الدرس الثاني
فضيلة الشيخ د. مضحي بن عبيد الشمري
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله معاشر طلاب العلم في (المستوى الثاني) من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نشرح فيه كتاب (نخبة الفكر) للإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ مضحي بن عبيد الشمري.
باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، حياكم الله}.
الله يحييك ويبارك فيك، ويكتب أجركم، ويثيبكم على هذه البرامج النوعية، وجزاكم الله خيرًا.
{نستأذنكم في إكمال القراءة.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَالثَّالِثُ: الْعَزِيزُ، وَلَيْسَ شَرْطًا لِلصَّحِيحِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ)}.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فقد سبق أن ذكرنا أن ابن حجر -رحمه الله تعالى- قسم الخبر -وهو يريد به الحديث- إلى متواتر وآحاد، والمتواتر بينه في البداية، ثم بين بعده الآحاد، والآحاد جعله على أقسام، وتكلمنا في الدرس الماضي على أن القسم الأول هو: (الْمَشْهُورُ) والآن يتكلم -رحمه الله- عن (الْعَزِيز) ثم بعد العزيز سيتكلم عن (الْغَرِيبُ) ثم بعد ذلك سيقول: كلها آحاد عدا الأول، يعني جعل القسمة اثنين، الأول المتواتر، وهو قسم واحد، والثاني: الآحاد على ثلاثة أقسام.
وهنا يقول: (الثالث الْعَزِيز) باعتبار أنَّ المتواتر هو: الأول، والمشهور هو: الثاني، والثالث هو (العزيز)، ثم -بعد ذلك- سيذكر أنَّ الأول هو المتواتر، والباقي يقال له: آحاد كله.
قال: (وَالثَّالِثُ: الْعَزِيزُ، وَلَيْسَ شَرْطًا لِلصَّحِيحِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ)، والعزيز عرَّفه ابن حجر -رحمه الله- وهو شارح المتن؛ لأنَّ صاحب متن النخبة هو ابن حجر، وهو نفسه من شرحه في كتابه (نزهة النظر). فقال في النزهة عن العزيز: "ألا يرويه أقل من اثنين عن اثنين". ما معنى هذا الكلام؟ يعني: لو أنَّ حديثا من الأحاديث، رواه أربعة من الصحابة، ورواه عنهم مثلا مئة من التابعين، وعن المئة من التابعين رواه مثلا اثنين، وهذا مثال فرضي، ثم بعد الاثنين رواه عشرة وهكذا. إذا أردنا أن نعرف هذا الحديث هل هو مشهور أم عزيز أم غريب، ماذا نفعل؟
ننظر لأقل طبقات السند، عدد رجال، فنجد أن أقل طبقة فيها اثنين، إذًا نسميه ماذا؟
نسميه (العزيز)، فنحن لا ننظر إلى الطبقات التي فيها أكثر عدد من الرجال. مثلا لو أنَّ الطبقة التي قبل اثنين فيها ثلاثة، هل سنقول إنه مشهورا؟
نقول: لا؛ لأننا ننظر إلى أقل الطبقات، فأقل الطبقات فيها اثنان، ولذا سميناه عزيزًا، ولو أنَّ أقل طبقة فيها واحد لسميناه غريبًا، حتى ولو انتشر بعد ذلك. وسيأتي مثال على هذا.
فهنا قال: (وَالثَّالِثُ: الْعَزِيزُ) وهو ألا يرويه أقل من اثنين عن اثنين، وهذا المصطلح (الْعَزيزُ) يذكر العلماء أنَّ أول من أطلق هذا المسمى (الْعَزِيزُ) هو الحافظ ابن منده، المتوفى عام خمسة وتسعين وثلاثمئة -رحمه الله-، وإن كان ابن مندى -رحمه الله- لا يريد بهذا المصطلح هذا التعريف بهذه الدقة، ولكن كان يقصد -رحمه الله- أنَّ هذا التعريف مندرج تحت ما يريد ابن منده أن يسميه بالعزيز، أظنه قال: ما رواه اثنين أو ثلاثة أو نحو ذلك، ولكن الحاصل أنَّ ابن منده -رحمه الله- يرى أنَّ العزيز هو ما رواه اثنان، وأول من أطلق هذا المصطلح هو ابن منده -رحمه الله تعالى-.
لِمَ سمي العزيز عزيزا؟
قال العلماء -رحمة الله عليهم-: إمَّا لأنه مأخوذ من لفظة عَزَّ، يعني: أنه يندر وجوده، أي: قليل، وإمَّا أنه سمي عزيزا لاعتضاده بغيره، فهو كان إسناد واحد، فَعَزَّ بإسناد آخر فصار عزيزًا.
قال -رحمه الله-: (وَلَيْسَ شَرْطًا لِلصَّحِيحِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ) يريد بهذا أن هناك من قال: إن الإسناد الواحد لا يقبل، ويشترط للصحيح أن يكون عزيزًا، أي أن يأتي إسناد آخر فيقويه حتى يقبل. قال ابن حجر -رحمه الله-: (وَلَيْسَ شَرْطًا لِلصَّحِيحِ)، أي أنه قد يكون عندنا حديث بإسناد واحد، ويكون ذلك الحديث صحيحًا، حيث لا يشترط أن يكون عزيزا حتى يكون صحيحًا.
قال: (خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ) يقصد بهذا الجبائي -أبو علي الجبائي- من المعتزلة، وفي كتاب ابن حجر: (النكت على ابن الصلاح) ذكر أيضًا أنَّ هذا مما يقوله الجاحظ أيضًا، وهو كذلك من المعتزلة.
"أبو علي الجبائي" له عبارة ذكرها أبو الحسين البصري في المعتمد، ومن نظر إلى كامل عبارته يرى أنها ليست بما يفهم منه بالضبط هنا، أنه يفترض إسنادًا آخر، فكأنَّ "أبو علي الجبائي" يقول: إذا لم نجد له عاضد، لا من القرآن، ولا من السنة، ولا من عمل الصحابة، فجعل العاضد أعم من كونه أن يأتي إسناد آخر، فكأنَّ هذا ما يريده "أبو علي الجبائي"، وهذا يعني يقربه من قول الجمهور، الذين لا يرون أن من شرطه أن يكون إسناد آخر بالضبط، وإن كان ليس هو بقول الجمهور، ولكن يقربه الى قولهم. فهذا هو قول "أبو علي الجبائي" و "الجاحظ" كما ذكر ابن حجر -رحمه الله- في كتابه (النزهة)، وفي كتابه: (النكت على ابن الصلاح).
نسينا أن نذكر مثالا للحديث العزيز، يمثل كثير من العلماء للحديث العزيز بما جاء في الصحيحين من حيث أنس -رضي الله عنه- أنَّ النبي ﷺ قال: «لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِن والِدِهِ ووَلَدِهِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ»[1]، وجاء هذا الحديث من رواية أنس، ومن رواية أبي هريرة، فيكون هذا الحديث عَزيزًا لماذا؟
لأجل أنه قد روي عن صحابيين، وإن كان قد رواه عن أنس قتادة، وعبد العزيز بن صهيب، ورواه عن قتادة سعيد بن أبي عروبة، وشعبة، وكذلك يذكرون أيضا أن الحديث (عزيز) عن أنس -رضي الله عنه-، ولكن في النهاية بما أنه قد روي من طريق صحابيين فقط صار الحديث حينئذ عزيزًا؛ لأنها أقل طبقات السند فيها رجلين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَالرَّابِعُ: الْغَرِيبُ، وَكُلُّهَا سِوَى الْأَوَّلِ آحَادٌ)}.
يريد أنَّ الأول هو المتواتر، والثاني: هو المشهور، والثالث: هو العزيز، والرابع: هو الغريب،
(وَكُلُّهَا سِوَى الْأَوَّلِ آحَادٌ)، أي أنَّ الأول هو المتواتر، والثلاثة الباقية هي الآحاد.
قال: (وَالرَّابِعُ: الْغَرِيبُ) عرف -رحمه الله- الغريب فقال: "هو ما يتفرد بروايته شخص واحد في أي موضع وقع التفرد به من السند"، مثال: حديث رواه من الصحابة عشرة، ورواه عنهم من التابعين خمسة مثلا، ثم رواه عن هؤلاء الخمسة اثنان، ثم رواه عن الاثنين واحد، ثم بعد ذلك انتشر. ماذا نسميه؟ أو كيف نحدد نوع الحديث؟
ننظر إلى أقل طبقات السند، فنجد أنَّ أقل طبقات السند فيها رجل واحد، فنقول: الحديث غريب، ومن أشهر الأمثلة عليه ما افتتح به البخاري -رحمه الله- صحيحه، حيث قال: "عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة ابن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنَّ النبي ﷺ قال: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ». لم يأت به من وجه يصح عن النبي ﷺ إلا من حديث عمر بن الخطاب، ولم يروه عن عمر بن الخطاب إلا علقمة بن وقاص الليثي، ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولم يروه عنه إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، وبعد يحيى ابن سعيد الأنصاري انتشر الحديث، حتى إنَّ أبا إسماعيل الهروي -رحمه الله- يقول: رواه عن يحيى بن سعيد نحو السبعمائة راوٍ، يعني: انتشر بعد يحيى بن سعيد الأنصاري، وهذه العدد سبعمائة شكك فيه ابن حجر -رحمه الله-، فقال: إني تتبعته ولم أبلغ المئة، تتبعت الرواة عنه، ولكن يبقى أنَّ الحديث انتشر بعد يحيى بن سعيد الأنصاري، والحديث إذًا غريب من عدة نواح، فلم يروه إلا صحابي واحد، وتابعي واحد، ومن أتباع التابعين واحد، وهكذا، ولهذا صار الحديث غريبًا، والبخاري -رحمه الله- افتتح صحيحه بحديث غريب، وختمه بحديث غريب، فختم صحيحه -رحمه الله- بحديث محمد بن الفضيل الضبي، عن عمارة بن القعقاع الضبي، عن أبي زرعة ابن عم ابن جرير البجلي، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النبي ﷺ قال: «كَلِمَتانِ خَفِيفَتانِ علَى اللِّسانِ، ثَقِيلَتانِ في المِيزانِ»[2]، فابتدأ صحيحه بحديث غريب وختمه بحديث غريب.
السقاف صاحب كتاب (بلابل التغريد فيما استفدناه أيام التجريد) قال: افتتح البخاري صحيحه بحديث غريب، وختمه بحديث غريب؛ ليشير إلى حديث النبي ﷺ: «بَدَأَ الإسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كما بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»[3]، ولكن انتقد بعض العلماء المعاصرين هذا، وقالوا: إن هذه محاولة متكلفة لبيان سبب ابتداء البخاري بحديث غريب وختمه بحديث غريب، وهذا الغريب مقصود به معنى اصطلاحيا، وذاك يقصد به معنى آخر؛ فكأنهم رأوا أنَّ هذا فيه تكلف أن البخاري يريد الإشارة إلى هذا الحديث.
والحاصل من هذا أنَّ الحديث غريب، وقدمه البخاري -رحمه الله- في صحيحه، وختم كتابه الصحيح أيضًا بحديث غريب.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَفِيهَا الْمَقْبُولُ وَالْمَرْدُودُ؛ لِتَوَقُّفِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ رُوَاتِهَا دُونَ الْأَوَّلِ)}.
يريد ابن حجر -رحمه الله- أن يُبين أنَّ الحديث المتوتر لا نحتاج إلى النظر في إسناده، وتفحص حال الرواة، لماذا؟ لأنه متواتر، بشرط أن تنطبق فيه شروط التواتر، فالمتواتر هو الذي انطبقت عليه الشروط، أي أن يرويه جماعة، ويستحيل تواطؤهم على الكذب، ومستند خبرهم الحس، وما إلى ذلك من الشروط التي سبق أن ذكرناها.
يرى ابن حجر -رحمه الله- أنَّ المتواتر مقطوع بصحته ولا ينظر في إسناده، قال: (وَفِيهَ) يعني: الآحاد، (الْمَقْبُولُ وَالْمَرْدُودُ) يعني أحاديث الآحاد وهي: (المشهور، والعزيز، والغريب)، وانتبه لأنَّ بعض الناس يظن أن الآحاد هو الحديث الغريب فقط، وهذا خطأ، فالآحاد هو (المشهور، والعزيز، والغريب) فيقول الحافظ: هذه الثلاثة: (المشهور، والعزيز، والغريب) فيها الصحيح، وفيها المقبول، وفيها المردود. ما هو المقبول؟
هو ما ثبت فيه صدق الناقل أو ترجح ذلك، فقد يثبت لنا أن الناقل أصاب، وقد يترجح بعد أن يكون الأمر فيه شيء من الخلاف، ولكن عندنا أن الناقل قد صدق في نقله، فحينئذ يكون مقبولا.
قال: (وَفِيهَا الْمَقْبُولُ وَالْمَرْدُودُ)، فالمردود هو ما ثبت كذب الناقل فيه أو ترجح الكذب، ولا نقصد بها تعمد الكذب، وإنما نريد بالكذب المعنى المعروف عند القدماء، وهو أنَّ الكذب يطلق على مُطلق الخطأ، أخطأ فلان، فيقال: كَذبَ، ولا يعنون به أنه تعمد الكذب، وإنما يقصدون الخطأ، حتى إن بعضهم يذكر أنه من لغة أهل الحجاز إطلاق الكذب على عموم الخطأ.
يقولون: المردود هو ما ثبت كذب الناقل فيه أو ترجح، أي: صار فيه خلاف، هل الناقل أخطأ أم لا؟ ولكن ترجح لنا أنه أخطأ، فيقولون هذا هو المردود.
إذًا الآحاد فيها مقبول، وفيها مردود.
طيب قد يأتي إنسان ويقول: هذا ثبت صدق الناقل فيه أو ترجح، هذا المقبول، وأمَّا المردود فقد ثبت فيه كذب الناقل أو ترجح. ماذا عن ما كان بين المنزلتين؟ ما المقصود بما بين المنزلتين؟
يعني الذي توقفنا فيه، فلم يترجح لنا صدقه، ولم يترجح لنا كذبه أو خطأه، فنقول: ما لم يثبت فيه القبول ولا الرد، فحينئذٍ يكون من باب المردود؛ لأنَّ الأصل في المرويات العدم، ومن روى حديثًا فإنه يطالب بإثبات صحته، ولا يقال: الأصل فيما يروى الصحة، وهذه تفيد كثيرا الآن مع انتشار وسائل التواصل، وكثرة نقل الأحاديث، فبعض الناس ينسخ مباشرة أي حديث يصله عبر وسائل التواصل، ويقوم بنشره دون أن يتثبت هل هو صحيح أم لا؟
والأصل في المرويات العدم، أنها غير صحيحة، والذي يطالب بالصحة هو الناقل، فيقال كيف نقلته؟ كيف قبلته؟ يطالب بإثبات صحته، وأما الذي ينفي فلا يطالب بالنفي؛ لأنَّ الأصل النفي، ولذا فهو لا يطالب بدليل النفي.
نقول: الأحاديث التي يتوقف فيها ليست من المقبول، ولا نستطيع أن نقول: إنها من المردود، ويقال: الأصل أنها مردودة أيضًا؛ لأنها لا يمكن أن تقبل.
قال -رحمه الله-: (لِتَوَقُّفِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَ) يريد "المشهور، والعزيز، والغريب"؛ (لِتَوَقُّفِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ رُوَاتِهَا دُونَ الْأَوَّلِ) يريد بالأول: (المتواتر)، وهذه التسمية (المتواتر) جاءت في كلام بعض الأئمة، كالشافعي -رحمه الله- وغيره، أنَّ هذا الحديث مُتواتر، ولكن هذه الفائدة وهي أنّ الحديث المتواتر يوجب القطع، وأنَّ حديث الآحاد يوجب الظن، فلا يعمل بحديث الآحاد فيما يتعلق بالعقائد؛ لأنه آحاد! وهذه القسمة أول من أدخلها عند أهل الحديث هو الخطيب البغدادي -رحمه الله-، وأما كونه يستفاد منها القطع، أو أن نستفيد من الآحاد والمتواتر قضية الترجيح، فهذه مشهورة ومعروفة عند العلماء -رحمة الله تعالى عليهم، ويأتي الكلام عنها بعد قليل إن شاء الله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ النَّظَرِيَّ بِالْقَرَائِنِ عَلَى الْمُخْتَارِ)}.
أحاديث الآحاد، مثل: "الحديث المشهور، والعزيز، والغريب" (وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ النَّظَرِيَّ بِالْقَرَائِنِ عَلَى الْمُخْتَارِ)، أراد ابن حجر -رحمه الله- أن يتعرض لمسألة مشهورة، وان كانت هذه المسألة من قضايا ومباحث أصول الفقه، ولكن ابن حجر -رحمه الله- أراد أن يتحدث عن هذه المسألة هنا، ويبين اختياره فيها، وهذه المسألة قد اختلف فيها أهل العلم -رحمة الله تعالى عليهم- على أقوال: ماذا يفيد حديث الآحاد؟ هل يفيد العلم اليقيني؟ أو يفيد الظن؟ أو أن هناك قول ثالث؟ الخلاف في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إنَّ حديث الآحاد يفيد العلم، وقد ذهب إلى هذا ابن حزم -رحمه الله-، ونصره ابن القيم في: (الصواعق المرسلة)، وابن دقيق العيد وغيرهم أيضًا -رحمة الله تعالى عليهم- فقالوا: إن حديث الآحاد يفيد العلم.
القول الثاني: إن حديث الآحاد يفيد الظن، وذهب إلى هذا جمهور المتكلمين، ونصره النووي، وابن عبد البر، ولكن خالفوهم في قضية جوهرية.
جمهور المتكلمين قالوا: حديث الآحاد يفيد الظن، ماذا يريدون بهذا؟ يريدون أنه لا يُعمل به في العقائد، وأمَّا الأحكام فيعمل بحديث الآحاد.
وأمَّا النووي وابن عبد البر -رحمهما الله- فقالا: إن حديث الآحاد يفيد الظن، ولكن يجب العمل به في العقائد وفي الأحكام أيضًا، فهنا فرق جوهري بين جمهور المتكلمين والنووي وابن عبد البر وغيرهم -رحمة الله عليهم-.
القول الثالث: قالوا إن حديث الآحاد يفيد الظن، وقد تحتفُّ به بعض القرائن فترفعه إلى إفادة العلم اليقيني، وهذا الذي ذهب إليه ابن حجر -رحمه الله تعالى- كما هو ظاهر من كلامه ها هنا، ونصر هذا القول أيضًا ابن الصلاح، وابن تيمية -رحمة الله تعالى عليهم- وغيرهم.
ماذا يريدون بالقرائن؟ القرائن مثل: رواية البخاري ومسلم للحديث، فمن القرائن مثلا: كثرة الطرق، وسلامته من الشذوذ، ومن القرائن: رواية الحفاظ للحديث، مثل الإمام مالك، أو الإمام أحمد -رحمهما الله- وغيرهم، وهناك قرائن أخرى كثيرة.
طيب قد يأتي سائل ويقول: هل للخلاف في هذه المسألة عند أهل السنة ثمرة؟ لأننا نجد أن الذين يقولون بالقول الثاني من أهل السنة مثل: ابن عبد البر مثلا، يقولون: إنه يفيد الظن، ولكن يوجبون العمل به في العقائد والأحكام، إذًا في النهاية أهل السنة منهم من قال: إنه يفيد العلم اليقيني، وهم يرون وجوب العمل به في العقائد والأحكام، ومنهم من يرى أنه يفيد الظن كابن عبد البر وهو أيضا يرى أنه يعمل به في العقائد وأحكامه. إذًا ما الثمرة؟
نقول: ثمرة الخلاف قليلة عند أهل السنة لا عند غيرهم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (ثُمَّ الْغَرَابَةُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي أَصْلِ السَّنَدِ، أَوْ لَا.
فَالْأَوَّلُ: الْفَرْدُ الْمُطْلَقُ)}.
الآن ابن حجر -رحمه الله- أراد أن يتكلم عن الغرابة في الحديث.
نحن قلنا: القسم الأخير من أحاديث الآحاد هو الحديث الغريب، وهذه الغرابة قسمان، والمقصود بها الغريب المطلق، وأراد ابن حجر -رحمه الله- أن يبين هذا، فقال: (ثُمَّ الْغَرَابَةُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي أَصْلِ السَّنَدِ)، أي راوٍ واحد إما من الصحابة، أو راوٍ واحدٍ من طبقة التابعين، أو راوٍ واحدٍ ممن بعدهم، بحيث نستطيع أن نسمي الحديث: حديث غريب.
(أَوْ لَ) يعني أن هناك غرابة ولكنها ليست غرابة مُطلقة كالتي تكون في أصل السند.
وهناك غرابة أخرى، وهي غرابة نسبية يريد أن يبينها بعد قليل.
قال: (فَالْأَوَّلُ: الْفَرْدُ الْمُطْلَقُ) يعني: الغرابة التي تكون في أصل الإسناد، والتي شرحناها قبل قليل في الغريب، هذا هو الذي يسمى الفرد المطلق عند العلماء، ومثاله ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عمران أنَّ النبي ﷺ «نَهَى عن بَيْعِ الوَلاءِ، وعَنْ هِبَتِهِ»[4]، هذا الحديث يرويه ابن عمر، ويرويه عنه عبد الله بن دينار، وعنه اشتهر. فلم يروه عن ابن عمر إلا عبد الله بن دينار، وابن دينار يرويه عنه شعبة، وشعبة يقول عنه الإمام مسلم -رحمه الله-: الناس في هذا الحديث عيال على عبد الله بن دينار، ولَمَّا رواه عنه شعبة، طلب شعبة -رحمه الله- من ابن دينار أن يحلف أنه سمع هذا الحديث من ابن عمر. فالحديث لم يروه إلا واحد وهو عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر، فهذا الحديث يسمونه: غريبًا، ومثله: الحديث الذي بدأ به البخاري، وكذلك ما ختم به البخاري، فكل هذه أحاديث غريبة.
هذا هو الفرض المطلق الذي يريد ابن حجر -رحمه الله- أن يبينه ها هنا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالثَّانِي: الْفَرْدُ النِّسْبِيُّ، وَيَقِلُّ إِطْلَاقُ الْفَرْدِيَّةِ عَلَيْهِ)}.
أي النوع الثاني يسمى: (الْفَرْدُ النِّسْبِيُّ). قال: (وَيَقِلُّ إِطْلَاقُ الْفَرْدِيَّةِ عَلَيْهِ). أولا: نسأل ونقول: لماذا سمي نسبيًا؟ لأنَّ التفرد فيه حصل بالنسبة إلى شخص من الأشخاص، لا بالنسبة إلى الحديث كله، وبالمثال يتضح المقال -كما يقال-، والمثال أحيانا يبين لك المسألة أكثر من التعريف. عندنا حديث النبي ﷺ «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وهذا الحديث يرويه عن النبي ﷺ أبو هريرة وحذيفة -اثنان- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- انتشر، وأما عن حذيفة -رضي الله عنه- فرواه رجل واحد، وهو: ربعي بن حراش فقط، ولم يروه عن ربعي بن حراش إلا أبو مالك سعد بن طارق.
والسؤال: هل هذا حديث غريب؟ نقول: لا، لكونه قد رواه عن النبي ﷺ صحابيان، ولا يوجد رجل واحد في طبقة من الطبقات، ولكن التفرد بالنسبة لحذيفة فقط، ولذا يقولون: هذا الحديث غريب من حديث حذيفة؛ لأنه عن حذيفة ما رواه إلا رجل واحد، وهو ربعي بن حراش، وعن ربعي بن حراش لم يروه إلا سعد بن طارق فقط. ولذا يقولون: حديث غريب من حديث حذيفة.
سؤال: هل هذا الحديث فرد مطلق؟ نقول: لا؛ لأن كل طبقة من الطبقات يوجد أكثر من واحد.
سؤال: هل هو فرد بالنسبة لحذيفة؟ نقول: نعم بالنسبة لحذيفة هو غريب؛ لأنه لم يروه عن حذيفة إلا واحد، فنقول: حديث غريب من حديث حذيفة، وهذا هو الذي نسميه الفرد النسبي، وأهل الحديث يقل أن يسمون هذا النوع بالفرد النسبي، وإنما أكثر تعبيرات العلماء المتقدمين التي يسمون بها أمثال هذه الأحاديث أن يقولون: غريب من حديث فلان.
ابن الصلاح -رحمه الله- ماذا سماه؟
سماه: غرائب الشيوخ التي تقع في أثناء الأسانيد. إذًا هذا هو الحديث الغريب النسبي، وطبعا الحديث الغريب عموما، صحيح إذا انطبقت فيه شروط الصحة، ولذلك في الصحيحين أحاديث كثيرة غريبة -فرد مطلق- والضياء -رحمه الله- جمع الأحاديث الغريبة التي في الصحيحين التي ليس لها إلا إسناد واحدا، فبلغت نحو: المائتي حديث ليس لها إلا إسناد واحد.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَخَبَرُ الْآحَادِ بِنَقْلِ عَدْلٍ تَامِّ الضَّبْطِ، مُتَّصِلِ السَّنَدِ، غَيْرِ مُعَلَّلٍ وَلَا شَاذٍّ، هُوَ الصَّحِيحُ لِذَاتِهِ).
أراد ابن حجر -رحمه الله- بعد أن بين لنا الأحاديث المتواترة وأحاديث الآحاد، وبين لنا كذلك أن المتواتر لا نبحث في إسناده، وإنما هو صحيح، وأمَّا الآحاد فإنا نبحث في أسانيدها، لأنَّ فيها المقبول وفيها المردود؛ أراد بعد ذلك أن يبين كيف نعرف المقبول والمردود، أي أراد أن يبين شروط الحديث الصحيح، أي: كيف نحكم على الحديث بأنه صحيح لذاته؟ ويأتينا بعد ذلك ما يعني بقوله: صحيح لغيره.
فقال: (وَخَبَرُ الْآحَادِ بِنَقْلِ عَدْلٍ تَامِّ الضَّبْطِ).
إذن الشرط الأول: (بِنَقْلِ عَدْلٍ)، والشرط الثاني: (تَامِّ الضَّبْطِ)، والشرط الثالث: (مُتَّصِلِ السَّنَدِ)، والشرط الرابع: (غَيْرِ مُعَلَّلٍ)، والشرط الخامس: (وَلَا شَاذٍّ)، فبين -رحمه الله- أن الحديث الصحيح لا بد فيه من توفر هذه الشروط الخمسة، وقد حكى ابن الصلاح -رحمه الله- إجماع العلماء على أنَّ الحديث إذا توفرت فيه هذه الشروط الخمسة، فهو حديث صحيح. وهذا بخلاف ما ذهب إليه الفقهاء وبعض أهل الأصول من الاكتفاء بالشروط الثلاثة الأول.
أي أنَّ أهل الأصول، وكثير من الفقهاء، يقولون: يكفينا أن يكون: "عدل، تام الضبط، متصل الإسناد"، وما علينا من غير معلل ولا شاذ، وهذه طريقة ابن حزم، وابن قطان الفاسي -رحمه الله- وغيرهم، وهذا غير صحيح.
والصواب هو ما ذهب إليه ابن حجر -رحمه الله- وهو الذي عليه أئمة النقاد، أنه لا بد من أن يتوفر فيه هذه الخمسة شروط.
قال: (وَخَبَرُ الْآحَادِ بِنَقْلِ عَدْلٍ تَامِّ الضَّبْطِ) اشترط أهل الحديث الشرطين الأول والثاني في الراوي -أي أن يكون عدلاً، وأن يكون تام الضبط- حتى يضمنوا أن ينقل الراوي هذا الحديث كما سمعه، وأن يؤديه كما سمعه. كيف نضمن هذا؟
قالوا: نشترط في الراوي أن يكون عدلا، وأن يكون تام الضبط، حتى نضمن أنه نقل الحديث ولم يزد أو ينقص أو يخطئ فيه أو ما شابه ذلك، أي: نقله كما سمعه.
بعدها: (مُتَّصِلِ السَّنَدِ) وقد اشترطوها ليضمنوا أنه لم يحصل هناك أي خلل في الإسناد، يعني أن الأداء متصل، وكل واحد سمع من الآخر، يعالجون هذه القضية.
(غَيْرِ مُعَلَّلٍ) حتى نضمن أنَّ الحديث سالم من القوادح الخفية، وهي الأشياء التي تضعف الحديث أو تخل به، وهي أشياء خفية ليست ظاهرة لنا، ونحتاج أن نبحث في الحديث.
(وَلَا شَاذٍّ) هذا مقارب لــ (غَيْرِ مُعَلَّلٍ).
والآن نتكلم عن هذه الشروط.
قال: (وَخَبَرُ الْآحَادِ بِنَقْلِ عَدْلٍ) ما هو العدل؟ قالوا: الراوي العدل هو من كانت عنده ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة، لديه ملكة تحمله هذه الملكة وتؤدي به إلى أن يلازم التقوى والمروءة، والتقوى عرفوها في أماكن أخرى بأنها اجتناب الكبائر وصغائر الخسة، مثل: سرقة رغيف مثلا وما إلى ذلك. أي: يشترطون فيه أن يتجنب صغائر الخسة والكبائر، وأما الصغائر الأخرى فلا يكاد يسلم منها أحد، فهذا من الشروط حتى يقال عن الراوي: إنه ملازما للتقوى والمروءة اجتناب ما يخلو بالإنسان ما نسميه خوارم المروءة، فإذا وجدت هذه الأشياء في الراوي صار الراوي عدلا.
والمروءة هي ما تعارف الناس مثلا على حسن فعله، أو أولوية تركه، أو أنه يحسن بإنسان أن يتركه. فإذا وجدت هذه الأشياء في الراوي قلنا: إن هذا الراوي عدل.
هل يكفي عندنا في الحديث أن نجد الراوي عدلا؟
لا يكفي هذا، قد يأتي بعض الرواة من عباد الناس، ولكنه في الحديث لا يؤخذ حديثه البتة، لماذا؟ لأنه غير ضابط! إما أنه يخطئ كثيرًا، أو يهم كثيرًا، أو يُحدث فينسى أو يزيد أو ينقص أو يتوهم وما إلى ذلك، قد يحصل هذا عند كثير من الرواة، ولذلك لا بد أن يكون الراوي عدل، وأن يكون تام الضبط. كيف يكون تام الضبط؟
قالوا: الضبط ضبطان، ضبط صدر. بعض الرواة يكون حافظًا، ولا يكاد ينسى، يسمع الأحاديث ويرويها لتلاميذه ومن يسمعون منه، ولا يخطئ إلا ما ندر طبعا؛ لأنه لا يوجد حافظ لا يخطئ، ولكن الخطأ يكون نادرًا جدًا بالنسبة لصوابه، هذا تام الضبط، أي: حافظ.
بعض الرواة لا يحفظ، ولكنه يضبط النوع الثاني من أنواع الضبط، وهو ضبط السطر، أو ضبط الكتاب، هو ليس بحافظ، ولكن عنده كتاب قيد فيه أحاديثه كلها، وحفظ كتابه من أن يأتي عنده أحد يزيد فيه أو ينقص، وفي هذا نجد القصة الشهيرة أنَّ الإمام أحمد -رحمه الله- ذهب هو وابن معين -رحمه الله- إلى اليمن؛ ليأخذ الحديث، ولما عادا قال ابن معين -رحمه الله-: هنا أبو نعيم -الفضل بن دكين- وإني أريد أن اختبره، وابن معين -رحمه الله- كان يمتحن الرواة، وكانوا يخافون منه، ومنهم من إذا رأى ابن معين سقط كتابه من بين يديه من الخوف؛ لأنه -رحمه الله- يختبر الرواة، ويحكم عليهم، وحكمه موثوق، ويدقق فيهم، ويسمع لأحاديثهم، فكان بعض الرواة إذا رأى ابن معين؛ يتزين في حديثه. وكانوا يهابون ابن معين -رحمه الله-، فأراد أن يختبر الفضل بن دكين، وهو: ثقة، ضابط لكتابه، عنده كتاب، ولكن هذا كتاب قد حفظه وضبطه، ما يستطيع أحد أن يزيد فيه أو أن ينقص.
فقال له أحمد -رحمه الله-: لا تفعل إنه ثقة، فأصر يحيى بن معين -رحمه الله- أن يختبره، فلما أتوا إليه كان قد جلس على مصطبة، وهي ما نسميها الآن: دكة، وكانت أمام بيته، فأتى الإمام أحمد، وأجلس ابن دكين بجانبه، وجلس يحيى بن معين أمامه على الأرض ليقرأ عليه أحاديثه، ووقف الغلام -الغلام الذي كان مع الإمام أحمد ويحى بن معين يخدمهم في طريقهم- على الشمال الفضل بن دكين، فبدأ يحيى بن معين يقرأ أحاديث الفضل بن دكين من كتاب الفضل بن دكين، فإذا قرأ عشرة أحاديث زاد حديثًا من عنده، فينتبه الفضل بن دكين ويقول: هذا ليس من حديثي، أمطه أو أزله، فعلم أنه كان ضابطًا، فقرأ بعد ذلك يحيى بن معين عشرة أحاديث أخرى، وزاد من عنده حديثا، فانتبه الفضل بن دكين، وقال: هذا ليس من حديثي، ثم لَمَّا كررها للمرة الثالثة انتبه الفضل بن دكين أن هذا يريد أن يختبره.
فقال الفضل: أمَّا هذا وأشار إلى الإمام أحمد، فأعلى وأجل من أن يفعل هذا الفعل، وأما هذا -يقصد الغلام- فأقل من أن يفعل هذا؛ لأنه ليس من أهل الحديث، ولا أراه إلا من فِعلك يا فاعل، فرفع رجله، ورفث يحيى بن معين -رحمه الله- على بطنه، فلما خرجوا -رحمة الله عليهم- ضحك أحمد -رحمه الله- وقال: ألم أقل لك إنه ثقة، فكان يحيى بن معين -رحمه الله- يقول: لرفسة أحب إليَّ من سفرة. فهذا الفضل ابن كدين -رحمه الله- ضابط لكتابه -رحمه الله تعالى- فهو عدل، وتام الضبط أيضًا.
إذًا هذه الشروط التي تشترط في الراوي، أن يكون عدلا، وأن يكون تام الضبط.
الشرط الذي يليه أن يكون (متصل السند)، مثال: أتانا راوٍ -رجل- يروي عن رجل مات قبل أن يولد بعشر سنين. كيف نقول إن هذا حديث صحيح؟ بل هناك خلل، وانقطاع في الإسناد، وبالتالي: لا يقبل هذا الحديث لأن فيه انقطاع؛ لأننا لا نعرف الانقطاع -هذا الراوي الواسطة- هل هو ثقة أم ضعيف أم ماذا؟ فلا يقبل هذا الحديث ويقال: إن الحديث مردود أيضا.
ولكن إذا انطبق أن الراوي عدل، وتام الضبط، والحديث متصل الإسناد، فلنتحقق مما بعده، قال: (غَيْرِ مُعَلَّلٍ) والعراقي -رحمه الله- في الألفية يقول:
وَسَمِّ مَا بِعِلّةٍ مَشْمُوْلُ ... مُعَلَّلاً وَلاَ تَقُلْ مَعْلُوْلُ
أي أنَّه يرى أنَّ الأصوب من باب اللغة ألا يقال: هذا حديث معلول، وإنما يقال: هذا حديث معلل، ولكن الصواب أن كلمة معلول صحيحة، وقد ذكر هذا الجوهري -رحمه الله- في الصحاح، وعبارة أن هذا حديث معلول كثيرة عند النقاد، ذكرها البخاري والترمذي وغيرهما -رحمة الله عليهم- وابن حجر -رحمه الله- له كتاب اسمه: "الزهر المطلول في الحديث المعلول" فعبارة معلول صحيحة، ولكن معللا أصح.
قال: (غَيْرِ مُعَلَّلٍ) يأتينا إن شاء الله قريبا بيان معنى الحديث المعلول، أو الحديث المعلل، والكلام في هذا -إن شاء الله- يكون قريبا.
قال: (وَلَا شَاذٍّ) معنى الحديث الشاذ سيأتي قريبًا إن شاء الله.
قال: (هُوَ الصَّحِيحُ لِذَاتِهِ)، فإذا توفرت هذه الشروط الخمسة فالحديث صحيح بإجماع العلماء، وقد نقل هذا الإجماع كما ذكرنا ابن الصلاح -رحمة الله تعالى عليه- وغيره.
إذًا، قد يأتي سائل ويقول: هذا الحديث هو الصحيح لذاته، ما رأيك بالأحاديث التي يقال عنها: إسناده صحيح؟
الحقيقة إذا تأملنا -هذه العبارة- إسناده صحيح، كأنه يقصد بها الكلام عن الإسناد، أي أن الرواة عدول، وقد بلغوا مرحلة كبيرة في الضبط، وأن الإسناد متصل، هذه العبارة لا تتضمن اشتراط عدم الشذوذ وعدم العلة، فإذا وجدت في حديث أن بعض العلماء يقول عنه: إسناده صحيح، فعليك أن تتأنى، ولا تقل: إنه صححه؛ لأن بعضهم قد يقول: إسناده صحيح، وهو يشير بذلك إلى أن الحديث قد يكون معلولا، فالإسناد صحيح ولكن الحديث قد يكون معلولا، ولذا علينا أن نتأنى في فهم مصطلحات وعبارات العلماء.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَتَتَفَاوَتُ رُتَبُهُ بِتَفَاوُتِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ)}.
رتب الحديث الصحيح تتفاوت، فليس الحديث الذي فيه رجل قد بلغ من الضبط أعلى المراحل مثل حديث الرجل الذي هو ضابط، ولكنه أخف من الأول، فالأول أصح من الثاني، وليس الحديث الذي قد أُجمع على أنَّ فلان الراوي قد سمع من فلان كالحديث الذي وجد فيه خلاف، ولكن الصواب أنه سمع. بالطبع ما أُجمع عليه أقوى من مما وجد فيه خلاف.
ولذا كان هناك حديث صحيح وهناك أصح، ولذلك البخاري -رحمه الله- في كتابه: صحيح البخاري قد ذكر فيه أصح الصحيح، ولذلك فإننا نجد أن هناك أحاديث كثيرة -والترمذي رحمه الله يذكر هذا كثيرًا- يقول: سألت محمد عن هذا الحديث فقال: صحيح، يعني البخاري شيخ الترمذي، وهذا الذي صححه البخاري ليس في كتاب البخاري الصحيح؛ لأن البخاري -رحمه الله- قد وضع في كتابه شرطًا أن لا يُخرج فيه إلا أصح الصحيح من الأحاديث، وهذا يدل على تفاوت مراتب الأحاديث الصحيحة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَمِنْ ثَمَّ قُدِّمَ صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ، ثُمَّ مُسِلِمٍ، ثُمَّ شَرْطُهُمَ)}.
الحافظ العراقي -رحمه الله- يقول: "وأرفعُ الصَّحِيحِ" يعني: أقوى الصحيح، "وأرفعُ الصَّحِيحِ مرويُّهما"، يعني: البخاري ومسلم.
وَأَرْفَعُ الصَّحِيحِ مَرْوِيُّهُمَا ثُمَّ الْبُخَارِيُّ فَمُسْلِمٌ فَمَا شَرْطَهُمَا حَوَى فَشَرْطَ الْجُعْفِي
فَمُسْلِمٍ فَشَرْطَ غَيْرُ يَكْفِي
وأصح الصحيح مروي البخاري ومسلم، وصحيح البخاري مقدم على صحيح الإمام مسلم -رحمهما الله- لأسباب كثير، لخصها ابن حجر -رحمه الله- من عدة جوانب:
الجانب الأول: أنَّ البخاري -رحمه الله- يشترط ثبوت اللقاء بين الرواة.
· مثال: راوٍ اسمه: محمد، وآخر اسمه: عبد الله مثلا، يعيش محمد وعبد الله في مدينة واحدة، وفي عصر واحد. فإذا جاء الحديث وفي إسناده: محمد عن عبد الله، فإنَّ البخاري -رحمه الله- لا يقبله مباشرة، ويشترط ثبوت السمع، أي: أنه قال: سمعت أو حدثني أو عبارة تثبت السماع ولو لمرة واحدة، فإذا ثبتت لمرة واحدة، فإنَّ في الأسانيد الأخرى إذا قال "عن" فإنه يحملها على السماع.
· أمَّا الإمام مسلم -رحمه الله- فيشترط إمكان اللقاء بينهما، ولا يشترط ثبوت السماع، أي: أن يصرح بالسماع منه ولو مرة، بل يشترط اللقاء، فهم في عصر واحد، وفي مدينة واحدة، وفلان عن فلان فأكيد تم اللقاء.
فشرط البخاري -رحمه الله- أقوى من شرط مسلم من هذه الحيثية، وقضية البخاري ومسلم يأتي الكلام عنها، من ثبوت اللقاء، وإمكان اللقاء وما إلى ذلك.
من أيضا الجوانب التي قدم بسببها صحيح الإمام البخاري على صحيح الإمام مسلم: أن الرجال المتكلم عليهم عند مسلم أكثر من الرجال الذين تُكلم فيهم في صحيح البخاري.
البخاري -رحمه الله- انفرد عن مسلم بأربعمئة وخمسة وثلاثين رجلا، روى عنهم البخاري -رحمه الله- والإمام مسلم -رحمه الله- لم يروِ عنهم.
والمتكلم عليهم من هؤلاء الذين انفرد بهم البخاري ثمانين.
والإمام مسلم -رحمه الله- انفرد عن البخاري بستمئة وعشرين رجلا، أي: أكثر، والمتكلم عليهم من هؤلاء نحو: المئة وستين.
إذًا البخاري أقوى، والذين تُكلم عليهم عند البخاري -رحمه الله- أقل.
أيضًا المتكلم عليهم هؤلاء عند البخاري غالبهم من طبقة شيوخه، وهو أعرف بشيوخه، وأما مسلم فستجد أنهم من الطبقات العليا.
أيضًا من الجوانب التي لأجلها قُدِّم البخاري على مسلم: أن الأحاديث التي انتقدت على البخاري أقل من الأحاديث التي انتقدت على مسلم، ولذلك قال ابن حجر -رحمه الله-: مجمل الأحاديث التي انتقدت على البخاري ومسلم نحو المائتي حديث، اختص البخاري بأقل من ثمانين، أي أقل من ثمانين حديث قد انتقدت على البخاري، وأكثر من مئة وعشرين انتقدت على مسلم، ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "غالب ما انتُقِدَ على البخاري فالصواب مع البخاري، وهذا بخلاف الإمام مسلم -رحمه الله-، فقد يكون الصواب معه، وقد يكون الصواب مع غيره.
قال: (وَمِنْ ثَمَّ قُدِّمَ صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ، ثُمَّ مُسِلِمٍ، ثُمَّ شَرْطُهُمَ) أي: ثم ما كان على شرط البخاري ومسلم، ولكن ما كان على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه قليل جدًا بخلاف ما يكثر من فعله الإمام الحاكم -رحمه الله- في كتابه المستغرق في هذا الحديث على شرط البخاري ومسلم، والحاكم -رحمه الله- أوهامه كثيرة في كتاب "المستدرك" بخلاف ما كان عليه في كتابه علوم الحديث، فقد جرى فيه على طريقة الأئمة النقاد، وأما في المستدرك فأوهامه فيه كثيرة، حتى إن بعض العلماء ذهب إلى أنه عبارة عن مسودة لم يبيضها -رحمه الله تعالى-، ولذلك إذا وجدت في حديث من الأحاديث على شرط البخاري ومسلم، وهو ليس في صحيح البخاري ومسلم تأنّى، ولا تبادر إلى العمل بهذه العبارة.
ولذلك كان للحاكم -رحمه الله- نفسه عبارة قد ذكرها في كتابه: "معرفة علوم الحديث"، قال: "إذا وجد مثل هذه الأحاديث بالأسانيد الصحيحة غير مُخَرَّجَة في كتابي البخاري ومسلم" -حديث صحيح يُزعم أنه على شرط البخاري ومسلم، وهو غير موجود في البخاري ومسلم-، قال: "لزم صاحب الحديث التنقير عن علته، ومذاكرة أهل المعرفة به لتظهر علته"، مع أنه رحمه الله خالف كلامه المسطور في كتابه: "معرفة علوم الحديث"، ولذلك فكلام الحاكم -رحمه الله- في المعرفة هنا هو الكلام الصحيح، ولذلك أصح الكتب بعد كتاب الله -عز وجل- هو صحيح الإمام البخاري -رحمه الله-، وهو مقدم على صحيح الإمام مسلم -رحمة الله تعالى عليه- وإن كان هناك كتب أخرى صحيحة، ولكن في المقارنة بين هذين الكتابين اللذين هما أصح الكتب: "البخاري أصح من كتاب مسلم"، ثم يأتي بعد مسلم ما كان على شرط البخاري وشرط مسلم -رحمة الله تعالى عليهم أجمعين-.
هذا ما يتعلق بهذه المسألة.
{أحسن الله إليكم}.
لعلنا نكتفي بهذا القدر؛ لأنَّ العبارة القادمة قد يطول فيها الكلام، ويكثر فيها التفصيل، وأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلني وإياكم من الموفقين المسددين أينما كنا، هذا والله تعالى أعلم وأعلم، وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، وبهذا تكون حلقتنا قد انتهت لهذا اليوم، ألقاكم -بإذن الله تعالى- في درس قادم، وإلى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------------------------
[1] رواه البخاري (15).
[2] رواه البخاري (6406).
[3] رواه مسلم (145).
[4] أخرجه البخاري (2535)، ومسلم (1506).
سلاسل أخرى للشيخ
-
12495 9