الدرس الثالث

فضيلة الشيخ د. مضحي بن عبيد الشمري

إحصائية السلسلة

12551 9
الدرس الثالث

نخبة الفكر

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله معاشر طلاب العلم في (المستوى الثاني) من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نشرح فيه كتاب (نخبة الفكر) للإمام أحمد بن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ مضحي بن عبيد الشمري، باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
الله يحييكم ويبارك فيكم، وينفع بجهودكم. اللهم أمين.
{نستأذنكم في إكمال القراءة}.
استعن بالله.
{قال -رحمه الله تعالى-: (فَإِنْ خَفَّ الضَّبْطُ: فَالْحَسَنُ لِذَاتِهِ)}.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، ففي المواضع الماضية ذكر ابن حجر -رحمه الله- الشروط التي إذا انطبقت في خبر من الأخبار، سمي هذا الخبر صحيحًا، وذكرنا خمسة شروط، ثم بين ابن حجر -رحمه الله تعالى- بعد ذلك أن هذه الشروط قد تنطبق تماما في حديث من الأحاديث، وقد يخف شرط من الشروط، وبهذا تتفاوت درجة الأحاديث الصحيحة، فيكون هناك حديث صحيح، وهناك ما هو أصح منه.
وبناء على هذا بين ابن حجر -رحمه الله- أن هذا هو الذي يجعلنا نقدم صحيح البخاري على صحيح الإمام مسلم، ثم شرط البخاري على شرط مسلم.
أما الآن فقد أراد ابن حجر -رحمه الله- أن يبين ما هو الحديث الحسن، فقال -رحمه الله: (فَإِنْ خَفَّ الضَّبْطُ: فَالْحَسَنُ لِذَاتِهِ). أراد أن يبين ابن حجر -رحمه الله- ما هو الحديث الحسن لذاته؟ كيف نستطيع أن نفرق بين الحديث الصحيح والحديث الحسن؟ أي ما هو الفارق بين هذين المصطلحين؟
ابن حجر -رحمه الله- بين أن الذي يفرق بينهما شيء واحد فقط، ففي الحديث الصحيح يكون الراوي تام الضبط، (فَإِنْ خَفَّ الضَّبْطُ) وبقيت الشروط الأخرى كما هي، أي: ما تغيرت، بل تغير فقط شيء واحد، وهو أن الراوي صار خفيف الضبط، أي: صار في ضبطه خفة، فهنا يسمى الحديث: (الْحَسَنُ لِذَاتِهِ). هذا هو مقتضى كلام ابن حجر -رحمه الله تعالى-.
قد يسأل أحدهم ويقول: كيف نعرف أن هذا الراوي خفيف الضبط؟
نحن نعلم أن الإمام أحمد -على سبيل المثال- يعد تام الضبط، وكذلك البخاري، وسفيان الثوري، وغيرهم، فهم أئمة كبار أجلاء، وروايتهم تعد من قبيل رواية التام الضبط. فكيف نعرف أن هذا الراوي خفيف الضبط؟
قال العلماء: نعرف هذا بسَبر مروياته، أي: جمع مروياته والنظر فيها، ومقارنتها مع روايات الثقات الأجلاء تام الضبط، وهذا مثل ما نراه اليوم في واقع الناس، مثال: قد تجد في نفسك أحيانا شيئًا لأخبار بعض الناس مثلا، فتقول في نفسك: هذا أخباره فيها شيء من الضبط والدقة، وذلك بسبب أنك تتبعت أخباره على مدى سنوات، فعلمت أن هذا الرجل ضابط، بينما تقول عن آخر: فلان لا بأس، ولكنه أخف ضبطًا. لماذا؟
لأنك تقارن روايته مع روايات هؤلاء الثقات، وبهذا تعرف هل هو تام الضبط أم هو خفيف الضبط؟
فإذا عرفت ما هي أخباره التي يرويها، والقصص التي يحدث بها، وقارنتها مع هؤلاء الثقات، الذين قد أجمع على تمام ضبطهم؛ علمت أن هذا أخف منهم في الضبط، وحينها تقول: فلان خفيف الضبط، أي: ليس بتام الضبط، وبهذا نعرف أن الراوي خفيف الضبط، وليس بكامل الضبط.
الحديث الحسن مَرَّ بعدة مراحل منها: أنه في القديم وقبل أن تستقر المصطلحات كان يُطلق الحسن أحيانا على الحديث الصحيح، فكان الإمام أحمد، والإمام البخاري أحيانًا، وقبلهم أيضًا الإمام الشافعي، كانوا يقولون عن الحديث: إنه حسن، ولا يقصدون به هذا المصطلح الموجود عندنا الآن، وإنما كانوا يقصدون أنَّ الحديث صحيح.
ثم أتى بعد ذلك بزمن من الأزمنة، بدأ العلماء يحددون ويضعون مصطلحات وضوابط معينة للحديث الحسن، مثل: الخطابي -رحمه الله-، فلما أراد الخطابي أن يعرف الحديث الحسن قال: ما عُرِفَ مخرجه، واشتهر رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، وهو الذي يستعمله الفقهاء.
وهذا التعريف ليس جامعا مانعًا؛ لأنه قد يدخل فيه مصطلحات أخرى أيضا.
وأتى بعد ذلك الترمذي -رحمه الله- وقال: إنه الحديث الذي ليس فيه متهم، ويروى من غير وجه". وأيضا الترمذي -رحمه الله- أتى بتعريف ومصطلح عنده دقيق، قد يختلف بعض الشيء عن تعريف الخطابي -رحمه الله-، وقد يقال: إنه ليس بجامع مانع.
وقد لخص العراقي -رحمه الله- هذه التعاريف في الألفية بقوله:

 وَالحَسَنُ المَعـرُوْفُ مَخْرَجـاً وَقَدْ ... اشْتَهَرَتْ رِجَالُهُ بِذَاكَ حَدْ
حَمْدٌ[1] وَقَالَ التّرمِذِيُّ: مَا سَلِمْ ... مِنَ الشُّذُوْذِ مَعَ رَاوٍ مَا اتُّهِمْ
بِكَذِبٍ وَلَمْ يَكُنْ فَرْداً وَرَدْ قُلْتُ[2]... وَقَدْ حَسَّنَ بَعْضَ مَا انفَرَدْ

أي أنَّ الترمذي -رحمه الله- لَمَّا قال: إن الحسن هو الذي يروى من غير وجه، أحيانا يأتي في جامع الترمذي ويقول: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. كيف وهو يقول: إن الحسن مروي من غير وجه؟ ولذلك قال العراقي -رحمه الله-: قُلْتُ: وَقَدْ حَسَّنَ بَعْضَ مَا انفَرَدْ.
واستقر الاصطلاح على ما عرَّف به ابن حجر هنا، وهو أنه هو الذي تنطبق عليه شروط الحديث الصحيح، ولكن أمر واحد فقط يختلف، وهو أن الراوي بدل من أن يكون تام الضبط يكون خفيف الضبط.
وسبب الإشكال في تعريف الحسن: أنه في مرتبة متوسطة، يتجاذبه الصحيح والضعيف أيضا، ولذلك قال الحافظ الذهبي -رحمه الله- في الموقظة: ثم لا تطمع أن تجد قاعدة تندرج فيها كل الأحاديث الحسان، فأنا على إياس من ذلك.
الشاهد من هذا، أننا على مُقتضى كلام ابن حجر، وهو الكتاب الذي نشرحه، يرى أن الحديث الحسن هو: الحديث الذي يكون فيه الراوي قد خف الضبط، وأما بقية الشروط موجودة. هذا الذي أراده ابن حجر، وإن كان بعض العلماء يرى أن الأمر غير مقتصر على الراوي فقط، وإنما الحديث الذي قد أجمع على اتصاله، لا يكون كالحديث الذي قد اختلف في اتصاله، وغلب على الظن أنه متصل.
وقد يقال: إن الحديث الذي قد أجمع على أنه ليس فيه شذوذ ولا ليس مثل الحديث الذي قد اختلف في ذلك، فهذا قد يقال عن الحسن.
بعض العلماء يرى أن الحكم بالحسن ليس بمجرد أن يكون الراوي خفيف الضبط، ولكن ابن حجر -رحمه الله- كما قلنا ونكرر: يرى أن الحديث الحسن هو الذي قد خفَّ فيه ضبط الراوي فقط.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَبِكَثْرَةِ طُرُقِهِ يُصَحَّحُ)}.
أي إذا كثرت طُرق الحديث الحسن، فإنه يقال عنه: صحيح لغيره. هذا هو الذي يقصده ابن حجر ها هنا، وأول من أتى بهذا النوع، وهو أنَّ الحديث الحسن إذا كثرت طرقه فإنه يصحح، هو: ابن الصلاح -رحمه الله-، بينما سماه ابن حجر -رحمه الله- صحيحًا لغيره.
الحافظ العراقي -رحمه الله- يقول:

وَالحَسَنُ: الْمشهُوْرُ بِالعَدَالَهْ ... وَالصِّـــدْقِ رَاوِيهُ، إذَا أَتَى لَهْ
طُرُقٌ أُخْرَى نَحْوُهَا مِن الطُّرُقْ ... صَحَّحْتَهُ كَمَتْنِ لَوْلاَ أنْ أَشُقْ

(كَمَتْنِ لَوْلاَ أنْ أَشُقْ) يكثر ضرب العلماء -رحمهم الله- لهذا المثال على الحديث الصحيح لغيره، وهم يقصدون بهذا ما جاء في جامع الإمام الترمذي وغيره من حديث محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: «لَوْلَا أنْ أشُقَّ علَى أُمَّتي لَأَمَرْتُهُمْ بالسِّوَاكِ» هذا الحديث يقولون من رواية محمد بن عمرو بن علقمة، وهو صدوق، ولكن تابعه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ، وابن حجر -رحمه الله- انتقد هذا المثال في كتابه "النكت"، وقال: إن الأولى أن يذكر في المثال أحاديث كلها حسنة، ليس حديث صحيح وحديث حسن. أي: إذا أردنا أن نمثل للحديث الحسن لغيره فنأتي بحديثين، أحدهما: حسن، والآخر حسن، ولا نأتي بحديثين أحدهما حسن والأخر صحيح؛ لأننا إذا أتينا بحديثين أحدهما حسن والآخر صحيح؛ فإنه يكتفى بالحديث الصحيح، وأما إن أتينا بحديثين من درجة الحسن فيكون الحديث صحيح لغيره بمجموع طرقه.
ولذلك مثل ابن حجر -رحمه الله- بمثال آخر لهذا في كتابه "النكت"، فمثل بما روى البخاري من حديث معاوية بن إسحاق، عن عمته عائشة بنت طلحة، عن عائشة -رضي الله عنها- أنها سألت النبي ﷺ عن الجهاد فقال: «جهادكن الحج». ومعاوية بن اسحاق ضعفه أبو زرعة، ووثقه الإمام أحمد والنسائي، ولذا يقولون: إن حديثه من قبيل الحديث الحسن.
وتابعه على هذا عند البخاري حبيب بن أبي عَمرة، ولذا قالوا: فاعتَضَدَ فصار عندنا إسنادان كلاهما قد يقال له: "حسن"، وبهذا يكون الحديث صحيح لغيره، كما يريد ابن حجر -رحمه الله- التمثيل به ها هنا.
{أحسن الله اليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (فَإِنْ جُمِعَا فَلِلتَّرَدُّدِ فِي النَّاقِلِ حَيْثُ التَّفَرُّدُ، وَإِلَّا فَبِاعْتِبَارِ إِسْنَادَيْنِ)}.
يقول ابن حجر -رحمه الله-: (فَإِنْ جُمِعَا) أي: إذا جمعا في الحكم على حديث، هذين مصطلحين، قيل عن حديث: حسن صحيح، أي: جمع مصطلح الحسن ومصطلح الصحيح، وكلاهما أطلقا على حديث. ماذا نفعل؟ هل نقول: إن هذا الحديث حسن؟ أم نقول: إن هذا الحديث صحيح؟ ماذا تعني هذه العبارة؟
من أكثر من يطلق هذه العبارة هو الإمام أبو عيسى الترمذي -رحمه الله- في جامعه، فتراه يقول: حسن صحيح. ماذا تعني هذه العبارة؟
اختلف العلماء -رحمة الله تعالى عليهم- في تبيين المراد من هذه العبارة (حسن صحيح) على أقوال، وابن حجر -رحمه لم يذكر الله هذه الأقوال، وإنما اختار قولا منها فقال: (فَإِنْ جُمِعَا فَلِلتَّرَدُّدِ فِي النَّاقِلِ حَيْثُ التَّفَرُّدُ، وَإِلَّا فَبِاعْتِبَارِ إِسْنَادَيْنِ)، أي أنَّ ابن حجر -رحمه الله- يريد أن يقول: إذا كان هذا الحديث الذي قيل عنه: "حسن صحيح" له إسناد واحد فقط "أي: تفرد" وقيل عنه: "حسن صحيح"، يقول: لأنَّ هناك تردد في الراوي، هل هو تام الضبط أو خفيف الضبط؟ يقول: فلأجل هذا الترد الذي يجعلنا نتردد في الحكم على الحديث، هل هو صحيح أو حسن، نقول عن الحديث: حسن صحيح.
ماذا لو كان للحديث عدة أسانيد -إسنادين مثلا-، فماذا نفعل هنا؟
يقول ابن حجر -رحمه الله-: (وَإِلَّا فَبِاعْتِبَارِ إِسْنَادَيْنِ)، أي أنه يريد أن يقول: إذا كان للحديث إسنادين، وقيل عن الحديث: "حسن صحيح" فهذا لأن أحد الإسنادين حسن والآخر صحيح. وهذا رأي ابن حجر -رحمه الله تعالى-.
ولكن تطبيقيًا نقول: كلام ابن حجر هنا فيه إشكال، لماذا؟
لأننا قد نجد أحاديث فيها إسناد واحد، والرواة مجمع على أن حديثهم من قِبَل الأحاديث الصحيحة، وليس هناك تردد في الراوي، والإسناد يكون من أعلى درجات الصحة، والرواة من أوثق الرواة، ثم نجد أن الترمذي -رحمه الله- يقول: "حسن صحيح".، فالحديث بإسناد واحد، وليس هناك تردد في الناقل، ومع ذلك يقول الترمذي: "حسن صحيح".
وكذلك وجدنا أحاديث قال عنها الترمذي -رحمه الله-: "صحيح" وإسنادها واحد، والراوي مختلف فيه. وهذا ينقض كلام ابن حجر -رحمه الله-.
وكلام ابن حجر -رحمه الله- هذا قول من الأقوال في تبيين معنى قولهم: "حسن صحيح".
القول الثاني: يقول بعض العلماء: إذا وجدنا حديثًا قيل فيه: "حسن صحيح"، فالمعنى أنه من حيث الاصطلاح يكون الحديث صحيحًا، ولكن قولنا: "حسن" يعني أنَّ لفظ الحديث "حسن".
ولكن هذا يَرد عليه كثير من العلماء، بأن كل أحاديث النبي ﷺ الصحيحة ألفاظها حسنة.
القول الثالث: ذهب إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- فقال: "حسن صحيح" هي مرتبة بين الصحيح وبين الحسن".
وهذا أيضا فيه إشكال؛ لأننا نجد أن أحاديثًا حكم عليها الترمذي، وقال عنها: "حسن صحيح" وهي بالإجماع صحيحة، بل هي من أعلى درجات الصحة أيضًا.
نحن الآن بصعوبة ضبطنا معنى الحسن، فالآن ابن كثير -رحمه الله- سيجعل هناك مرتبة بين الصحيح والحسن أيضا، وفي الأمر شيء من الصعوبة.
ولعل من أقوى الأقوال في هذه المسألة، هو ما ذهب إليه الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- في شرحه لعلل الترمذي.
ماذا قال الحافظ ابن رجب رحمه الله؟
يقول ابن رجب: إذا قال الترمذي عن حديث: "حسن صحيح"، فماذا يقصد؟
يقول: الترمذي -رحمه الله- عرف بنفسه معنى: "الحسن" عنده، فقال: أن يكون الحديث سالِمًا من الشذوذ، ولا يكون فيه راوٍ متهم، ويروى من غير وجه، أي: له عدة طرق.
أولا: يكون سالما من الشذوذ، هذا من شروط الحديث الصحيح.
وثانيًا: ألا يكون فيه راوٍ متهم، فهذا أيضًا من شروط الحديث الصحيح.
ولكن الترمذي زاد شرطًا واحدًا فقط في تعريفه للحديث "الحسن" عن الحديث الصحيح، فقال: "أن يُروى من غير وجه".
ولذا قال ابن رجب -رحمه الله-: إذا أتانا حديث "صحيح" وروي من غير وجه، فإننا نقول: "حسن صحيح"؛ لأنَّ شروط الحديث "الحسن" قد انطبقت عليه، وشروط الحديث "الصحيح" قد انطبقت أيضًا عليه.
قد يقول قائل: أليس كل شروط الحديث "الحسن" عند الترمذي موجودة في الحديث "الصحيح"؟
نقول: لا، زاد الترمذي شرطًا واحدًا في الحسن، وهو أن يروى من غير وجه، فشروط الصحيح انطبقت في هذا الحديث، وزاد عندنا أن له عدة أسانيد، فانطبقت عليه أيضًا شروط الحسن، ولذلك فإن الترمذي يقول عنه: "حسن صحيح". هذا ما ذهب إليه ابن رجب -رحمه الله-.
ويشكل على كلام ابن رجب -رحمه الله- أنَّا وجدنا بعض الأحاديث في جامع الإمام الترمذي، قال عنها الترمذي: "حسن صحيح" وليس لها إلا إسناد واحد، أو قال عنها: "حسن صحيح ولا نعرفه إلا من هذا الوجه".
فكيف الآن ينفي الإمام الترمذي -رحمه الله- أن يكون لهذا الحديث وجه آخر، ومع ذلك يقول عنه: "حسن صحيح"؟
ابن رجب -رحمه الله- أجاب عن هذا وقال: إن معنى قول الترمذي: "إنه يروى من غير وجه" لا ذات الحديث بذات اللفظ، وإنما يقصد بهذا كل عاضد يعضد هذا الحديث من أحاديث النبي ﷺ الأخرى، حتى لو كان من رواية صحابي آخر". وبهذا يحل الإشكال في هذه القضية التي الحافظ ابن حجر -رحمه الله-.
وواضح من المتن أن اختيار ابن حجر -رحمه الله- أنه إذا كان له إسناد واحد، فإنه يكون هناك ترددا في الراوي، وأمَّا إذا كان له إسنادين فيكون الإسناد الأول: "حسن" والإسناد الثاني: "صحيح".
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَزِيَادَةُ رَاوِيهِمَا مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ تَقَعْ مُنَافِيَةً لِمَنْ هُوَ أَوْثَقُ)}.
قد يحصل لنا إشكال في قضية اختلاف نسخ جامع الإمام الترمذي -رحمه الله-؛ لأن النسخ تختلف، فقد تجد في نسخة أنه قال عن حديث: "حسن صحيح"، بينما تجد في نسخة أخرى أنه قال عن نفس الحديث: "صحيح" مثلا، أو قال عنه: "حسن"، وهذه إشكالية في الحقيقة، ومن أوثق الكتب التي تنقل نص إطلاق الإمام الترمذي -رحمه الله- على الأحاديث، كتاب: "تحفة الأشرف" للحافظ المزي -رحمه الله-، وأيضًا كتاب: "مختصر الأحكام" للطوسي، وهو مستخرج على جامع الإمام الترمذي -رحمه الله-.
يقول ابن حجر -رحمه الله-: (وَزِيَادَةُ رَاوِيهِمَا)، أي: راوي الحديث الحسن، وراوي الحديث الصحيح، فإذا زاد راوي الحديث الصحيح زيادة، أو زاد راوي الحديث الحسن الذي هو: "خفيف الضبط" زيادة، هل تقبل هذه الزيادة على الحديث أم لا؟
يقول ابن حجر -رحمه الله-: (وَزِيَادَةُ رَاوِيهِمَا مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ تَقَعْ مُنَافِيَةً لِمَنْ هُوَ أَوْثَقُ)، أي أنَّ الأصل فيها أنها مقبولة، إلا إذا كان هناك من هو أوثق منه في هذا وقد خالفه، زاد هذه راوي الحديث الحسن أو الصحيح زيادة، ثم اكتشفنا أنه قد خالف من هو أوثق منه، فحينئذٍ لا تقبل الزيادة. هذا رأي ابن حجر -رحمه الله-.
وابن حجر -رحمه الله- قسم هذه المسألة بتقسيم أوضح في أماكن أخرى، فابن حجر -رحمه الله- في النزهة ذكر أن هذه المسألة على قسمين، ونذكر هنا القسم الأول والثاني، وإن كان القسم الثاني فيه إشكال.
يقول ابن حجر -رحمه الله-: إذا زاد راوي الحديث الصحيح أو الحسن زيادة في الحديث، وهذه الزيادة ليس فيها مُنافاة للحديث؛ فإننا نقبلها. ما الإشكال أن نقبل هذه الزيادة بما أنها لا تناف أصل الحديث؟ هذا رأي ابن حجر -رحمه الله-.
مثال على ذلك: أنا أنصح بداية المتابعين بكتابة هذه الأمثلة عندهم في أوراق، حتى ينظروا إلى الطرق، ومن ثم يعرفون كيف يكون الإشكال-.
مثال على الزيادة التي ليس فيها منافاة: جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن محمد، عن إسحاق الأزرق، عن سفيان الثوري، عن عبد العزيز بن رُفيع أنه قال: سألت أنسًا -رضي الله عنه- فقلت: أخبرني بشيء عقلته عن النبي ﷺ، أين صلى الظهر والعصر يوم التروية؟ قال أنس -رضي الله عنه-: "بمنى".
لاحظ اللفظ، أين صلى النبي ﷺ الظهر والعصر يوم التروية؟ قال: بمنى. هذه الرواية غالب أصحاب إسحاق الأزرق يروونها دون قوله: "والعصر".
إذًا "العصر" هذه زيادة زادها من هنا؟ زادها عبد الله بن محمد.
ابن حجر -رحمه الله- يقول: زادها وهي لا تنافي الرواية الأخرى التي جاءت بدون العصر.
أين صلى الظهر يوم التروية؟ قال: بمنى.
أين صلى الظهر والعصر يوم التروية؟ قال: بمنى.
هل هناك منافاة بين الروايتين؟ نقول: لا، وإنما مجرد زيادة "العصر" وهي لا تنافي الرواية الأخرى، لذلك ابن حجر -رحمه الله- يقول: (وَزِيَادَةُ رَاوِيهِمَا)، أي: راوي الصحيح والحسن (مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ تَقَعْ مُنَافِيَةً لِمَنْ هُوَ أَوْثَقُ).
وهذا هو المثال الذي يذكره كثير من العلماء، وهو بَينٌ في هذه القضية.
القسم الثاني من زيادة الثقة، والذي ذكره ابن حجر -رحمه الله- قال: أن يكون في الزيادة منافاة لأصل الحديث، فإذا كان هناك منافاة، فماذا نفعل هنا؟
يقول ابن حجر -رحمه الله-: نرجح بالقرائن.
فإذا كان هنا الرواة أكثر مثلا؛ فإننا نرجح بالكثرة. وإذا كان هنا الرواة فيهم أئمة أجلاء؛ فإننا نرجح بهذا. وهكذا.
والترجيح بالقرائن يتصوره الإنسان، -وهذا سيمر معنا كثيرًا خاصة في مسائل المصطلح- يتصوره الإنسان في أحوال الدنيا المعاصرة الآن، مثال: يأتي خبر من الأخبار عن حادثة وقعت في بلد من البلدان أو في مكان من الأمكنة، ويأتي الإنسان ويستمع لهذا الخبر من مصدر، ومن ثان، ومن ثالث، ومن مصدر رابع.
أو لنقل فرضًا: حادثة وقعت في أحد الشوارع، ووقف على هذه الحادثة أشخاص، فيأتي الأول وتسمع منه الحادثة، أي: يذكرها بتفاصيلها، ثم تسمع من الثاني، ثم تسمع من الثالث، ثم تسمع من الرابع وهكذا، فتسمعها مثلا من ثمانية أو تسعة مصادر. فحينها يكون في نفسك تصورًا عن هذه الحادثة الحقيقية، وتستطيع أن تعرف الزيادات الخاطئة والغير صحيحة والتي زادها بعض الناس.
فإذا جمعت الخبر من عدة مصادر يكون عندك تصورًا عنها، وهكذا في طرق الحديث، ولذلك يقول العلماء: إذا لم تجمع طرق الحديث لم يتبين خطؤه أو غلطه. فإذا جمعت الطرق يتبين لك، وتستطيع أن ترجح بالقرائن.
ولذلك يقول: ابن حجر -رحمه الله-: إذا كان في هذه الزيادة منافاة لأصل الحديث نرجح بالقرائن. والإشكال أنه يصعب إيجاد مثالا للمنافاة الحقيقية هنا، وكثير ممن شرح هذا الكتاب "نخبة الفكر" صَعب عليهم الإتيان بمثال لهذا، زيادة فيها منافاة حقيقية لأصل الحديث، ولذلك نقول: هذا كلام نظري، ومن الناحية التطبيقية فإنه قد لا يكون موجودًا.
ابن حجر -رحمه الله- في "النكت" زاد قسمًا ثالثا لزيادة الثقة، فقال: أن يكون في هذه الزيادة ليس منافاة حقيقية وإنما نوع منافاة. كيف نوع منافاة؟ كأن تكون هذه الزيادة مثلا فيها تخصيص للعموم الذي أتى في هذا الحديث. يكون فيها تقييد للإطلاق الذي أتى في هذا الحديث. هذه يسمونها نوع منافاة. نأتي بمثال وبالمثال يتضح المقال، وجيدا أن تكتب هذه الأمثلة أيضا وينظر فيها.
حديث رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عاصم بن أبي النجود، يرويه عن زر بن حبيش، عن صفوان بن عسال -رضي الله عنه- أنه قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يأمُرُنا إذا كنَّا سُفْرًا أن لا ننزِعَ خِفَافَنا ثلاثةَ أيامٍ ولياليهِنَّ إلَّا مِن جنابةٍ، ولكن» أي: يجوز أن نبقي الخفاف «مِن غائطٍ وبَولٍ ونَومٍ»، ففي الغائط أو البول أو النوم إذا قام الإنسان وتوضأ مسح، وهذا الحديث رواه عن عاصم بن أبي النجود -رحمه الله- جمع من العلماء على هذه الصيغة التي ذكرناها. وتلميذ من تلاميذ عاصم بن أبي النجود وهو معمر بن راشد -رحمه الله- زاد زيادة في هذا الحديث. قال: «إذا أدخلناهما على طهارة». إذًا قيد المسألة، يعني ليس أي خفين يمسح عليهما، وإنما «إذا أدخلناهما على طهارة» هذه زيادة، وهذه الزيادة ليس فيها منافاة حقيقية، وإنما فيها نوع منافاة كما يقول العلماء؛ لأن فيها تقييد لهذا الإطلاق.
هل هذه الزيادة مقبولة أم لا؟
ابن حجر -رحمه الله تعالى- ذكر هذا النوع في "النكت"، وقال: هذا النوع يرجح فيه بالقرائن أيضًا، والقرائن التي ذكرت قبل قليل، إمَّا بكثرة الرواة، وإما بنوع هؤلاء الرواة -ثقات، أثبات، حفاظ، أجلاء، وما إلى ذلك.
طبعًا الأئمة النقاد الأوائل في كل هذه الأنواع يرجحون بالقرائن، ولكن الذي يهمنا هنا أن ندرس كلام ابن حجر، ونشرح مراد ابن حجر، وهذه الأقسام التي ذكرتها، فابن حجر -رحمه الله- يقول: القسم الأول ليس فيها منافاة، أي يرى أنها مقبولة، والقسم الثاني يرى فيها منافاة، ويرى ابن حجر -رحمه الله- أنه الترجيح بالقرائن، والقسم الثالث فيها نوع منافاة، ويرى أيضا الترجيح بالقرائن.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (فَإِنْ خُولِفَ بِأَرْجَحَ فَالرَّاجِحُ الْمَحْفُوظُ، وَمُقَابِلُهُ الشَّاذُّ، ومع الضعف فالراجح المعروف، ومقابلة المنكر)}.
يقول ابن حجر -رحمه الله-: (فَإِنْ خُولِفَ) من الذي يخالف؟ أي إن خولف الراوي الثقة، بأرجح، يعني: بأوثق منه، هذا الراوي الثقة روى الحديث على وجه، وأتى من هو أرجح منه ورواه على وجه مغاير، فماذا نفعل؟
قال: (فَالرَّاجِحُ الْمَحْفُوظُ، وَمُقَابِلُهُ الشَّاذُّ)، أي أنَّ الذي رواه الثقة يسمى: شاذًّا، والأوثق منه هو المحفوظ.
قد يسأل سائل ويقول: ما هو ميزان الأرجح ها هنا؟ كيف نعرف أن هذا الراوي خولف بأرجح منه؟ أو خولفت هذه الرواية بأرجح منها.
يقولون: المخالفة تكون إما بكثرة العدد، أو لكونهم أئمة أعلم منهم بالضبط والإتقان وما إلى ذلك.
مثال على ذلك، ولا بد في هذا المثال من الكتابة حتى يتبين المراد. وهذا المثال مثل به ابن حجر -رحمه الله-، ونحن نحرص كثيرا على ذكر الأمثلة التي يمثل بها الحافظ ابن حجر؛ لأنها تدل على مُراده. فهو صاحب المتن، ولذا نأتي بأمثلته هو.
مثال على ذلك: عندنا روايتين.
الرواية الأولى يرويها أربعة تلاميذ أقران:
الأول: محمد بن مسلم الطائفي.
والثاني: حماد بن سلمة -رحمه الله-.
والثالث: ابن جريج.
والرابع: سفيان بن عيينة.
وهؤلاء الأربعة: محمد بن مسلم الطائفي، وحماد بن سلمة، وابن جريج، وسفيان بن عيينة، يروون كلهم عن شيخ لهم هو عمرو بن دينار، وعمرو بن دينار يروي عن عوسجة، وعوسجة يروي عن ابن عباس أن رجلا توفي في عهد النبي ﷺ ولم يدع وارثًا إلا مولى هو أعتقه؛ فأعطاه النبي ﷺ ميراثه.
هذه الرواية الأولى، وهي موصولة، فهؤلاء الأربعة يروون عن عمرو بن دينار، وعمرو بن دينار عن عوسجة، وعوسجه عن ابن عباس، وابن عباس عن النبي ﷺ.
الرواية الثانية لذات الحديث، حماد بن زيد، وأيضًا روح بن القاسم، يروون ذات الحديث عن عمرو بن دينار، ولكنهم يروون الحديث عن عمرو بن دينار بطريقة مغايرة. كيف؟
يروون الحديث عن دينار، عن عوسجة، عن النبي ﷺ، دون ذكر عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، أي: رووه مرسلا، والأربعة الأوائل رووه موصولا.
إذًا هناك خلاف بين فريقين، الفريق الأول: محمد بن مسلم الطائفي، وحماد بن سلمة، وابن جريج، وسفيان بن عيينة، وهم أئمة وثقات وأجلاء.
والفريق الثاني: حماد بن زيد، وروح بن القاسم.
فالفريق الأول يرويه موصولا والثاني مرسلا، فإذا أردنا أن نرجح بالكثرة فهؤلاء أكثر طبعا، وكثير من الترجيحات في مثل هذه القضايا تكون بكثرة الرواة.
فهؤلاء أربعة، روايتهم أقوى من رواية حماد بن زيد، وإن كان حماد بن زيد إمام جليل، وهو أحيانا يقصر في الإسناد احتياطا، ولكن رواية الأربعة أقوى من رواية الاثنين، ولذا سمى العلماء رواية هؤلاء الأربعة: "محفوظة"، ورواية حماد بن زيد وروح بن القاسم سموها: "شاذة"؛ لأنَّها أوثق؛ لأن هؤلاء الثقات خولفوا بأرجح منهم، أي: خولفت هذه الرواية الصحيحة بأرجح منها بالكثرة، فسميت رواية الأربعة المحفوظة، والأخرى سميت الشاذة.
إذًا الشاذ هنا أطلقه ابن حجر على الحديث الذي يكون فيه مخالفة، فالأقوى يكون محفوظًا والأضعف يكون شاذًا، وقد ذكر ابن حجر -رحمه الله- في "النكت" نوعًا آخر للحديث الشاذ، وهو: "تفرد الراوي الصدوق"، فإذا تفرد الراوي الصدوق، ليس بالثقة، وليس بالضعيف، فإذا تفرد الصدوق بما لا يتابعه عليه غيره يسمي ابن حجر -رحمه الله- هذا: "شذوذا"، أي: إذا تفرد الصدوق بحديث لا يتابعه غيره عليه.
قال ابن حجر -رحمه الله-: (وَمَعَ الضَّعْفِ) صار في خلاف بين روايتين، قبل قليل قلنا: حماد بن زيد، وروح بن القاسم، وهما ثقات، والآن لو كان طرف فيه رجل ضعيف، أي: ليس بثقة ولا صدوق، وطرف آخر فيه ثقة. هنا لا يقول ابن حجر: محفوظ وشاد، وإنما يقول: رواية الثقة المعروف ورواية الضعيف منكر، لماذا منكر؟ لأنه ضعيف. ومثل ابن حجر -رحمه الله- على هذا مخالفة الضعيف للثقة بما روى الطبراني من حديث حبيب بن حبيب الزيات، عن أبي إسحاق السبيعي، عن العيزار بن حُريث، عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنَّ النبي ﷺ قال: «من أقام الصلاة وأتى الزكاة، وحج البيت، وقرى الضيف دخل الجنة»، وابن حجر -رحمه الله- يقول: هذا حديث منكر، لماذا؟
لأن حبيب بن حبيب ضعيف، وخالف الثقات، نحن نقول: معروف منكر.
يقول ابن حجر: إذا الضعيف خالف الثقات. من هم الثقات الذين خالفهم حبيب؟
قال: الثقات الذين هم أوثق من حبيب؛ لأن هناك ثقات خالفوا حبيب فرووا هذا الحديث عن أبي إسحاق السبيعي عن العيزار بن حريث، عن ابن عباس -رضي الله عنه- موقوفا عليه، أي: من قوله.
فهنا الثقات خالفوا الضعيف، فرواية الثقات هي: الرواية المعروفة، ورواية الضعيف: منكرة، هذا الذي ذكره ابن حجر -رحمه الله تعالى-.
وننبه على قضية المصطلحات، الأئمة المتقدمون والنقاد الأوائل، قد يأتي حديث ضعيف ضعفًا شديدًا وليس فيه مخالفة، ويقولون: هو منكر، ولكن علينا هنا بمصطلحات ابن حجر -رحمه الله- يفهمها طالب العلم، ثم إذا انتهى من النخبة، يستطيع بعد ذلك أن يتوسع في معرفة المصطلحات وتعامل الأئمة النقاد مع الروايات.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَالْفَرْدُ النِّسْبِيُّ: إِنْ وَافَقَهُ غَيْرُهُ فَهُوَ الْمُتَابِعُ، وَإِنْ وُجِدَ مَتْنٌ يُشْبِهُهُ فَهُوَ الشَّاهِدُ)}.
يقول ابن حجر -رحمه الله-: (وَالْفَرْدُ النِّسْبِيُّ) نحن ذكرنا أن هناك "الفرد المطلق"، وأن هناك "الفرد النسبي"، الفرد المطلق مثل: حديث "النية"، رجل واحد وهو: عمر بن الخطاب، والراوي عنه علقمة بن وقاص الليثي. كيف يتابعه أحد؟ إذا تابعه أحد وعضد روايته شخص آخر ما صار "فردا مطلقا" ولكن ابن حجر قال هنا: (وَالْفَرْدُ النِّسْبِيُّ) الحديث مثلا ليس بفرد مطلق، وإنما فيه روايتان، وقد تأتي رواية فيها شيء من الغرابة مثلا عن حذيفة -المثال الذي ذكرناه في الماضي- لو تابعه أحد عليه يسمونه المتابع، يسمون هذا الراوي الذي وافقه يسمونه المتابع، وهذه المتابعة على نوعين، هناك متابعة تامة، وهناك متابعة قاصرة. نريد مثالا على هذا حتى يتضح المراد.
الأول: المتابعة التامة، أن يتابعه راو على شيخه هو، يعني: أنا أروي عن شيخي، وشيخي يروي عن شيخ له، ثم يأتي قرين لي ويروي ذات الحديث عن شيخي أنا، فهذا يكون تابعني أنا.
مثال على ذلك: الشافعي يروي عن الإمام مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، أن النبي ﷺ قال: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وعِشْرُونَ لَيْلَةً، فلا تَصُومُوا حتَّى تَرَوْهُ». إلى آخر الحديث. جيد؟ الشافعي هنا يرويه عن مالك عن عبد الله بن دينار، وتابع الشافعي هنا عبد الله بن مسلمة، فرواه عن مالك، وهنا صار الرواة عن مالك اثنين: الشافعي وتابع الشافعي عبد الله بن مسلمة، وتابع الشافعي عبد الله بن مسلمة، فصار هذا الآن متابعًا للشافعي متابعة تامة؛ لأنه تابعة على شيخه، على الإمام مالك، وهو شيخ له.
النوع الثاني الذي ذكره ابن حجر -رحمه الله-: أن تكون المتابعة قاصرة، بأن يأتي راوٍ آخر ويتابعني، ليس على شيخي، وإنما على شيخ شيخي أو من هو فوقه.
مثال على ذلك: الحديث السابق الذي ذكرناه قبل قليل، حديث الشافعي عن مالك عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي ﷺ، «الشهر تسع وعشرون» فنجد الحديث بإسناد آخر إلى محمد بن زيد، عن ابن عمر، أن النبي ﷺ ... وذكر الحديث، وفيه «فإن غُمَّ علَيْكُم فأكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلَاثِينَ»، فهذه متابعة، ولكنها ليست على شيخ الشافعي -مالك- وإنما على من هو فوقه، وصل إلى عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما-، فهذه متابعة أيضا.
فعندنا -كما ذكرنا قبل قليل- أن المتابعة على نوعين: متابعة تامة على شيخ الراوي، ومتابعة قاصرة على من هو فوق الشيخ. هذا ما يتعلق بالمتابع.
وذكر بعد ذلك قضية الشاهد، قال: (وإن وجد متن يشبهه فهو الشاهد) عندنا حديث مثلا قول النبي ﷺ: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وعِشْرُونَ لَيْلَةً، فلا تَصُومُوا حتَّى تَرَوْهُ»، هذا حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- ويشهد له ما روى النسائي من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه- بذات هذا المعنى، نقول: يشهد له، هذا إسناد وصحابي آخر، ولكن المعنى هذا يشهد لذاك المعنى، فالشاهد بمعنى أوسع بعيد حتى لو كان من طريق صحابي آخر.
ولعلنا في هذه الحلقة نكتفي بهذا، هذا والله تعالى أعلم، وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ.
وبهذا نكون قد انتهينا من حلقتنا لهذا اليوم، نلقاكم -بإذن الله تعالى- في درس قادم، وإلى ذلك الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-----------------------------
[1] (يعني: الخطابي)
[2] القائل العراقي
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ