من الأحاديث، ثم بعد زمن سمع هذا التلميذ يُحدّث بهذا الحديث، فقال هذا الشيخ مثلًا: أنا لم أُحدث بهذا، أي: جحد هذه الرواية التي حدّث بها تلميذه.
قال: (وَإِنْ جَحَدَ مَرْوِيَّهُ جَزْمًا رُدَّ) ، كيف (جزمًا) ؟
كأن يقول: كذب عليّ، أو لم أروٍ هذا، أو قال مثلًا: كذب عليّ فقط، أو قال: لم أرو هذا، أو قال صيغة يجزم بها أنه لم يُحدث بهذا، فإن جزم بهذا فإنَّ الرواية تُرد.
يقول ابن حجر -رحمه الله-: (رُدَّ، أَو احْتِمَالاً قُبِلَ في الأَصَحِّ) ، احتمالاً يعني: لم يرده جزمًا، يعني قال: أظن أني لم أروه، أو كأني لم أروه، أو مثل هذه العبارات التي هي على شيء من الاحتمال.
ابن حجر -رحمه الله- يقول: تُقبل على الأصح، وهذا قول جمهور العلماء، وقول ابن حجر -رحمه الله- على الأصح يدل على ماذا؟ يدل على أنَّ هناك خلاف في هذه القضية.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَفِيهِ: مَنْ حَدَّثَ وَنَسِيَ) }.
قد يكون هذا الشيخ قد نَسيّ هذه الرواية، ولذلك يقول ابن حجر -رحمه الله-: (وَفِيهِ: مَنْ حَدَّثَ وَنَسِيَ) ، يعني في هذا النوع من أنواع علوم الحديث، هذا باب من الأبواب اسمه "من حدّث ونسي"، إذا وجدت أحد الشيوخ أنكر روايةً له، فإنك غالبًا حينما ترجع إلى هذه الكتب التي أُلفت في هذا الباب "باب من حدّث ونسي" تجد فوائد في هذا.
الدارقطني -رحمه الله تعالى- صنَّف كتابًا في هذا "من حدّث ونسي"، وصنف فيه أيضًا الخطيب البغدادي -رحمه الله- والسيوطي -رحمه الله- لخص كتاب الخطيب البغدادي -رحمه الله- وزاد بعض الفوائد وسماه: (تذكرةُ المُؤْتَسِي بِمَنْ حَدَّثَ ونَسِي) .
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَإِن اتَّفَقَ الرُّوَاةُ في صِيَغِ الأَدَاءِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الحَالاَتِ، فَهُوَ: المُسَلْسَلُ) }.
من الأمثلة قبل أن أتجاوز هذه النقطة على من حدّث ونسي، يعني ذِكر الأمثلة أحيانًا يوضح بعض المسائل أكثر من مجرد التنظير أو شرح المسألة.
في الصحيحين من حديث عمرو بن دينار، عن أبي معبد، مولى ابن عباس، عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: «ما كنَّا نعرفُ انقضاءَ صلاةِ رسولِ اللهِ إلا بالتكبيرِ»، وفي رواية مسلم، قال عمرو بن دينار: "ذكرتُه لأبيِ معبدٍ"، الذي حدّثه بهذا الحديث فأنكره وقال: لا أعرف هذا، قال عمرو: وقد أخبرنيهِ قبل ذلك.
الحاصل: أنَّ في هذه المسألة، وفي كثير من مسائل علوم الحديث للقرائن جانب مهم فيها، كثير من المسائل تَحكم فيها بصحة حديث أو ضعفه أو إنكار رواية أو تقويتها أو ما شابه ذلك عن طريق القرائن، وهذا يكون غالبًا عندما تُجمع الطرق، تُجمع الطرق وينظر فيها فيكون هناك بعض القرائن التي تدل الناظر على الأقرب، أو الأرجح، أو الصواب، أو ما شابه ذلك.
يقول الحافظ -رحمه الله-: (وَإِن اتَّفَقَ الرُّوَاةُ في صِيَغِ الأَدَاءِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الحَالاَتِ، فَهُوَ: المُسَلْسَلُ) ، المسلسل حديث يَرويه جمعٌ من الرواة، إمَّا بصيغةٍ مُعينة، وإما بفعل وما شابه ذلك.
مثال: يروي مثلًا النبي جاء في الحديث أنَّ النبي قال لمعاذ: «يا معاذ، إني أحبك، فلا تدعن دبر كل صلاةٍ»، فيأتي الراوي ويقول لتلميذه: إني أحبك ثم ُيحدث بهذا الحديث، ثم يأتي التلميذ ويقول: إني أحبك، فيكون مسلسلاً بالمحبة.
وهناك أحاديث مسلسلة بالتبسم، وأحاديث مسلسلة بصيغة من الصيغ، وما شابه ذلك.
حديث المسلسل بالمحبة رواه أبو داود والنسائي، وهو الحديث الذي ذكرناه، حديث معاذ -رضي الله عنه-، وقد صححه الحافظ ابن حجر -رحمه الله- وغيرهُ.
ومن أوائلِ من جمع المسلسلات في كتاب خصها به هو: أبو موسى المديني -رحمه الله تعالى- المتوفى عام واحد وثمانين وخمسمائة، وأيضًا السخاوي -رحمه الله تعالى- ذكر في كتاب الجواهر المكللة في الأحاديث المسلسلة نحو: مئة حديث مسلسل، والغالب فيها ضعيف.
وأحيانًا التسلسل يكون صحيحًا في طبقات معينة، ثم في طبقات أخرى يكون ضعيفًا، أو ربما ينتهي التسلسل في طبقة من الطبقات، وما إلى ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَصِيَغُ الأَدَاءِ: سَمِعْتُ، وَحَدَّثَنِي، ثُمَّ أخبرني، وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قُرِئَ عَلَيْهِ وأنا أسمع، ثُمَّ أَنْبَأَنِي، ثُمَّ نَاوَلَنِي، ثُمَّ شَافَهَنِي، ثُمَّ كَتَبَ إِليّ، ثُمَّ عَنْ وَنَحْوُهَا) }.
طبعًا قد يتساءل بعض الطلاب ويقول: ما الفائدة من الأحاديث المسلسلة التي ذكرناها قبل قليل؟
هي تدل على ضبط الرواة لمن حدّثهم بهذا، أي: تدل على الضبط والإتقان في الرواية، فأنت حينما تأتي ويُحدثك شيخك بحديث ويتبسم، وتقول للتلميذ: حدثني فلان وتبسم، هذا يدل على ماذا؟ يدل على ضبطك لهذه الرواية وأنك تستذكرها، وتذكر حتى تبسمه، وهذه فائدة من فوائد الحديث المسلسل.
يقول ابن حجر -رحمه الله- في كلام مهم الآن، يقول: (وَصِيَغُ الأَدَاءِ) ، هناك تحمل، وهناك أداء التحمل، أخذ الراوي للحديث، والأداء تأدية الحديث، أو تبليغ الحديث لغيرهِ.
قال: (وَصِيَغُ الأَدَاءِ: سَمِعْتُ، وَحَدَّثَنِي) ، سمعت وحدثني هذه هي المرتبة الأولى، ما هي المرتبة الأولى؟ سمعت وحدثني.
قال: (ثُمَّ أخبرني، وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ) ، هذه هي المرتبة الثانية، التي هي أخبرني وقرأت عليه.
قال: (ثُمَّ قُرِئَ عَلَيْهِ وأنا أسمع) ، هذه المرتبة الثالثة.
(ثُمَّ أَنْبَأَنِي) ، هذه المرتبة الرابعة.
(ثُمَّ نَاوَلَنِي) ، هذه المرتبة الخامسة.
(ثُمَّ شَافَهَنِي) ، هذه المرتبة السادسة.
(ثُمَّ كَتَبَ إِليّ) ، يعني: كتب إليّ بالإجازة، هذه المرتبة السابعة.
(ثُمَّ عَنْ وَنَحْوُهَا) ، هذه هي المرتبة الثامنة من الصيغ المحتملة للسماع والإجازة، ولعدم السماح أحيانًا صيغة "عن".
فهذه هي المراتب التي ذكرها ابن حجر -رحمه الله- والآن سيُفصل فيها -رحمه الله تعالى- تفصيلًا طويلًا في هذه القضية.
لكن عندنا مسائل قبل أن نذكر تفصيل ابن حجر -رحمه الله-، طبعًا هذا الترتيب المذكور ها هنا، هو الذي استقر عليه الاصطلاح المتأخر، وهذا لم يكن بهذا بالضبط في زمن الرواية، ولذلك احتاج ابن حجر -رحمه الله- إلى أن يشرح هذه المراتب، وارتباطها بقضية التحمل، وتغير الاصطلاح فيما بعد ذلك، فنبه ابن حجر -رحمه الله- خاصةً في كتاب (النزهة) شرح هذا الكتاب على كثير من المسائل في هذا الباب.
طبعًا لاحظ أنَّ ابن حجر ذكر في المرتبة الأولى: (سَمِعْتُ، وَحَدَّثَنِي) ، وفي المرتبة الثانية: (أخبرني) ، وهذا يدل على أن ابن حجر يُفرق بين سمعت وحدثني من جهة، وأخبرني من جهة أخرى، يرى أن هناك بينهما شيء من الفرق.
وأقدم من جاء عنه التفريق بين هذا، هو: الإمام الشافعي -رحمه الله-، وتبعه على ذلك الإمام مسلم بن الحجاج -رحمه الله-، فكان يُفرق بين هذه الصيغ.
وأمَّا الإمام البخاري –رحمه الله- ومعه كثير من أئمة الحديث النُقاد كـ علي بن المديني وغيرهُ من الأئمة لا يُفرقون بين: "حدّثنا وأخبرنا"، بل يرون أن "حدّثنا وأخبرنا" واحد، وقد بوّب البخاري -رحمه الله تعالى- بابًا في كتاب "العلم من صحيحه" يُبين أنهما بمعنىً واحد.
طبعًا المتأخرين يُفرقون بينهما بتفريقٍ يأتي ذِكره بعد قليل، أن حدثني من لفظ الشيخ، وأخبرني ما قرأه التلميذ على الشيخ، والحقيقة بالغ بعض العلماء في محاولة التفريق بينهما من باب اللغة "حدثنا وأخبرنا"، وابن حجر -رحمه الله- وصف التفريق بينهما من باب اللغة أنه متكلف.
وقال: الصواب الذي فرّق بينهما وجعل هذا للسماع من لفظ الشيخ، وهذا للقراءة على الشيخ، والذي فرّق بينهما الاستعمال العرفي وليس قضية لغوية، جيد؟ ابن حجر -رحمه الله- بعد قليل سيُبين لنا هذه المراتب، ويُقسمها، ويُفصل فيها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (فَالأَوَّلاَنِ: لِمَنْ سَمِعَ وَحْدَهُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ، فَإِنْ جَمَعَ فَمَعَ غَيْرِهِ) }.
قال ابن حجر -رحمه الله-: (فَالأَوَّلاَنِ) ، يعني: المرتبة الأولى وهي: سمعت وحدثني.
قال: (لِمَنْ سَمِعَ وَحْدَهُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ) ، سمع لوحده، سمعت وحدثني، واضح؟ إذا سمعت شخصًا يقول: سمعت فلانًا يقول كذا، أو حدثني فلان بكذا، فهو حدثك لوحدك، هذا هو الظاهر المتبادر إلى الذهن.
(فَإِنْ جَمَعَ) ، قال: "سمعنا أو حدثنا"، وفي هذا دليل على أن معه جماعة من الطلاب حين السماع، هذا هو المتبادر إلى الذهن.
ومن العلماء من يهتم ببيان: هل سمع هذا الحديث معه أحد من العلماء، أو من التلاميذ من الأقران، أم هو الذي سمعه وحده؟
منهم من يُبين هذا ويهتم بهذا الأمر، إذا معه أحد يقول: سمعنا أو حدثنا، وإذا لم يكن معه أحد يقول: سمعت وحدثني، ومن أظهر من نستطيع أن نُمثل به في هذا الجانب الإمام مسلم بن الحجاج -رحمه الله- يعتني بهذا الجانب اعتناءً شديد، فيُبين هل سمع الحديث لوحدهِ من الشيخ أم أنه قد سمعه معه أحد؟
وفي المرتبة الثانية ممن يعتني بهذا الجانب أيضًا ولكن بصورة أقل: الإمام البخاري -رحمه الله- والنسائي في لفظهِ لسماعه من شيوخهِ هو، ثم بعد ذلك يأتي كثير من العلماء الذين توسعوا في هذا الباب: أبو داوود الترمذي، ابن ماجه، الإمام أحمد -رحمه الله- لا يهتمون بهذا الجانب هل سمعه معهم أحد أم لا؟ سمعت ومرة سمعنا، ولا يفرقون في هذا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَأَوَّلُهَا: أَصْرَحُهَا، وَأَرْفَعُهَا في الإِمْلاءِ) }.
(وَأَوَّلُهَا) ، هو قال: (الأَوَّلاَنِ: سمعت وحدثني) ، ثم قال: (وَأَوَّلُهَا) يعني: الأول في المرتبة الأولى، المرتبة الأولى: (سَمِعْتُ، وَحَدَّثَنِي) ، قال: (وَأَوَّلُهَا) يعني ماذا؟ يعني: لفظة سمعت.
قال: (وَأَوَّلُهَا) يعني: سمعت (أَصْرَحُهَا، وَأَرْفَعُهَا في الإِمْلاءِ) هذه أعلى المراتب في قضية الإملاء، (أَصْرَحُهَا، وَأَرْفَعُهَا في الإِمْلاءِ) ، سمعت أصرح وأرفع حتى من حدثني، لماذا؟ مع أنه متبادر للذهن أنهما بمرتبة واحدة أو مثل يعني لا يوجد بينهما فرق يعني، لكن قالوا أنَّ سمعت أصرح وأرفع؛ لأنها لا تحتمل شيئًا آخر، فهي لا تحتمل إلا السماع.
لكن حدثني؛ وإن كانت هي أصلًا صيغة صريحة، لكن وجد من أهل الشام من يتساهل في قول حدثني ويستعملها في الإجازة تدليسًا، أما سمعت لا يوجد من يستخدمها في الإجازة، لذلك صارت سمعت أقوى من حدثني.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَالثَّالِثُ، وَالرَّابِعُ: لِمَنْ قَرَأَ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ جَمَعَ: فَكَالخَامِسِ) }.
قال: (وَالثَّالِثُ) ، الثالث يعني لفظ أخبرني، يعني اللفظة الثالثة، وأخبرني تكون في أي مرتبة؟ في المرتبة الثانية، لكنها من حيث عدد الألفاظ هي اللفظ الثالث.
قال: (وَالثَّالِثُ) يعني أخبرني، (وَالرَّابِعُ) يعني قرأتُ عليه، هذا قال: (لِمَنْ قَرَأَ بِنَفْسِهِ) ، يعني أخبرني وقرأتُ عليه يقول الحافظ -رحمه الله-: (لِمَنْ قَرَأَ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ جَمَعَ) ، جمع كيف؟ يعني يقول: أخبرنا أو قرأنا عليه، (فَإِنْ جَمَعَ) فهو (كَالخَامِسِ) ، الخامس! ما هو اللفظ الخامس؟ قُرئ عليه وأنا أسمع.
هذه يُكثر منها الإمام النسائي، أبو عبد الرحمن النسائي -رحمه الله تعالى- في كتابه (السنن) ، ويذكرها بكثرة في شيخهِ الحارث بن مسكين، قُرئ عليه وأنا أسمع، ونُقل في ذلك قصة أو سبب لذلك، والصواب أن هذه القصة التي ذُكرت عن الحارث بن مسكين وأنه امتنع من إسماعه أبى أن يسمع عليه النسائي، فكان النسائي -رحمه الله- يختبئ ويستمع إليه وهم يُحدثونه، ويقول: قرُئ عليه وأنا أسمع.
وهذه القصة فيها شيء من الضعف، والنسائي -رحمه الله- ذَكر هذه اللفظة قُرئ عليه وأنا أسمع يعني في غير الحارث بن مسكين -رحمه الله-.
لكن من أكثر العلماء ذِكرًا لهذه اللفظة أو لهذه الصيغة هو النسائي -رحمه الله- قرئ عليه وأنا أسمع.
يقول ابن حجر -رحمه الله-: (فَإِنْ جَمَعَ) ، يعني قال أخبرنا أو قرأنا عليه (فَهو كَالخَامِسِ) يعني مثل قرئ عليه وأنا أسمع، يعني أخبرنا وقرأنا عليه تُساوي قُرئ عليه وأنا أسمع، عند الجمع تساوي قُرئ عليه وأنا أسمع، واضح؟ يعني مثلها في المرتبة، هذا الذي استقر عليه اصطلاح كما يذكره ابن حجر -رحمه الله تعالى-.
طيب سؤال: لماذا؟ يعني معنى هذا أن ابن حجر يجعل (أخبرني وقرأتُ) مقدمة على أخبرنا وقرأنا عليه، واضح؟ يعني قال: (وَالثَّالِثُ) أخبرني، (وَالرَّابِعُ) قرأت عليه (لِمَنْ قَرَأَ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ جَمَعَ: فَهو كَالخَامِسِ) ، يعني عند الجمع تنزل المرتبة.
لماذا؛ مع أن اللفظ واحد؟ يعني قال: أخبرني ولا قال قرأت عليه؟ هذا أقوى من أخبرنا وقرأنا عليه، لماذا؟
يقول العلماء -رحمهم الله-؛ لأنَّ أخبرني وقرأت عليه تُفصح عن حقيقة الحال، وأما أخبرنا فهي محتملة، فقد كان بعض الرواة مثلًا يقول: أخبرنا فلان وهو يعني أنه أخبر أهل البصرة مثلًا، وهذا القائل من أهل البصرة، واضح؟ ففيها شيء من الاحتمال أخبرنا، أما أخبرني لا تحتمل، بل تفصح عن حقيقة الحال أنه أخبرني أنا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَالإِنْبَاءُ، بِمَعْنَى الإِخْبَارِ إِلا في عُرْفِ المُتَأَخِّرِينَ: فَهُوَ لِلإجَازَةِ: كَعَنْ) }.
يقول الحافظ -رحمه الله-: (وَالإِنْبَاءُ، بِمَعْنَى الإِخْبَارِ) ، يعني: أنبئني وأخبرني، الإنباء بمعنى الإخبار عند الأئمة المتقدمين، لكن عند المتأخرين.
قال: (إِلا في عُرْفِ المُتَأَخِّرِينَ: فَهُوَ لِلإجَازَةِ) ، لكن عند المتأخرين الإنباء تطلق على الإجازة فقط، عند المتأخرين الإنباء تطلق على الإجازة فقط.
قال: (كَعَنْ) ؛ لأنَّ "عن" واسعة تأتي في السماع وتأتي في الإجازة، لكن في عرف المتأخرين أنبأني هي للإجازة، طبعًا استعمال الأئمة المتقدمين للفظ الإنباء قليل، الأئمة المتقدمون استعمالهم للفظ الإنباء قليل، لكنه يكثر عند المتأخرين لانتشار الإجازة عند المتأخرين، يكثر عند المتأخرين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَعَنْعَنَةُ المُعَاصِرِ مَحْمُولَةٌ عَلَى السَّمَاعِ إِلاَّ مِنَ مُدَلِّسِ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ ثُبُوتُ لِقَائِهِمَا وَلَوْ مَرَّةً، وَهُوَ المُخْتَارُ) }.
يعرض ابن حجر -رحمه الله- ها هنا مسألة مهمة جدًا، وهي مسألة عنعنة المعاصر، فلان محمد وأحمد في مدينةٍ واحدة، وفي عصرٍ واحد، قال محمد: عن أحمد، هل نقول: الأصل السماع؟ طبعًا كلاهما ثقة وليسا بمدلسين، محمد وأحمد ثقات وليسوا بمدلسين أيضًا، وفي عصرٍ واحد، ولقاؤهما ممكن. هل إذا قال: "عن فلان"، نقول: الأصل الاتصال أم نقول: ليس بمتصل إلا إذا ثبت عندنا أنهما التقيا ولو لمرة واحدة؟
القول الأول من أقوال العلماء قالوا: يُحمل هذا على السماع، وهذا مذهب الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- وقد ذكره في مقدمتهِ، ونافح عنه -رحمه الله-، وذكر أنَّ الإجماع قائم على هذا القول.
يعني الإمام مسلم -رحمه الله- يقول: محمد وأحمد ثقات وليسا بمدلسين، واللقاء ممكن بينهما، وهما في عصر واحد، فلا يهم إن ثبت عندنا أنهما التقيا أم لم يثبت، والأصل في هذا أن الإسناد متصل.
المذهب الثاني: مذهب الإمام البخاري -رحمه الله- وعلي بن المديني، ونُسب إلى جماهير المحدثين أنه لا يُحمل على السماع إلا بشرط، وهو: أن يثبت أنهما التقيا ولو لمرة، مثلًا محمد عن أحمد في تسعين حديث، لهم مئة حديث، مثلًا محمد يروي عن أحمد في مئة حديث، تسعة وتسعين حديث منها (عن) ، وحديث منها قال: حدثني محمد، قال: حدثني أحمد، فثبت أنهما قد التقيا، وأنه سمع منه ولو حديثًا واحدًا، فالعنعنة الباقية نحملها على السماع.
لكن لو كل الأحاديث كلها (عن) ما في ولا مرة أتى بصيغة صريحة في السماع، في هذه الحالة لا يُحمل على السماع، هذا ما ذهب إليه الإمام البخاري -رحمه الله- وهو الذي قال عنه ابن حجر -رحمه الله- وهو المختار.
(وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ ثُبُوتُ لِقَائِهِمَا وَلَوْ مَرَّةً، وَهُوَ المُخْتَارُ) ، ولذلك هذه المسألة من مهمات المسائل، ويتبين مذهب الإمام البخاري -رحمه الله- في هذه المسألة حينما يقرأ الإنسان في كتاب الإمام البخاري (التاريخ الكبير) يقول: فلان عن فلان، ولهما روايات، أي قال: لا أعلم له سماعًا، يُعل البخاري -رحمه الله- بهذا، يقول: لا أعلم لفلان سماعًا من فلان، وله عنعنة كثيرة، وكلاهما ثقة، وليسوا بمدلسين، وما إلى ذلك، ولكن البخاري لا يثبت الاتصال بينهم إلا بثبوت السماع عنده، وهذا ظاهر من صنيع البخاري -رحمه الله- خاصةً في كتابه (التاريخ الكبير) .
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَأَطْلَقُوا المُشَافَهَةَ في الإِجَازَةِ المُتَلَفَّظِ بِهَا، وَالمُكاَتَبَةَ في الإِجَازَةِ المَكْتُوبِ بِهَا) }.
يقول الحافظ -رحمه الله-: (وَأَطْلَقُوا المُشَافَهَةَ في الإِجَازَةِ المُتَلَفَّظِ بِهَا، وَالمُكاَتَبَةَ في الإِجَازَةِ المَكْتُوبِ بِهَا) ، يعني أن الإجازة وهي الإذن بالرواية لها كيفيتان:
الكيفية الأولى: أن يُشافهه الشيخ مشافهةً، فيقول له الشيخ: أجزتك، فيقول التلميذ: شافهني، هذه مشافهة، شافهني، جيد؟
والصيغة الثانية: أن يكتب له أنه أجازه، فيقول التلميذ: كاتبني.
ولذلك يقول: (وَأَطْلَقُوا المُشَافَهَةَ في الإِجَازَةِ المُتَلَفَّظِ بِهَا، وَالمُكاَتَبَةَ في الإِجَازَةِ المَكْتُوبِ بِهَا) ، طبعًا هذا الذي استقر عليه الاصطلاح، أما الأئمة النُقاد الأوائل فإنهم يشترطون أن يقول أجازني مشافهةً، أجازني مكاتبةً، يُبين أنه ماذا؟ أنها بالإجازة، أنه أجازهُ.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَاشْتَرَطُوا في صِحَّةِ المُنَاوَلَةِ اقترانَها بِالإِذْنِ بِالرِّوَايَةِ، وَهِيَ أَرْفَعُ أَنْوَاعِ الإِجَازَةِ) }.
يعني أن الإجازة أنواع، ومن أعلى أنواع الإجازة قال: (المُنَاوَلَةِ) ، مثلًا مع الإذن، إذا حصل هذا الشرط.
المناولة يدفع الشيخ للتلميذ كتابهُ، الشيخ كتابه الذي جمع فيه حديثه يدفعه إلى الطالب، ويشترط ماذا؟ أن يأذن له برواية هذا عنه، هذه إجازة، ويقول ابن حجر -رحمه الله- أنها إذا اقترنت بالإذن بالرواية أن هذا من أرفع أنواع ماذا؟ من أرفع أنواع الإجازة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَكَذَا اشْتَرَطُوا الإِذْنَ في الوِجَادَةِ، وَالوَصِيَّةَ بِالكِتَابِ، والإِعْلامِ، وَإِلاَّ فَلا عِبْرَةَ بِذَلِكَ، كَالإِجَازَةِ العَامَّةِ، وَلِلْمَجْهُولِ، وَلِلْمَعْدُومِ عَلَى الأَصَحِّ في جَمِيعِ ذَلِكَ) }.
هنا فيه مسائل كثيرة:
أولها قال: (وَكَذَا اشْتَرَطُوا الإِذْنَ في الوِجَادَةِ) ، الوجادة أن يجد التلميذ كتابًا لشيخه بخط يده، الشيخ كتب أحاديثه في هذا الكتاب، فيأتي التلميذ ويجد هذا الكتاب للشيخ بخط الشيخ، جيد؟ هذه تُسمى ماذا؟ الوجادة.
قال: (وَكَذَا اشْتَرَطُوا الإِذْنَ في الوِجَادَةِ) ، ما المكتوب عندك بالمتن بعد الوجادة؟
{(وَالوَصِيَّةَ بِالكِتَابِ) }.
(وَالوَصِيَّةَ بِالكِتَابِ) .
طيب هناك مسألة من المسائل قبل الوصية بالكتاب، ماذا يفعل إذا وجد التلميذ كتابًا لشيخهِ ولم يأذن له الشيخ بالرواية عنه؟ يعني هم يقولون الوجادة يشترطون فيها أن يكون قد أذن له بالرواية، طيب إذا جاء التلميذ ووجد كتابًا لشيخٍ من الشيوخ فيه أحاديث هذا الشيخ، لكن ليس هناك إذن بالرواية، ما الذي يفعل هذا التلميذ؟
الذي يفعل يقول: إذا أراد أن ينقل يقول: وجدتُ بخط فلان، كما كان عبد الله الإمام أحمد -رحمه الله- يفعل هذا، وجدتُ بخط أبي، لم يأذن له بالرواية، فلا يقول صيغة تحتمل الإجازة، وإنما يقول وجدت بخطهِ؛ لأنه ليس هناك إذن بماذا؟ بالرواية.
مسألة أخرى: إذا أذن له الشيخ بالرواية، وجد كتابًا لشيخه فأذن له الشيخ برواية هذا الكتاب عنه، يقول عند المتأخرين -اصطلاح المتأخرين- يقولون: أخبرني فلان، هذا يدل على أنه أجاز له الرواية عنه.
طيب هنا مسألة: ما حكم الرواية بالوجادة مع الإذن -مع إذن الشيخ-؟
وجد كتابًا بخط شيخه، والشيخ قد أذن له برواية هذا الكتاب عنه فرواه عنه، ما حكم هذه الرواية عنه؟ عند المتأخرين يقولون تصح، يعني إذا أجازه بهذا وقد وجده بخطه.
أما الأئمة النُقاد الأوائل فإنهم يجعلونه منقطعًا ويُعلونه بهذا، ولذلك يكثر عندهم قول فلان عن فلان صحيفة، فلان عن فلان كتاب، يقولون الأصل أنه لا يعتبرونه متصلًا، يقولون: إلا إذا ثبت أنه أيضًا سمعه من الشيخ، إذا سمع من الشيخ انتهينا ما في إشكال، لكن بدون سماع عند الأئمة النُقاد الأوائل يقولون: لا يكون متصل بهذا، يُعلون بهذا -أعني يعلون بهذا-، أما عند متأخرين فيعتبرونها يعني إجازة ويعتبرونه متصل، ويرون أن الرواية بهذا تصح.
قال بعد ذلك: (وَالوَصِيَّةَ بِالكِتَابِ) ، ما هي الوصية بالكتاب؟ أراد المحدث أن يُسافر، مرض المحدث فخشي أن يموت، فأوصى بكتابه الذي في حديثه لشخص معين، هذه هي الوصية بالكتاب، أوصى بكتابهِ لشخصٍ معين، جيد؟ ما حكم الوصية بالكتاب إذا لم تقترن بالإجازة، ما أجازه، أوصى بهذا الكتاب أن يُجعل عند فلان، أو أوصى بكتابي هذا أن يُعطي لفلان، ما حكم هذه الوصية؟ وهي لم تقترن بالإجازة طبعًا؟
عند جمهور العلماء يقول: لا تصح؛ لأنه ما في إجازة هنا، ما في إجازة، فقط أوصى بالكتاب أن يكون عند فلان مثلًا، أو أوصى للكتاب بأن يُعطى لفلان من الناس دون إذن بالإجازة، الجمهور يقولون: لا تصح.
وهناك قول آخر يروى عن ابن سيرين: أنه أفتى بجواز الرواية بذلك وروي عنه التوقف في هذا، والصواب أنها لا تصح، الصواب أنها لا تصح؛ لأنها لم تقترن بالإجازة.
المسألة الثانية: ما الحكم لو أوصى بكتابهِ لفلان، وأذن له بالرواية عنه -برواية هذا الكتاب؟ يعني أجازه برواية هذا الكتاب، الذي استقر عليه الاصطلاح أن الرواية بهذا تصح، لكن عند الأئمة النُقاد الأوائل مثل الوجادة، يرون أنها الرواية تكون منقطعة إلا إذا ثبت أنه سمع الكتاب عليه، إذا سمع الكتاب عليه انتهينا، لكن إذا لم يثبت أنه سمع الكتاب عليه فقط إجازة يقولون أن هذه الرواية لا تصح عنه، واضح؟ لا تصح.
قال بعد ذلك -وعندك مكتوب-: (وَفي الإِعْلامِ) ؟
{(والإِعْلامِ) }.
قال: (والإِعْلامِ، وَإِلاَّ فَلا عِبْرَةَ بِذَلِكَ) ، ما هو الإعلام؟ أن يُعلم الشيخ تلميذه أني أروي هذا الكتاب عن فلان، أنا أخبر التلميذ أني أروي كتابي هذا على شيخي فلان، هذا هو الإعلام.
ما حكم الإعلام بدون إجازة؟
يقول الجمهور: لا تصح، وقد روي عن الزهري وابن جريج الجواز، لكن الصواب مع جمهور المحدثين أنها لا تصح، والرواية عن الزهري وابن جريج في هذا تحتاج إلى إثبات أنهم ذكروا هذه المسألة الأولى بدون إجازة.
إذا اقترن الإعلام هذا بالإجازة: أخبروا أني أروي كتابي هذا عن فلان وأنا أجيزك به، مثل المسائل السابقة، جمهور المتأخرين يرون أن الرواية بهذا تصح، والمتقدمون يرون أنها لا تصح إلا إذا سمع منه هذا الكتاب، مثل ما ذكرنا قبل قليل.
يقول ابن حجر -رحمه الله-: (اشْتَرَطُوا الإِذْنَ) ، ثم ذكر هذه المسائل اللي هي الوجادة، والوصية بالكتاب، والإعلام.
قال: (وَإِلاَّ) ، يعني إذا لم يكن هناك إذن (فَلا عِبْرَةَ بِذَلِكَ) ، إذا ما كان فيه إذا بالإجازة فلا عبرة لذلك، كما ذكرنا هذا قول جمهور المحدثين أنه إذا ما فيه إجازة في هذه المسائل كلها لا عبرة بذلك.
قال: (لا عِبْرَةَ بِذَلِكَ، كَالإِجَازَةِ العَامَّةِ) ، يعني أن الوجادة والوصية والإعلام إذا كانوا بلا إذن بالرواية فهي كالإجازة العامة، كالإجازة العامة، (وَلِلْمَجْهُولِ) مثل ما يقول إنسان: أجزت محمدًا، طيب من محمد؟ فيه ألف محمد، من هو محمد الذي أجزته؟ هذه إجازة لمجهول.
قال: (وَلِلْمَعْدُومِ) ، وللمعدوم كأن يقول: أجزتك وأجزت ذريتك وأحفادك، هو إلى الآن ما تزوج، معدوم، هذه إجازة لمعدوم.
قال: (عَلَى الأَصَحِّ في جَمِيعِ ذَلِكَ) وهذا ظاهر.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (ثُمَّ الرُّوَاةُ إِن اتَّفَقَتْ أَسْمَاؤُهُمُ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ فَصَاعِدًا وَاخْتَلَفَتْ أَشْخَاصُهُمْ؛ فَهُوَ: المُتَّفِقُ وَالمُفْتَرِقُ) }.
(الرُّوَاةُ إِن اتَّفَقَتْ أَسْمَاؤُهُمُ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ) ، محمد بن عبد الله، ومحمد بن عبد الله، اتفق الاسم الأول مع اسم الأب (فَصَاعِدًا وَاخْتَلَفَتْ أَشْخَاصُهُمْ) ، ماذا يسمى هؤلاء؟
قال: (فَهُوَ: المُتَّفِقُ وَالمُفْتَرِقُ) ، الخطيب البغدادي -رحمه الله- صّنف كتابًا حافًلا في هذا وكتابه هذا مطبوع، أتى عندك راوٍ محمد بن عبد الله، وأنت لديك مجموعة محمد بن عبد الله لا تدري من هذا؟ ترجع إلى هذا الكتاب (كتاب الخطيب البغدادي "المتفق والمفترق") ، يذكر فيه -رحمه الله- ضوابط في هذا، ومسائل تفيد الناظر في الذي يريد تمييز من هذا الرجل.
طبعًا إذا كانت الطبقة مختلفة، واحد منهم من الطبقة المتقدمة مثلًا، والآخر من الطبقة المتأخرة، هذا واضح، لكن الإشكال الأكبر يكون ماذا؟ حينما تتفق الطبقة، وهذا يحصل أحيانًا، ولذلك صنف العلماء في هذا الباب كتبًا؛ حتى يتبين الطالب من المراد في مثل هذا الموضوع.
وأحيانًا يُعرف طبعًا عن طريق التلاميذ، محمد بن عبد الله الأول تلاميذه معروفين، ومحمد بن عبد الله الثاني له تلاميذ آخرين.. وهكذا فيه طرق للتمييز.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَإِن اتَّفَقَتِ الأَسْمَاءُ خَطًّا وَاخْتَلَفَتْ نُطْقًا؛ فَهُوَ: المُؤْتَلِفُ وَالمُخْتَلِفُ) }.
هذه إذًا مسألة أخرى، قال: (وَإِن اتَّفَقَتِ الأَسْمَاءُ خَطًّا) يعني من حيث الرسم، (وَاخْتَلَفَتْ نُطْقًا) من حيث النطق تختلف، سواءً كان مرجع الاختلاف في النطق من حيث النَقط أو من حيث الشكل، مثل: "يزيد وبُريد" الرسم والخط واحد، لكن فيه اختلاف بالنقط، الشكل مثل "عَقيل وعُقيل" الخط واحد والنقط واحد، لكن الخلاف في ماذا؟ في الشكل، هذا يسمونه العلماء -رحمة الله عليهم- المؤتلف والمختلف.
وأشد التصحيف ما يقع في الأسماء، كما يقول علي ابن المديني -رحمه الله تعالى-؛ لأن الأسماء لا يدخلها القياس، ما فيها قياس، هذا أشد الأشياء إشكالًا من جهة ماذا؟ من جهة التصحيف.
وقد صنف العلماء -رحمة الله تعالى عليهم- مصنفات في هذا الباب (تصحيفات المحدثين) لأبي أحمد العسكري -رحمه الله- المتوفى عام اثنين وثمانين وثلاثمائة، وكتابه هذا مطبوع، والخلاف في النقط فيه إشكالات كبيرة، ويجد الإنسان أحيانًا طرائف ولطائف في هذا الباب، مثل الإمام الشهير صالح جَزرة قيل عنه جَزرة؛ لأنه كان يقرأ حديثًا أن عائشة كان عندها خَرزة فصحف فقال جَزرة، فقيل عنه جَزرة.
وهذا يحصل كثيرًا يعني الإشكال، ولذلك علي بن المديني يقول: "أشد التصحيف ما يقع في الأسماء"، وأنا الحقيقة يعجبني "برهان الدين الحلبي"، وأنا أثنيت كثيرًا على هذا الكتاب في عدة مواضع من هذه الحيثية، فهو يضبط أسماء الرواة ويقول: كلُ فلان في صحيح البخاري فهو بالفتح إلا فلان فهو بالضم، يضع ضوابطًا جيدة في الرجال من خلال شرحه لكتاب (صحيح الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-) .
ألّف في هذا أيضًا حافظ عبد الغني الأزدي كتاب "مشتبه النسبة"، الذي هو عبد الغني بن سعيد الأزدي، المتوفى عام تسعة وأربعمائة، وألّف فيه أيضًا الدارقطني -رحمه الله- "المؤتلف والمختلف"، وهو شيخ عبد الغني بن سعيد الأزدي، ولكن كتاب عبد الغني بن سعيد الأزدي قبل كتاب الدارقطني، سبق شيخهُ في التأليف في هذا الباب.
وهناك مثلًا الخطيب البغدادي -رحمه الله- أتى وأكمل كتاب الدارقطني، وسمى الكتاب "المؤتَنِف في تكَمِلة المؤتلِف والمختلف"، ثم أتى ابن ماكولا وألف كتاب "الإكمال"، والذهبي -رحمه الله- أيضًا له كتاب اسمه "المتشابه"، وأتى ابن حجر -رحمه الله- وألّف كتابًا بناهُ على هذا الكتاب، وهو كتاب "تبصير المنتبه"، وابن ناصر الدين الدمشقي -رحمه الله- ألّف كتاب "توضيح المشتبه" والذي بناهُ على كتاب الذهبي.
ولذلك دائمًا إذا وجدت راوي من الرواة، أو نسبة، نسبة مثل مسلم الزَنجي هل هو الزَنجي بفتح الزاي أو الزِنجي؟ أشكل عليك، ترجع إلى أمثال هذه الكتب، كتاب ابن ناصر الدين الدمشقي له كتاب نفيس "توضيح المشتبه"، وترجع أيضًا لكتاب ابن حجر "تبصير المنتبه"، هذه الكتب مهمة في معرفة..
ولذلك إذا رجعت لها تعرف أن الصواب الزَنجي بفتح الزاي، وما إلى ذلك.. كثير من النسب تُعرف عن طريق الرجوع إلى أمثال هذه الكتب، وهذا باب مهم جدًا حتى يأمن الإنسان من الزَلل ومن الخطأ في نطق أسماء الرجال؛ لأن هذا باب يحصل فيه إشكال كثير، وخاصةً يكثر الإشكال هذا عند بعض الطلبة الذين يتتلمذون ويتعلمون من خلال الكتب دون سماعٍ من الشيوخ.
يعني أذكر أن رجلًا أوتي حفظًا عجيبًا للأسانيد، وأسماء الرجال، والأنساب، وما إلى ذلك... يقول مثلًا عن راوٍ مشهور، وهو مالك بن مغْول، يقول: مالك بن مَغُول، لماذا وقع في هذا الخطأ؟ لأنه أخذ العلم مباشرة بدأ بالكتب، وحتى أخذه عن طريق الكتب ما كان بالطريقة السليمة، وإلا لو رجع للكتب التي اعتنت بهذا الجانب؛ لتبين له أنه مِغْول، الكتب التي تعتني بضبط الإشكالات في هذه الأسماء، لكنه مباشرة دخل إلى الكتب رأسًا دون معرفة إلى كيفية استخدام الكتب، والاستفادة منها في ضبط أسماء الرجال، وتوسع في هذا الباب.
ولذلك مثل هذا الباب باب دقيق، وهو أيضًا صعب.
ولذلك أنا أُعيد وأُكرر مقولة علي بن المديني -رحمه الله- حين قال -رحمه الله-: "أشد التصحيف ما يقع في الأسماء"؛ لأنَّ الأسماء ما فيها قياس، ما فيه إلا سماع وإتباع لطريقة الاسم التي جاءت، عَقيل ولا عُقيل؟ الحضرمي ولا المخرمي؟ فلان سيّار ولا سنّار؟ لا بد أن يعتني الإنسان بهذا الباب.
ولعل في هذا القدر كفاية، أسأل الله -جلّ وعلا- أن يجعلني وإياكم موفقين مسددين أينما كنا، هذا والله تعالى أعلم، وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ.
وبهذا نكون قد انتهينا من حلقتنا لهذا اليوم، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقةٍ مقبلة، وإلى ذلك الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ