الدرس الرابع
فضيلة الشيخ د. مضحي بن عبيد الشمري
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله معاشر طلاب العلم في المستوى الثاني من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نشرح فيه كتاب (نخبة الفكر) للإمام أحمد ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- يشرحه فضيلة الشيخ/ مُضحي بن عبيد الشمري، باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ.
حياكم الله يا شيخ مضحي}
الله يحييك ويبارك فيك.
{نستأذنكم في إكمال القراءة.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَتَتبُّعُ الطُّرُقِ لِذَلِكَ هُوَ الاعْتِبَارُ)}
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أمَّا بعد، فلما تكلم ابن حجر -رحمه الله- قبل هذا الموضع عن قضية "المتابِع والمتابعة" للحديث، وأن يروي الراوي الحديث، كما قال ابن حجر: الفرد النسبي، فيجد من يوافقه على هذه الرواية، فهذا الذي يوافقه هو الذي يُقال له المتابع. وأيضًا النظر والبحث عن متن آخر يُشبه هذا المتن، وهو الذي نسميه: الشاهد.
هذا البحث والنظر وجمع الطرق يسمى: الاعتبار، وهذا الذي يريده ابن حجر -رحمه الله تعالى- ها هنا، فالاعتبار هو ذات العمل الذي يقوم به هذا الناقد للبحث والنظر في المتابعات والشواهد.
وننتبه إلى قضية مُهمة، وهي قضية المصطلحات، وهذه سبق أن نبهنا عليها، ولا بأس أن ننبه عليها مرارًا؛ لأنَّ بعض الناس قد يُخطئ في محاكمة العالم إلى مصطلحات عالم آخر، فقد يأتي طالب من الطلاب الذين يستمعون لهذا الدرس، ويقول: عرفنا أنَّ الشاهد هو أن يأتي متن يُشبه هذا المتن الذي نبحث فيه وننظر فيه، ثم يجد أنَّ المزي -رحمه الله- في تهذيب الكمال، يتكلم عن أحد الرواة ويقول: أخرج له البخاري استشهادًا، فيظن أنَّ البخاري أخرج له متنًا يشبه متنًا آخر.
نقول: لا، ليس هذا المراد. وإنَّما قوله: أخرج له البخاري استشهادًا يعني: أخرج له في الأحاديث المعلقة في الصحيح. وبالتالي نقول: لابد أن تعرف ما هو مصطلح الحافظ المزي -رحمه الله تعالى- في هذه القضية.
وكذلك يكون عند مسلم، أحيانًا يقول: عالم من العلماء أخرج له مسلم مثلا في الشواهد، يعني: أنَّ الإمام مسلم -رحمه الله- لم يعتمد على هذا الحديث ويجعله هو العمدة في هذا الباب، وإنما قد يكون أخرج له في المتابعات.
فالاهتمام بقضية المصطلحات، ومعرفة مصطلح العالم إذا أطلقه في مسألة مُعينة تعد من أهم المهمات، وخاصة في علم المصطلح، ولذا لا تحاكم الأئمة النقاد الأوائل بما استقر عليه الاصطلاح بعد ذلك. وهناك أمثلة كثيرة لهذه القضية.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (ثُمَّ الْمَقْبُولُ: إِنْ سَلِمَ مِنَ الْمُعَارَضَةِ فَهُوَ الْمُحْكَمُ)}.
المقبول هو الحديث الصحيح أو الحسن الذي قد قبلناه، ورأينا أنَّه تقوم به الحجة، فهو من قبيل: المعمول به والمقبول.
وهذا الحديث إن لم نجد حديثًا آخر يُعارضه في درجته فنقول عن الحديث المقبول: (الْمُحْكَمُ)، أي: محكم في الباب، ولا يوجد ما يعارضه.
وننبه على مسألة، أنَّ تقسيم الخبر إلى "صحيح، وصحيح لغيره، وحسن، وحسن لغيره" هذا يفيدنا إفادة مهمة، كيف؟
قد يأتي إنسان ويقول: الحديث الصحيح مقبول، والحديث الحسن مقبول كذلك، فلماذا نفرق بين الصحيح والحسن؟ أي لماذا يقال: هذا حديث صحيح، وذاك حديث حسن؟
نقول: هذا يُفيدنا عند التعارض، فعندما نجد حديثًا "صحيح" مثلاً، وقد عارضه حديثًا آخر "حسن لغيره" مثلا، فلا نأخذ بالحسن لغيره وانما نأخذ بالصحيح.
إذًا هذا التفاوت في الحديث المقبول يُفيدنا عند التعارض، حتى نعرف ما الحديث الذي يُؤخذ به، وما الحديث الذي لا يؤخذ به في مسألة معينة.
قول ابن حجر -رحمه الله-: (ثُمَّ الْمَقْبُولُ: إِنْ سَلِمَ مِنَ الْمُعَارَضَةِ) أي: يَسلم من المعارضة في الظاهر، أي أنَّ الناقد قد يرى حديثين صحيحين بينهما تعارض -هذا التعارض يكون ظاهريًا فقط، وإلا فأحاديث النبي ﷺ لا تتعارض فيما بينها، ما لم يكن نسخًا، أو تقييدًا، أو ما شابه ذلك-.
مثال الحديث السالم من المعارضة: أول حديث بدأ به البخاري في صحيح، وهو حديث: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ»[1]، فهذا الحديث صحيح ومقبول. ولكن هل يوجد ما يعارضه؟
نقول: لا يوجد ما يعارضه، ولذا نقول عنه: حديث (محكم)، أي: سَلِمَ من المعارضة التي تكون في الظاهر.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ عُورِضَ بِمِثْلِهِ: فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ فَمُخْتَلِفُ الْحَدِيثِ)}.
قال: (وَإِنْ عُورِضَ بِمِثْلِهِ) أي إذا عورض الحديث المقبول بحديث آخر مقبول في مثل درجته، أي: كلاهما مقبول، ولكن يظهر للناظر فيهما أنَّ بينهما شيء من التعارض.
قال: (فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ) أي إذا استطعنا أن نجمع بينهما.
قال: (فَهو مُخْتَلِفُ الْحَدِيثِ)، أي أنَّ هذا الحديث يسمى (مُخْتَلِف الْحَدِيثِ)، وبهذا سمى ابن قتيبة -رحمه الله- كتابه المشهور: "مختلف الحديث"، أي الأحاديث التي يجمع بينها.
مثال على التعارض، وهذا المثال ذكره ابن حجر -رحمه الله تعالى- في شرحه لهذا الكتاب "نزهة النظر"، وأنا أعيد وأؤكد دائمًا على الأمثلة التي مَثَّلَ بها الحافظ ابن حجر -رحمه الله-، وذلك حتى يتبين مُراده هو، فهو قد مَثَّلَ بهذا المثال، فَمَثَّلَ -رحمه الله- بما علَّقه البخاري، وأسنده الإمام أحمد في مسنده، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النبي ﷺ قال: «فِرَّ من المجذومِ فراركَ من الأَسدِ»[2]، وجاء حديث آخر في الصحيحين من حديث أبي هريرة أيضًا أنَّ النبي ﷺ قال: «لَا يُورَدُ مُمرضٌ على مُصحٍّ»[3]. هذان الحديثان يدلان على وجود العدوى، وأنَّ على الانسان أن يحترز منها، ولكنهما عارضا في الظاهر ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة، أنَّ النبي ﷺ قال: «لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ»[4]. ففي الظاهر قد يوجد هناك شيء من التعارض، وكلام العلماء -رحمة الله عليهم- كثير في محاولة الجمع بين هذين الحديثين، ولعل من أقوى ما قيل في الجمع بينهما: إنه لا عدوى تنتقل بنفسها، بل كل ذلك يكون بتقدير الله -عز وجل-، ويدل على هذا المعنى ما جاء في الصحيحين أنَّ أعرابيًا أتى إلى النبي ﷺ يستشكل انتقال العدوى في الإبل، فقال له النبي ﷺ: «فمَن أَعْدى الأوَّلَ؟!»[5]
إذًا، إذا تعارض الحديثان المقبولان وأمكن الجمع بينهما، فيجمع بينهما ويسمى هذا مختلف الحديث.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ ثَبَتَ الْمُتَأَخِّرُ فَهُوَ النَّاسِخُ، وَالْآخَرُ الْمَنْسُوخُ)}.
أي إذا لم يمكن الجمع بين الحديث، فننتقل للمرحلة التي تليها. هل نستطيع أن نعرف الحديث السابق والحديث المتأخر؟
إذا عرفنا المتأخر والسابق فحينئذ نقول: ناسخ ومنسوخ، وقد صنف العلماء -رحمة الله تعالى عليهم- مُصنفات في هذا الباب، فالحازمي -رحمه الله- أَلَّفَ كتابه "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ"، وابن الجوزي -رحمه الله- له كتاب مشهور: "إعلام العالم بعد رسوخه بناسخ الحديث ومنسوخه"، وكلاهما مطبوع، وغيرهما أيضًا من العلماء أَلَّفُوا الكتب في بيان الناسخ والمنسوخ.
قد يأتي سائل ويسأل، كيف أعرف المتقدم من الحديث المتأخر؟
العلماء -رحمة الله تعالى عليهم- يقولون: نعرف ذلك بعدة طرق:
الطريقة الأولى: إمَّا أن يكون هذا بنصٍ من النبي ﷺ.
مثال على ذلك: جاء في صحيح مسلم، أنَّ النبي ﷺ قال: «كنتُ نهيتُكم عن زيارَةِ القبورِ ألا فزورُوها»[6]، فقوله: «كنتُ نهيتُكم» يدلُّ على أنَّ النَّهي كان أولاً، ثم بعد ذلك أتى الجواز، فيكون الجواز ناسخًا للنهي. وهذا هي الطريقة الأولى من طرق معرفة الناسخ والمنسوخ.
الطريقة الثانية: قد تكون بنص الصحابي على ذلك.
مثال على ذلك: ما جاء في حديث أُبَيٍّ -وإن كان في هذا الحديث شيء من الضعف، ولكن المقصود منه التمثيل على هذه الصورة-.
قال -رضي الله عنه-: «أنَّ الماءَ منَ الماءِ كانت رُخصةً رخَّصَها رسولُ اللَّهِ ﷺ في بَدءِ الإسلامِ، ثمَّ أمرَ بالاغتسالِ بعدُ»[7]، وفي هذا نصٌّ من الصحابي على ما هو المتقدم وما هو متأخر.
الطريقة الثالثة: أن يُعرف المتقدم من المتأخر بالتاريخ أو بالوقائع.
مثال على ذلك: في الصحيح من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ النبي ﷺ قبل أن يصل ﷺ إلى مكة في حجة الوداع، قال: «إلَّا أحدًا لاَ يجدُ نعلينِ فليَلبسْ خُفَّينِ وليقطعْهُما أسفلَ منَ الْكعبينِ»[8]، هذا حديث صحيح من أحاديث النبي ﷺ، وقد أمر فيه بهذا القطع. ثم بعد ذلك في مكة يُحدث ابن عباس أنَّ النبي ﷺ قال: «من لم يجد نعلين فليلبس خفين»، ولم يذكر القطع.
ذهب الإمام أحمد -رحمه الله- وَتَفَرَّدَ بهذا عن جمهور العلماء إلى أنَّ الأمر بالقطع منسوخ؛ لأنَّ الحديث الأول قبل أن يأتي النبي ﷺ إلى مكة، والحديث الثاني في مكة. فهذه أيضًا من الطرق.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَإِلَّا فَالتَّرْجِيحُ، ثُمَّ التَّوَقُّفُ)}.
إذا لم نستطع أن نجمع بين الحديثين، ولم نستطع أن نعرف المتقدم من المتأخر، ففي هذه الحالة نأتي إلى مرحلة أخرى، وهي مرحلة الترجيح بين الحديثين. كيف نرجح؟ وما هي طرق الترجيح؟
علماء أصول الفقه أطالوا كثيرًا في أوجه الترجيح، والسيوطي -رحمه الله- أوصلها إلى نحو مئة وجه من أوجه الترجيح.
ومن هذه الأوجه: أن يكون أحد الحديثين مثلاً في الصحيحين، والحديث الآخر في السنن.
أحد الحديثين خاص والآخر عام، فقالوا: يُقدم حينئذٍ الخاص.
أحد الحديثين رواه جمٌ غفيرٌ من الصحابة، بينما الحديث الآخر لم يروه مثلا إلا واحدٌ. وهكذا أوجه للترجيح كثيرة جدًا ذكرها العلماء -رحمة الله تعالى عليهم- في مصنفاتهم.
ومن أوجه الترجيح أيضًا: أن يكون صاحب الواقعة التي أطلق النبي ﷺ فيها الحكم موجود، أو هو الذي رواها، وروى القصة شخص آخر ليس له بها علاقة.
مثال على ذلك: حديث الصحيحين عن ابن عباس أنه قال: «تَزَوَّجَ النَّبيُّ ﷺ مَيْمُونَةَ وهو مُحْرِمٌ»[9]، وجاء في صحيح مسلم من حديث ميمونة -رضي الله عنها- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ». فصاحب القصة تقدم روايته على غيره. وهكذا هناك أوجه للترجيح كثيرة.
إذا لم نجد مُرجحًا بين هذين الحديثين، يقول العلماء: حينئذ نتوقف في قضية الجمع بين هذين الحديثين، أو نتوقف في قضية الأخذ بأحد الحديثين دون الآخر.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (ثُمَّ الْمَرْدُودُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِسَقْطٍ أَوْ طَعْنٍ، فَالسَّقْطُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مَبَادِئِ السَّنَدِ مِنْ مُصَنِّفٍ، أَوْ مِنْ آخِرِهِ بَعْدَ التَّابِعِيِّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَالْأَوَّلُ: الْمُعَلَّقُ)}.
أراد ابن حجرٍ هنا أن يتحدث عن الحديث المردود، لِماذا الحديث يُرد؟
يقول ابن حجر: (إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِسَقْطٍ أَوْ طَعْنٍ)، أي: إمَّا أن يكون لسقط في الإسناد أو لطعن في الراوي.
إذًا أراد -رحمه الله- أن يتكلم أولاً عن قضية السقط في الإسناد، أي أن لا يكون إسناده مُتصلاً.
قال: (فَالسَّقْطُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مَبَادِئِ السَّنَدِ مِنْ مُصَنِّفٍ، أَوْ مِنْ آخِرِهِ بَعْدَ التَّابِعِيِّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَالْأَوَّلُ: الْمُعَلَّقُ)، وقوله: (مِنْ مُصَنِّفٍ) مثال على ذلك: الإمام البخاري، فالإمام البخاري يروي الحديث إلى أن يصل إلى النبي ﷺ، و (إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مَبَادِئِ السَّنَدِ مِنْ مُصَنِّفٍ)، أي: من جهة المصنف -البخاري-. فإذا سقط أول الإسناد من جهة المصنف يسمى: (الْمُعَلَّقُ)، ولعل التسمية اللغوية مناسبة للمعنى، فإذا كان هناك حبل من هذه الطاولة إلى السقف، وقطع أوله من جهة هذه الطاولة، يكون مُعلقًا.
وهنا المصنف حتى يصل إلى النبي ﷺ، وهذا يسميه العلماء: (الْمُعَلَّقُ)، وهذا كما هو معلوم، أن يسقط رجل أو اثنان من أول السند من جهة المصنف.
ابن حجر -رحمه الله- أراد أن يتكلم عن هذا السقط سواء كان من جهة المصنف، أو كان من جهة التابعي في أعلى الإسناد، وكذلك إذا كان أثناء الإسناد.
بدأ أولاً -رحمه الله- بالكلام عن (الْمُعَلَّقُ)، وهو فقط قال: (فَالْأَوَّلُ: الْمُعَلَّقُ) ولم يُطِلْ الكلام فيه، ويقال إنَّ أول مَن سَمَّاه (الْمُعَلَّقُ) هو: الدار قطني -رحمه الله-، وقد ذكر هذا ابن الصلاح -رحمه الله- في كتابه: "صيانة صحيح مسلم".
وهناك مُعلقات كثيرة، وممن اشتُهِرَ بالتعليق من أئمة التصنيف الإمام البخاري -رحمه الله-، فالإمام البخاري في صحيحة ألف وثلاثمئة وواحد وأربعين حديثًا مُعلقًا، منها المرفوع للنبي ﷺ، ومنها الموقوف على صحابي، ومنها من هو من كلام التابعين.
والمرفوعات إلى النبي ﷺ من هذه الأحاديث المعلقة مئة وستون حديثًا معلقًا مرفوعًا في صحيح الإمام البخاري.
وأمَّا في صحيح الإمام مسلم -رحمه الله- فهي أربعة عشر حديثًا، وذلك لأنَّ الإمام مسلم -رحمه الله- مُقِلٌ من هذا، وابن الصلاح -رحمه الله- يذكر أنها اثنا عشر، وقد وصل أكثرها الإمام مسلم -رحمه الله-، قالوا: إلا حديث أبي الجهيم في التيمم بالجدار.
والبخاري -رحمه الله- قد يجزم بصحة بعض معلقاته، وقد يروي بعضها بصيغة التمريض.
الحافظ العراقي- رحمه الله- يقول في الألفية:
وَاقْطَعْ بِصِحَّةٍ لِمَا قَدْ أَسْنَدَا ... كَذَا لَهُ، وَقِيْلَ ظَنّاً وَلَدَى
مُحَقِّقِيْهِمْ قَدْ عَزَاهُ النَّوَوِيْ ... وَفي الصَّحِيْحِ بَعْضُ شَيءٍ قَدْ رُوِيْ
مُضَعَّفاً وَلَهُمَا بِلا سَنَدْ ... أَشْيَا فَإنْ يَجْزِمْ فَصَحِّحْ، أو وَرَدْ
مُمَرَّضاً فَلا، وَلكِنْ يُشْعِرُ ... بِصِحَّةِ الأصْلِ لَهُ كَـ يُذْكَرُ
يعني: "يُذْكَرُ" يُشعر أنه ضعيف، ولكن يُشعر أنَّ له أصلاً في صحيح البخاري، وابن حجر -رحمه الله- اعتنى بهذا الجانب -والكلام عن الأحاديث المعلقة في صحيح البخاري-.
طبعًا هنا فائدة مهمة، نحن سنتكلم الآن عن حُكم الأحاديث المعلقة في صحيح البخاري والتي لم يصلها البخاري -رحمه الله- في صحيحه.
نقول: هناك أشياء مُعلقة في صحيح البخاري، والبخاري -رحمه الله- وصلها بنفسه في أماكن أخرى. لماذا علقها؟ علقها من باب الاختصار أحيانا، وهذه لا نتكلم عنها؛ لأنه كما هو واضح أنها صحيحه، وذلك لأنه أسندها في مواضع أخر.
ولكننا نريد الكلام عن الأحاديث المعلقة التي لم يُسندها؛ لأنَّ البخاري قد يقول أحيانًا: يُذكرُ أو يُروى، والحديث قد أسنده في صحيحه، فيأتي به بصيغة التمريض ولكنه يسنده في صحيحه، ومثل هذه الأحاديث لا نتكلم عنها؛ لأنها صحيحة بلا شك، ولكننا نتكلم عن الأحاديث التي علقها البخاري -رحمه الله- ولم يصلها في كتابه الصحيح.
وخلاصة كلام ابن حجر أنه يرى أنها على قسمين:
القسم الأول: ما علَّقه البخاري -رحمه الله- بصيغة الجزم، مثل: "قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: قال النبي ﷺ كذا". أو كقوله: "قال ﷺ كذا"، أو "روى فلان كذا"، وكل هذا كما ترى بصيغة الجزم.
ما حكم هذا عند ابن حجر- رحمه الله-؟
يقول: أمَّا القسم الأول منه فصحيح، وقد مَثَّلَ على هذا بحديث عائشة: «كانَ النبيُّ ﷺ يَذْكُرُ اللَّهَ علَى كُلِّ أحْيَانِهِ»[10]، وهذا علقه البخاري، ولكن وصلة الإمام مسلم -رحمه الله- في صحيحه، فهو صحيح.
ومنها الأحاديث التي علقها البخاري بصيغة الجزم أشياء من قبيل الحسن لذاته. مثل: الأحاديث التي يرويها بسلسلة بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.
قال ابن حجر: وهناك أشياء علقها البخاري بصيغة الجزم وهي من قبيل الحسن لغيره.
وأمَّا التي علقها البخاري بصيغة التمريض، والتي لم يصلها في صحيحه في موضع آخر، فهي على أقسام، كما يقول ابن حجر.
القسم الأول: منها أحاديث حسنة.
القسم الثاني: منها أحاديث ضعيفة، وقد يُبين البخاري -رحمه الله- ضعفها أحيانًا مثل قول البخاري -رحمه الله-: "ويذكر عن أبي هريرة رَفَعَهُ: لا يتطوع الإمام في مكانه"، ثم قال البخاري بعد ذلك: ولا يصح.
ولذلك قال الحافظ العراقي -رحمه الله-:
.............................................. ... ...................................... يُشْعِرُ
بِصِحَّةِ الْأَصْلِ لَهُ كَـ "يُذْكَرُ" ... .................................................
فإذا قال يُذْكَرُ، قيل: إن البخاري علقه بصيغة التمريض، ولكن يُشعر أنَّ له أصلاً.
وهذا التقسيم الذي ذكرته آنفًا هو التقسيم الذي ذكره الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-.
{قال -رحمه الله تعالى-: (وَالثَّانِي: الْمُرْسَلُ)}.
قلنا: إذا كان السقط من أول الإسناد من جهة المصنف فهذا المعلق، وأمَّا إذا كان السقط من أول الإسناد، أي: ليس من جهة المصنف -بل من جهة المصنف نقول: آواخر الإسناد- يكون هذا المرسل، وقال البيقوني -رحمه الله-:
ومرسلٌ منه الصحابيُّ سقطْ ... ........................
وقد اعترض العلماء -رحمة الله عليهم- على البيقوني، قالوا: إذا سقط الصحابي فهو صحيح؛ لأنَّ الساقط -وهو الصحابي- ثقة بالإجماع، والأولى في المرسل أن يقال: هو الذي يقول فيه التابعي: قال النبي ﷺ.
ما الفرق بين العبارتين؟
الفرق أنَّ التابعي إذا قال: "قال النبي ﷺ" فإننا لا ندري ولا نعلم من الساقط، هل هو صحابي أم تابعي آخر؟!، ولذلك هذا هو الذي يسميه العلماء (الْمُرْسَلُ) فهو ما يكون السقط فيه من آخر الإسناد.
وقد ألف أبو داود -رحمه الله- في الحديث المرسل كتابه المشهور المسمى: "المراسيل".
وهنا فائدة، فالحافظ العراقي -رحمه الله- يقول الألفية: "قال"، وإذا قال الحافظ في الألفية لفظة "قال"، فإنما يقصد قول ابن الصلاح؛ لأنَّ الألفية مبنية على كلام ابن الصلاح -رحمه الله-.
قَالَ وَمِنْ مَظِنَّةٍ لِلْحَسَنِ[11] ... جَمْعُ أَبِي دَاوُدَ أَيْ فِي السُّنَنِ
فَإِنَّهُ قَالَ ذَكَرْتُ فِيهِ .... مَا صَحَّ أَوْ قَارَبَ أَوْ يَحْكِيهِ
وَمَا بِهِ وَهْنٌ شَدِيدٌ قُلْتُهُ ... وَحَيْثُ لَا، فَصَالِحٌ خَرَّجْتُهُ
يعني: أبو داود -رحمه الله- بين منهجه في كتابه هذا، أن الحديث إذا كان به وهن شديد بينه، وأما إذا سكت عنه فهو صالح للاحتجاج.
قد يأتي بعض الناس ويقول: الآجري سأل أبا داود -رحمه الله- عن بعض الأحاديث فضعفها أبو داود وهو قد أخرجها في كتابه السنن، وسكت عنها. وهذه قضية مهمة، أنه يُعرف كلام الإمام المصنف في الحديث الذي أخرجه في كتابه.
الآن كثير من الناس ينظر في حديث في سنن أبي داود مثلا أو في جامع الترمذي، ويسأل بعض العلماء المعاصرين، ما صحة هذا الحديث وكذا؟
نقول: الأولى من هذا أن تنظر في حكم الإمام الذي صنف، فإذا جاء الحديث في صحيح البخاري فالأصل فيه ماذا؟ الصحة.
وإذا جاء الحديث في صحيح مسلم فالأصل فيه ماذا؟ الصحة.
وإذا جاء الحديث في سنن النسائي فالأصل فيه أيضًا الصحة، وإذا جاء في جامع الترمذي، فالترمذي -رحمه الله- قد حكم على الأحاديث التي في جامعه.
وإذا جاء الحديث في سنن أبي داود، تنظر هل سكت عنه أم لا؟ فإذا سكت عنه فإنَّ أبا داود يرى أنه "صالح للاحتجاج"، وجملة: "صالح للاحتجاج" ليس معناها أنَّ الحديث صحيح، وإنما صالح للاحتجاج ويأتي الكلام عنه.
مثال: جاء الحديث في صحيح ابن حبان، وابن حبان يحكم عليه بالصحة، وهكذا لا بد أن تعرف مُصطلح العالم، ولذلك من الخطأ الكبير أن يأتي بعض الناس إلى حديث أتى به الإمام الترمذي في جامعه ثم ضعفه، فيأتي ويقول: وروى الترمذي في جامعه أن النبي ﷺ قال: كذا وكذا؛ لأنَّ الإمام الترمذي أتى بهذا الحديث ليبين للناس أنه ضعيف، بينما ذكرت أنت الحديث للناس وقلت لهم: الحديث أخرجه الإمام الترمذي في جامعه، وكأنك تقوي الحديث بهذا، وللأسف فقد خالفت قصد الإمام الترمذي -رحمه الله- بإتيانه ووضعه لهذا الحديث في كتابه الجامع.
فالترمذي إنما أراد أن يبين ضعفه للناس، وأنت أتيت بنقيض قصده -رحمه الله-، فهنا إشكال.
إذًا الإمام الآجري -رحمه الله- سأل أبا داود عن أحاديث فضعفها، وهو قد سكت عنها في السنن، فما الجواب؟
الجواب: أنَّ أبا داود قال: الذي به وهن شديد أبينه في كتاب السنن، وهذا يعني أنَّ الحديث الذي فيه وَهْنٌ خفيف يسكت عنه، وبالتالي ربما يكون هذا الحديث الذي ضعفه وذكره للآجري من الأحاديث التي فيها ضعف يسير.
وأبو داود -رحمه الله- قد أخرج هذا الكتاب الكبير، ولربما يكون فيه بعض الأشياء التي قد تفوت عليه، فهو -رحمه الله- بشر، وقد يتغير اجتهاده في مسألة من المسائل.
ولكن المهم هنا أن نعرف الفرق بين الحديث صالح الاحتجاج، والحديث الصحيح.
قولنا عن حديث: إنه صحيح فهذا تصحيح للحديث، ولكن قد تجد عالِمًا من العلماء يقول: احتج به أحمد، ويأتي بعضهم ويقول: صححه أحمد. نقول: لا، هذا خطأ؛ لأنَّ الإمام أحمد -رحمه الله- قد يحتج بالحديث، ويرى أن هذا الحديث فيه ضعف يسير، ولكنه يرى أنَّ هذا الضعف اليسير لا يمنع من أن يحتج بالحديث، فالحديث يحتج به، ويحتج به الإمام أحمد أحيانا مع ما به من ضعف يسير، ولا يقال حينها عن الحديث: إنه صحيح.
إذًا قضية المصطلحات من أهم القضايا التي نذكرها، ولذلك الإمام الترمذي -رحمه الله- يُكثر من قوله عن بعض الأحاديث: "حسن"، أي: يقتصر على لفظ "حسن"، وهو -رحمه الله- قد بين معنى الحسن، وقال عنه: هو الذي لا يكون شاذًا، وليس فيه متهم، ويروى من غير وجه، والناظر في صنيع الإمام الترمذي -رحمه الله- في إطلاقه لكلمة "حسن" يرى أنها تُشبه عبارة "حسن لغيره" عند المعاصرين الآن، وتشبه أيضًا الحديث الضعيف الذي يحتج به الإمام أحمد -رحمه الله-، فالإمام أحمد يحتج بالضعيف ضعفًا يسيرًا إذا لم يجد في الباب غيره، وهذا يشبه الحديث الحسن لغيره وهو الحديث الذي يقول عنه الترمذي -رحمه الله-: "حسن" ويقتصر على كلمة: "حسن" في جامعه، وقد تجد فيه شيئًا من الضعف اليسير.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه تعالى-: (وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ بِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مَعَ التَّوَالِي؛ فَهُوَ الْمُعْضَلُ)}.
إذًا المرسل الآن سقط في الإسناد، وما دام هناك سقط في الإسناد، فالأصل فيه أنه لا يصح؛ لأنَّ الإسناد ليس متصلا، وذلك حتى نجد له طريقا صحيحًا آخر يعضده وما إلى ذلك.
ولكن الإسناد بذاته -الذي فيه إرسال- لا يقبل ولا يحتج به، وهذا هو الأصل.
(وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ) يعني: إن كان السقط في الإسناد (بِاثْنَيْنِ) يعني: رجلين، (فَصَاعِدًا مَعَ التَّوَالِي) يعني أنَّ المصنف أخرج حديثًا، وروى عن شيخه، وشيخه عن شيخه وهكذا، ثم بعد ذلك سقط اثنان من هذه السلسة، ثم أكمل الإسناد؛ فهذا هو (الْمُعْضَلُ).
ولكن لو أنَّ المصنف قال: حدثني فلان، أي: الشيخ، ثم سقط رجل، ثم أكمل الإسناد، ثم سقط رجل آخر -ليس على التوالي-؛ فهذا لا يسمونه معضلاً؛ لأنَّ المعضل الذي يقصده ابن حجر يكون السقط باثنين -برجلين- على التوالي.
قال: (إِنْ كَانَ بِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مَعَ التَّوَالِي؛ فَهُوَ الْمُعْضَلُ)، الإمام مالك -رحمه الله- يقول: بلغني عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النبي ﷺ قال: «لِلْمَمْلُوكِ طَعامُهُ وكِسْوَتُهُ، ولا يُكَلَّفُ مِنَ العَمَلِ إلَّا ما يُطِيقُ»[12]، سقط من هذا الحديث محمد بن عجلان شيخ الإمام مالك -رحمه الله-، ووالده تلميذ أبي هريرة -رضي الله عنه-.
كم عدد السقط من الإسناد؟ اثنان، وأيضًا فالسقط على التوالي، ولذا صار هذا الحديث معضلاً.
وأنبه وأكرر على القضية المهمة -قضية مصطلحات- فالأئمة النقاد القدامى قد يأتون إلى حديث من الأحاديث فيقولون عنه: معضلاً، وهم يريدون به شديد الضعف، ولا يريدون به المقصود بالمعضل والذي استقر عليه الاصطلاح، والذي يقصده ابن حجر -رحمه الله تعالى- هنا؛ فلينتبه لهذه القضية المهمة، ولذا لا ينبغي أن تحاكم عالِمًا إلى ما استقر عليه الاصطلاح بعده.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله تعالى-: (وَإِلَّا؛ فَالْمُنْقَطِعُ)}.
المنقطع أن يسقط من "أثناء" الإسناد، أي: ليس من أوله، ولا من آخره، وإنما من "أثناء" الإسناد راوٍ واحدٍ، أو يسقط من أثنائه راويان ولكن ليسا على التوالي؛ لأنه لو كان على التوالي لصار مُعضلاً.
فإذا سقط راويان ولكن ليسا على التوالي، فالحديث منقطع.
وأمَّا إذا سقط راوٍ واحدٍ من أثناء الإسناد فهو منقطع أيضًا.
وإذا سقط راوٍ واحدٍ من أول إسناد صار الحديث معلقًا.
وأمَّا إذا قال التابعي: "قال ﷺ" فالحديث مرسل، وهذا الذي يقصده ابن حجر- رحمه الله تعالى-.
إذًا (الْمُنْقَطِعُ) هو ما سقط من أثناء سنده راوٍ أو راويين ليسا على التوالي، بل حتى لو سقط ثلاثة رواة ولكنهم ليسوا على التوالي؛ فهذا الذي استقر عليه الاصطلاح، والذي يعنيه ابن حجر ها هنا، يسمى: (الْمُنْقَطِعُ).
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله تعالى-: (ثُمَّ قَدْ يَكُونُ وَاضِحًا أَوْ خَفِيًّا، فَالْأَوَّلُ: يُدْرَكُ بِعَدَمِ التَّلَاقِي، وَمِنْ ثَمَّ احْتِيجَ إِلَى التَّارِيخِ)}.
هذه مسألة مهمة، قد يكون هذا السقط في الإسناد واضحًا، أي: لا يحتاج إلى كثير بحث، وقد يكون خفيًا، والخفي يحتاج إلى كلام طويل.
قال: (فَالْأَوَّلُ) يعني: الواضح، (يُدْرَكُ بِعَدَمِ التَّلَاقِي، وَمِنْ ثَمَّ احْتِيجَ إِلَى التَّارِيخِ)، أي يقول: فلان عن فلان، وبينهما مئة سنة، أو أنَّ هذا ولد بعدما مات ذاك بعشر سنين مثلا، أو ما شابه ذلك.
إسماعيل بن عياش -رحمه الله-، يقول: قلت لعمر بن موسى: أي سنة سمعت من خالد بن معدان؟ قال: سنة ثمانية ومئة. قلت: إذًا أنت سمعت منه بعد أن مات بأربع سنين. هذا انقطاع واضح؛ لأنه يُدرك بعدم التلاقي.
قال: (وَمِنْ ثَمَّ احْتِيجَ إِلَى التَّارِيخِ)، ولذلك قال ابن حجر -رحمه الله-: "وقد افتضح أقوام، ادعوا الرواية عن شيوخٍ، وظهر بالتاريخ كذب دعواهم"، ولذلك كان الأئمة -رحمهم الله تعالى- يقولون: "بيننا وبين الكذابين التاريخ". متى ولدت، ومتى كذا؟ فهذا يُبَيَّنُ.
ومن غرائب الأشياء ما ذكره الذهبي -رحمه الله- في ترجمة: "رتن الهندي"، قال: "رتن الهندي وما أدراك ما رتن، خرج في القرن السادس، وادعى صحبة النبي ﷺ"، أي: ادعى أنه سمع من النبي ﷺ، أعوذ بالله، ولذا كانت الحاجة للتاريخ في مثل هذه القضايا مهمة، حتى يعرف هذا الانقطاع الواضح.
وأما الانقطاع الخفي، فيحتاج إلى كلام كثير، ويحتاج إلى تبين.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله تعالى-: (والثَّانِي: المُدَلَّسُ، ويَرِدُ بِصيغَةٍ تَحْتَمِلُ اللُّقِيَّ كـ "عَن" و "قَاَلَ")}.
الانقطاع في الإسناد قد يكون انقطاعًا خفيًا، لا يدركه أي أحد إلا بجمع الطرق، والنظر في الأسانيد، ومقارنة المرويات، وما إلى ذلك. فعند النظر يُعرف أنَّ هناك انقطاعًا.
كيف يكون هذا؟ يكون هذا بالتدليس، والتدليس أنواع كثيرة.
قال: (ويَرِدُ بِصيغَةٍ تَحْتَمِلُ اللُّقِيَّ كـ "عَن" و "قَاَلَ") راوٍ لم يسمع من راوٍ آخر، يقول: عن فلان، واللقاء ممكن بينهما، فكيف تكتشف هذا الأمر؟
هذا الأمر صعب اكتشافه، ولكن العلماء -رحمة الله تعالى عليهم- في نصوصهم من الفوائد والكنوز الشيء الكثير، وقد بينوا لنا أمثال هذه الأشياء. نصوص الأئمة المتقدمين الذين عاصروا زمن الرواية، وقارنوها، وتكلموا عن الأحاديث وكذا، فيكتشفون -سبحان الله- أشياءً أحيانًا، فتحمد الله -عز وجل- على أن خلق هؤلاء الجبال، الذين ذبوا عن سنة النبي ﷺ.
التدليس: فلان يقول عن فلان، وهم في ذات البلد، ويدلس عنه شيئًا لم يسمعه منه. كيف تكتشف هذا؟
هذا هو الانقطاع الخفي، وسيأتي -إن شاء الله- بيان كيفية معرفة ذلك.
طبعا هذا التدليس أن يقول الراوي: عن فلان، وهو لم يسمع منه. ما الحكم في هذا شرعًا؟
العلماء -رحمة الله تعالى عليهم- يقولون: التدليس يدور على ثلاثة أحكام:
الحكم الأول: هناك تدليس مباح، يحذف مَنْ حَدَّثَهُ، ويكون هذا المحدث ثقة، ولا يكون قاصدًا بهذا التزين أو التجمل بأن فلانًا حدثه، وإنما يقوله من باب الاختصار، مثل صنيع كثير من صغار الصحابة، كابن عباس -رضي الله عنه-، حيث كثير من الأحاديث التي يرويها عن النبي ﷺ، إنما سمعها من صحابة آخرين أكبر منه؛ فهذا من التدليس المباح، ولا حرج فيه شرعًا، لأنه ليس بقصد التزين، وليس لأجل تعمية الإسناد، وبالتالي فمثل هذا ليس فيه حرج.
النوع الثاني: هناك تدليس مكروه، يحذف مَنْ حَدَّثَه، مثال: أنا سمعت من شيخ يقال له: محمد، وشيخ شيخي اسمه عبد الله، وأنا سمعت من محمد، وسمعت من عبد الله أيضًا، فأتي في حديث من الأحاديث التي سمعتها من محمد عن عبد الله، فأقول: عن عبد الله، وأترك شيخي محمد. من باب ماذا؟
من باب التجمل والتزين، وأن يُقال عندي إسناد عالٍ، وما إلى ذلك. وشيخي "محمد" هذا ثقة وليس بضعيف، يعني: لا يؤثر هذا التدليس في صحة الحديث من ضعفه.
فمثل هذا يقول العلماء -رحمة الله تعالى عليهم- عنه: مكروها، ولكن من العلماء من شَدَّد فيه أيضًا وكان يكرهه. وشعبة -رحمه الله- يقول: "لِأَن أزني أحب إلي من أن أدلس".
القسم الثالث: تدليس محرم، وهو أن يتعمد أن يُسقط الضعيف حتى يعمي الخبر على الناس، فهو يُسقط الضعيف متعمدًا، فإذا كان شيخه ضعيفا فإنه يسقطه ويروي عن شيخ شيخه، وهو لم يسمعه إلا من شيخه، وشيخه ضعيف، وذلك حتى يعمي الإسناد.
نقول: هذا من الغش، أعوذ بالله، وهذا لا شك أنه محرم.
والتدليس له أنواع وأشكال كثيرة جدًا، من أهمها:
تدليس الإسناد: يحذف شيخه ويعلوا إلى شيخ شيخه -الذي ذكرناه قبل قليل-، وهذا من أكثر أنواع التدليس.
من التدليس أيضًا: تدليس الشيوخ، له شيخ من أهل مكة مثلاً، فتراه يقول: حدثني فلان، مرة يسميه باسمه، ومرة يقول: حدثنا أبو فلان، ومرة ثالثة يقول: حدثنا فلان، ويأتي له بلقب المكي؛ ليوهم الناس أنَّ له شيوخًا كُثر، وهو ذات الشيخ. وهذا يسميه العلماء: تدليس الشيوخ.
وهناك تدليس يسمى: تدليس التسوية، وهذا شر أنواع التدليس، وهو أن يُسقط المدلس ضعيفًا بين ثقتين التقيا، يحدث عن شيخ له ثقة، وشيخه الثقة يحدث عن ضعيف، وشيخ الضعيف ثقة، لكن شيخه هذا الثقة التقى مع شيخ شيخه الثقة الآخر، فيسقط هذا الضعيف بينهما، ويقول العلماء: هذا شر أنواع التدليس.
مثال عليه: اسحاق بن راهويه الإمام الجليل، يَروي عن بقية بن الوليد، عن أبي وهب الأسدي، عن نافع، عن ابن عمر، حديث «لا يَعْجِبَنَّكمْ إسلامُ امرئٍ حتى تعلموا ما عقدةُ عقلِهِ». لاحظ أبو وهب الأسدي عن نافع، كلهم ثقات.
قال أبو حاتم: "صوابه: أبو وهب الأسدي عن إسحاق بن أبي فروة الضعيف، عن نافع. من الذي فعل هذا؟ بقية بن الوليد، وهذا شر أنواع التدليس.
ومن أنواع التدليس أيضا: تدليس العطف، وهو أن يروي عن شخص، ويعطف عليه من لم يسمع منه.
يقول: حدثنا فلان -محمد مثلا- ويسكت، ثم يقول: وعبد الله قال: حدثنا فلان، وهو لم يسمع من عبد الله، فالسامع له يظن أنه سمع من محمد وعبد الله أيضًا. لاحظ كيف عطف هذا على هذا.
وهذا في الحقيقة لم ينقل أن أحدًا كان يفعله غير هُشيم. وكانت له قصة في هذا، حينما قال أصحابه: سنوقف على كل إسناد، ونعرف هل دلسه أم لا؟
فابتكر هذه الطريقة، ثم لَمَّا انتهى قال: هل دلست لكم اليوم؟ قالوا: لا.
قال: كل ما حدثتكم به فهو مدلس. وقد ذكر هذه القصة الحاكم -رحمه الله- في معرفة علوم الحديث ولم يسندها، فهي من حيث الإسناد لا تصح، ولكن الإمام أحمد -رحمه الله- أثبت تدليسه للعطف في كتاب العلل برواية ابنه عبد الله له.
وهناك أنواع أخرى من التدليس كثيرة، ويطول المقام بها.
والشاهد من هذا أن التدليس هو أن يقول الراوي: "عن" وهو لم يسمع من هذا الشخص، أي: ثبت بعد البحث والنظر، أنه لم يسمع منه.
ولعلَّ في هذا القدر كفاية، والله تعالى أعلى وأعلم، وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، وجزاكم الله خير الجزاء، وبهذا تكون حلقتنا لهذا اليوم قد انتهت. نلقاكم -بإذن الله تعالى- في درس قادم، وإلى ذلكم الحين أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
------------------------------
[1] رواه البخاري ومسلم.
[2] رواه البخاري (5707).
[3] رواه البخاري (5771)، ومسلم (2221).
[4] رواه البخاري (5776) ومسلم (2224)
[5] رواه البخاري (5717)
[6] أخرجه أحمد (13487)، وأبو يعلى (3707).
[7] أخرجه أبو داود (215)، وأحمد (21138).
[8] أخرجه البخاري (1542)، ومسلم (1177).
[9] أخرجه البخاري (5114)، ومسلم (1410).
[10] أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (634)، وأخرجه موصولاً مسلم.
[11] أي للأحاديث الحسنة
[12] رواه مسلم (1662).
سلاسل أخرى للشيخ
-
12551 9