الدرس التاسع
فضيلة الشيخ د. مضحي بن عبيد الشمري
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله معاشر طلاب العلم في المستوى الثاني من (جادة المتعلم)، والذي نشرح فيه كتاب (نخبة الفكر) للإمام أحمد بن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ مضحي ابن عبيد الشمري، باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ. حياكم الله فضيلة الشيخ}.
الله يحييك ويبارك فيك.
{نستأذنكم في إكمال القراءة}.
استعن بالله.
{قال -رحمه الله تعالى-: (وَإِنِ اتَّفَقَتِ الْأَسْمَاءُ وَاخْتَلَفَتِ الْآَبَاءُ، أو بِالْعَكْسِ: فَهُوَ الْمُتَشَابِهُ)}.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فيقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: (وَإِنِ اتَّفَقَتِ الْأَسْمَاءُ)، أي: أسماء الرواة اتفقت خطًا ونطقًا، واختلف الآباء بالنطق، مع ائتلافها خطًا، هذا كما يقرره ابن حجر -رحمه الله- في (نزهة النظر)، يعني: أسماء الرواة أنفسهم متفقة بالرسم وبالنطق، وأسماء الآباء مُتفقة بالرسم ولكن تختلف في النطق.
قال: (فَهُوَ الْمُتَشَابِهُ) وقد مَثَّل له ابن حجر -رحمه الله- في النزهة بـ "محمد بن عَقيل" هذا النيسابوري، وهناك محمد بن عُقيل، وهذا فريابي، فلاحظ أنَّ الاسم الأول متفق خطًا ونطقًا، بينما اسم الأب متفق خطًا ولكنه مختلف نطقًا. هذا الأول "عَقيل" النيسابوري، والثاني الفريابي "عُقَيل".
هذا مثال ذكره ابن حجر -رحمه الله- وهما راويان مشهوران، وهما في الطبقة متقاربين، فيحصل في هذا إشكال أيضًا، فيرجع إلى الكتب التي أُلفت في المتشابه حتى يفرق بينهما، ويعرف مَن هذا ومَن هذا إذا ورد في الإسناد.
يقول ابن حجر: (أو بِالْعَكْسِ)، قد يكون العكس أيضًا، مثَّلَ لهذا ابن حجر -رحمه الله- بـ "شُريح بن النعمان"، وهذا تابعي يروي عن علي -رضي الله عنه-.
والثاني: "سُريج بن النعمان"، وهذا من شيوخ البخاري، لاحظ أنَّ الاسم الأول متفق خطًا، ولكنه مختلف نطقًا، بينما اسم الأب متفق خطًا ونطقًا، "شُريح بن النعمان" وسُريج بن النعمان.
هذا أيضًا كله من المتشابه، وهو أيضًا من المسائل التي يحصل فيها إشكالات كثيرة، كما قال علي بن مديني: من أدق الأشياء أو من أصعب الأشياء أو من أشد أنواع التصحيف، التصحيف في الأسماء لماذا؟ لأنه لا يدخلها القياس.
وقد ألَّف الخطيب البغدادي -رحمه الله- كتابًا في هذا، وهو مطبوع، وهو: "تلخيص المتشابه في الرسم"، وذيَّلَ عليه أيضًا بكتاب آخر.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَكَذَا إِنْ وَقَعَ ذَلِكَ الْاتِّفَاقُ فِي الْاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ، والْاِخْتِلَافُ فِي النِّسْبَةِ)}.
يقول الحافظ -رحمه الله-: (وَكَذَا إِنْ وَقَعَ ذَلِكَ الْاتِّفَاقُ فِي الْاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ، والْاِخْتِلَافُ فِي النِّسْبَةِ) أيضًا هذا قد يكون مشكل، الاسم واسم الأب واحد، ولكن الخلاف بينهم فقط في النسبة، "محمد بن عبد الله الحضرمي"، "محمد بن عبد الله المخرمي"، إذا أتى في إسناد محمد بن عبد الله فقط أيهما؟
فنرجع إلى هذه الكتب حتى نتبين هل هو الحضرمي أم المخرمي؟ وهذا يحصل كثيرًا عند النظر في الأسانيد والرجال، ويحتاج الإنسان أن يتأنى في هذا، وأن يراجع الكتب التي صنفت في هذا الباب، ويتأنى كذلك في الحكم عن الرواة؛ لأنَّ أي زلة في مثل هذه الأشياء، قد تجعلك تصحح ضعيفًا أو تضعف صحيحًا.
فقد يأتيك "محمد بن عبد الله"، و "محمد بن عبد الله"، أحدهما ثقة والآخر ضعيف، فأنت تحمله على الثقة، وهو في الأصل الضعيف، فتصحح الحديث والحديث ضعيف، وقد تعكس فتظن أنه هو الضعيف، وتبني عليه، وذلك تضعف الحديث ويكون الحديث صحيحًا.
ولذلك كان هذا موطن ذلل كبير، ولذلك اعتنى العلماء به، وألفوا فيه مؤلفات كثيرة، واعتنوا به حتى في الكتب التي تترجم للرجال، حتى من غير الكتب التي ألفت خصيصًا لهذه الأبواب، أي: أبواب المتشابه والأسماء، ويعتنون بهذا الجانب ويبينون الفرق بين هذا وهذا، وما هو الضابط لمعرفة فلان. ويعتني بهذا الحافظ المزي -رحمه الله- في تهذيب الكمال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى- (وَيَتَرَكَّبُ مِنْهُ وَمِمَّا قَبْلَهُ أَنْوَاعُ: مِنْهَا أَنْ يَحْصُلَ الْاِتِّفَاقُ أَوْ الْاِشْتِبَاهُ إِلَّا فِي حَرْفٍ أَوْ حَرْفَيْ أَوْ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ)}.
قال: (وَيَتَرَكَّبُ مِنْهُ وَمِمَّا قَبْلَهُ أَنْوَاعُ) كل هذه الأنواع يجب أن يعرفها طالب العلم، وينبغي عليه أن يطلع عليها حتى يأمن من أن يقع في الزلل عند النظر في الحديث، وهي أنواع كثيرة.
يقول: (مِنْهَا أَنْ يَحْصُلَ الْاِتِّفَاقُ أَوْ الْاِشْتِبَاهُ إِلَّا فِي حَرْفٍ أَوْ حَرْفَيْ)، أحيانًا تجد الكتابة في بعض المخطوطات فيها شيء من الغموض، مثلًا عندك "محمد بن سنان" فكلمة "سنان" لا تكون واضحة، هل يراد: "محمد بن سنان" أم "محمد بن سيَّار"؟ فنرجع إلى لكتب التي ألفت في هذا الباب ونعرف من هذا الرجل الذي يروي عنه هذا التلميذ، والذي يروي عَن هذا الشيخ، وبهذه القرائن والاطلاع عليها تستطيع أن تحدد من هو هذا الرجل؟
"محمد بن حُنَين"، كلمة "حنين" غير واضحة، أو "محمد بن جبير"، هل هي حنين أم جبير؟ فنرجع للكتب التي تبين لك من هذا الرجل.
أحيانًا تكون هناك زيادة أو نقص أو خلاف في اسم الأب، هل هو أربعة حروف أو طمس الحرف الأخير أو طمس الحرف الأول؟ فهل هو مثلا: "محمد بن زيد" أم "محمد بن يزيد"؟ وهكذا، فيحصل إشكال في أمثال هذه الأبواب.
قال: (مِنْهَا أَنْ يَحْصُلَ الْاِتِّفَاقُ أَوْ الْاِشْتِبَاهُ إِلَّا فِي حَرْفٍ أَوْ حَرْفَيْ أَوْ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ)، هذا النوع الثاني، وهو في المتشابه مع القلب، فقد يحدث الاتفاق أو الاشتباه في الأسماء خطًا ونطقًا ويحصل الخلاف بينهما في التقديم والتأخير، فهل هو "الأسود بن يزيد"، أم يزيد بن الأسود؟
وقد اعتنى العلماء -رحمة الله عليهم- بهذا الباب، هل هو "عبد الله بن يزيد"، أو "يزيد بن عبد الله"؟
فيحصل أيضًا إشكال في قضية التقديم والتأخير، وقد صَنَّفَ الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى- في أمثال هذه مصنفًا مثل: "رافع الارتياب في المقلوب من الأسماء والألقاب، وهو كتاب مفقود، ولكن للعلماء -رحمة الله تعالى عليهم- اعتناء بأمثال هذه، ولذا يذكرونها في كتبهم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (خاتمة. وَمِنَ الْمُهِمِّ: مَعْرِفَةُ طَبَقَاتِ الرُّوَاةِ وَمَوَالِيدِهِمْ، وَوَفِيَاتِهِمْ، وَبُلْدَانِهِمْ، وَأَحْوَالِهِمْ تَعْدِيلًا وَتَجْرِيحًا وَجَهَالَةً)}.
يقول الحافظ -رحمه الله-: (وَمِنَ الْمُهِمِّ: مَعْرِفَةُ طَبَقَاتِ الرُّوَاةِ) الطبقة هم قوم اشتركوا في السن والطلب، الطلب يعني: اشتركوا بالرواية عن شيوخ في ذات الطبقة، وليس المقصود عن نفس الشيوخ، وإنما يروون عن عدد من الشيوخ، وهؤلاء الشيوخ كلهم في طبقة واحدة.
هؤلاء الذين أسفل منهم أيضًا طبقة أخرى، فأصحاب الطبقة الواحدة يكونوا متقاربين في السن، على خلاف بين العلماء في قضية الطبقات، فالعلماء منهم من وسع الطبعة، وجعل الصحابة كلهم طبقة واحدة، مثل: ابن حبان -رحمه الله-.
ومنهم من ضيق مسمى الطبقة، حتى إنه جعل الصحابة ثلاث طبقات، كابن سعد -رحمه الله تعالى- حيث يجعل الصحابة على ثلاث طبقات.
وقد ألف علماء -رحمة الله تعالى- عليهم الكثير من المؤلفات في "باب الطبقات"، كـ "خليفة بن خياط"، "سير أعلام النبلاء" للذهبي -رحمة الله تعالى عليه-.
قال: (وَمِنَ الْمُهِمِّ: مَعْرِفَةُ طَبَقَاتِ الرُّوَاةِ وَمَوَالِيدِهِمْ، وَوَفِيَاتِهِمْ) فتعرف متى ولد ومتى توفي، وذلك حتى لا تقع في الزلل، وحتى تكتشف التدليس، والانقطاع الخفي، وحتى الانقطاع الظاهر تعرفه عن طريق التاريخ، مثل:
فلان متى ولد ومتى توفي؟
متى أدرك فلان فلانًا؟
هل أدرك فلان فلانًا أم لم يدركه؟
هذا كله تعرفه بضبط هذه التواريخ، ولذلك يعتني العلماء -رحمة الله تعالى عليهم- بهذا الجانب، حتى وأنت تدرس الكتب مثل كتاب "صحيح الإمام البخاري" مثلا ينبغي أن تعتني بهذا الجانب، فتعرف هذا العالم متى توفي؟ لأن ضبط مثل هذه الأشياء يُفيد طالب العلم، ويجعله يكتشف الانقطاع أسهل من غيره الذي لا يضبط هذه التواريخ، ويحتاج في كل مرة أن يرجع للكتب، هل سمع فلان من فلان أم لا؟ فيعرف أن فلانًا توفي عام كذا وانتهى الأمر.
وحتى شراح البخاري -رحمة الله عليهم- يعتنون بهذا الجانب، والكرماني -رحمه الله- صاحب كتاب "الكواكب الدراري" يخطئ في بعض الأحيان في وفيات رواة البخاري، طبعًا الصواب أكثر، ولكن عنده أخطاء أحيانًا في هذا الجانب، ومن أدق من يذكر وفيات الرواة طبعًا يرجع طالب العلم إلى الكتب التي ألفت في هذا، خاصة مثلًا كتاب مثلًا "تهذيب التهذيب" فالحافظ ابن حجر -رحمه الله-، يعتني باختيار القول الراجح، أو يبرز القول الراجح، أو يظهر من كلامه القول الذي يميل إليه -رحمه الله-.
ولكن من شراح كتاب "صحيح البخاري" يعتني أيضًا بهذا الجانب، منهم: برهان الدين الحلبي الذي يعتني أيضًا بهذا الجانب في بعض الرجال وليس في كل الرجال.
الحافظ ابن حجر -رحمه الله- يعتني بهذا الباب، وغيره من العلماء أيضًا يعتنون بهذه الأبواب، أو غيرهم من الشراح، والحاصل أنَّ معرفة المواليد والوفيات للرواة هذا أيضًا شيء مهم لمن يدرس كتب السنة، ولمن ينظر في الأسانيد.
قال: (وَبُلْدَانِهِمْ) فيعرف أنَّ فلانًا من البلد الفلاني، فلان دمشقي، أو عراقي، أو مكي، أو مدني، أو كوفي، أو مصري، وما إلى ذلك. هذا أيضًا ينبغي العناية به.
قال: (وَأَحْوَالِهِمْ تَعْدِيلًا وَتَجْرِيحًا وَجَهَالَةً)، فلان مجهول، فلان ثقة، فلان ضعيف هذا ينبغي على طالب العلم خاصة المتخصص في الحديث أن يعرف هذه الجوانب ويدرسها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَمرَاتِبُ الْجَرْحِ: وَأَسْوَؤُهَا الْوَصْفُ بِأَفْعَلَ، كَأَكْذَبِ النَّاسِ، ثُمَّ دَجَّالٍ، أَوْ وَضَّاعٍ، أَوْ كَذَّابٍ، وَأَسْهَلُهَا: لَيْنٌ، أَوْ سَيِّئُ الْحِفْظِ، أَوْ فِيهِ مَقَالٌ)}.
يقول -رحمه الله-: (وَمرَاتِبُ الْجَرْحِ: وَأَسْوَؤُهَا الْوَصْفُ بِأَفْعَلَ)، هنا يريد -رحمه الله- أن يُبين مراتب الجرح، ومراتب التعديل أيضًا، وهذا الباب باب خطير، يعني لابد فيه من استحضار أنه مسئول عن هذا الكلام، في تجريح هؤلاء الرواة وتضعيفهم والكلام عليهم، هذه مسألة من المسائل المهمة، ولذلك فإنَّ أبا زرعة الرازي -رحمه الله- يقول: كل من لم يتكلم في هذا الشأن على الديانة، فإنما يعطب نفسه، الذي يتكلم في هذا الشأن على غير الديانة هذا يُهلك نفسه، ويعرض نفسه للمساءلة أمام الله -جل وعلا-.
وعلى الإنسان أن يكون نقي اللسان، فلا يتكلم إلا ببرهان، ولا يجرح إلا بدليل وبرهان واضح، ولا يعدل كذلك إلا ببرهان؛ لأن المسألة تتعلق بقبول أو رد أحاديث رسول الله ﷺ، سيعتني بهذا الجانب أشد العناية.
وهنا مسألة أيضًا مهمة قبل أن نتكلم على كلام ابن حجر -رحمه الله-، يريد أن يبين مراتب الجرح ومراتب التعديل.
ينبغي علينا أيضًا أن نعرف مناهج أئمة الجرح والتعديل في الجرح والتعديل؛ لأن منهم المتشدد الذي لا يُثني على الراوي إلا بصعوبة، وكل هذا من باب صيانة حديث رسول الله ﷺ.
وإذا وجد أدنى شيء في الراوي غمزه به، ومنهم المتساهل في التوثيق، كابن حبان -رحمه الله- حيث إنه إذ لم يجد في الراوي جرحًا وثقه، والعجلي كذلك -رحمه الله-، وإن كان ابن حبان -رحمه الله- قد يتشدد في باب الجرح أحيانًا، فإذا وجد شيئا بالراوي شدد عليه.
ومن العلماء -رحمة الله عليهم- من يكون متوسطًا، أو أقرب إلى التوسط، كالإمام البخاري -رحمه الله-، والإمام أحمد -رحمه الله-، على أنه قد يقال: إنه يتشدد في بعض المواضع.
فالعلماء -رحمة الله عليهم- لهم مناهج في قضية الجرح والتعديل، ولذلك ينصح طالب العلم الذي يريد أن يعرف مناهج الأئمة في هذه القضية أن يقرأ كتاب "ميزان الاعتدال" للحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى-، فإنَّ الحافظ -رحمه الله- يعتني بيان مناهج الأئمة في الجرح والتعديل، فقد يذكر أحد أئمة الجرح والتعديل ويبين أنه يتشدد كما هي عادته يقول كذا، أو فلان يبالغ أو فلان يتساهل أو فلان كذا.
فإذا قرأت هذا الكتاب وجعلت عندك مذكرة مثلا أو ما شابه ذلك، وتقيد فيها الفوائد، مثل:
ماذا قال ابن حجر -رحمه الله- عن توثيق ابن حبان؟
ماذا قال الذهبي -رحمه الله- عن تجريح أبي حاتم الرازي؟
فتقيد مثل هذه الفوائد وتكتبها؛ لأنها فوائد مهمة، وهذا يساعدك في معرفة مناهجهم؛ لأنه قد تجد راوٍ يوثقه ابن حبان، بينما تجد فلانًا من الرواة يشدد فيه، وقد تجد من الرواة من يشدد عليه أبو حاتم -رحمه الله-، وتجد أن الإمام البخاري مثلاً يقويه، أو ابن معين يقويه مثلا ويقول: هو ثقة.
فقد يستغرب بعض الطلبة، ويقول: كيف هذا يقول ثقة، وهذا يقول كذا؟
نقول: تعرف على مناهجهم لتعرف لماذا قالوا كذا؟ وأحيانًا يكون هناك تغير اجتهاد، وأشياء كثيرة، فالآن "يحيى بن معين" -رحمه الله- له أقوال كثيرة في هؤلاء الرواة، مرة يقول عنه: ثقة، ومرة يضعفه! لماذا؟ لأنه ربما يكن حينما سئل عنه لوحده، قال: إنه ثقة، ولَمَّا قرن بغيره بين أنه أقل من غيره، ففهم أنه ضعيف، وربما يتغير.
حتى ابن حبان -رحمه الله- يذكر الرجال في الثقات، ويذكره في المجروحين، فيأتي بعضهم ويصف ابن حبان -رحمه الله- بأنه متناقض، وربما يكون يعلم ابن حبان -رحمه الله-، ولكنه قد تغير اجتهاده في هذا الرجل، وربما يعتذر له بأعذار أخرى، فعلى الطالب أن يتأنى ولا يبادر إلى أمثال هذا الكلام، فإذا قرأ طالب العلم كتاب "ميزان الاعتدال" للحافظ الذهبي بعده ينصح بأن يقرأ كتاب "بيان الوهم والإيهام" لابن القطان -رحمه الله-، فإنه يعتني أيضًا بهذه الجوانب، وتفسير مراد الأئمة بألفاظهم؛ لأنك قد تجد ابن معين يقول عن راوٍ من الرواة: شيخ، هل هذا يعد توثيقًا أم ليس بتوثيق؟ هل هو تجريح أم تعديل؟ أنت لا تعرف.
قد تجد أنه يقول مثلا: فلان بين يدي عدل، فيأتي بعضهم ويقول: إذا هذا ثقة، والصواب أن هذه تدل على التوهين والتضعيف، ولا تدل على التوثيق.
حتى ألفاظ العلماء تعرف معانيها، أو فلان شيخ، أو فلان فيه نظر، أو ما شابه ذلك.
يقول الحافظ -رحمه الله-: (وَمرَاتِبُ الْجَرْحِ) يعني: لابد أن يعرف طالب العلم هذا، (وَأَسْوَؤُهَا الْوَصْفُ بِأَفْعَلَ، كَأَكْذَبِ النَّاسِ)، يعني: من أشد ألفاظ الجرح أن يقال لراوٍ من الرواة: أكذب الناس، ومثل هذا ما يقول بعض أئمة الجرح والتعديل: فلان إليه المنتهى في الوضع، وفلان يقول: ركن من أركان الكذب، وفلان يقول: أكذب من رَوث حمار الدجال.
وبعضهم مثلًا يقول: لو كان في زمن إسرائيل، وأمروا بذبح البقرة، فما ذبح إلا إياه.
وبعضهم يقول: ابن معين يُسأل عن رجل قال: يستأهل أن يُحفر له بئر ثم يرمى فيه، يعني يستحق أن يفعل به ذلك.
ولَمَّا ذكر ليحي بن معين "سويد بن سعيد" الذي روى "من عشق فعف فكتم فمات مات شهيدًا"، قال يحي بن معين: "لو كان عندي فرس ورمح لغزوت سويدًا".
فهذه الألفاظ التي يطلقها العلماء ينبغي الاعتناء بها، والاعتناء بتفسيرها ومعناها، ولماذا قال هذه الكلمة؟
حتى كتب الجرح التعديل، إذا قيل: "فلانٌ قالَ عن فلانٍ إنه وضاع أو كذاب أو ما شابه ذلك"، لابد أن نتأكد هل قالها أم لا؟
وهناك كتب مسندة مثل: "الجرح والتعديل" لأبي حاتم، وهناك كتاب "الكامل" لابن عدي -رحمه الله-، وكتاب "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي، كتاب "تاريخ دمشق" لابن عساكر.
إذن لابد أن نتأكد هل قال هذا الكلام أم لم يقله؟ وما السبب الذي جعله يقول هذا الكلام؟ هذه قضية إذا من القضايا المهمة.
قال: (وَأَسْهَلُهَا: لَيْنٌ) أي أنَّ لفظة "لين" من ألفاظ الجرح، ولكنها ليست بالجرح الشديد، فـ "لين" إن تابعه غيره يصحح أو يُقوى أو ما شابه ذلك، وكذلك "سيء الحفظ"، أو "فيه مقال"، فإذا قيل عن أحد الرواة مثلا: "فيه مقال" فهذه من ألفاظ الجرح، ولكنه ليس بالجرح الشديد، وما إلى ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى- (وَمرَاتِبُ التَّعْدِيلِ: وَأَرْفَعُهَا الْوَصْفُ بَأَفْعَلَ: كَأَوْثَقِ النَّاسِ، ثُمَّ مَا تَأكَدَ بِصِفَةٍ أَوْ صِفَتَيْنِ كَثِقَةٍ ثِقَةٍ، أَوْ ثِقَةٍ حَافِظٍ، وَأَدْنَاهَا مَا أَشْعَرَ بِالْقُرْبِ مِنْ أَسْهَلِ التَّجْرِيحِ: كَشَيْخٍ)}.
قال: (وَمرَاتِبُ التَّعْدِيلِ: وَأَرْفَعُهَا الْوَصْفُ بَأَفْعَلَ) كأن يقال: فلان من أوثق الناس، فهذا لفظ من أعلى مراتب التعديل للراوي.
قال: (ثُمَّ مَا تَأكَدَ بِصِفَةٍ أَوْ صِفَتَيْنِ كَثِقَةٍ ثِقَةٍ) ومن أكثر ما ذكر في التكرار ما جاء أن سفيان بن عيينة -رحمه الله- وصف شيخه عمرو بن دينار بأنه ثقة تسع مرات.
ثقة ثقة ثقة ثقة ثقة ثقة ثقة ثقة ثقة، وهذا توثيق شديد، وقال النووي -رحمه الله- في "تهذيب الأسماء واللغات": كرر سفيان بن عيينة لفظة "ثقة" أربع مرات وليس تسع مرات، وهذا من مراتب التعديل أيضًا.
قال: (كَأَوْثَقِ النَّاسِ، ثُمَّ مَا تَأكَدَ بِصِفَةٍ أَوْ صِفَتَيْنِ كَثِقَةٍ ثِقَةٍ، أَوْ ثِقَةٍ حَافِظٍ، وَأَدْنَاهَا) يعني أقل مراتب التعديل (مَا أَشْعَرَ بِالْقُرْبِ مِنْ أَسْهَلِ التَّجْرِيحِ)، يعني: يكون في مرتبة قريبة لأخف مراتب التجريح.
قال: (كَشَيْخٍ) شيخ فيها نوع من التضعيف عند كثير من المحدثين، ففلان شيخ يعني: فيه شيء من التضعيف، وهذه يُكثر مِنْ ذِكْرَهَا ابن معين -رحمه الله تعالى-.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَتُقْبَلُ التَّزْكِيَةُ مِنْ عارِفٍ بَأَسْبَابِهَا، وَلَوْ مِنْ وَاحِدٍ عَلَى الْأَصَحِّ)}.
قال: (وَتُقْبَلُ التَّزْكِيَةُ مِنْ عارِفٍ بَأَسْبَابِهَا)، تقبل التزكية من إمامٍ لراوٍ من الرواة، ولكن هذه التزكية لا تقبل من أي أحد، بل تقبل من عارف بأسبابها، يعرف متى يكون الراوي ثقة ومتى يكون ضعيفًا. وهذا يكون للائمة الكبار.
قال: (وَلَوْ مِنْ وَاحِدٍ عَلَى الْأَصَحِّ) يعني لو كان المزكي واحدًا، بشرط -كما أسلفنا- أن يكون عارفًا بأسباب هذه التزكية.
وهنا مسألة: هل تقبل التزكية من واحد؟ لأن ابن حجر -رحمه الله- أشار هنا إلى وجود خلاف، ورجح -رحمه الله- القول بأنه يُقبل، وهذا أيضًا هو مذهب الأئمة المتقدمين -رحمة الله عليهم-، فيرون أن التوثيق يقبل ولو كان من واحدٍ، إذا كان عارفًا بأسباب التوثيق.
والفقهاء ذهبوا إلى اشتراط أن يكون التوثيق صادرًا من اثنين فأكثر، وقاسوا التوثيق على الشهادة، ولا يخفى أن بينهما فرقًا، والكلام في هذا يطول.
وفي قوله: (وَتُقْبَلُ التَّزْكِيَةُ مِنْ عارِفٍ بَأَسْبَابِهَا) يعقوب بن سفيان قال: سمعت إنسانًا يقول لأحمد بن يونس: عبد الله العُمري ضعيف، فقال هذا الإنسان: لو رأيتَ لحيته وخضابه وهيئته لعرفت أنه ثقة! فإذًا وثقه بما لا يُوثق به، ولذا لابد أن يكون التوثيق من عارف بأسبابه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَالْجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ إِنْ صَدَرَ مُبَيِنًا مِنْ عَارِفٍ بِأْسْبَابِهِ، فَإِنْ خَلَا عَنِ التَّعْدِيلِ قُبِلَ مُجْمَلًا عَلَى الْمُخْتَارِ)}.
قال: (وَالْجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ) معنى هذا الكلام أنَّ الجرح مقدم على التعديل مهما بلغ عدد المجرحين والمعدلين، يعني لو كان عدد الذين عدلوا الراوي كبيرًا، والذين جرحوا الراوي قليلا، يقول: فالجرح مقدم على التعديل، وهنا قدمه مهما بلغ العدد، ولكن اشترط شرطًا، فقال: (إِنْ صَدَرَ مُبَيِنًا) يعني مُفسرًا سبب التجريح، أو لماذا جرح، ولا يكتفى فقط بقوله: ضعيف، وإنما يقال مثلًا: ضعيف قد اختلط في كذا، أو ضعيف بالرواية عن فلان، أو ضعيف بكذا، أو كان يسرق الحديث، أو كان كذا، إذاً لابد أن يبين سبب الضعف، وهذا ما يريده ابن حجر -رحمه الله-.
(إِنْ صَدَرَ مُبَيِنًا) يعني: مفسرًا، وهذا هو شرط تقديم الجرح على التعديل، يعني: الجرح لا يقدم على التعديل إلا إذا كان الجرح مفسرًا ومبينًا.
والغريب أن الخطيب البغدادي -رحمه الله- اشترط التساوي في عدد المجرحين والمعدلين لأجل أن يقدم التجريح، أو كون المجرحين أكثر، ولكن رأى ابن حجر أنَّ الجرح مُقدم على التعديل بشرط أن يكون هذا الجرح مُفسرًا ومبينًا السبب.
وهنا مسألة: ابن حجر -رحمه الله- يرى أنَّ الجرح لابد أن يكون مفسرًا، ومن الأئمة النقاد الأوائل من يرى أن الجرح يُؤخذ حتى لو لم يكن مفسرًا؛ لأنهم أعلم الناس بما يقولون، وأعلم الناس بأسباب الجرح.
والشاهد من هذا: أن ابن حجر يرى أن الجرح يقدم إذا كان الجرح مفسرًا، وكان هذا الجرح صادرًا من عالم عارف بأسبابه الجرح.
ثم قال: (فَإنْ خَلَا عَنْ التَّعْدِيلِ قُبِلَ)، يعني: إذا كان الراوي لم يوثقه أحد، ولكن تبين وجود عالم واحد فقط جرحه، ولم يكن هذا الجرح مفسرًا، فيقول ابن حجر: يُؤخذ بالجرح في هذه الحالة، لماذا؟ لأنه ليس عندنا من يوثقه، حتى لو كان الجرح مجملا وغير مفسر.
قال: (فَإنْ خَلَا عَنْ التَّعْدِيلِ قُبِلَ) يعني: يُقبل الجرح مجملًا على المختار، وفي النزهة يقول ابن حجر: لأنه إذا لم يكن فيه تعديل، فهو في حيز المجهول، وإعمال المجرح أولى من إهماله، بينما مال ابن الصلاح في مثل هذا إلى التوقف فيه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَمِنَ الْمُهِمِّ مَعْرِفَةُ كُنَى الْمُسَمِّينَ، وَأَسْمَاءِ الْمُكَنِّينَ، وَمَنِ اسْمُهُ كُنْيَتُهُ، وَمَنِ اخْتُلِفَ فِي كُنْيَتِهِ، وَمَنْ كَثُرَتْ كُنَاهُ أَوْ نُعُوتُهُ، وَمَنْ وَافَقَتْ كُنْيَتُهُ اسْمَ أبيه أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ كُنْيتُهُ كُنْيَةُ زَوْجَتِهِ، وَمَنْ نُسِبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ إِلَى أُمِّهِ، أَوْ إِلَى غَيْرِ مَا يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ، وَمَنِ اتَّفَقَ اسْمُهُ وَاسْمُ أبيه وَجَدِّهِ، أَوْ اسْمُ شَيْخِهِ وَشَيْخِ شَيْخِهِ فَصَاعِدًا وَمَنِ اتَّفَقَ اسْمُ شَيْخِهِ وَالرَّاوِي عَنْهُ)}.
يقول الحافظ -رحمه الله-: (وَمِنَ الْمُهِمِّ مَعْرِفَةُ كُنَى الْمُسَمِّينَ)، وفي "النزهة" يقول: (ممن اشتهر باسمه وله كنية)، خشية أن يأتي في بعض الروايات بكنيته، ولأجل أن لا يظن أنه شخص آخر، فمن المهم معرفة أيضًا الكنى، والكنى مسألة مهمة من المسائل التي يجب أن نعتني بها.
قال: (وَأَسْمَاءِ الْمُكَنِّينَ)، يعني: المسمى يجب أن نعرف كنيته؛ لأجل أنه قد يأتي في رواية من الروايات يقول: حدثنا أبو فلان، فمن هو أبو فلان؟ إذا لا بد أن نعرف أن هذه كنية فلان، وذلك حتى لا نقع في الخطأ.
(أَوْ بِالْعَكْسِ) أي: منهم من يشتهر بالكنية، فأبو هريرة -رضي الله عنه-، مختلف في اسمه اختلافًا كثيرًا، ولكنه معروف -رضي الله عنه-، وأبو بكر -رضي الله عنه- قليل من الناس من يعرف اسمه.
فمثل هذه المسائل يَعتني بها طالب العلم، حتى إذا مَرَّ به اسم في الإسناد لراوٍ مشهورٍ بكنيته ما يخطئ ويقول: هو مجهول، أو لا يعرف، أو يترك الإسناد، أو ما شابه ذلك، فإذا عرف أن هذا الاسم هو لصاحب تلك الكنية، يعرف ولا يقع في الزلل والخطأ، وهذه مسألة مهمة.
قال: (وَمَنِ اسْمُهُ كُنْيَتُهُ) هناك من الرواة من له اسم، والاسم هو ذات الكنية، مثل: أبو سلمة ابن عبد الرحمن، قيل: إن اسمه أيضًا هو: أبو سلمة، فهذا اسمه وكنيته، وهم قلة، أي: من كان اسمه كنيته هؤلاء قلة.
قال: (وَمَنِ اخْتُلِفَ فِي كُنْيَتِهِ)، وهؤلاء كُثر، أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قيل: أبو محمد، وقيل: أبو عبد الله، وقيل: أبو خارجة، أقوال كثيرة في كنيته، وينبغي على طالب العلم أيضًا، أن يعتني بهذا.
قال: (وَمَنْ كَثُرَتْ كُنَاهُ أَوْ نُعُوتُهُ)، زيد بن صُحان له كنيتان، يقال له: أبو عبد الله، ويقال: أبو عائشة أيضًا، فيعتنى بهذا؛ لأنه قد يمر بك مرة أبو عبد الله، ومرة أبو عائشة، تعرف أنهما لشخص واحد، وهذا كله حتى لا يقع طالب العلم في الزلل وهو ينظر في الأسانيد.
قال: (وَمَنْ وَافَقَتْ كُنْيَتُهُ اسْمَ أبيه)، الخطيب البغدادي -رحمه الله- له كتاب اسمه "من وافقت كنيته اسم أبيه مما لا يُؤمن وقوع الخطأ فيه"، وقد انتخبه علاء الدين مغلطاي -رحمه الله- وكتابه هذا مطبوع.
مثال على (وَمَنْ وَافَقَتْ كُنْيَتُهُ اسْمَ أبيه): "إبراهيم بن إسحاق المديني"، كنيته: أبو إسحاق، وهذا يكثر عندنا الآن، أي: موافقة كنية الإنسان اسم أبيه، محمد بن عبد الله يأتيه ولده يسميه عبد الله مثلًا، جيد؟ فهذا منتشر حتى عندنا الآن في هذا العصر من توافق كنيته مع اسم أبيه.
قال: (أَوْ بِالْعَكْسِ) من وافق اسمه كنية أبيه، "إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي"، أبوه هو: أبو إسحاق، وهو إسحاق وهكذا.
وذكر فيما ذكر -رحمه الله- قال: (أَوْ كُنْيتُهُ كُنْيَةُ زَوْجَتِهِ) أي: توافق كنيته كُنية زوجته، مثل: "أبو الدرداء"، و "أم الدرداء"، وهناك كتاب لأبي الحسن، "محمد بن حيوية" من وافقت كنيته كنيه زوجه من الصحابة، وكتابه هذا مطبوع.
أيضًا قد يوافق اسم الشيخ اسم الأب، "محمد بن عبد الله"، ويروي عن شيخ له يسمى: "عبد الله" أيضًا.
(وَمَنْ نُسِبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ) مثل: "الحسن بن دينار"، ودينار هذا ليس هو والده، وإنما هو زوج أمه، فقد نُسِبَ -رحمه الله- إلى زوج أمه، فهذا معنى (وَمَنْ نُسِبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ).
قال: (أَوْ إِلَى أُمِّهِ) مثل: إسماعيل ابن عُلَيَّة -رحمه الله-، وقيل: إنه كان يكره ذلك، ولذلك كان الشافعي -رحمه الله- يقول: "إسماعيل الذي يقال له: ابن علية".
قال: (وَمَنِ اتَّفَقَ اسْمُهُ وَاسْمُ أبيه وَجَدِّهِ) مثل: "الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب"، فاتفق "اسم الابن واسم الأب واسم الجد"، وللأزدي -رحمه الله- كتاب مطبوع في هذا الباب.
قال: (اسْمُ شَيْخِهِ وَشَيْخِ شَيْخِهِ فَصَاعِدًا)، عمران عن عمران عن عمران، عمران القصير، عن عمران أبو رجاء العطاردي، عن عمران بن حصين الصحابي -رضي الله عنه-، فهذا أيضًا قد يكون فيه شيء من الموافقة.
قال: (وَمَنِ اتَّفَقَ اسْمُ شَيْخِهِ وَالرَّاوِي عَنْهُ)، مسلم بن الحجاج، عن البخاري، عن مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهذا قد يحصل.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَمَعْرِفَةُ الْأَسْمَاءِ الْمُجَرَّدَةِ وَالْمُفْرَدَةِ وَالْكُنَى، وَالْأَلْقَابِ، وَالْأَنْسَابِ)}.
قال: (وَمَعْرِفَةُ الْأَسْمَاءِ الْمُجَرَّدَةِ) الأسماء من حيث هي، فألف العلماء -رحمة الله عليهم- كتبًا في الأسماء والطبقات وغيرها، وكتاب "التهذيب"، وغيره من الكتب التي ألفت في أسماء الرواة. قالوا: ينبغي على طالب علم أن يعرف هذه الأسماء المجردة.
قال: (وَالْمُفْرَدَةِ) أي: الأسماء المفردة، وهي التي سمي بها شخص واحد، أي: لا يوجد من سمي بهذا الاسم إلا فلان مثلًا، مثل: "سندر" مولى "زنباع الجزامي" وغيره، فـ "سندر" ما في "سندر" إلا هذا، فيعتني طالب العلم بمثل هذه القضايا.
قال: (وَالْكُنَى)، يعتني أيضًا بمعرفة الكنى المفردة، التي لم يكنَّ بها إلا شخص واحد، كـ "أبي العشراء الدارمي"، حيث لا يوجد غيره، وأيضا "أبو العبيدين"، أيضًا لا يوجد سواه، وأيضًا "معاوية بن سبرة"، وهكذا. ولذا كان على طالب العلم أن يعتني بهذه الأبواب
ومن المعلوم أن الكنية إنما هي للتكريم، ولذلك ذكر كثيرٌ من العلماء النهي عن تكنية الكافر؛ لأنهم قالوا: إن هذا من باب التكريم، ومن الطرائف في هذا ما جاء في "تاريخ بغداد" أن "أبا بكر بن إسماعيل الوراق" ذهب إلى "أبي محمد بن صاعد"، قال: فدققت عليه بابه، فقال: من ذا؟ فقالت: أنا أبو بكر بن أبي علي يحيى هنا، فقال للجارية: ناوليني نعلي، قالت ما تريد بنعلي؟ قال: أريد أن أخرج إلى هذا الجاهل، الذي يكني نفسه وأباه ويسميني، فأصفعه بهذا النعل -رحمه الله- لأنه تعجب أن يكني نفسه ويسميه.
ومعروف أن الكنية من باب التكريم، فيعتني طالب العلم بمعرفة الكنى ومعرفة الألقاب، ومعرفة الأنساب، فالأنساب أحيانًا، تكون إلى القبائل مثلًا، فينسب إلى قبيلة، فلان منسوب إلى مكان، إبراهيم الحربي -رحمه الله- نسب إلى حارة ببغداد، يقال لها: الحربية، ومثلًا خالد الحذاء، قيل له الحذاء؛ لأنه كان يكثر من أن يقول: أحذو حذو كذا، وقيل: لأنه تزوج امرأة في درب الحذاءين.
فمعرفة هذه الألقاب مهم لطالب العلم، حتى لا يقع في الزلل حينما ينظر إلى الأسانيد، قال: وتقع إلى القبائل.
قال: (وَتَقَعُ إِلَى الْقَبَائِلَ وَالْأَوْطَانِ، بِلَادًا، أَوْ ضَيَاعًا أَوْ سِكَكًا، أَوْ مُجَاوِرَةً. وَإِلَى الصَّنائِعَ وَالْحِرَفِ، وَيَقَعُ فِيهَا الْاتِّفَاقُ وَالْاشْتَبَاهُ كَالْأَسْمَاءِ)
قال: (وَتَقَعُ إِلَى الْقَبَائِلَ) يعني أن الأنساب هذه تقع إلى القبائل، الأَزدي، أو أي: قبيلة من قبائل العرب، فيقال مثلا: النيسابوري، النميري، الأزدي، القرشي، وما إلى ذلك من الأنساب الكثيرة، فيعتني طالب العلم بمعرفة الأنساب.
قال: (وَالْأَوْطَانِ) مثل: الحضرمي، الكوفي، البصري، وما إلى ذلك، فيعتني بمعرفة هذه الأشياء.
قال: (بِلَادًا، أَوْ ضَيَاعًا أَوْ سِكَكًا)، أو قد ينسب إلى الطريق من الطرق.
قال: (أَوْ مُجَاوِرَةً) أي: يجاور مكانًا فينسب إليه، مثل: سعيد المقبري، لمَ قيل له المقبري؟
قيل: لأجل أنه كان مجاورًا للمقبرة، وقيل غير ذلك.
قال: (أوَ إِلَى الصَّنائِعَ)، يقال له: الحناط، يقال له: الخطاط، يقال له: الخياط، يقال له ما إلى ذلك من الأنساب التي تنسب إلى الصنائع والحرف.
قال: (وَيَقَعُ فِيهَا الْاتِّفَاقُ وَالْاشْتَبَاهُ كَالْأَسْمَاءِ، وقد تقع ألقابًا) فحينما تجد نسبة رجل "الخياط"، فهذا رسم واحد "الخياط" و "الخباط" و "الحناط"، ولكن النطق يختلف من حيث النقط، فيقع فيها الاشتباه أيضًا.
قال: (وَمَعْرِفَةُ أَسْبَابِ ذَلِكَ)، أي: لابد لطالب العلم أن يعرف أسباب ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى- (وَمَعْرِفَةُ الْمَوَالِي مِنْ أَعْلَى، وَمِنْ أَسْفَلِ، بِالرِّقِ، أَوْ بِالْحَلِفِ)}.
ينبغي لطالب العلم أن يعرف حتى الموالي، يقال مثلًا: "العلاء بن عبد الرحمن الحرقي مولاهم"، ما معنى مولاهم ها هنا؟ فلابد أن يعرف مثل هذا، فهو مولى من؟ وذلك حتى لا يدخل عليه الخطأ في معرفة الأسماء، وهذا الولاء إما أن يكون بإعتاق، وإما أن يكون بحلف، وإما أن يكون مولى إسلام، أسلم على يده، قد يكون هذا، فذكر أنه لابد أن تُعرف هذه الأشياء.
قال: (وَمَعْرِفَةُ الْمَوَالِي مِنْ أَعْلَى)، من يعرف من هو الْمُعتِق؟ (وَمِنْ أَسْفَلِ) مَنْ هُو الْمُعْتَق؟
(بِالرِّقِ، أَوْ بِالْحَلِفِ) أي: لابد أن تعرف هذه الأشياء.
قال: (وَمَعْرِفَةُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ) هذه أيضًا مهمة، وتفيد حتى بالضوابط، يقال: كل أبناء فلان مثلًا ضعفاء، أو أبناء زيد بن أسلم ضعفاء إلا فلان، وهكذا، ومثل هذه الأشياء والضوابط تفيد طالب العلم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَمَعْرِفَةُ آَدَابِ الشَّيْخِ وَالطَّالِبِ، وَسِنِّ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ، وَصِفَةِ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ وَعَرْضِهِ، وَسَمَاعِهِ، وَإِسْمَاعِهِ، والرِّحْلَةِ فِيهِ)}.
قال: (وَمَعْرِفَةُ آَدَابِ الشَّيْخِ وَالطَّالِبِ) هذا من أهم المهمات، أن يعرف الطالب أدب الطلب، وكيف يتعامل الشيخ مع الطالب؟ وكيف يتعامل الطالب مع الشيخ؟ وكيف يتعامل الطالب مع أقرانه؟ وكيف يتعامل مع الناس كلها؟ وكلها آداب مهمة، ولذلك الأدب قبل الطلب، فينبغي أن يتأدب وأن يعرف الآداب في هذه القضايا، وقد ألف العلماء -رحمة الله تعالى عليهم- مصنفات كثيرة في هذا الباب.
وهناك كتاب "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"، وهذا كتاب نفيس جدًا، وكتاب "جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البر -رحمه الله-، وغيرها من الكتب التي تعتني بأمثال هذه الجوانب.
قال: (وَسِنِّ التَّحَمُّلِ) متى يتحمل الطالب من شيخه ومتى يُؤدي؟ هل هناك سن معين للتحمل؟
الصواب أنه بالتمييز، ولذلك ذهب البخاري -رحمه الله- إلى هذا في كتابه، وبوب عليه، فيعرف هذا بالتمييز.
وأما الأداء فقالوا: لا يكون إلا عند البلوغ، الأداء أن يؤدي الحديث ويسمع فلا يكون إلا عند البلوغ.
قال: (وَصِفَةِ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ) في (النزهة) قال: أن يكتبه مبينًا مفسرًا، ويشكل المشكل منه، ويكتب الساقط في الحاشية اليمنى ما دام في السطر بقية، طرق للكتابة.
قال: (وَعَرْضِهِ)، كيف يعرضه على الشيخ بعد أن يسمعه منه ليتثبت؟ هل يعرضه من أصل الشيخ ولا من فرع ولا يعرضه مع نفسه؟ يعني مع الشيخ مرة أخرى، أو يأخذ أصل الشيخ ويعرضه على أصل الشيخ وما إلى ذلك.
قال: (وَسَمَاعِهِ) بأن لا يتشاغل حين يسمع بشيء مما يخل بالسماع، فلا ينشغل بالنعاس أو بحديث مع شخص آخر، أو ما شابه ذلك.
قال: (وَإِسْمَاعِهِ) صفة إسماعه أيضًا، بحيث يكون الأصل أن يسمع عن طريق الأصل الذي سمع فيه، أو من فرع قوبل على أصله، وما إلى ذلك.
قال: (والرِّحْلَةِ فِيهِ) ينبغي أيضًا أن يرحل لأجل طلب العلم ولأجل السماع من الشيوخ.
{قال -رحمه الله تعالى-: (وَتَصْنِيفِهِ، إِمَّا عَلَى الْمَسَانِيدِ، أَوْ الْأَبْوَابِ، أَوْ الْعِلَلِ أَوْ الْأَطْرَافِ وَمَعْرِفَةُ سَبَبِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ صَنَّفَ فِيِهِ بَعْضُ شُيُوخِ القَاضِي أبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ، وصَنَّفُوا فِي غَالِبِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ وَهِيَ نَقْلٌ مَحْضٌ، ظَاهِرةُ التَّعْرِيفِ، مُسْتَغْنِيَةٌ عَنِ التَّمْثِيلِ، فَلْتُرَاجِعْ لَهَا مَبْسُوطَاتِهَا.
وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْهَادِي، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)}.
يريد -رحمه الله- أن يبين كيفية تصنيف الطالب للأحاديث على المسانيد؟ فيبدأ مثلًا بمسانيد الصحابة الذين سبقوا إلى الإسلام، أو على الأفضلية، فيبدأ بالعشرة المبشرين، أو على حروف المعجم كما صنع الطبراني -رحمه الله- في المعجم الكبير، أو على الأبواب، كأبواب الدين مثلا، وذلك مثل: البخاري -رحمه الله-، حيث قَسَّمَ كتابه الصحيح ورتبه على الأبواب.
أو العلل، كعلل الدار قطني -رحمه الله-، فرتب الكتاب على العلل.
أو مثلًا الأطراف، فطرف الحديث هو الحديث الذي يدل على بقيته، ويجمع أسانيد هذه الأطراف مثل: "تحفة الأشراف" للحافظ المزي -رحمه الله تعالى-.
قال: (وَمَعْرِفَةُ سَبَبِ الْحَدِيثِ)، وهذا ينبغي لطالب العلم أن يعتني به.
قال: (وَقَدْ صَنَّفَ فِيِهِ بَعْضُ شُيُوخِ القَاضِي أبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ)، ومن المتأخرين ابن حمزة الحسيني الحنفي، وسبب الحديث هذا يفيد حتى في جانب التفقه.
قال: (وصَنَّفُوا فِي غَالِبِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ وَهِيَ نَقْلٌ مَحْضٌ، ظَاهِرةُ التَّعْرِيفِ) إلى أن انتهى -رحمه الله تعالى-
وبهذا نكون قد انتهينا من شرح هذا الكتاب.
أسأل الله -جل وعلا- أن يبارك فيما قلنا، وأن ينفعني وإياك والسامعين بما نقول ونسمع، والله تعالى أعلم، وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، وجزاكم عنا خير الجزاء وأحسنه.
وبهذا نكون قد ختمنا كتابنا ولله الحمد، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في مواد أخر.
نستودعكم الله إلى ذلك الحين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
13135 9