الدرس الخامس
فضيلة الشيخ د. مضحي بن عبيد الشمري
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله معاشر طُلاب العلم في المستوى الثاني من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نشرح فيه كتاب (نُخبة الفكر)، للإمام أحمد بن حجرٍ العسقلاني -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ مضحي بن عبيد الشمري، باسمكم جميعًا نُرحب بفضيلة الشيخ، حياكم الله شيخ}.
الله يحييك ويبارك فيك، ويكتب أجرك وينفعنا وإياكم بما نقول وما نسمع.
{نستأذنكم شيخنا في إكمال القراءة}.
استعن بالله.
{قال -رحمه الله تعالى-: (وَكَذَا: المُرْسَلُ الخَفِيُّ مِنْ مُعَاِصرٍ لَمْ يَلْقَ)}.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد؛ فهذا في معرض كلام ابن حجر -رحمه الله تعالى- عن الانقطاع، فقد ذَكر أنَّ الانقطاع في الإسناد إمَّا أن يكون واضحًا، وإمَّا أن يكون خفيًا.
فقال -رحمه الله-: (فالأَوَّل) يعني: الواضح (يُدْرَكُ بِعَدَمِ التَّلاَقِي، وَمِنْ ثَمَّ احْتِيجَ إِلى التَّأرِيخِ)، هذا واضح وسبق شرحه.
قال: (والثَّانِي: المُدَلَّسُ، وَيَرِدُ بِصِيغَةٍ تَحْتَمِلُ اللُّقِيَّ؛ كَعَنْ، وَقَالَ، وَكَذَا: المُرْسَلُ الخَفِيُّ)، يريد أن يُشير ابن حجر -رحمه الله- إلى قضية الانقطاع الخفي في الإسناد وليس الانقطاع الظاهر، فذكر أنَّ الانقطاع الخفي يأتي على وجهين:
- الوجه الأول: المدلس.
- والوجه الثاني، وقد سبق شرحه: المرسل الخفي.
ذكرنا في الدرس الماضي أنواع التدليس، وبينا أنَّه أنواع كثيرة، وقد ذكرنا أشهر هذه الأنواع، وبينا أنَّ التدليس من الانقطاع الخفي.
والحديث الذي يكون فيه راو مُدلس مختلف في قبوله عند العلماء، فمنهم من قال: لا يُقبل إذا ثبت أنه دلس ولو لمرة واحدة، وأمَّا ما عليه الأئمة النُقاد هو أن حديث المدلس مقبول بشرطين:
- الشرط الأول: ألا يكون مُكثرًا من التدليس.
- الشرط الثاني: ألا يثبت أنه دلس عن ضعفاء، أو كذابين، أو ما شابه ذلك.
فإذا ثبت أنه لا يُكثر من التدليس، ولم يُدلس عن ضعفاء وكذابين وما إلى ذلك، فالأصل أنَّ حديثه هذا من باب المقبول.
وقد يأتي بعض الطلاب ويسأل: كيف نعرف أنَّ هذا الحديث قد دلسه الراوي؟
طبعًا معروف أن التدليس يَروي الراوي بصيغةٍ تشتبه على السامع، فيظهر منها أنها سماع وهي ليست بسماع، كقوله: "عن فلان"، وهو قد ثبت أنه قد لقي فلانًا، لكن نحن نشك في هذا الحديث بعينه، هل سمعه منه أم لم يسمعه منه، أم بينهما واسطة؟
وأمَّا في أحاديث أخرى فثبت عندنا أنه قد سمع منه، فالمسألة دقيقة، كيف نكتشف أو نعرف هذا؟
هيأ الله -عز وجل- لأمة الإسلام أئمة الحديث الحُفاظ، الذين عاشوا في عصر الرواية، ونقدوا المرويات، وأعطاهم الله -عز وجل- ما أعطاهم من قوة الحفظ؛ حتى مَحصوا الروايات وقارنوها ورحلوا لأجلها المسافات الطويلة.
شُعبة بن الحجاج -رحمه الله- يبحث عن حديث واحد، ذهب إلى مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ قال: ممن سمعت هذا الحديث؟ قال: سمعته من عبد الله بن عطاء بمكة، فيسافر شعبة -رحمه الله- إلى مكة في مسيرة طويلة وبعيدة؛ لأجل أن يتثبت من حديث واحدٍ.
ثم لقي عبد الله بن عطاء فسأله: من أين سمعت هذا الحديث؟ قال: من سعد بن إبراهيم، وهو من أهل المدينة، فلقي الإمام مالك وسأله عن سعد بن إبراهيم، فقال: إنه بالمدينة لم يحج هذا العام، لينطلق شعبة -رحمه الله-.
لاحظ هذا السفر الطويل من العراق إلى مكة ثم يذهب إلى المدينة لأجل ماذا؟ لأجل حديثٍ واحدٍ فقط، فلأجل حديث واحد فقط يتحمل التعب والمشقة، وسير المسافات الطويلة؛ لأجل أن يحفظ لأمة الإسلام حديثًا واحدًا فقط.
يأتي إلى المدينة ويَلقى سعد بن إبراهيم، فيسأله عن هذا الحديث، فيقول: حدثني به زياد بن مخراق، وزياد بن مخراق بالبصرة، شُعبة -رحمه الله- تعجب من هذا الحديث! وقال: بينما هو كوفيٌ، أي الحديث، إذْ صار مكيًا، إذْ صار مدنيًا، إذْ صار بصريًا، فعاد -رحمه الله- إلى البصرة حتى يلقى زياد بن مخراق، فزياد بن مخراق يقول: إن هذا حديث ليس من بابتك، لماذا يُصر عليه شعبة؟
قال: لا تريده، قال: فأخبرني عنه من حدّثك به؟ قال: حدثني به شهر بن حوشب، عن أبي ريحانة، عن عقبة بن عامر. قال شُعبة -رحمه الله-: فدمر عليّ هذا الحديث، لَمَّا سمع شهر بن حوشب، قال: لقد دمر عليّ هذا الحديث.
فهذه النصوص التي قد امتلأت بها كُتب العِلل والروايات، حفظت لأمة الإسلام أمثال هذه الدقائق التي لو تعب عليها الإنسان السنوات الطويلة ربما لا يجد مثل هذه الفائدة التي أتى بها حافظ من الحُفاظ، أعانه الله -عز وجل- على حفظ مئات الآلاف من الطرق والروايات.
قال ابن حجر -رحمه الله-: (وَكَذَا: المُرْسَلُ الخَفِيُّ مِنْ مُعَاِصرٍ لَمْ يَلْقَ)، يعني ابن حجر -رحمه الله- جعل الانقطاع الخفي: إمَّا أن يكون مُدلسًا، وإمَّا أن يكون مُرسلًا خفيًا.
ما الفرق بين المدلس والمرسل الخفي؟
يقول ابن حجر في التدليس -هذا رأي ابن حجر-: "التدليس أن يروي الراوي الحديث عن شخصٍ لَقيه، لكنه لم يسمع منه هذا الحديث بعينهِ"، هو لَقيه، ولكن هذا الحديث لم يسمعه منه مباشرة، بل ربما سمعه من أحد تلاميذه، أو أحد أصحابه، أو كان بينه وبينه واسطة، وإلا فهناك أحاديث أخرى هو سمعها منه، فهو قد لَقيه.
وأما المرسل الخفي، فيرى ابن حجر -رحمه الله- أنه إذا روى عن معاصرٍ لم يَلقه، هم كانوا في عصر واحد، لكن لم يلتق به، فيُسمي هذا الثاني مُرسل خفي، وهو شبيه بالتدليس. فيجتمع هو والتدليس في أن هذا الحديث بعينهِ لم يسمعهُ من هذا الراوي، ويفترقان في أن التدليس يُدلس عمن لَقيه، والمرسل الخفي يُرسل عمن لم يَلقه، وإلا ففي كلتا الحالتين هم تعاصروا، يعني: الراوي والشيخ تعاصروا في زمن رواية هذا الحديث، أو هذا الزمن الذي عاشوا به، فيُحتمل أنه قد لقيه، ولكن المرسل الخفي لم يلقه، والمدَلَّس نعم لَقيه.
هل بينهما فرق فعلًا؟
ابن حجر -رحمه الله- كما ذكرنا الآن يرى أن بينهما فرقًا، وهو الفرق الذي ذكرته آنفًا، ويستدل ابن حجر على ذلك برواية المخضرمين، أبي عثمان النهدي، وقيس بن أبي حازم، وقيس بن أبي حازم بالمناسبة ممن قيل فيه: إنه سمع من العشرة المبشرين.
ابن حجر -رحمه الله- يقول: رواية أبي عثمان النهدي، ورواية قيس بن أبي حازم، عن النبي ﷺ إنما هي إرسال، ولا يأتي أحد من العلماء ويقول: إنها تدليس، فهم عاصروا النبي ﷺ، ولكنهم لم يَلقوه.
يقول: كل العلماء يعتبرونها إرسالاً وليست تدليسًا، ولكن يُجاب عن هذا أنَّ مصطلح المرسل الخفي أصلًا أتى بعد هذا الزمن -زمن النقد-، فلا يصح الاستدلال بهذا.
طبعًا مذهب ابن حجر بالتفريق هو الذي يقتضيه كلام الخطيب البغدادي -رحمه الله-.
القول الآخر: إنه لا يوجد فرق بين التدليس والمرسل الخفي، وكلاهما يسمى تدليسًا، وقد اختار هذا القول: الحافظ ابن حجر، والحافظ زين الدين العراقي، وهو قول الأئمة النُقاد، مثل: الإمام أحمد، وعلي بن المديني، وابن مَعين، والبخاري وغيرهم -رحمة الله عليهم-، فيذهبون إلى أنه لا يوجد بينهما فرق.
وممن نصَّ على هذا صراحةً الإمام البخاري -رحمه الله- فقال مرةً: "لا أعرف لسعيد ابن أبي عروبة سماعًا من الأعمش يُدلس عنه"، أي أنه لم يثبت عنه أنه سمع منه ولو مرةً.
ثم قال البخاري: "يُدلس عنه".
إذًا سمى -رحمه الله- المرسل الخفي هنا تدليسًا، وهذا هو الفرق بينهما.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (ثُمَّ الطَّعْنُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِكَذِبِ الرَّاوِي، أَوْ تُهْمَتِهِ بِذَلِكَ)}.
الآن ابن حجر -رحمه الله- تكلم عن الخلل الذي يكون في اتصال الإسناد من عدم ذلك، يعني: الانقطاع وغيره، ثم أتى الآن للطعن الذي يكون على ذات الراوي، قد يكون الإسناد متصلا، ولكن بعض الرواة قد طُعن فيه، هذه الطعون التي تُوجه إلى الرواة على أنواع وأقسام كثيرة، ويريد الحافظ ابن حجر -رحمه الله- الآن أن يتكلم عنها.
قال: (ثُمَّ الطَّعْنُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِكَذِبِ الرَّاوِي)، هذا رقم واحد، أن يثبت أن الراوي كذاب.
قال: (أَوْ تُهْمَتِهِ بِذَلِكَ)، أي: يُقال عن الراوي أنه متهم بالكذب، فالكذب لم يثبت عليه ولكنه قد أتهم.
وابن حجر -رحمه الله- في شرحه لهذا الكتاب في (نزهة النظر) يضع ضابطًا للتُهمة بالكذب، فيقول -رحمه الله-: (بأنْ لا يُرْوَى)، كيف نعرف أنه متهم؟
قال: (بأنْ لا يُرْوَى الحَدِيثُ إلاَّ من جِهَتِه)، يتفرد هذا الراوي بهذا الحديث، لا يُروى إلا من جهته، (ويكونُ)، يعني: هذا الحديث (مُخالِفًا للقَواعِدِ المَعلومَةِ)، قواعد الدين، (وكذا مَن عُرِفَ بِالْكَذِبِ في كَلاَمِه)، قد يثبت أن هذا الراوي يكذب، ثبت عندنا أنه كذب في كلامهِ مرة أو مرتين، ولكن لم يثبت عندنا أنه كذب في الحديث، فلا نقول عنه: كذاب، وإنما نقول: متهم بالكذب، وهذا كما يرى ابن حجر -رحمه الله تعالى-.
إذًا السبب الأول أو الطعن الأول الذي يوجه للراوي: أن يكون كذابًا.
الثاني: (أَوْ تُهْمَتِهِ بِذَلِكَ).
{قال -رحمه الله تعالى-: (أَوْ فُحْشِ غَلَطِهِ)}.
نعم (فُحْشِ غَلَطِهِ) هذا هو الثالث. كيف نعرف أن الراوي فاحش الغلط، أي: كثير الغلط؟
يقول العلماء: "يُعرف ذلك إمَّا بمقارنة مروياته مع روايات الأئمة الحُفاظ، فيثبت عندنا أنه أخطأ في أحاديث كثيرة، فصار هذا فاحش الغلط، وأحيانًا قد يكون الراوي لم يخطئ في أحاديث كثيرة جدًا، ولكن أنواع هذه الأغلاط التي غلطها، قد تؤدي إلى أن نقول عنه: فاحش الغلط؛ لأجل أنه قد غَلِط غلطًا فاحشًا، أو خطأً ظاهرًا بينًا كبيرًا ولا نستطيع مع هذا الخطأ الكبير في حديث بعينه أن نقول: إنه ليس بفاحش الغلط.
ففُحش الغلط:
Ø إمَّا لكثرة أخطائه.
Ø وإمَّا لنوع الأخطاء.
من الأمثلة على نوع الغلط وليس كثرته؛ لأنه بالمثال يتضح المقال:
الدارقطني -رحمه الله- يقول عن حديث الربيع بن يحيى الأُشناني في الجمع بين الصلاتين، لَمَّا روى الحديث: "أن النبي ﷺ جمع بين الصلاتين"، قال: "من غير خوفٍ ولا علة"، والحديث لا يُعرف بهذا اللفظ "من غير خوفٍ ولا علة"، وإنما" «مِنْ غيرِ خَوْفٍ، وَلَا سَفَرٍ»
وهذه الرواية "من غير خوفٍ ولا علة" يعتبرها الدَّارَقُطْنِيّ -رحمه الله- خطأ فاحشًا، فيقول الدَّارَقُطْنِيّ -رحمه الله-: "هذا حديثٌ يُسقط مائة ألف حديث"؛ لأنه يرى أنَّ هذا الخطأ فاحشًا، وإن كان خطأً واحدًا، فهذا هو النوع الثالث من أنواع الطعون التي توجه إلى الراوي.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (أَوْ غَفْلَتِهِ)}.
إذًا الرابع ما هو؟
أن يكون الراوي صاحب غفلة، الغفلة أخف، لاحظ أنَّ ابن حجر بدأ بأشدها وهي الكذب، ثم تدرج إلى الأخف، فالآن وصل بعد فُحش الغلط إلى الغفلة، فالراوي قد تُصيبه الغفلة أحيانًا، ويخطئ في الأحاديث.
{قال: (أَوْ فِسْقِهِ)}.
(أَوْ فِسْقِهِ)، أن يكون الراوي فاسقًا، أي: يفعل الكبائر، أو يُجاهر مثلًا بالصغائر، أو يترك مثلًا الواجبات الظاهرة، هذا يقولون عنه: يُترك حديثه لأجل أنه فاسق.
لكن عندنا مسألة مهمة: هل يُرد حديث الفاسق عند الأئمة المتقدمين؟
ابن حجر -رحمه الله- بيّن أن الفسق نوع من الطعون لا يتوجه إلى الراوي، أما صنيع الأئمة المتقدمين فإنهم يرون أنَّ الحديث لا يُرد لأجل فسق الراوي مُطلقًا، إلا إن كان فسقه هذا من باب الكذب في الحديث.
وأمَّا إذا ثبت عندنا أنه لا يكذب في حديثهِ، بل ثبت عندنا أنه صادقٌ في حديثهِ وهو عنده شيء من الفسق، فلا يَردون حديثه بهذا، وإنما يشترطون فقط قضية الصدق، ولا يَردون الحديث بمجرد فِسق الراوي إذا كان فسقهُ هذا في غير الكذب أو الاتهام بالكذب.
نعم؛ إذًا هذا السبب الذي يليه، فبدأ -رحمه الله- بالكذب، ثم التهمة بالكذب، ثم فُحش الغلط، ثم الغفلة، ثم الفسق بعد ذلك.
{قال: (أَوْ وَهَمِهِ)}.
(أَوْ وَهَمِهِ)، أي أن يُخطئ الراوي في رواية حديث من الأحاديث من باب الوَهم، يَهم في حديث من الأحاديث، وهذا يتبين أيضًا بالمقارنة مع الروايات الأخرى.
وكما ذكرنا سابًقا: لا يتبين خطأ الراوي إلا عندما تُجمع الطرق، فإذا جمعت الطرق يتبين لك الأمر على وجهه.
{قال: (أَوْ مُخَالَفَتِهِ)}.
(أَوْ مُخَالَفَتِهِ)، سبق أن ذَكر ابن حجر -رحمه الله- أوجه للمخالفة: "المعروف، والمنكر، والشاذ، والمحفوظ"، وما إلى ذلك.
{قال: (أَوْ جَهَالَتِهِ)}.
والجهالة تأتي -إن شاء الله- لاحقًا.
{قال: (أَوْ بِدْعَتِه)}.
(أَوْ بِدْعَتِهِ)، أن يكون الراوي مبتدعًا، وهذا يأتي أيضًا، نعم.
{قال: (أَوْ سُوءِ حِفْظِهِ)}.
(أَوْ سُوءِ حِفْظِهِ)، وهذا أيضًا واضح وبيّن مما ذكرنا، نعم.
{قال: (فالأَوَّلُ: المَوْضُوعُ)}.
(فالأَوَّلُ: المَوْضُوعُ)، ويعني بالأول: الكذب، فإذا ثبت عندنا أنَّ هذا الإسناد فيه رجلٌ كذاب -على حسب ما يقرره ابن حجر- فيقال عن هذا الحديث: إنه موضوع.
أولًا: ما هو الموضوع؟
الموضوعُ هو المختلق المصنوع.
ونسأل أيضًا سؤالاً آخر: متى يكون الحديث موضوعًا؟ متى يُطلق على حديثٍ بأنه موضوع؟
ابن حجر -رحمه الله- هنا يُقرر أنه إذا وجد في رواته من هو كذاب، وقد يُقال أيضًا عند بعض العلماء ممن صنف في الوضع قالوا: أن يكون في رواته رجل ٌكذاب أو متهم بالكذب، ولكن المتهم بالكذب يأتي به ابن حجر -رحمه الله- بعد قليل.
عندنا كتب صُنفت فيمن أتهم بالوضع، وعندنا أيضًا مُصنفات اهتمت بقضية الأحاديث الموضوعة.
لكن نسأل سؤالا: هل هناك فرق بين الوضاعيّن؟ الآن قرأت كتابًا يجمع من أُطلق عليهم أو من قِيل عنهم: إنهم ممن يضعون الحديث، هل هناك فرق بينهم؟
الحقيقة أن هناك فرق بين من أُجمع على رميه بالكذب، وابن حجر -رحمه الله- يذكر مثالا على هذا، وهو: "مأمون بن أحمد الهروي"، هذا الذي رُمي بالوضع، وقد ذكر ابن حجر –رحمه الله- في النُزهة، أنه قد ذُكر بحضرته الخلاف، هل سمع الحسن البصري من أبي هريرة أم لا؟ فأنشأ في الحال إسنادًا إلى النبي ﷺ، وقال فيه: "سمع الحسن من أبي هريرة"، انظر إلى الكذب!
طبعًا ابن حجر –رحمه الله- ذكرها ونسبها إلى "مأمون بن أحمد الهروي"، والصواب أنها لأحمد بن عبد الله الجويباري، وقيل: الجوباري، هذا هو الصواب أنها لهذا، وليست لمأمون بن أحمد، وإن كان "مأمون بن أحمد" أيضًا قد أُشتهر بأنه ممن يضع الحديث.
ففرق بين من أُجمع على أنه يضع الحديث، وبين من عُرف مثلًا بوضع حديثٍ واحد، فالأول الذي أُجمع على أنه ممن يضع الحديث أشد ضعفًا من الثاني.
وقد ألَّف برهان الدين الحلبي –رحمه الله تعالى- كتابًا اسمه "الكشف الحثيث عمن رُمي بوضع الحديث"، وهذا كتاب نفيس جدًا، وقد ذكر فيه غير الكذابين ذكر فيه أيضًا من أُتهم بوضع الحديث، ذكر فيه من ثبت أنه يضع الحديث وذكر فيه أيضًا من أُتهم بوضع حديث؛ كلهم ذكرهم في كتابه هذا.
وبرهان الدين الحلبي مبدع جدًا في التأليف، وهو معاصر لابن حجر، ومات قبل ابن حجر بسُنيات معدودة، وله كتاب من أنفس الكتب، شرح به صحيح الإمام البخاري -رحمه الله- وهو كتاب "التلقيح لفهم قارئ الصحيح"، وهذا الكتاب من يقرأ في طريقته في هذا الكتاب يجد أنه يهتم بُدرر الفوائد، خاصةً الفوائد التي لم يذكرها ابن حجر، وأحيانُا يُثني على ابن حجر ولكن لا يسميه، يقول: "وقال بعض حُفاظ العصر"، ثم ينقل مقولة، هذه المقولة حينما ترجع إلى فتح الباري تجد أنها موجودة في فتح الباري، فهو يقصد ابن حجر.
وأحيانًا يقول: "قال بعض حُفاظ عصرنا"، وأحيانًا يستدرك على ابن حجر ويَزِيدُ عليه، ويخالفه في بعض القضايا أحيانًا. فكتابه نفيس جدًا، ولقد صنف أيضًا كتابًا نفيًسا جدًا على كتاب ابن سيد الناس في السيرة، اسم الكتاب: "نور النبراس على سيرة ابن سيد الناس"، وهو في الأصل ممن فُتح لهم في باب التأليف، فهو -رحمه الله- قد ألّف كتاًبا ذكر فيه من رُمي بوضع الحديث ومن أُتهم بذلك أيضًا.
وننبه على قضية مهمة: أنَّ الحكم على حديث بالوضع هذا من عملِ أئمة الحديث ونقاده، وليس لآحاد الناس، يأتي فلان من الناس ويقرأ في صحيح البخاري، ويجد حديثًا لا يقتنع به عقله الصغير، ثم يقول: والله هذا الحديث يبدو عليه علامة الوضع أو كذا.. هذا لا يمكن أن يحدث، ولا يمكن أن يكون.
فالإمام البخاري -رحمه الله- أعظم وأجل بكثير من أن يذكر في كتابه هذا شيئًا فيه ضعف، فما بالك أن يذكر شيئًا يسميه بعض أهل العصر: حديثًا موضوعًا أو ما شابه ذلك، فهذا الحُكم على حديثٍ ما بأنه موضوع أو مكذوب، إنما هو للأئمة النُقاد وليس لآحاد الناس، ولا للمبتدئين في الطلب.
ونُنبه على قضية مهمة، وهي: أن مصطلح الحديث "الموضوع" يَكثر عند الأئمة المتأخرين، ولكنه كان نادرًا عند الأئمة المتقدمين، فيندر أن يقال عندهم: هذا حديث موضوع، وإنما يقال: هذا حديثٌ باطلٌ، أو هذا حديثٌ واهم، أو هذا حديثٌ كذب، أو ما شابه ذلك من هذه العبارات، فهم لا يلتزمون بالحكم عليه بقول: "الموضوع".
فلا يأتي أحد ويقرأ حديث هنا، يقرأ مثلًا الحديث الموضوع من كان في إسناده كذاب، ويقرأ في حديثٍ من الأحاديث، يجد أنَّ الإمام أبا حاتم الرازي مثلًا، قال عن حديث من الأحاديث: هذا حديثٌ باطل، فيأتي ويستدرك على أبي حاتم، ويقول: بل هذا حديثٌ موضوع!
نقول: لا، لأنَّ مصطلح الموضوع يندر وجوده عند الأئمة المتقدمين، وإنما يكثر أن يقول: باطل، أو واه، أو كذب، وما شابه ذلك.
تأتي عندنا قضية مهمة: ما هي أسباب وضع الحديث؟ لماذا يضع بعضهم الأحاديث؟
قد يأتي بعضهم ويضع الحديث بنيةٍ حسنة، وهذه النية الحسنة لا تجعل الحديث بالطبع صحيحًا، ولا تقوي الحديث، ولكن هي قد تكون عند بعض الجهلة، مثل: "أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غَالِبِ البغدادي، غُلَامُ خَلِيلٍ الواعظ"، يضع الأحاديث في الوعظ، فيسألونه: لماذا وضعتها؟ يقول: نُرقق بها قلوب العامة.
كيف تُرقق قلوب العامة بأحاديث مكذوبة توضع عن النبي ﷺ؟
ومثله: مَيْسَرَةُ بنُ عَبْدِ رَبِّهِ، الذي رأى الناس قد أعرضوا عن قراءة القرآن، فوضع أحاديث في فضائل السور، وبحمد الله فقد أظهر كل هذا الأئمة -رحمة الله عليهم- في مصنفاتهم، ولم يتركوا شيئًا.
وللحديث "الموضوع" علامات، وهناك طرق للأئمة: كيف يعرفون أن هذا الحديث من الأحاديث المكذوبة، وما إلى ذلك؟ ذكرها العلماء في مصنفة منها:
أن يُناقض هذا الحديث نص القرآن.
من الذي يحكم على حديثٍ من الأحاديث أنه يناقض نص القرآن؟
يحكم على هذا من فهم القرآن، وفهم أقاويل في تفسير القرآن، وأوتي من العلم الشيء العظيم، لا يأتي إنسان ليس عنده خبرة ودراية بتفسير كلام الله -جلّ وعلا-، وليس عنده إلا شيء من الفقه، ويحكم على حديث من الأحاديث بأنه مناقض لنص القرآن مثلًا، لا، هذا إنما هو للعلماء.
ويُعرف أنَّ هذا الحديث موضوع أيضًا إذا ناقض السنة التي قد قُطع بصحتها عن النبي ﷺ.
أو يناقض مثلاً الإجماع القطعي، وما إلى ذلك.
وابن القيم -رحمه الله- حرر هذه القرائن في كتابه "المنار المنيف"، وهذا الكتاب بالمناسبة يعتبره بعض العلماء كالملخص لكتاب ابن الجوزي -رحمه الله- "الموضوعات".
ابن الجوزي -رحمه الله- ألّف كتابًا عظيمًا سماه: "الموضوعات"، أي: الأحاديث الموضوعة، فابن الجوزي -رحمه الله- ذكر بعض الضوابط في ثنايا كتابه هذا، وقد لخصها ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "المنار المنيف".
طبعًا ابن الجوزي -رحمه الله- حكم على بعض الأحاديث بالوضع، وذكر منها بعض الأحاديث في مسند الإمام أحمد، وابن حجر -رحمه الله- ردَّ عليه في كتابه: "القول المسدد في الذب عن المسند".
أتى بعد ذلك السيوطي -رحمه الله- وألّف كتابًا أسماه: "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة"، وتعقب ابن الجوزي -رحمه الله -كثيرًا في كتابه هذا، ولخص أيضًا تعقبات العلماء الذين سبقوه، والتي تعقبوا بها ابن الجوزي -رحمه الله-، وزاد عليها أيضًا.
ثم أتى بعد ذلك ابن عراق الكتاني -رحمه الله- فألّف كتابًا سماه: "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة"، وحاكم بين ابن الجوزي وبين من تعقب ابن الجوزي.
وأيضًا للشوكاني -رحمه الله- كتاب نفيس اسمه: "الفوائد المجموعة"، أيضًا فيه فوائد ونفائس.
{أحسن الله أليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (والثَّانِي: المَتْرُوكُ)}.
الأول موضوع يريد به الذي يكون في إسناده كذاب.
ثم قال: (والثَّانِي: المَتْرُوكُ)، يريد ماذا؟ الذي يكون في إسناده - النوع الثاني من الموضوعات- متهم، أي: متهم بالكذب.
فإذا وجد في إسناد الحديث رجل متهمًا بالكذب يقولون عنه: متروك، هذا على الاصطلاح الذي ذكره ابن حجر -رحمه الله تعالى-، وعبارة متروك عند الأئمة النُقاد الأوائل يكثر إطلاقها إما على الراوي، وإما على العمل بحديث، يقولون: العمل بهذا الحديث متروك.
مثال: الترمذي -رحمه الله- في كتاب "العلل"، قال: كل ما في كتابنا هذا معمولٌ به خلا -وذكر بعض الأحاديث-، أي أنَّ هذه الأحاديث قد تُرك العمل بها.
وابن رجب -رحمه الله- لَمَّا شرح "العلل" تعقبه في بعضها.
فيكثر إطلاق الأئمة الأوائل، لعبارة متروك على الراوي بعينه، يقولون: فلان متروك، أو العمل بالحديث، ويقل إطلاقهم لهذه اللفظة على حُكم الحديث، أي أنه إذا كان في إسناده كذب يكون متروك، يقل هذا عندهم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (والثَّالِثُ: المُنْكَرُ عَلَى رَأْيٍ)}.
قال: (والثَّالِثُ)، يعني: فُحش الغلط الذي يكون في إسناده رجل فاحش الغلط، يقول: المنكر، يُسمى حديثه بالحديث المنكر.
قال ابن حجر -رحمه الله-: (عَلَى رَأْيٍ)، كيف على رأي؟ يوضح قول ابن حجر -رحمه الله- في النزهة، يقول: "على رأي من لا يَشترط في المنكر قيد المخالفة"، سبق أن شرح ابن حجر -رحمه الله- المنكر وجعله في مقابل المعروف، يعني: عند المخالفة، وهنا بيّن أنه إذا وجد في إسناده "فاحش الغلط" فيقال عن الحديث: "منكرا".
(عَلَى رَأْيٍ) أي: على رأي الذي لا يشترط أن المنكر فقط عند المخالفة، وهذا ما يريد ابن حجر -رحمه الله- الإشارة إليه.
{قال: (وَكَذَا الرَّابِعُ وَالخَامِسُ)}.
(وَكَذَا الرَّابِعُ وَالخَامِسُ)، الرابع يعني: الغفلة، والخامس يعني: الفسق، فيعني ابن حجر -رحمه الله- بهذا أنه إذا تفرد الراوي الذي قد وصف بالغفلة، أو الراوي الذي -تفرد أيضًا- الذي قد قيل عنه فاسق، إذا تفرد بحديثٍ فإنه عند ابن حجر يسمى هذا الحديث منكرًا.
والأئمة المتقدمون -كما أسلفنا- لا يصفون حديث الفاسق بالنكارة، إلا إن كان فسقهُ هذا من قبيل الكذب.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (ثمَّ الوَهَمُ إِن اطُّلِعَ عَلَيْهِ بِالقَرَائِنِ وَجَمْعِ الطُّرُقِ: فَالْمُعَلَّلُ)}.
أراد ابن حجر -رحمه الله- أن يتكلم عن الوهم الذي يطلق أحيانًا على الراوي، فقد يَهم الراوي في إسناد من الأسانيد، وهذا الراوي قد يكون عنده موازنة أقوال العلماء فيه، قد لا يقال عن هذا الراوي أنه ضعيف، وإنما قد تكون أحاديثه قوية، ولكن هذا الحديث مثلًا قد وهم فيه، كيف نعرف هذا؟
نعرف هذا بجمع الطرق، يعني: يُحكم عليه بذلك عن طريق هذه القرائن التي تتبين عندنا، وذلك عندما نجمع الطرق.
قال: (وَجَمْعِ الطُّرُقِ: فَالْمُعَلَّلُ)، العراقي -رحمه الله- يقول:
وَسَمِّ مَا بِعِلَّةٍ مَشْمُولُ ... مُعَلَّلًا، وَلَا تَقُلْ: مَعْلُولُ
وسبق أن ذكرنا أن عبارة "معلول" أنها عبارة صحيحة، وقد جاءت في كلام الإمام البخاري والترمذي -رحمة الله تعالى عليهم أجمعين-.
ما هو الحديث المعلل الذي يريد ابن حجر -رحمه الله- أن يبينه ها هنا؟
الحديث المعلل هو الحديث الذي أُطلع فيه على علةٍ خفيةٍ قادحة، مع أنَّ ظاهره السلامة منها، ظاهر الحديث أنه قوي، ظاهر الحديث أنه صحيح، ولكن بعد أن البحث والتمحيص والنظر في الإسناد وجدنا علة خفية، كيف خفية؟ لا تتبين إلا عندما تبحث وتجمع الطرق، وتقارن، فتتبين لك هذه العلة.
لذلك ما يفعله كثير من أهل العصر من النظر في إسناد حديث من الأحاديث، أتانا حديث، قيل له ما حكم هذا الحديث؟ يقول: ما هو الإسناد؟ فلان عن فلان عن فلان عن فلان، فلان ثقة، ثقة، ثقة، ثقة، سمع من فلان، والإسناد متصل، إذن الحديث صحيح، وانتهى الأمر؛ نقول: لا، وهذا ليس بسديد.
بل طريقة أئمة الحديث أن يجمعوا طُرق الحديث وينظروا فيها، إذْ قد يكون هذا الإسناد الذي ظاهره السلامة قد يُطلع فيه على علة، فهذه علة خفية لا تظهر إلا بالبحث، والتنبيش، والمقارنة، والموازنة، وما شابه ذلك، هذا لابد منه.
ومن الأمثلة على ذلك -وأنا أحب في الأمثلة أن تُكتب حتى يتبين المقصد- حديث يرويه الإمام الترمذي وابن ماجه، جاء من طريق: قرة بن عبد الرحمن، يرويه عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ: «من حسنِ إسلامِ المَرءِ تركُه ما لا يعنيه»، قرة بن عبد الرحمن -نعيد الإسناد- عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
هذا الحديث بذاته، هناك تلاميذ للزهري غير قرة بن عبد الرحمن، قرة بن عبد الرحمن روى عنه هذا الحديث بالإسناد الذي ذكرناه، روى هذا الحديث عن الزهري أيضًا مالك ومعمر -أئمة- مالك ومعمر يروون هذا الحديث عن الزهري، لكن ليس عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وإنما يروونه عن الزهري عن علي بن الحسين بن علي عن النبي ﷺ مرسلًا، من التابعين، يرويه عن النبي ﷺ. فأيهما نُقدم؟
بعض الناس ينظر للإسناد الأول وقد يقويه بعضهم، أو قد يقول: هو ضعيف ضعفًا يسيرًا، وقد يُمشيه إذا نظر في الإسناد الأول، لكن إذا جمع الإسناد الآخر ووازن وقاران يتبين له أنَّ رواية مالك ومعمر هي الرواية الصحيحة، وأنَّ الصواب في هذا الحديث أنه مرسل وليس بموصول، هذا الصواب في هذا الحديث، واضح؟
كيف تتبين لنا هذه العلة الخفية عند ماذا؟
عند جمع الطرق، والمقارنة، والموازنة، وما شابه ذلك، يتبين لك هذا الضعف الموجود في أمثال هذه الأحاديث.
طبعًا أئمة الحديث -الأئمة المتقدمون- يُطلقون مسمى عِلة على كل ما يَقدح في صحة الحديث ولو كانت علة ظاهرة، المتأخرون يقولون: العلة تكون خفية، أي أنَّ الذي يقدح في الحديث هو العلة الخفية، وأمَّا المتقدمون فيرون أنَّ كل علة تقدح في صحة الحديث، وهذا من أدق العلوم.
وقد أُلف مصنفات كثيرة في العلل، مثل: علل الترمذي -رحمه الله-، وقد شرحها ابن رجب -رحمه الله- شرحًا نفيسًا، وأيضًا كتاب "العلل لابن أبي حاتم"، وكتاب "العلل" للدارقطني، وهذا قد جاء أن الدارقطني -رحمه الله- أملاه من حفظهِ، وهذا شيء عجيب في الحقيقة؛ لأنك حينما تقرأ في عِلل الدارقطني تحتاج تتأنى حتى تفهم هذه الطرق، يعني متشابكة، وأسماء رجال، وكذا، فينبغي وأنت تقرأ أن تقرأ بتأنٍ؛ لأنه من أصعب الكتب في هذا الباب.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (ثُمَّ المُخَالَفَةُ إِنْ كَانَتْ بِتَغْيِيرِ السِّيَاقِ: فَمُدْرَجُ الإِسْنَادِ، أَوْ بِدَمْجِ مَوْقُوفٍ بِمَرْفُوعٍ: فَمُدْرَجُ المَتْنِ)}.
قال -رحمه الله-: (ثُمَّ المُخَالَفَةُ)، المخالفة، عندنا حديث يرويه أحد الرواة موصولًا ويخالف راو آخر ويرى أنه مرسل، مثل المثال الذي ذكرناه قبل قليل، هذه مخالفة ولا لا؟ هي مخالفة.
قال: (ثُمَّ المُخَالَفَةُ إِنْ كَانَتْ بِتَغْيِيرِ السِّيَاق)، يأتي راو آخر ويُغير السياق، والسياق ما المقصود به هنا؟ شرحه ابن حجر أو بيّنه ابن حجر في النزهة، فقال: أي سياق الإسناد، هذا يرويه موصولا وهذا يرويه مرسلا، مثال على ذلك: نفس المثال اللي ذكرناه قبل قليل.
قال: (ثُمَّ المُخَالَفَةُ إِنْ كَانَتْ بِتَغْيِيرِ السِّيَاقِ: فَمُدْرَجُ الإِسْنَادِ)، مدرج الإسناد، يأتي واحد ويدرج رجلا أي: يزيد رجلاً في الإسناد، ويكون هذا خطأ منه.
قال: (أَوْ بِدَمْجِ مَوْقُوفٍ بِمَرْفُوعٍ: فَمُدْرَجُ المَتْنِ)، أراد ابن حجر -رحمه الله- أن يُبين لنا ها هنا ما هو المدرج، أحيانًا الإدراج يكون في الإسناد -يعني: الزيادة من الراوي- يزيد أحيانًا في الإسناد، وأحيانًا يزيد في المتن، فيأتي حديث عن النبي ﷺ ويضيف إليه كلمة للصحابي يدمجها مع الحديث، فيكون الحديث مدرج المتن.
وهذا الإدراج له أنواع كثيرة، فمثلًا ابن حجر -رحمه الله- ذكر في "النزهة" أنواع مدرج الإسناد، فقال -رحمه الله-: "له عدة أنواع"، ومن هذه الأنواع، قال: "أن يروي جماعةٌ الحديث بأسانيد مختلفة"، هذا يَروي بإسناد، وهذا يروي بإسناد آخر، فيأتي راوٍ ويجمع الأسانيد كلها على إسنادٍ واحدٍ من تلكَ الأسانيدِ ولا يُبَيِّنَ الاخْتِلافَ.
كيف يكون هذا؟
سنأتي للتسمية بعد قليل، مثال على ذلك: حديث النبي ﷺ: «خيرُكُم مَن تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَهُ»، حديث عثمان، جاء من طريق سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، وهنا -ونُنبه على قضية كتابة الإسناد حتى يتبين- جاء من طريق سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان -رضي الله عنه-، عن النبي ﷺ، واضح؟
سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان.
وروى هذا الحديث أيضًا شعبة، فرواه من طريق علقمة بن مرثد، قبل قليل سفيان الثوري يرويه عن علقمة بالإسناد اللي ذكرناه.
وشعبة رواه بطريق آخر، فرواه أيضًا عن علقمة بن مرثد، ولكن زاد رجلًا بين علقمة بن مرثد وأبي عبد الرحمن السلمي، من هو؟ يقول شعبة في هذا الحديث: يرويه شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن سعد بن عُبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ.
ذاك إسناد سفيان الثوري، وهذا إسناد شعبة؛ كلها صحيحة، لكن أين الإشكال عندنا؟
الإشكال عندنا أنَّ هذا الحديث جاء في سُنن ابن ماجه، من طريق يحيى القطان، فقال: شُعبة وسفيان الثوري، عن علقمة، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، ما الإشكال؟
الإشكال أنه قد جعل رواية شُعبة ورواية سفيان أيضًا كلها، أي: دمج الإسنادين، فجعل سعد بن عبيدة موجود في إسناد شعبة وفي إسناد سفيان الثوري، بينما سعد بن عُبيدة لم يأت في إسناد سفيان الثوري، فدمج الإسنادين.
المتأخرون يقولون: هذا مدرج الإسناد؛ لأنَّ يحيى القطان جعل الإسنادين إسنادًا واحدًا، بينما الأئمة المتقدمون يقولون: دخل حديثٌ في حديث، أو أدخل حديثًا في حديث، واضح؟ هذا مثال على النوع الأول من أنواع مدرج الإسناد الذي ذكره ابن حجر.
ابن حجر -رحمه الله- ذكر نوعًا آخر، فقال: "أن يكون المتن عند راوٍ من الرواة إلا طرفًا منه، فإنه عنده بإسنادٍ آخر، فيرويه راوٍ عنه تامًا بالإِسْنَادِ الأولِ"، أي أنَّ هذا الراوي عنده إسناد يروي فيه حديثًا من الأحاديث، ولكن طرف الحديث ليس موجودًا في الإسناد الأول، بل هو موجود في إسنادٍ له آخر، فيأتي ويروي بالإسناد الأول الحديث بالطرف الزائد، مع أنَّ الطرف الزائد في إسنادٍ آخر، هذا مثال.
نوع آخر من أنواع إدراج الإسناد الذي ذكره ابن حجر: أن يكون عند الراوي مَتْنَانِ بإسنادين مختلفين، فيأتي راوٍ ويرويهما مقتصرًا على أَحَدِ الإِسْنَادَيْنِ.
مثلًا: أنا أروي عن شيخٍ لي، يروي هذا الحديث بإسناده بمتن معين، جيد؟ يعني شيخي هذا مثلًا لديه إسناد آخر لهذا الحديث بمتن آخر، فآتي وأروي المتنين بالإسناد الأول، هذا يسمونه أيضًا: مدرج الإسناد.
أما القسم الرابع الذي تكلم عنه ابن حجر -رحمه الله- في قضية الإدراج في الإسناد، قال: "أن يسوق الراوي إسنادًا، فيعرض له عارض، فيقول كلامًا من قبل نفسه، فيسمعه السامع فيظن أن هذا الكلام هو متن ذلك فيَرْوِيَهِ عنهُ كذَلِكَ".
من الأمثلة لهذا: ابن ماجه -رحمه الله- يروي من حديث ثابت الزاهد، عن شَريك النخعي، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر -رضي الله عنه-، عن النبي ﷺ قال: "مَنْ كثُرتْ صلاتُه بالليلِ حسُن وجهُه بالنهارِ"، كيف هذا؟!
يقول بعض العلماء: إن "ثابت الزاهد" دخل على شريك النخعي وهو يريد أن يُحدث ويسوق إسنادًا، فسمعه ثابت، فلما دخل رآه شريك النخعي -رحمه الله- وكان من العباد -أعني ثابتًا كان من أهل العبادة-، فلما رآه شريك النخعي، قال: «مَنْ كثُرتْ صلاتُه بالليلِ حسُن وجهُه بالنهارِ»، فظن ثابت أنَّ هذا الكلام الذي قاله شريك هو متن الإسناد الذي ساقه شريك وسمعه ثابت.
فكان بعد ذلك يرويه بهذا الإسناد، ووضع هذا المتن أو هذا الكلام الذي قاله شريك النخعي -رحمه الله- متنًا لهذا الإسناد الذي سمعه، فانطلى عليه هذا الغلط.
هذا بالنسبة لأنواع إدراج الإسناد التي ذكرها ابن حجر -رحمه الله تعالى-.
ثم قال بعد ذلك: (أَوْ بِدَمْجِ مَوْقُوفٍ بِمَرْفُوعٍ: فَمُدْرَجُ المَتْنِ)، قد يأتي هذا الراوي ويروي الحديث بالإسناد ثم يزيد، أو يضيف كلام الصحابي في هذا الحديث المرفوع إلى الحديث المرفوع، فيكون قد أدرج هذا الكلام في المتن، وهذا يأتي على أنواع.
فقد يكون هذا الإدراج في أول الحديث، كما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: «أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ ويل للأعقاب من النار».
يعني أن أبا هريرة قال: «أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ»، ثم قال أبو هريرة: قال ﷺ: «ويل للأعقاب من النار»، فيأتي بعض الرواة ويدرج «أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ» في الحديث، فيأتي القارئ وينظر الحديث، قال ﷺ: «أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ ويل للأعقاب من النار»، فيظن أن كلمة "أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ"، من كلام النبي ﷺ في هذا الحديث بالذات.
وقد يأتي الإدراج في وسط الحديث، كما قال الزهري –رحمه الله- عن تحنث النبي ﷺ قبل أن يوحى إليه، قال: "والتَّحَنُّثُ: التَّعَبُّدُ"، شرح للمعنى في وسط الحديث، فهذا إدراج في وسط الحديث.
وقد يكون هذا الإدراج في آخر الحديث، مثلًا: جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر أن قال: «نَهَى النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَقْرُنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ»[1]، يقول الراوي: حتى يستأذن أصحابهُ، شُعبة –رحمه الله- قال: "حتى يستأذن أصحابه"، وهذا الإذن من ابن عمر –رضي الله عنه- وليس من كلام النبي ﷺ.
فبهذا نعرف المدرج.
والخطيب البغدادي –رحمه الله- له كتاب نفيس في هذا الباب اسمه "الفصل للوصل المدرج في النقل" وهو مطبوع، وهو كتابٌ نفيس.
هذا ما يتعلق بكلام ابن حجر –رحمه الله- على قضية الإدراج، وتكلمنا عن الإدراج في الإسناد، والإدراج في المتن، والله تعالى أعلم، وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، جزآكم الله خير الجزاء}.
آمين، بارك الله فيك.
{وإلى هنا تكون انتهت حلقتنا لهذا اليوم، أستودعكم الله، ونلقاكم في حلقةٍ مقبلة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-----------------------
[1] رواه أحمد (6149) بسند صحيح.
سلاسل أخرى للشيخ
-
12551 9